حضارة وفكر

الإدارة في السيرة النبوية: نموذج ملهم عبر العصور

هل كان انتصار الدعوة الإسلامية في مهدها وبلوغها للآفاق نتيجة لمعجزات خارقة للعادات؟ أم كان وفق سنن التمكين ومداولة الأيام وصعود الأمم وفق قانون السببية؟ وللإجابة عن هذا السؤال نحن بحاجة إلى دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والنظر في الأدوات والأساليب التي استخدمها في قيادة أصحابه، وفي وضع اللبنات الأساسية للأمة، واستخلاص طريقته في الإدارة والقيادة، وهذا ما يحاول المقال تناوله وعرضه.

مدخل[1]:

تشكل السيرة النبوية مصدرًا ثريًا للدروس الإدارية والقيادية التي تتسم بالحكمة والبصيرة، وتوازن بين القيم الإنسانية ومتطلبات القيادة الفعّالة، حيث استطاع محمد صلى الله عليه وسلم من خلال نهجه الفريد بناء مجتمع متماسك ودولة متقدمة في زمن مليء بالتحديات والصراعات ووسط ظروف سياسية واجتماعية معقدة. لم يكن نجاحه في القيادة نتاج سلطة أو موارد ضخمة، بل نتيجة لأسلوبه المتميز في الشورى وتوزيع المسؤوليات والمهام، ولم تقتصر إدارته على توجيه الأفراد وتنظيم العلاقات، بل امتدت لتشمل التخطيط طويل المدى والتعامل المرن مع المتغيرات، وإرساء قواعد الإدارة التي تعلي من قيمة الإنسان وتبنيه وتضع مصلحة المجتمع على رأس الأولويات؛ مما جعله نموذجًا يحتذى به في الإدارة الناجحة.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مؤيدًا بالوحي، وجانب من تصرفاته وقراراته كانت بالوحي، لكن شخصيته كانت عظيمة بما فيها من حكمة فريدة وشخصية قيادية، مكنته من تحويل مجتمع صغير متناحر تسوده العادات الجاهلية إلى قوة مؤثرة في المنطقة. والمقال يتناول جانب شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم القيادية، ويعكس منهجُه الإداري في الحُكم والتنظيم صفاتِ القائد المثالي الذي يجمع بين الحزم في الحق والرحمة في المعاملة. وهذا ما يجعلنا نتعمق أكثر في الاستراتيجيات التي طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم لنتمكن من تفعيلها في مجتمعنا اليوم.

وجماع المشاكل التي تتخبط فيها مجتمعاتنا المعاصرة يكمن في غياب التطبيق الفعلي لمنهج الإدارة الرشيد، الذي يقوم على الشورى والتخصص والعدل وتحمل المسؤولية، الذي لو عاد لأمكن علاج كثير من أزمات الإدارة والتخطيط والحوكمة في واقعنا العربي والإسلامي.

إنّ دراسة الجانب الإداري في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ليست استذكارًا لتاريخ مشرق فحسب، بل هي إلهام لنا في بناء مجتمعات قادرة على مواجهة تحديات العصر بحكمة ونزاهة.

جماع المشاكل التي تتخبط فيها مجتمعاتنا المعاصرة يكمن في غياب التطبيق الفعلي لمنهج الإدارة الرشيد، الذي يقوم على الشورى والتخصص والعدل وتحمل المسؤولية، الذي لو عاد لأمكن علاج كثير من أزمات الإدارة والتخطيط والحوكمة في واقعنا العربي والإسلامي

أبرز الوظائف الإدارية النبوية:

إن وظائف الإدارة تكمن في التخطيط الفعال والتنظيم ومتابعة المكلفين بالمهام ومراقبتهم لغاية تحفيز المنجِز ومعاقبة المقصّر، وقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوظائف من خلال مواقف متعددة شهدتها كتب السيرة، ومن ذلك:

1. التخطيط:

أظهر النبي صلى الله عليه وسلم فهمًا عميقًا لأهمية الاستعداد المسبق ورسم الأهداف الواضحة لتحقيق النجاح في شتى مجالات الحياة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: التخطيط للهجرة النبوية، التي مثلت نقلة نوعية في الدعوة الإسلامية وبناء الدولة، فقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كافة التدابير اللازمة لضمان نجاح هذه الخطوة، حيث خطط للطريق فاختار الطريق المعاكسة للهدف لتضليل العدو، واختار الصحبة، وتأكد من توفير الحماية والتمويه عبر الاستعانة بأشخاص موثوقين، مثل عبدالله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة، وأعد لكل مرحلة استراتيجيةً محكمة.

كما يظهر التخطيط في غزواته صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يدرس موقع المعركة ويضع الخطط المناسبة للظروف المحيطة، كما حدث في غزوة بدر حين استفاد من مصادر المعلومات وأماكن المياه، ووضع خططًا تكتيكية محكمة أدت لتحقيق النصر رغم قلة العدد والعتاد.

ومن أروع الشواهد على حكمته صلى الله عليه وسلم وبُعد نظره الإداري: أنه -رغم كونه مؤيَّدًا من الله وموحىً إليه- لم يكتفِ بذلك، بل كان يأخذ بالأسباب، ويُقدّر رأي أهل الخبرة، ويقرّهم على التفريق بين ما هو وحي وما هو اجتهاد بشري منه صلى الله عليه وسلم، ويتجلى ذلك في موقفه من الحباب بن المنذر رضي الله عنه في غزوة بدر، حين سأله الحُباب: “أمنزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”، فلما علم أن الموقع لم يكن بوحي، عرض الحباب رأيه العسكري، فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وعدّل موقع الجيش[2].

هذا الموقف يؤكد أن القيادة النبوية كانت نموذجًا في الجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب، وبين الإيمان بالوحي واحترام العلم والتخصص، وهو ما نفتقده اليوم في كثير من مؤسساتنا وقراراتنا المصيرية، حيث تُطلق مشاريع تطويرية كبرى دون دراسة جدوى واضحة؛ كأن تقوم إحدى المؤسسات الحكومية أو البلدية بإطلاق مشروع لبناء مجمع صناعي أو تجاري كبير في منطقة غير مأهولة أو تفتقر للبنية التحتية؛ وذلك استنادًا إلى رؤى شخصية أو اجتهادات إدارية غير مدروسة دون الرجوع إلى خبراء التخطيط العمراني أو تحليل السوق أو دراسة اقتصادية للموقع؛ فتكون النتيجة فشلاً يتمثّل في: هدر ملايين من المال العام، وعدم إقبال المستثمرين أو المستفيدين، بالإضافة إلى تحميل الدولة أو المؤسسة عبئًا ماليًا وإداريًا جديدًا.

والتخطيط النبوي لم يقتصر على المواجهات العسكرية، بل شمل التنظيم الاجتماعي؛ كتأسيس سوق المدينة لإيجاد استقلال اقتصادي، ووضع وثيقة المدينة وكان ذلك بعد الهجرة، وهذه الوثيقة هي أول دستور مدني مكتوب في التاريخ لتنظيم العلاقات بين المسلمين والمشركين واليهود في مجتمع المدينة المتعدد الديانات والأعراق، وجاءت هذه الوثيقة لتؤسس قواعد التعايش؛ حيث ضمنت لكل طائفة حريتها الدينية وحقوقها المدنية، فنصّت على أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”، كما بيّنت الوثيقة مسؤوليات الدفاع المشترك عن المدينة، ورفض الظلم والتواطؤ مع الأعداء؛ ما يدل على تأسيس دولة على قواعد العدالة والمؤسسات، لا على العصبية أو التفرد بالرأي.

ومن أبرز المواقف التي رافقت صياغة الوثيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع ممثلين عن هذه الفئات، وأقرّوا معه البنود التي تنص على أن “المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس”، كما نصّت على أن “اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”[3]، مما يعكس روح التعددية والمواطنة.

وقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم ببنود هذه الوثيقة عمليًا؛ فحين اعتدى بنو قينقاع على امرأة مسلمة وخرقوا بنود الصحيفة، لم يتحرك إلا بعد الحوار والتثبت، فلما تبيّن خرقهم للاتفاقية اتخذ إجراءً حازمًا، مما يثبت أن الصحيفة لم تكن حبرًا على ورق، بل عقدًا مُلزِمًا يضمن الحقوق وينظم الواجبات.

وهكذا كانت وثيقة المدينة بمثابة حجر الزاوية وأول تجربة حقيقية لبناء دولة تقوم على الشورى، واحترام التعدد، وربطت بين الأمن الجماعي والعدالة؛ إذ منحت الاستقرار الداخلي، ومهدت لانتقال المسلمين من جماعة مضطهدة إلى كيان سياسي مستقل يحظى بالاعتراف الداخلي والخارجي. وكانت ممارسة عملية للإدارة السياسية القائمة على التعاقد، واحترام التنوع، وتحديد الحقوق والواجبات بوضوح، في سابقة لم تشهدها الجزيرة العربية في ذلك الوقت؛ حيث كان اليهود يحتكرون السوق الاقتصادي في المدينة ويثيرون الفتن بين الأوس والخزرج لضمان استمرار وجودهم وسيطرتهم على المنطقة وثرواتها.

يُجسد هذا التخطيط الرؤية الاستباقية للنبي صلى الله عليه وسلم، مما يُبرز أهمية التخطيط الاستراتيجي الناتج عن تحليل عميق للبيئة في جزء أساسي من منهج القيادة والإدارة النبوية للأمور، فقد أدرك صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى لدخوله المدينة أهمية وضع الحدود والبنود ليضمن حماية الحقوق واستتباب الأمن في المدينة، ولعل أشد ما ينقص مجتمعاتنا اليوم هو هذه الرؤية الاستباقية قبل مباغتة العدو لنا، فشتان بين أمة تكون على أتم الاستعداد وحاضرة للمواجهة في أي وقت على كافة الأصعدة، وبين أمة مغيبة همها تأمين قوت اليوم ولا تكترث بما يعد لها عدوها.

أظهر النبي صلى الله عليه وسلم فهمًا عميقًا لأهمية الاستعداد المسبق ورسم الأهداف الواضحة لتحقيق النجاح، بالتخطيط للهجرة النبوية وللغزوات، والتنظيم الاجتماعي؛ كتأسيس سوق المدينة، ووضع وثيقة للتعايش بين سكانها، وهذا يُبرز أهمية التخطيط الاستراتيجي الناتج عن تحليل البيئة في جزء أساسي من منهج القيادة والإدارة النبوية للأمور

2. اختيار الكفاءات وتوزيع المهام:

كان صلى الله عليه وسلم يعرف أصحابه وما يتميزون به؛ فلم يكن ليكلف أحدهم مهمة لا تناسبه، ولم يكن هناك إقصاء لأحد وإنما كل له دوره ومكانه في الدولة، وكان صلى الله عليه وسلم يحسن اختيار الرجل المناسب للمهمة المناسبة، فقد اختار دحية الكلبي ليكون رسولاً إلى الأمصار لجمال خلقته وحسن منطقه ولمعرفته بعادات القوم، وكلف أبا بكر بإمامة الناس في مرضه، وقال عنه: (أَرحم أمتي بأمتي أبو بكر) فهو رقيق القلب واسع الحكمة ومع ذلك قوي في مواطن الحسم؛ فكان خير من يحمل أمانة الخلافة من بعده. وأوكل إلى عمر بن الخطاب شؤون القضاء والفتوى أحيانًا لما عرف عنه من موافقة الوحي لرأيه حتى قال فيه: (لو كانَ نبيٌ بعدي لكان عمر)[4]، واختار حذيفة أمينًا لسره واختاره ليأتي بخبر القوم في أشد الغزوات صعوبة على أصحابه التي وصف حالهم القرآن: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، واختار عليًا ليحمل الراية في غزوة خيبر من دون أصحابه[5]، وبعثه إلى اليمن للقضاء؛ لحكمته وعمق فهمه، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بتفوقه في ذلك فقال: (وأقضاهم علي) واختار معاذ بن جبل داعيًا لأهل اليمن لأنه شاب فقيه ذكي حسن البيان وواسع الفهم فقال فيه: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ)، واختار خالد بن الوليد ليكون قائدًا في المعارك، وقد سار على نهجه الخلفاء من بعده؛ فقدمه أبو بكر ليكون قائدًا لمعركة اليمامة في حرب المرتدين. ولو بحثنا في إمكانيات كل صحابي وتلمسنا جوانب شخصياتهم وأنماطهم البشرية لوجدنا دقة هائلة في الاختيار[6].

3. المتابعة والمراقبة:

فلم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض المهام وتوزيعها، بل كان يتابع الموكلين بإنجاز المهام حتى يتموها على أكمل وجه فيكافئهم، لقد كانت القيادة النبوية تتجاوز مجرد إصدار الأوامر إلى بناء الإنسان، وتحفيز النفوس، وتكريم أصحاب الجهد والسبق.

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يثبّت أصحاب الفضل بكلمات خالدة، أو هدايا عينية تُشعرهم بمكانتهم وتزيدهم ثباتًا وعطاء. فهذا أبو بكر الصديق الذي بذل ماله كله في سبيل الله يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نَفعني مالُ أحدٍ قط ما نفعني مالُ أبي بكر)[7]، ليضعه في موضع الصديق الأوفى، ويقرّ له بفضل لم يقرّه لغيره. وذاك بلال بن رباح الصادح بكلمة “أحد أحد” تحت العذاب على رمضاء مكة يكرمه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقف شامخًا فوق الكعبة ليؤذن للمسلمين بصوته الشجي يوم فتح مكة[8]. أما ابن عباس فقد نال منه دعوة: (اللهم فقهِّه في الدين وعلّمه التأويل)[9]، لتتحوّل هذه الدعوة إلى مفتاح علمٍ جعله إمام التفسير وعمدة العلماء.

وفي الميدان العسكري لم يغب التكريم؛ فالزبير بن العوام يُكرّمه النبي صلى الله عليه وسلم بلقبٍ خالدٍ: (حواريّ الزبير)[10]، أي ناصري وصفيّي، ليبقى في وجدان الأمة حاضرًا. ويأتي سعد بن أبي وقاص في لحظة اشتداد القتال، فيخصّه النبي صلى الله عليه وسلم بقولٍ لم يُقل لأحد غيره: (ارمِ فداك أبي وأمي)[11]، وهو أعلى درجات التقدير الشخصي والعاطفي في ثقافة العرب، ومن المكافآت العينية ما حدث مع عبد الله بن أنيس حيث أهداه عصا تكون بينهما علامة يوم القيامة[12]، وبذلك نجد التنوع حاضرًا في طرق تحفيز النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فهي ليست مادية فحسب، بل كانت كلمات خالدة تُحفَظ وتُروى، تصنع القدوة وتُعلي من قيمة التضحية، وتبني رجالاً حملوا الرسالة وبلّغوها إلى العالمين.

في المقابل كان صلى الله عليه وسلم يرشد المقصر منهم ويعاقبه إن لزم الأمر، وهنا وقفة ينبغي التنبه لها عند معاقبة المقصرين، فإن كانوا أخلّوا بعمل عظيم وإيمانهم قوي ولكن ضعفت أنفسهم في لحظةٍ ما فيمكن إيقاع عقوبة قاسية تردعهم عن تكرار ما حصل، كما في موقفه صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم حين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلم يكن تشديد العقوبة عليهم على سبيل الإهانة أو النبذ، بل كان مؤسسًا على جملة من المقاصد التربوية العميقة؛ أولها: أن خطأ الراسخ في الإيمان له وقع مضاعف على المجتمع؛ إذ إن العامة يقتدون به، وميله عن الطاعة في ظرف حرج كغزوة تبوك قد يُفهم على أنه تهاون مشروع. كما أن تغليظ العقوبة في هذا السياق جاء تأكيدًا على أن أوقات الشدة تستدعي من أهل الإيمان أعلى درجات الالتزام، لا التراخي، وأن القيادة لا يمكن أن تسمح بالاستثناء في مواطن التكاليف العامة، حتى مع أقرب الناس منزلة. ومن جهة أخرى، فإن هذا التشديد شكّل حاجزًا نفسيًا وأخلاقيًا بين صف الإيمان وصف النفاق؛ فالمنافقون اعتذروا كذبًا وقُبل منهم ظاهرًا، أما الصادقون فاعترفوا دون مواربة، فكان في ذلك امتحان رباني يُميز به الصادقين من الكاذبين، ويطهّر به صف المؤمنين من شوائب التردد والتكاسل.

بل إن هذا الامتحان -وإن بدا عقوبة- فهو في حقيقته تربية ربانية أرادت رفع درجاتهم، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]. كما أن الموقف بأكمله شكّل قاعدة راسخة في السيرة النبوية مفادها أن المكانة لا تعني الحصانة من المحاسبة، بل توجب مزيدًا من المسؤولية والانضباط، وأن العدل يسري على الجميع دون تمييز، ليكون ذلك درسًا خالدًا للأمة في فقه القيادة والانضباط، والصبر على البلاء، والصدق في التوبة. لكن إن كانوا من المؤلفة قلوبهم فينبغي التعامل مع الأمر بحذر حتى لا تتفاقم المشكلة وتجعلهم يرتكبون منكرًا أعظم من المنكر الذي فعلوه؛ لذلك كان المنهج النبوي يتسم بالموازنة بين المؤلفة قلوبهم وراسخي الإيمان؛ فكعب بن مالك جاءته رسالة من ملك الروم يدعوه فيها إلى التخلي عن دين محمد وأغراه بالمال والهدايا بسبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعته 50 يومًا، فلم يكن منه إلا أن قطع الرسالة واعتبرها امتحانًا من الله له، ولم يزده ذلك إلا صدقًا وصلابة وحبًا للرسول صلى الله عليه وسلم وانتظار الفرج من الله[13].

لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض المهام وتوزيعها على الكفاءات، بل كان يتابع الموكلين بإنجاز المهام حتى يتموها على أكمل وجه فيكافئهم، ويتابع المقصرين ويرشدهم ويعاقبهم إن لزم الأمر: لقد كانت القيادة النبوية تتجاوز مجرد إصدار الأوامر إلى بناء الإنسان، وتحفيز النفوس، وتكريم أصحاب الجهد والسبق

أنواع الإدارة في السيرة النبوية:

هنا بعض أنواع الإدارة التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم حسب التصنيفات المعاصرة للمصطلحات:

إدارة الذات:

وهي القدرة على تنظيم الفرد لأفكاره ومشاعره ووقته من أجل تحقيق أهدافه بكفاءة. فكان صلى الله عليه وسلم ينظم وقته بدقة؛ فيخصص وقتًا للعبادة ووقتًا لتعليم أصحابه ووقتًا لقضاء حوائج الناس ووقتًا لأهله، فرغم أنه كان قائدًا للأمة إلا أنه لم يهمل الجوانب الأخرى في حياته، وعندما بالغ بعض الصحابة في العبادة لدرجة إهمال حقوق أنفسهم وأهليهم كما في قصة سلمان مع أبي الدرداء الذي كان يصوم النهار ويقوم الليل ولا حاجة له في الدنيا، فعندما أنكر عليه سلمان ذلك وقال مقولته الشهيرة: “إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه”؛ أقره الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (صدق سلمان)[14]؛ لأنها أوجزت التوازن المطلوب الذي أمر به الإسلام[15].

الإدارة بالإنجاز:

وهو أسلوب يعتمد على تحقيق الأهداف والنتائج الفعلية بدلاً من التركيز على الإجراءات، ويتجلى ذلك في قصة: (لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة)[16]، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ممن صلاها في الطريق وممن صلاها عند وصوله لأسوار بني قريظة، فالهدف قد تحقق وهو الوصول إلى بني قريظة والإسراع في حربها، والجميع صلى العصر سواء في الطريق أو عند بني قريظة؛ لذا تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم التفاصيل هنا وركز على النتيجة النهائية. وهذا يقودنا إلى صفة مهمة نفتقدها اليوم في أنظمتنا الإدارية التي تولي الاهتمام بالتفاصيل المفرطة والتي تؤدي في كثير من الأحيان إلى تعطيل إنجاز المهمة على الوجه المطلوب.

إدارة الموارد المالية:

وهي عملية تخطيط وتنظيم وتوجيه ومراقبة الموارد المالية المتاحة لتحقيق أهداف معينة بفعالية وكفاءة، تشمل هذه الإدارة: تحديد طرق الحصول على الأموال، وكيفية تخصيصها وتوزيعها على الأنشطة المختلفة، ومراقبة الاستخدام لضمان تحقيق الأهداف بأقل تكلفة وأعلى مردود. وأحد الأمثلة الأكثر وضوحًا في السيرة هو طريقة توزيع الغنائم في كل غزوة بصورة تختلف عن غيرها من الغزوات؛ ففي غزوة حنين كان النصيب الأكبر من الغنائم لصالح كسب المؤلفة قلوبهم، ومن الأمثلة كذلك: فدية إطلاق أسرى المشركين بعد غزوة بدر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يفرض فدية واحدة على الجميع، بل جعلها بحسب حال الأسير وأهله. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع نظامًا لتدوير المال بين أفراد المجتمع؛ فوضع نظامًا لجمع الزكاة والصدقات من الأغنياء وتوزيعها على المستحقين، وكمثال معاصر على عدم إدارة الموارد المالية بكفاءة ما نراه من بناء مدارس حديثة بتكاليف باهظة دون موازاة ذلك باستثمار حقيقي في تأهيل المعلمين، أو تطوير المناهج أو تحسين جودة التعليم؛ فيكون التركيز على الشكل لا المضمون، فتزيد بذلك الفجوة بين ما يرى في الواقع من بنية جميلة وما يتحقق فعليًا من تعليم حقيقي، فالكفاءة المالية وحسن إدارة الموارد المالية في التعليم يعني توجيه الإنفاق إلى ما يُحدث فرقًا في جودة التعليم.

إدارة الأزمات:

ونعني بها اتخاذ الإجراءات المناسبة للتعامل مع الأزمات المفاجئة أو المحتملة والتي يمكن أن تؤثر بشكل سلبي على المجتمع، لذا فإن الهدف منها هو تقليل الأضرار الناتجة عن الأزمة واستعادة الاستقرار. وقد حدث ذلك جليًا في حادثة الإفك، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم حكيمًا في تعامله مع زوجته عائشة؛ فلم يتهمها ولم يعنفها وإنما استشار العقلاء في أمرها، ووعظها موعظة تنم عن ثقافة التسامح التي يتمتع بها ديننا الحنيف مهما كان الذنب فقال لها: (أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه)[17]، وطلب منها أن تبيت عند أهلها حيث كانت مريضة، وحتى يتريث في الحكم على الأمر، وهذه الخطوة في غاية الأهمية حتى تستقر النفوس ولا يتهور الرجل خصوصًا إذا اتهم في عرضه فقد يقوم بفعل لا تحمد عقباه ثم يتبين كذب المفتري.

أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود الذين نكثوا العهد وغدروا في أحلك لحظات الحصار لا يمكن تركهم شوكة في خاصرة الدولة الناشئة. فأظهر وعيًا عسكريًا فذًا، وبادر إلى محاصرتهم واستئصال فتنتهم، في درس نبوي واضح: أن النصر لا يُهدر، والفرص لا تُترك، وخيانة الداخل أشد خطرًا من عدوان الخارج

إدارة الفرص:

وهي عملية تحديد واستكشاف وتقييم واستغلال الفرص المحتملة التي يمكن أن تحقق قيمة إضافية أو فائدة للمجتمع، فبعد أن انقشع غبار غزوة الأحزاب، وانهزم التحالف الوثني من دون أن يحقق هدفه، لم يُمهل الوحي النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً؛ إذ جاءه جبريل -عليه السلام- كما في الصحيحين يقول له: (قد وضعتَ السلاح؟ والله ‌ما ‌وضعناه، فاخرج إليهم، قال: فإلى أين؟ قال: ها هنا، وأشار إلى بني ‌قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم)[18]، كان هذا التوجيه الإلهي تنبيهًا استراتيجيًا بالغ الأهمية؛ فاليهود الذين نكثوا العهد وغدروا في أحلك لحظات الحصار لا يمكن تركهم شوكة في خاصرة الدولة الناشئة. هنا أظهر النبي صلى الله عليه وسلم وعيًا عسكريًا فذًا، فبادر مباشرة إلى محاصرتهم واستئصال فتنتهم، في درس نبوي واضح: أن النصر لا يُهدر، والفرص لا تُترك، وخيانة الداخل أشد خطرًا من عدوان الخارج.

وقد انعكست هذه الخبرة النبوية لاحقًا في موقفه صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية؛ فحين غدرت قريش وحلفاؤها ببني خزاعة لم يتردد النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار ذلك نقضًا عمليًا للعهد، واستثمر الموقف كما استثمر نصر الأحزاب، فتحرك مباشرة لفتح مكة دون قتال، مستفيدًا من تراكم الخبرات السياسية والعسكرية، وعاقدًا العزم هذه المرة على إنهاء عهد الغدر والتهديد المستمر، وبناء سلام على قواعد القوة لا على أوهام الوعود؛ وبذلك ينهي النبي صلى الله عليه وسلم التزامه بصلح الحديبية الذي كان يحوي بنودًا مجحفة بحق المسلمين.

إدارة ردود الأفعال:

وهي عملية تنظيمية تهدف إلى التفاعل الفعال مع ردود الأفعال تجاه أحداث أو مواقف معينة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، ولنا في قصة “امحها يا علي” خير شاهد على تحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بردود أفعاله؛ فعندما كتب علي بن أبي طالب في صحيفة صلح الحديبية “محمد رسول الله” واعترض سهيل بن عمرو على كلمة “رسول الله” وقال كلمته: “لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت”!! فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم على الفور وقال: (امح “رسول الله”) فرفض علي ذلك ليس إعراضًا عن امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن بغضًا لكلام الكافر الذي لم يكتفِ بتكذيب الرسالة المحمدية، بل وإنكارها على الملأ، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن محاها بنفسه[19]، وهذا من أقوى صور ضبط الانفعال في مثل هذه المواقف.

بناء الاستراتيجيات المناسبة للواقع:

لفتة أخيرة تبين المنهج النبوي الإداري في فقه ودراسة الواقع ووضع استراتيجيات مناسبة له في العهد المكي والمدني.

حيث ركز النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي على العقيدة وتثبيتها في النفوس وتحمل العذاب والتضحية في سبيل الدعوة؛ فعندما أتى أحدهم وقال له: “ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟” كان جوابه صلى الله عليه وسلم: (قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)[20]. أما في العهد المدني فالرسول صلى الله عليه وسلم بادر بالدعاء لأصحابه بالنصر في غزوة بدر وقال: (اللهم إن تهلك هذه العصبة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض)[21]. فبعد أن بنى النبي صلى الله عليه وسلم أولاً قاعدة صلبة في نفوس أصحابه وعقيدة راسخة بأنّ طريق الدعوة محفوف بالابتلاءات وأن عليهم المضي فيه بصبر وثبات؛ ظهر المشهد الثاني في المدينة عندما دعا بالنصر لهم في غزوة بدر حتى لا تستنزف طاقات هذه الثلة المؤمنة ويخسرها المجتمع الإسلامي في بداية طريق الدعوة؛ فما زالت الأحكام التشريعية لم تكتمل بعد.

بعد أن بنى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة صلبة في نفوس أصحابه وعقيدة راسخة بأنّ طريق الدعوة محفوف بالابتلاءات وأن عليهم المضي فيه بصبر وثبات؛ ظهر المشهد الثاني في المدينة عندما دعا بالنصر لهم في غزوة بدر حتى لا تستنزف طاقات هذه الثلة المؤمنة ويخسرها المجتمع الإسلامي في بداية طريق الدعوة

وختامًا:

فإن السيرة النبوية تعد مرجعًا خالدًا يعكس قدرة الإسلام على تقديم حلول إدارية تتسم بالشمولية والإنسانية، وما علينا سوى التعمق في هذه المواقف وتحليلها لنعكس نتائجها على واقعنا فنتغير كما غير النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع الجزيرة العربية.


أ. عائشة جلال الأصفر

ماجستير في العلوم، كاتبة وباحثة


[1] بعض أفكار المقال مستفادة من مبحث: إستراتيجيات الإدارة في السيرة النبوية للدكتور محمد سعيد بكر – المشرف العام على أكاديمية السيرة المستنيرة.

[2] ينظر: سيرة ابن هشام (2/192).

[3] ينظر: سيرة ابن هشام (2/106).

[4] أخرجه الترمذي (3686).

[5] ينظر: مسند أحمد (778).

[6] روى ابن ماجه (154) عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، ‌وأقضاهم ‌علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).

[7] أخرجه الترمذي (3990).

[8] الطبقات الكبرى (2/127).

[9] أخرجه ابن أبي شيبة (32223)، وأصله في صحيح البخاري (75) و(143).

[10] أخرجه البخاري (2847).

[11] أخرجه البخاري (2905).

[12] ينظر: مسند الإمام أحمد (16047).

[13] ينظر: قصة كعب وصاحبيه رضي الله عنهم في صحيح مسلم (2769).

[14] أخرجه البخاري (1968).

[15] وإدارة الوقت هي جزء من إدارة الذات، ولكن بسبب أهمية الوقت وسهولة ضياعه أفرد علماء الإدارة له مصطلحًا منفصلاً فقالوا: إدارة الذات، وقالوا: إدارة الوقت.

[16] أخرجه البخاري (946).

[17] أخرجه البخاري (4141) ومسلم (2770).

[18] أخرجه البخاري (4117) ومسلم (1769).

[19] ينظر: صحيح البخاري (2699).

[20] أخرجه البخاري (6943).

[21] أخرجه مسلم (1763).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *