أدَّت الثورة الصناعية في أوروبا إلى إحداث تغييرات جذرية في بنية المجتمع على جميع الأصعدة، ومن أهم هذه التغييرات: النفسية الثائرة الناقمة على سنوات التخلُّف والاضطهاد السابقة، والحركة العلمية المندفعة التي تحرَّرت من أسر الاستعباد الكنسي-الملكي، وحاجتُها الكبيرة للمواد التي تستعملُها في صناعتها، وتطلُّعها لما وراء البحار من الأراضي وما فيها من كنوزٍ وثروات، وحاجتُها للأيدي العاملة الرخيصة التي تُسخِّرُها للقيام بهذه الأعمال والصناعات.
وإلى جانب ذلك كانت تنمو في العقلية والذهنية الأوروبية مشاعر التفوق على بقية الشعوب والأمم، ونظرةُ الازدراء والاحتقار لما عداه من الأعراق، وانضمَّت لها النزعة الصليبية التي تسري في الكنيسة التي لا يزال لها مكانة روحية في نفوس المستعمرين، بما فيها من أحلام بناء الإمبراطوريات الكبيرة، فتولَّد من مجموع ذلك أشرس حركة عسكرية دينية اقتصادية عرفها التاريخ للاستيلاء على بلدان العالم والسيطرة على مواردها.
تتلخَّص النظرة الأوروبية لشعوب البلاد المحتلَّة أنهم شعوب متخلِّفة، بدائية، وأنَّهم في رُتبة الحيوانات، ولذلك استحلُّوا خيرات بلادهم، وعملوا على استعبادهم وإبادة من شاؤوا منهم، وفرضوا دينهم عليهم بالحديد والنار
سيرة المحتل:
لم يعرف التاريخ حركة توسُّع أسوأ من حركة الاحتلال الحديثة؛ إذ لم تكتفِ باحتلال الأراضي لتوسعة النفوذ، بل أضافت لها أمورًا في غاية الخطورة والإجرام، أبرزها:
• اعتبار الاستيلاء على البلاد حقًا مشروعًا، نابعًا من نظرة التفوُّق العرقي على بقية الشعوب، واعتقاد دونيَّتها وعدم وجود حقوقٍ لها، بل والمنُّ على هذه «الشعوب البدائية المتوحشة» بنقلها إلى نور الحضارة على يديهم.
• امتصاص ثروات ومقدَّرات البلاد، والعمل على نهب كل ما تصل إليه أيديهم من أموالٍ وثرواتٍ وممتلكاتٍ، لم تسلم منه الآثار والممتلكات الثقافية كالكتب والمخطوطات، ونحوها.
• استعباد الشعوب؛ حيث كانت النظرة الأوروبية لشعوب البلاد المحتلَّة أنهم شعوب متخلِّفة، بدائية، وأنَّهم في رُتبة الحيوانات، حتى أقاموا في بلادهم ما يسمَّى بـ«حدائق الحيوانات البشرية» وضعوا فيها أفرادًا من شعوب البلاد المستعمَرة لغرض تسلية وملء غرور المواطن الأوروبي، وضمن هذه النظرة أسروا الملايين منهم واستعبدوهم، وباعوهم عبيدًا، ونقلوهم للقارة الأوروبية للعمل بالسُّخرة في الأعمال الشاقَّة، ويُقَدَّر عدد العبيد المختطفين من القارة الإفريقيَّة، الذين وصلوا أحياء ما بين ٣٠-٤٠ مليون إفريقي، وذلك دون حساب مَنْ هلكوا أثناء عمليَّات الإغارة بهدف الخطف والقنص، ودون حساب مَنْ قضوا بسبب أهوال رحلة السفر .
• المجازر الكبرى وحملات الإبادة لكل من يعترض على هذه المعاملة أو يقاومها، فعلى سبيل المثال يقَدَّر عدد من أبادهم المستعمرون الإسبان والإنجليز وغيرهم من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية أكثر من ٩٠ مليون نسمة، على امتداد عدة قرون بدءًا من لحظة اكتشاف كولومبوس للقارّة، وتسجِّل الإحصاءات حوالي ١٠ ملايين من ضحايا المستعمر الفرنسي في الجزائر، وفي الكونغو حوالي ١٠ ملايين من ضحايا بلجيكا، بل سميت الكونغو بأرض الأيادي المقطوعة من كثرة من قطِّعت أيديهم، وكانت تقدَّم الجوائز لمن يجمع أكبر عددٍ من جماجم السكان الأصليين في بعض البلدان.
• وأخطر ما اجترحه الاحتلال هو العبث في الهوية، حيث عمل على تغيير أديان الشعوب ولغاتها وثقافتها، فبمجرَّد أن وطئت أقدامه البلادَ المحتلة، شرعت البعثات التنصيرية المزوَّدة بمختلف الوسائل وجيوش الرهبان في تحويل السكان إلى الدين الجديد بقوَّة المال والسلطة والحديد والنار، وفي تبديل اللغة في التعليم والدوائر الرسمية ثم في الإعلام إلى لغته، وأُجبِر الناس على التعامل بها حتى أصبحت لغتَهم الأم، والتي لا تزال إلى اليوم في كثير من البلدان، كما في جميع بلدان أمريكا الجنوبية، وبعض بلدان شرق آسيا وأفريقيا.
خرج المحتلُّون من البلاد المستعمَرة لما تبيَّن استحالة بقائهم المباشر، بسبب مقاومة الشعوب لهم، والتنافس فيما بينهم، وتراجع قوَّتهم لصالح قوىً أخرى، ونموِّ نداءاتٍ معارضةٍ لسياساتهم في داخل بلادهم
خروج المحتلّ:
لم تقف الشعوب مستسلمةً متفرِّجةً على جرائم وممارسات دول الاحتلال، بل قاومت المحتل بكل ما أوتيت من قوّة، ووقفت أمام آلته القمعية الهمجية بكلِّ بسالة، ودفعت ثمنًا باهظًا في سبيل ذلك، وكانت كلَّما خبت فيها جذوة المقاومة قامت ثورة أخرى، وبالرغم من التفوُّق الماديِّ الواضحِ للمحتلّ الغربي وانتصاره في النهاية، إلا أنَّ الشُّعوب أرَّقت المحتلّ وجعلت مُقامه باهظًا وغير مستقر.
كما قامت تحرُّكات علميةٌ في شتى المجالات، مما أسهم في إحداث تغييرٍ في المجتمع، ورفع مستواه الفكري والثقافي، فلم تعد السيطرة عليه ممكنةً كما كانت من قبل.
انضمَّ إلى ذلك عوامل خارجية أسهمت في جعل الاستمرار بالاحتلال أمرًا غيرَ ممكن، من ذلك:
1. الضعف الذي أصاب الدول الاستعمارية بسبب جريان سنة الكون عليهم بالضعف بعد القوة، وبسبب ما لاقته من مقاومة، وبسبب الحروب فيما بين المستعمرين.
2. التنافس بين المحتلِّين، ومكائدُهم لبعضهم البعض، مما أجبرهم جميعًا على التسريع بالخروج من البلدان المحتلَّة بشكل منسَّق.
3. الشعارات والمؤسسات التي أنشأتها البلدان المحتلَّة، وما ترفعه من شعارات الحرية والعدالة والمساواة، والتي تتناقض مع ما تفعله على الأرض، مما جعل مواقفها متناقضةً مع شعاراتها، وأجبرها على الالتزام -ظاهريًا- ببعض ما تنادي به وامتصاصًا لأي حركة معارضةٍ أو ثورةٍ جديدةٍ في البلدان المحتلَّة.
استقلال بطعم الاحتلال:
لما أدرك المحتلُّ استحالةَ بقائِهِ في البلدان المحتلَّة، عَمِد إلى الانحناء للعاصفة، وأظهَرَ رغبته في الانسحاب والخروج من البلاد، وعمل على اصطناع مؤسساتٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ وثقافية، وولّى فيها بعض «النُخَب» المهيَّأة عبر مشوارٍ طويلٍ من التعليم والتلميع والتصدير، ثمَّ بدأ يُسلِّمُها مفاصل البلاد شيئًا فشيئًا ويعقد معها الاتفاقيات، فخرج بآلته العسكرية، ووجوده العلنيِّ المباشر، وأصبحت البلاد في عُهدة وُكلائه، وصارت هذه النخب هي الحاكمة للبلاد والمتولِّية عليها، بينما هي ربيبة المحتلِّ وصناعته، تربطها به اتفاقياتٌ معلنةٌ وأخرى غيرُ معلنة ترهَن مصيرها بالبلد المحتل، وتجعل التحكُّم فيها بيده.
فأكمل أولئك «الربيبة» ما عجز المحتلُّ عن عمله في رهن مستقبل البلاد ومؤسَّساتها بالدُّول المحتلَّة وربطها به، وإنزال أقسى قوانين القمع وسلب الحريَّات والإرادة والإفقار والتخلُّف، لضمان تطويع البلدان لحُكمهم ورهنها لإرادة المحتلِّ ورغباته، وتغريب المجتمعات وإبعادها عن دينها ولُغتها وثقافتها وهويتها، ومحاربة الوطنيين والصادقين، لتبقى تابعةً ذليلةً سهلة الانقياد، فبقيت غالب تلك البلاد تدار بما يرضي المحتل ويحقِّقُ رغباته لكن بـ «أيد وطنية»!
تقاسمت الدول الكبرى دول العالم، وجُعلت كل منطقة تحت نفوذ إحداها، تتحكَّم بها دون نكيرٍ من القوى الأخرى، وأنشئت سلطات محلِّية تابعة في كل منها، تحقِّق مصالحها، وأحيطت بما يخدمها من أدواتٍ وأجهزة
تركة تضمن التبعية:
لعل من أبشع ما قام به الاحتلال قبل انسحابه هو ضمان نفوذه للمستقبل، وذلك من خلال عدَّة أدوات:
• الأداة الأولى – النظام السياسي: حيث تقاسمت الدول الكبرى بقية العالم، وجعلت كل منطقة تحت نفوذ إحداها، تتدخَّل فيها وتتحكَّم بها دون نكير من القوى الأخرى، وأنشئت سلطات محلية عميلة في كل منها، تحقق لها مصالحها، وتمنع الاستقلال عنها، وأحيطت بما يخدمها من أدوات وأجهزة.
• الأداة الثانية – القوى الأمنية والعسكرية: حيث أُسِّس في كل دولة من الدول المستعمَرَة جيشٌ عسكري وأجهزة أمنية متعدِّدة، وغذيت بعقيدة فكرية معينة، مهمتها حماية النظم السياسية ضد أي تغيير محتمل أو أي قوى معارضة.
• الأداة الثالثة- الهيئات الدينية الرسمية: كلُّ دولةٍ من الدول الإسلامية لديها مؤسسةٌ دينيةٌ تُبارك القيادة السياسية وتصرُّفاتها «الحكيمة»، وتحتكر الموقف العقدي والدعوي، وتُقصي المخالفين بقوة السلطان.
• الأداة الرابعة – المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية: فالتعليم ومناهجه مبنية بطريقة تدجينية تكرِّس الواقع القائم، وتزور التاريخ بما يفصل القُطر عن تاريخه ومُحيطه الجغرافي، والخطاب الإعلامي يضيف إلى هذا وذاك تشويه الأخلاق بإثارة الغرائز وإفساد الأفكار بإثارة الشبهات.
• الأداة الخامسة – النظام الاقتصادي: في كل دولة من الدول زرع بنكٌ مركزي يتحكَّم في عملتها ونظامها المالي، ولا يخضع لسيادة الدولة، بل يتبع للدول الغربية التي أسسته وقد تملك جزءًا كبيرًا منه.
وهي في مجموعها ترجع إلى جذرين اثنين، وهما: الهيمنة السياسية المدعومة من الأداة العسكرية والأداة الاقتصادية، والهيمنة الفكرية التي تُغذِّيها الأداة الثقافية والتعليمية والإعلامية إلى جانب الأداة الدينية.
التحرُّر الشامل يبدأ من التخلُّص من الهيمنة الفكرية، وبذلك تكتسب الجماهير القوة الدافعة للتحرُّر، وهو يتطلب بعثًا لروح الحرِّية والأنَفَة من الاستعباد في الشعوب المستعمَرة، ويقتضي القضاء على داء القابلية للاستعمار في النفوس
التحرُّر الحقيقي من الاحتلال:
يتطلَّب التحرُّر من الهيمنة الغربية المتجذِّرة في بلادنا العمل على التخلُّص من جذرَي الهيمنة السياسية والهيمنة الفكرية، وطريق التحرر من الهيمنة السياسية سارت فيه الشعوب العربية وبعض الشعوب الإسلامية عبر عدَّة أنواع من الثورات، والحرب فيها سجال. أما طريق التحرُّر من الهيمنة الفكرية فهو الأصل، وهو ما يشكِّل القوة الدافعة للجماهير للتحرُّر الشامل.
والتحرُّر الفكري يتطلَّب بعثًا لروح الحرية والأنَفَة من الاستعباد في الشعوب المستعمَرة، ويقتضي القضاء على ما سماه مالك بن نبي «داء القابلية للاستعمار»، مما يتطلَّب تغييرًا في الذات وإصلاحها، والثورة على القوالب الموروثة التي تبعث على الركود لا التجديد، وهذا يتطلَّب نمطًا فكريًا وسلوكيًا عصريًا، لكنَّه يستنير بأصالة الوحي وأهداف العقيدة، ويحتاج جيلاً جديدًا مغايرًا في تفكيره لسابقه، حاملاً في جعبته العلاجات المناسبة لأدواء العصر وقضاياه ومشكلاته.
ولأجل التحرُّر من عقدة القابلية للاستعمار وجناياتها لا بدَّ من عددٍ من المشروعات الإصلاحية الكبرى في مختلف التخصُّصات الإنسانية (النفسية والاجتماعية والتربوية والشرعية والأدبية)، وهذه المشروعات بحاجةٍ لتحقيق أمرين رئيسين:
١- الدراسة الإنسانية للوحيين:
وذلك بالتعمُّق في الاستفادة من الوحيين (الكتاب والسنة) في فهم الإنسان وطبيعته، وقوانينه وأنظمته الاجتماعية، ودوره الرساليِّ في الخليقة، ومُراد الله من خلقه، والتعرُّف على سبيل الإصلاح الشاقِّ الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياءُ من قبله، والعزَّةِ التي أحدثها الإسلام في نفوس الصحابة، والكلياتِ الكبرى التي جاء بها الإسلام للبشرية كالعدالة والرحمة ومكارم الأخلاق وتحرير العقول من الأوهام والخرافات، بخلاف الحضارة المعاصرة التي كرَّست التمييز العنصري بين البشر، واستعبادَهم وظلمَ بعضهم لبعض، وتطبيعَ أشكال الانحرافات التي تترفَّع عنها البهائم؛ من الإباحيةِ المطلقة والشُّذوذ والتحوُّلِ من جنسٍ لآخَر وتأجيرِ الأرحام، وغيرها.
٢- الوعي بالماضي والحاضر:
وذلك يشمل دراسةَ التاريخ وما حصل فيه من تحوُّلاتٍ كبرى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد بعثته، مرورًا بالفتوحات وما رافقها من مُمارساتٍ قِيميّة لم يعرفها التاريخ قبل الفاتحين ولا بعدَهم، وانتهاءً بما أحدثته الفُرقة بين المسلمين، وتخلِّيهم عن دورهم الدعوي والحضاري في العالَم، ويشملُ دراسةَ التاريخ الحديث وكيف سيطر الأعداء على مقاليد القوة، ووضعوا القيودَ تلو القيودِ لمنع نهوض المسلمين من جديد، بما في ذلك المؤامرات التي يحيكونها في الخفاء والعلن.
وتحقيق هذين الأمرين ممكن، والقيود لا تمنعه في جميع الأصعدة، بل ثمة مساحات كبيرة لتطبيقهما في التعليم القرآنيِّ المسجدي والتربية المنزلية والدعوة الشبكية والجهود الفردية والجماعية وغيرها، كما تحرَّرت مناطقُ كثيرة من الهيمنة المباشرة لذيول الاستعمار، وفيها يمكن عمل الكثير من التوعية والتربية والتحرير لعقل الإنسان وفكره، لينطلق بعدها إلى التحرر في المجالات المادية الأخرى.
لا بدَّ أن يعرف الشباب التحوُّلاتِ الكبرى التي حصلت قبل وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والعدالة والقيم التي بثَّها الفاتحون المسلمون، وكيف آل أمرهم إلى الضعف بعد التفرُّق والتخلّي عن دورهم الدعوي والحضاري، وكيف سيطر الأعداء على مقاليد القوة في العصر الحديث