تمنّى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في آخر عمره أن لو قبِل وصية النبي ﷺ له بالاكتفاء بالعمل القليل الذي يستطيع المداومة عليه في شيخوخته.
ومرّة جاءت امرأة تذكر لعائشة أنها تصلي ولا تنام الليل، فقال لها ﷺ : (عليكم مِنَ العَملِ ما تُطيقُون، فواللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حتى تَمَلُّوا ). وقال ﷺ : (… واعلَموا أَن أَحَبَّ العَملِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِن قَلَّ)[1].
كان ﷺ يلفت نظرهم إلى ما هو أهم من مجرد الفعل، وهو المداومة عليه، الأمر الذي يحول دونه تحمل الإنسان لما يفوق طاقته ووقته، فينقطع، وهي الظاهرة الشائعة اليوم مع تضخم الطموحات وفرط البرامج.
ينسى المندفعون نحو الكثرة أن طريقها يبدأ بالمداومة على القليل، وأن السيل اجتماع النقط، وأن المنجزات الضخمة حصيلة شقاء سنين، فظن الواهمون أنها طفرة.
ويغيب عن الزاهدين في القليل أنه كثير بالمداومة، وأن الشجرة إنما تنبت وتثبت على مرّ الأيام، وأن الأجسام والأبنية تبدو واقفة لمن يرقب نموها وبنيانها يوميًا، كهيئة الثابتين في سيرهم الذين جعلوا عنايتهم الإنجاز اليومي وإن قل، دون استعجال يورث الحرمان، أو حساب لومة اللائمين .
ليس من المعقول أن نتوقع مولودًا بعد شهر من الزواج، ومجنون من يتمنى تزويج مولوده بعد سنة، إلا أننا توهمنا هدّ الطغيان وإعادة بنيان الأوطان في عام واحد أو أقل، ورأينا طلابًا توقعوا الوقوف في مصافِّ العلماء ولمّا تشب شعورهم في طريق العلم، وروّاد أعمال قطعوا وظائفهم قبل قطف ثمار مشروعاتهم، فلا دخلاً أبقوا ولا ريادةً حصّلوا. وما أقل الانتفاع بقصة الأرنب والسلحفاة.
التزام الإنسان وثبات سيره وانضكيباط مسيرته أساسٌ في إنتاجيته، وهذا ما لا يريده الشيطان فيوهمه بأن الاستعجال وإحراق المراحل سبيل مختصرة لتحقيق أمانيه، وأن قدراته لا محدودة، فيعِده ويمنِّيه الغرور وأحلام الخيال.
ليس الهدف تثبيط الهمم، وإنما هي دعوة للتمرين على الإنجاز بخطى قليلة ثابتة، تجتمع وتتراكم مع الوقت حتى تبدو عظيمة خارقة، ولا هي دعوة إلى الترك والتوقف، بل تحذير من الانقطاع قبل أن يقع، برسم الأهداف في ضوء الإمكانات والواجبات الشخصية الحياتية الطبيعية.. ثم تبقى البركة في سويعات دائمة هي مضمار التسابق.
وقد تحدث المجرِّبون متقدمين ومتأخرين، من المؤلفين والباحثين والدارسين عن إنجازهم الكثير بالمداومة على القليل، من كتابة سطر أو سطرين، أو قراءة صفحة أو صفحتين، لا يتركون ذلك يومًا واحدًا.
من يرضى بالقليل الدائم سيكون عمله (دِيمة) كمطر مستمرٍّ مع السكون بلا رعدٍ ولا برق، يستمرُّ مهما انخفضت قدراته، ف «ما ماتَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى كانَ أَكْثَرُ صَلاتِهِ قاعِدًا إِلا المَكتُوبَةَ، وكانَ أَحَبُّ العَملِ إليهِ ما داوَمَ عليهِ العَبْدُ، وإِن كانَ يَسِيرًا»[2].
بالمداومة يسهُل العمل، وبالمداومة على القليل يتحقَّق التوازن، ثم يستقر دولاب الحياة بمجموع العادات التي بناها صاحبها بمداومته اليومية، فتروّضت النفس على الاستمرارية، وتشكلت الشخصية، وحاز المداوِم ما لم يحُز غيره (إذا مَرِضَ العَبدُ أو سافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا)[3]، فمن داوم على القليل أدام الله أجره عند عجزه، فصار قليله أكثر من الكثير.
غاية العبودية يبلغها العبد بما آتاه الله من قدرة وطاقة وبيئة ومُكْنة، وليس بما آتى الآخرين، فالقياس عليهم قياس مع الفارق.
وقد لا تجد لمداومة العاملين للإسلام اليوم أسهل ولا أسرع من لزوم ثغر متخصص دقيق.
النجاح خطوتان: الأولى أن تبدأ، والثانية أن تستمر. فمن استدام قنع بالقليل، ومن استكثر من أول الطريق تحسّر. وكفى المداومين فخرًا محبة الله تعالى.
د. خير الله طالب
[1] قصة عبدالله بن عمرو بن العاص أخرجها البخاري (5052)، وقصة المرأة أخرجها مسلم (785)، وقوله r: (واعْلَموا أَنَّ أَحَبَّ العَملِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِن قَلَّ) أخرجه مسلم (2818).
[2] وصفت عائشة عمله ﷺ بأنه كان ديمة، أخرجه البخاري (1987)، والحديث الآخر من قول أم سلمة أخرجه أحمد (26599).
[3] أخرجه البخاري (2996).