الافتتاحية

الزلزال الكبير.. مِحنٌ ومِنحٌ

وجاء الزلزال الكبير في هذا التوقيت في هذه البقعة الجغرافية لحكمةٍ يريدها الحكيم الخبير، ولله سبحانه وتعالى في أقداره حكمٌ بالغة، ومقاصد عظيمة، قد لا تظهر لجميع الناس، أو في وقت قريب، وقد يتفاوت الناس في فهمها وإدراكها؛ فيفهمها قومٌ على وجه ويذهب فيها قومٌ مذهبًا آخر، لكن ما لا شك فيه أنَّ الله تعالى يدبِّر صغائر الأمور وعظائمها لتحقيق غايات عظمى تحارُ الألباب في بديعها ودقتها وإحكامها.

مفاتيح للفهم:

حثَّنا الله تعالى على أمرين حثًا مكرَّرًا في كتابه الكريم:

الأول: تدبُّر القرآن الكريم وتأمُّل آياته لتظهر غوامض المعاني وكوامن الأسرار، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩]، قال السعدي: «ليتدبَّر الناس آياته، فيستخرجوا عِلمَها ويتأمَّلوا أسرارها وحِكَمها، فإنَّه بالتدبُّر فيه والتأمُّل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره»[1].

والثاني: النظر في التاريخ والأمم وأحوالها وفهم أسباب صعودها وزوالها وأخذ الدروس والعبر من أحوالها والاستفادة مما جرى عليهم، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٧]، قال مجاهد: «﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾، في الكفار والمؤمنين، والخير والشرّ»[2].

وبهذين النظرين: النظر في هذا الكتاب العظيم بما فيه من قوانين وسنن ونواميس ذكرها الله صريحةً واضحةً، أو مضمَّنةً تُفهم من سياق وتركيب القصص القرآني، والنظر في أحوال الأمم السابقة وأخبارها، يمكن للمرء أن يفهم أو يقارب العديد من الحِكم والمقاصد العظيمة، ولله الحكمة البالغة.

بالنظر في القرآن الكريم بما فيه من قوانين وسنن ونواميس ذكرها الله صريحةً واضحةً، أو مضمَّنةً تُفهم من سياق القصص القرآني، وبالنظر في أحوال الأمم السابقة وأخبارها، يمكن للمرء أن يفهم أو يقارب العديد من الحِكم والمقاصد العظيمة للأحداث الكبيرة

المشهد قبل وأثناء الكارثة:

المتأمِّل في هذا الزلزال يُدرك أنه حدثٌ عظيم، بما أحاط به من حيثيات وملابسات، وبما أحدثه من تغييرات، وبقليلٍ من النظر يتوقَّع المرء تأثيراتٍ كبيرةً لهذا الحدث على مختلف الأصعدة والسياقات، ومن أهم ما يلحظ في توقيت الزلزال المكاني والزماني:

1- توقيت الزلزال لم يكن عاديًا، بل كانت ليلة الزلزال من أبرد الليالي في هذا الشتاء، في أوج العاصفة الثلجية، الأمر الذي فاقم الصعوبات التي واجهها أهالي المناطق المنكوبة، فالبقاء في البيوت المتهالكة تعريض لهم لخطر الموت تحت الأنقاض، والخروج للعراء تعريض لهم لمخاطر التجمُّد والتوعُّك الصحِّي نتيجة البرد الشديد، ثم إنَّ وقت الهزَّتين كان قبل الفجر والناس نيام.

2- طبيعة الزلزال كانت قوية للغاية هزّت الأرض بطريقة غير معهودة؛ الأمر الذي أدى إلى تساقط الأبنية وإظهار هشاشتها، كما امتدَّت الهزتان القويَّتان ما يقرب من دقيقة كاملة، وهو وقت طويل جدًا وكفيل بإحداث الهلع في النفوس والدمار في البنيان، هذا فضلاً عن العدد المهول للهزات الارتدادية التي فاقت ١٣.٠٠٠ هزة خلال شهر من وقوع الزلزال.

3- المكان الذي حصل فيه الزلزال ليس نقطةً واحدةً كما حصل في حوادث سابقة، بل منطقةٌ واسعةٌ تقاسمها عدد غير قليل من الولايات التركية والمناطق السورية، وعند النظر في هذه المناطق نجدها مناطق كثيفة سكانيًا، والمناطق التركية منها مكتظةٌ بالسوريين الذين دفعت بهم جرائم النظام السوري إلى البحث عن مكان يأوون إليه، أما المناطق السورية (في شمال غرب سوريا) فمكتظةٌ هي الأخرى بالنازحين من المحافظات والمناطق السورية الأخرى التي عانت من بطش وويلات النظام.

4- وعلى الصعيد السياسي كانت الاستعدادات في تركيا للانتخابات المفصلية على قدمٍ وساق، وكل حزبٍ يقدِّم ما لديه من وعودٍ وتطميناتٍ لجمهوره وناخبيه، فجاء الزلزال وسط هذه الأجواء، ليبدأ بعدها التساؤل عن تأجيل الانتخابات عن موعدها من عدمه، ويستغلها جميع الأطراف في دعايتهم الانتخابية.

5- وضع السوريين في تركيا كان في حالة ترقُّب للسباق الانتخابي العام الذي يُعتبرون فيه مادةً معتادة للتهديد بالترحيل، ويترافق ذلك عادةً مع موجات الكراهية والعنصرية، أما السوريون في المناطق المحرَّرة فقد كانوا يرقبون بقلق تقدم مؤشرات التطبيع مع النظام السوري، من قبل دول المنطقة ومن خلفِها دول العالم، وأما السوريون في مناطق سيطرة النظام فليسوا في حالٍ أفضل، فهم ينتظرون الفرج من الله من سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية، فضلاً عن الأمنية والسياسية.

المتأمِّل في هذا الزلزال يُدرك أنه حدثٌ عظيم، بما أحاط به من حيثياتٍ وملابساتٍ زمانية ومكانية وبشرية، إضافة للسياق السياسي والاقتصادي الذي سبقه، وبقليلٍ من النظر يتوقَّع المرء تأثيراتٍ كبيرةً لهذا الحدث على مختلف الأصعدة

بُعيد الكارثة:

وقع الزلزال، وشاء الله أن يكون بهذه الصورة المذكورة، وأفاق الناس والعالم على صدمة كبيرة جدًا، وبدأت المشاعر تتداخل بين الحزن على الضحايا، والخوف على من انقطع التواصل به، ثم توالت الأحداث والتفاعلات بأشكال متعددة، كان أبرزها ما يلي:

1- بدأ في تركيا خطاب المحاسبة واللوم على التقصير بين الحكومة والمعارضة، وصارت الدولة على المحكّ، إما أن تُقدِّم نجاحاتٍ فينسى الناس ما كان من إخفاقات خلال عقدين من الحكم، أو أن تخفق فينسى الناس نجاحاتها.

كما كان لافتًا تأخُّر ظهور الشخصيات والمؤسسات السورية الرسمية في الشمال المحرَّر، بعكس باقي المؤسسات المدنية والعسكرية.

2- جندت الحكومة التركية جهودها نحو إنقاذ العالقين تحت الأنقاض، وإسعاف المصابين، وإيواء المشردين وإطعامهم وإغاثتهم، فاستنفرت الدولة وأجهزتها، وأقيمت حملات جمع التبرعات، في تركيا وبعض الدول العربية، وكان ما جمع في تركيا لافتًا جدًا من جهة حجمه والتكاتف الشعبي والمؤسسي العام.

3- حصلت حركة نزوح داخلية كبيرة في تركيا جرت على السوريين والأتراك على السواء، فأقيمت المخيمات وأعدت المساكن الجماعية، وتوزَّع الناجون من الولايات المتضررة على عشرات الولايات، وقد يستوطن كثير منهم فيها، فسبحان مقدر الأمور ومغير الأحوال.

4- لم تخل عمليات الإنقاذ والإغاثة من ظهور الخطاب والممارسات العنصرية، إلى جانب نماذج مشرِّفة من الإنسانية والمروءة والنجدة.

5- وفي المناطق السورية المحرَّرة هبَّ أصحاب القلوب اليقظة وأصحاب الأيادي البيضاء إلى إغاثة المتضرِّرين وإنقاذ العالقين، جمعيات وأفرادًا ومؤسسات كلٌّ بما يستطيع، وسجِّلت مواقف مشرقة وبطولات تكتب بسطور من ذهب من الشجاعة والنخوة والإيثار، على الرغم من الضعف التقني وفقدان الكثير من الأدوات والمعدَّات الضرورية.

6- المساعدات المقدَّمة أظهرت جانبًا من النفاق الدولي المألوف، فالملايين التي قدِّمت لتركيا من بعض الدول كان يقدَّم أكثر من منها بكثير لدولٍ أخرى في كوارث أقلَّ في الحجم وأعداد الضحايا.

7- وفي ذات الوقت لم يصل للمناطق المحررة الأكثر تضرُّرًا في سوريا من المساعدات الدولية إلا النزر اليسير، أغلبها من بعض الدول العربية، بينما تركَّز القسم الأكبر من المساعدات على النظام السوري مع أن مناطقه هي الأقل تضرُّرًا، وكأنه المؤتمن على الشعب ولم يقتل ويشرد منهم عشرات أضعاف ما حصل بسبب الزلزال!

8- ومن جهة أخرى جاءت المساعدات الدولية الداعمة للنظام السوري والتطبيع السياسي العربي معه -بحجَّة الوقوف معه في كارثة الزلزال- لتزيد من حُلكة ليل السوريين، وتفاقم الأوضاع الضاغطة.

الله جل في علاه يُجري سنن التداول والتغيير والتمكين والاستبدال بما شاء من الأسباب، وفيما شهدنا من الأحداث في واقعنا المعاصر كانت الكوارث كالزلازل والأوبئة مع الحروب والتعثرات الاقتصادية، شريكةً للحراك البشري في المداولة وتغيير واقع الدول والمجتمعات

عِبَر ودروس كُبرى:

هذه الأحداث والتداعيات مع النظر في السنن الكونية والسنن الشرعية تذكرنا وتؤكِّد لنا أمورًا عديدة، أهمها:

1- الأمور بيد الله يُدبِّرها كيف يشاء، وُفق حكمةٍ يعلمُها، ولا رادَّ لحكمه، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] ولو ذُكر لأحدٍ ما سيحدث بهذه الكيفية وهذا الحجم لاستبعد ذلك جدًا، ولاعتبره ضربًا من الخيال، فسبحانه ما أحكَمَه وما أقدَرَه.

2- هوان الحياة التي نعيشها؛ فهي قابلة للزوال بلمح البصر، فكم غادَرَنا من الأحبة والأصحاب تحت الأنقاض من لم نتمكَّن حتى من وداعهم، وكم زالت من بيوتٍ وأبنيةٍ وَضَع فيها أهلُها مدَّخراهم وخلاصة كدِّهم لسنواتٍ طويلة.

3- أنَّ الآجال مكتوبة، وكلُّها بتقدير الله، ومن لم يستكمِل رزقَه وأجله فلن يموت ولو حاصَرَته الأنقاضُ لأيام، ومن جاء أجله مات على فراشه بلا علةٍ ملموسةٍ ولا سببٍ ظاهر.

4- للأحداث الكونية والطبيعية تأثيرٌ على الحراك البشري العام ومجرياته السياسية والاجتماعية وغيرها، وما ذكر من التأثير في سير الانتخابات التركية والتفاعل الدولي المحابي للنظام السوري ليس إلا قدرًا يسيرًا مما ظهر لنا، وقد يكون لهذه التداعيات تأثيرات أكبر وأعمق أثرًا في مستقبل الأيام.

5- الله جل في علاه يجري سنن التداول والتغيير والتمكين والاستبدال بما شاء من الأسباب، وفيما شهدنا من الأحداث في واقعنا المعاصر: كانت الكوارث كالزلازل والأوبئة -مع الحروب والتعثرات الاقتصادية- شريكةً للحراك البشري في المداولة وتغيير واقع الدول والمجتمعات.

جوانب من الأمل من رحم الألم:

لا يُقدِّر الله سبحانه وتعالى شرًا محضًا، بل يكون مع الأقدار المؤلمة جوانب من الخير، وهذه الكارثة على ما فيها من حزنٍ وفقدٍ وتشرُّد رأينا في ثناياها جوانب من الخير ما كانت لتحصل بهذا الحجم الكبير لولا الزلزال، فمن المكاسب التي يحصل عليها المؤمن في الضراء والمصائب:

1- استيقاظ كثير من القلوب الغافلة، لما رأوا بأعينهم كيف أنّ أجلهم قريب، وأنّ الدنيا فانية؛ وأنّها ليست محلَّ راحةٍ ولا نعيم، بل هي دار بلاءٍ وشقاء، وأنّ المسلم ينبغي أن يكون فيها (كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها)[3] وهذا دافع لهم لإصلاح ما بقي من أعمارهم والاستعداد لليوم الآخر، وترك الغفلة والرجوع إلى الله تعالى.

2- العودة إلى الله بالدعاء والتضرّع والتوكُّل؛ فمن طبيعة الإنسان الغفلة في حال الرخاء، بينما تردُّه المصائب إلى دينه وربه، وتُبعدُه عن حياة المسرفين الغافلين وفي ذلك خيرٌ كثير.

3- ثبت مجددًا كما في مناسباتٍ سابقة أنَّ أمة الإسلام أمةٌ حية، وأنها أمة الجسد الواحد، فالنجدة الشعبية التي أتت من كل حدبٍ وصوب أثبتت أن الحدود السياسية حدودٌ مصطنعة، لا تعترف بها القلوب الحية، ولا تفرق بين أبنائها.

4- أظهر الحدث حياة قلوب الناس النابضة بالحب والخير في جميع المناطق، بتكافلهم وسرعة استجابتهم، وتماسك منظماتهم، بالرغم من فداحة الخطب وقلة النصير، وصعوبة الأحوال المادية، خصوصًا في الجانب السوري.

5- ظهور الخطاب العنصري البغيض في أسوأ صوره، مما جعل العديد ممن كانوا يسكتون عنه يُجاهرون بتخطئته ومعاداته، وينكرونه على وسائل الإعلام. ولا تزال الحاجة الملحّة قائمة لمحاربة هذا الخطاب واستئصاله فكرًا وممارسةً على جميع المستويات.

6- انكشاف الفاسدين من جميع الفئات: المقاولون الذين لم يراعوا الأمانة في تشييد البناء والعمران، وحلفاء الظالمين الذين يمدُّونهم بأسباب البقاء والاستمرار، وينصرونهم على المظلومين والمضطهدين ممن لا حول لهم ولا قوة، وهذا مقصد عظيم، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] قال السعدي رحمه الله: «فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل»[4]، وكذلك المستغلُّون للأزمات في الإثراء غير المشروع في رفع الأثمان، أو سرقة الإغاثات، أو المساومة عليها، ونحو ذلك.

لا يُقدِّر الله سبحانه وتعالى شرًا محضًا، بل يكون مع الأقدار المؤلمة جوانب من الخير، وهذه الكارثة على ما فيها من آلام كبيرة رأينا في ثناياها جوانب من الخير ما كانت لتحصل بهذا الحجم لولا الزلزال، كاليقظة وإظهار الخير والتكاتف والتلاحم بين المسلمين وانكشاف الفاسدين

عطايا الرحمن لأهل الإيمان في المصائب والابتلاءات:

1- رحمة الله تعالى بهذه الأمة، فالمصائب التي تُصيبها في الدنيا تُخفِّف عنها من عذاب الأخرة: (إنَّ أُمَّتي أُمَّةٌ مَرحومةٌ ليس عليها في الآخِرةِ عَذابٌ؛ إنَّما عَذابُها في الدُّنْيا: القَتلُ والبَلابلُ والزَّلازلُ)[5].

2- اختيار الله شهداءَ من عباده من المؤمنين، الذين يعفيهم مما كلّفهم به من التكاليف، ويعفيهم من آفات هذه الدنيا وآلامها ومن كل ما يكدّر خواطرهم، قال رسول الله ﷺ: (الشُّهَداءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، والمَبْطُونُ، والغَرِقُ، وصاحِبُ الهَدْمِ، والشَّهِيدُ في سَبيلِ اللَّهِ)[6].

3- تكفير السيئات، ورفع الدرجات، وهذا عامّ في كلّ المصائب صغيرها وكبيرها، قال رسول الله ﷺ: (ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللهُ بها عنه، حتى الشّوكةِ يُشاكُها)[7].

4- توسعة الأرزاق لأقوام ضاقت عليهم الدنيا وقلَّ نصيرهم، فلما وقع الزلزال تدفَّقت المعونات فاستفادوا وأطعموا من يعولون، ووجدوا مأوى أفضل.

5- الخير الذي لا نراه، لكن الله يعلمه، قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦]، وقال سبحانه: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩]، فقد يكون في هدم الدار أو ضياع الأموال أو الجراح أو الموت خير سيتّضح لاحقًا ويظهر للمؤمن، ومن تدبّر ما جاء في سورة الكهف من قصّة أصحاب السفينة التي خُرقت (فقد المال) والغلام الذي قُتل (فقد الولد) يدرك ما وراء هذه المصائب من حِكم ومنافع بالغة قد لا تظهر إلا لاحقًا.

التوازن في الخطاب:

حتى تتوازن الصورة لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذه الكارثة قد تكون رحمة على قوم، وتكون بلاء وعقوبة على آخرين، وقد يجتمع في البلاء انتقام ورحمة في الشخص أو المجتمع نفسه: عقوبة على معصية، وكفارة ورحمة على إسلام وطاعة، ولا يستطيع أحدٌ أن يُنكر أنَّ المجتمع كان فيه من صور الظلم والتمييز على أساس الجنسية والعرق ما فيه، ومثلها أخذ المكوس والإتاوات الباهظة، وأشكال المعاصي الموجبة لغضب الرحمن.

وهذه المعاني متواترة في نصوص الكتاب والسنة، ومما يجدر أن يقال في مثل هذا الموقف:

الثمرة العملية للكلام عن كون البلاءات والمصائب كفارات أو عقوبات هي: أنَّ كل مصيبة وابتلاء هي خير وأجر للمؤمن إن هو صبر واحتسب، وأنَّ كلَّ ابتلاء ومصيبة هي له سوءٌ وشرٌّ إن جزع وتسخَّط، فإذا وطَّن نفسه على تحمُّل المصائب، والرضى بقضاء الله وقدره، فلا يضرُّه بعد ذلك إن علم سبب البلاء أو لم يعلمه، والمسلم يتَّهِم نفسه بالذنب والتقصير على كل حال، ويفتش عن الخلل والزلل، فكلنا خطاؤون، وأيُّنا لم يفرِّط في جنب الله تعالى، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أصاب المسلمين يوم أُحُدٍ بمقتلةٍ عظيمة، وهم أصحاب النبي ﷺ، وخير البشر بعد الرسل والأنبياء، بسبب مخالفةِ أمرِ النبي ﷺ، فكيف يظنُّ المرء بعد ذلك في نفسه استحقاق رفعة الدرجات في كل ما يُصيبه، وقد روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنّه كان إذا رأى اشتداد الريح وتقلب السماء يقول: هذا بسبب ذنوبي، لو خرجت من بينكم ما أصابكم.

وختامًا:

فإنّنا نثق بأنَّ أمة الإسلام لا تفنيها المحن والابتلاءات، بل تقويها وتشدُّ من أزرها، ومن سنن الله الماضية: الفرجُ بعد الشدَّة، فإذا ازدادت حُلكة الليل تفاءلنا بقُرب انبلاج الفجر، ولعل الله أراد لهذه الأمة أن تختلط مصائبها ببعضها فيتراحم أبناؤها وتنصلح قلوبهم، وأن تتمايز الصفوف فتستبين سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، فيكون المؤمنون أقرب لاستحقاق النصر الموعود، وأن تتجه الأنظار لهذه البقعة من أرض الشام المباركة لتحقيق نصر عظيم قادم، كما كانت حادثة غزو الكعبة وإرسال الطير الأبابيل على الغازين إيذانًا ببعث النور وبزوغ فجر النبوة المحمدية.

كلُّ مصيبةٍ وابتلاء هي خيرٌ وأجرٌ للمؤمن إن هو صبَرَ واحتسب، وكلُّ ابتلاءٍ ومصيبةٍ سوءٌ وشرٌّ إن جزع وتسخَّط، فإذا وطَّن نفسه على تحمُّل المصائب، والرضى بقضاء الله قدره، فلا يضرُّه بعد ذلك إن علم سبب البلاء أو لم يعلمه

[1] تفسير السعدي، ص (٧١٢).

[2] تفسير الطبري (٧/٢٢٩).

[3] أخرجه الترمذي (٢٣٧٧) واللفظ له، وابن ماجه (٤١٠٩)، وأحمد (٣٧٠٩).

[4] تفسير السعدي، ص (٢٥٨).

[5] أخرجه أبو داود (٤٢٧٨)، وأحمد (١٩٧٥٢) واللفظ له.

[6] أخرجه البخاري (٢٨٢٩)، ولو خُيِّر هؤلاء الشهداء بين ما رأوه من المكانة، والعودة للدنيا مع السلامة من الزلزال لاختاروا ما عند الله.

[7] أخرجه البخاري (٥٦٤٠).

X