تفحَّص بيدك حبّة قمح بصلابتها، وتأمَّل بعينيك نواة التمر بقسوتها، وكيف تَخرُجُ منها الخُضرة والثمرة، ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ [الأنعام: 95]؛ يُخرج السنبلَ الحيّ من الحبّ الميت، والشجرَ الحيّ من النوى الميت، والمؤمنَ من الكافر[1].
قدرة الله بالغة، لكنَّ اليقينَ بها قد يخفُت في النفس فما يُسعف صاحبه في مواقف اليأس.
يُبهرُك فاقد أطرافٍ متفائل، وحاضنةُ معاقٍ متفانية، ومهاجِرٌ يجاهد، وفقيرٌ يتصدَّق، ومعدومٌ يبتسم. وإنَّك لتعجب لعاكفٍ على التعليم عشراتِ السنين رغم البؤس والتشريد، ولله درُّ غنيٍّ مِنْفاقٍ رغم المخاطر والإخفاق، وناشطٍ في الشأن العامِّ يكابد باستقلالية ونزاهة، وإعلاميٍّ يدفع ضريبة الحرّية والمصداقية. ولا تبتعدْ عن أملِ نبيِّ الله يعقوب بالفرج مع طول المدَّة وانقطاع الأخبار، ولا عن مصابرةِ يوسفَ دون الإغراء والكيد العظيم، ثم عفوهما عليهما السلام عن ظُلم الأقربين.
كلُّ هؤلاء لولا الأملُ بالله لانقطع بهم الطريق، ولو علَّقوا آمالَهم بالبشر لباؤوا بالفشل، ولو غاب عن حسّهم عيش الآخرة لتنغَّصوا بعيش العاجلة، ولو نظروا إلى المفقود لما استمتعوا بموجود، ولو اعتمدوا على إمكاناتهم لأحسّوا بالعدم، ولو ترقبوا سرعة النتائج لأُحبِطوا.
لقد وجدوا اليُسر في طيّات العُسر المولّد للدافعية والمحفِّز على الإبداع، وعاينوا حقيقة (ومن يتصبّر يصبره الله)[2]، وبادروا بواجباتهم رغم مشقّة العيش، بخلاف غيرهم ممن ألِف النعيم وسُهولةَ الحياة، فربما عَبَد الله على حرف، فلما مسّه شيء من الشظف أفرغ طاقته في جلْد الناس والظروف وترقُّب المفاجآت، وسرعان ما نفِدَ صبرُه متذمرًا شاكيًا، ولسان حاله: (دعوتُ فلم يُستجب لي)، فعمِيَ عن أسباب اليُسر وأبواب الفرج.
إنَّ النفسية المأزومة، وتضخُّم الذات، والجهلَ بالله وبسننه وقوانينه في خلقه، وأوهام القفزات، والشعور بالاستحقاق السريع، وإعلان التعب، وانتظار الراحة العاجلة.. لا يجلب إلا الضدّ واليأس. وإذا كان الله سبحانه لم يأذن في ذرّةٍ من اليأس والقنوط، فقد أَشرَعَ أبوابَ الفرج واليُسر، وأقام الحُجَّة بتلك النماذج.
تتحتَّم الحاجة لتعلُّم (التفكير الإيجابي) الذي يرى البياض في السواد ولا يشغله سوادٌ عن بياض، والذي يدلّ على الرضى الجالب للرضى. ومن الجيد الاطِّلاع على قصة ابتكار (العلاج بالمعنى)[3]. ولن نجد لأجيالنا ولأنفسنا مسعفًا بالأمل مثل العلم بالله وعظمته وحسن تدبيره وحكمته، ومثل بناء أحلامهم في الجنة، واطّلاعهم على تفاصيل نعيمها بكلام المفسِّرين وشرّاح الحديث، وإلا فإنَّ جفاف الحياة يهدّ الأشجار الباسقة.
ومن لم يقنع فإنَّ يأسَه لا يصنع شيئًا غير الموت. زار النبي صلى الله عليه وسلم مريضًا، فقال له: (لا بأسَ طَهور إن شاء الله)، قال: بل حمى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور، فمات[4].
نهضة الشعوب وتنمية البلاد رحلةٌ شاقَّةٌ زادُها الأمل، ومركبُها التفاؤل، تنتقل من عبودية إلى عبودية بعلم وبصيرة، وقد تبيتُ في التيه سنواتٍ في مراحل المَسير، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 5-8]. وعلى طريق الأمل تجدي المثابرة؛ فدوامُ الصلاة مع الأمل يأتي بالخشوع، ودوامُ التلاوةِ مع محاولة الفهم يأتي بالدموع، ومَن أكثر الطَّرقَ أوشك أن يُفتح له، وحين تستبطئ مصالحَك أو رقّة قلبك في مواسم الخير فاعلم ﴿أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: 17].
سيحتفظ المتفائلون الصابرون وحدهم بمضمار السباق، وما وثق الناس بقائدٍ لا يرى لهم المستقبل المشرق مهما حلَك الظلام.
لا نهوضَ مع اليأس، ولا حضارةَ مع القنوط، ولا مجدَ مع انقطاع الأمل.
[1] ينظر: تفسير الطبري (11/552)، و(20/85).
[2] أخرجه البخاري (1469).
[3] طوّرها طبيب النفس والأعصاب (فيكتور فرانكل) في سجنه، وتستخدمها للعلاج مراكز عدّة في العالم.
[4] ينظر: صحيح البخاري (3616)، وفتح الباري (6/625).