الورقة الأخيرة

ولا تكن للخائنين خصيمًا

تروي كتب التفسير قصة رجل سرق، فسعى مع أصحابه في تبرئته عند النبي صلى الله عليه وسلم، واتهام رجل بريء[1]، فجاء الوحي بالتنبيه والتصحيح والتعليم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، بما أراه الله وأوحاه إليه وعلّمه إياه، لا بما رأته نفسه أو مالت إليه أو اشتهاه المحبّون. ثم نهاه عمّا يُشيع الفساد في الأرض من الدفاع عن المخطئين الخائنين أنفسهم والمخاصمة عنهم: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، حتى لو كان خصمهم صاحب الحق يهوديًا أو مشركًا، فإنّ العدل هو الحق.

تتنوّع صور الخيانة؛ فتشمل ادعاء ما ليس للمرء، أو إنكار الحق الذي عليه. ويتجسّد ذلك في عالمنا اليوم في أنواع الغش في المعاملات والامتحانات والأبحاث، والزور في الشهادات، والارتشاء في الأعمال، وتقديم المصلحة الشخصية والعائلية والحزبية على المصلحة العامة.

ومما لا يخفى: المحاماة عن المجرمين والقتلة، والاستقواء بالعدو على الأهل والبلد، وتسريب المعلومات، والدلالة على مواطن الضعف، والتنازل عن الحقوق التاريخية العامة، ويشبهها: تأييد دعوات مشبوهة تقتات على التذمر من مشكلات طبيعية وأزمات مصطنعة.

ومن أدقّ صور الخيانة في لبوس الإصلاح: مشاحنة العاملين لأنّهم من غير جماعته أو مجموعته، والتضييق عليهم، ومزاحمتهم في أعمالهم وحقوقهم، وحرمان الناس من خبراتهم وخيرهم، وتشويه صورتهم، والتشكيك في نياتهم وغاياتهم.

أمّا المخاصمة عن تلك الخيانات وأصحابها، فتظهر في الاصطفاف معهم على طول الخط، ونصرة رأيهم وقولهم وموقفهم، بغضّ النظر عن دقة معلوماتهم وصواب تفكيرهم، مع التستر على غوايتهم، والمجادلة عن ادعاءاتهم. ثم تنتقل المخاصمة إلى مهاجمة المخالفين، دون تلمّس دوافعهم، أو الاطلاع على منجزاتهم وحيثيات مواقفهم وبراهين أقوالهم. ويسهل آنذاك استحلال أعراضهم وهتك أستارهم، والسعي في هدم أعمالهم لمجرّد أنّها أعمالهم، وصولاً إلى الاستقواء بالسلطة على إقصائهم والنيل منهم، ولو بلغ الأمر سجنهم أو تشريدهم أو بهتانهم ورميهم بما هم منه براء؛ بحجّة فعل الخير المزعوم الذي عليه الأصحاب والأحباب.

حين تعتاد النفوس الميلَ عن الحقّ شعرةً، قد يسهل عليها نصرة الباطل، وإن بلغ هدم البلاد وإفساد العباد، بينما هي تفرّغ طاقة العداء عندها على إخوة الإيمان شيطنة لهم وتزكية للنفوس!

تتعلّل تلك النفوس بعلل شتى تؤيّد بها موقفها السياسي أو الاجتماعي أو الدعوي أو الإداري أو الأسري… وتنصر به خصومتها الجائرة، فتغطي به بقايا فطرتها ونور الحق في داخلها، فتطمسه.

وما أودى بها إلى اختلال الميزان إلا نظرةٌ ماديةٌ استعظموا بها شأن الخلق، فتعلّقوا بهم وحسبوا حسابهم: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ}، فصغر في قلوبهم شأن خالقهم: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].

لا إفاقة من تلك الغفلة إلا بوزن الأمور بنظرة كلية إلى المصير الأخير: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء: 109]، بصيرة تأخذ بصاحبها إلى مغسلة التطهير: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا 110 وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 111 وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 110-112].

سياق طويل في ثلاثين آية من سورة النساء يبني حائطَ العدل في العلاقات والحكم على الآخرين، وينصب ميزان القسط في جزاء كل عامل بما عمل: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107]، فيقوّي لُحمة الصف الداخلي في مواجهة الكيد، ويحميه من التفكّك، ويكشف مؤامرات الشيطان وأساليب النفاق في إضلال المقسطين، عبر علاقات الصداقة، وشبكات المصالح، وأروقة المؤتمرات، وهوامش الاجتماعات، وخفايا المراسلات… مكر لا نجاة منه إلا بفضل الله على مَن استنار قلبه بالحق، فحكم به، وضحّى من أجله؛ استجابة لقول الحق: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].


د. خير الله طالب


[1] قصة ابن أبيرق مروية في التفاسير، وأخرجها الترمذي (3036). أسانيدها ضعيفة، وحسنها بعضهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *