لقمان سمِّيت سورةٌ من سُوَر القرآن الكريم باسمه مع أنَّه ليس من الأنبياء على الأرجح، مما يدلُّ على مكانته العظيمة التي خلَّدها الله تعالى في كتابه الكريم، وصدّر لها بوصفه بالحكمة، وسرد فيها وصاياه التي جمعت بين العلم والتربية والحكمة والعبادة، مع تعدُّد الأساليب ودقّة المعاني، وهذا المقال يقف وقفات متأنيةً مع مضمونها وأسلوبها
تبقى وصيةُ القرآن هي الوصية الأحكم والأعظم مطلقًا
وحينما يؤتي الله الحكمة عبدًا من عباده، ويُثني عليه بها، ويحكي لنا شيئًا من مواعظه ووصاياه فلا شك أنه سيكون فيها تمام الحكمة، كيف إذا أُضيف إلى ذلك أن تكون تلك الوصية من أب لابنه، ووصية الوالد لوالده هي أصدق ما يكون ولا تُتهم إطلاقًا إذ إنه «يُوصِي وَلَدهُ الَّذِي هُوَ أَشفَقُ النَّاسِ عَلَيهِ وَأَحَبهُم إِلَيهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَن يَمنَحَهُ أَفضَلَ مَا يُعرَفُ»[1]. كيف إذا علمت أنها وصلت إلينا بوحي من الله إلى الصادق الذي لا ينطق عن الهوى ﷺ! عندها سيجتمع لك في تلك الوصايا الصدق مع العلم والحكمة والصحة، لتُنصت إلى درر الحكمة وكُلُّك تسليم ويقين بصحتها وكمالها وعظمتها.
تقف هذه المقالة مع وصايا لقمان الحكيم لابنه، التي تميزت بتكاملها وشمولها لأصول الشريعة من عقيدة وعبادة، وصلاح قلبٍ، والأخلاق الظاهرة والباطنة، كما أن هذه الوصايا تميزت بتعدد الأساليب والوسائل التي استعان بها لقمان لإيصال تلك المضامين العظيمة على أكمل وجه، وذلك من الحكمة التي أوتيها لقمان وهي لنا محل اقتداء واهتداء، ولن يكون الوقوف مع تلك الوصايا الجليلة وقوفًا تفصيليًا مع ألفاظ الآيات ومفرداتها؛ فهذا قد أورده المفسرون في كتبهم، إنما هي وقفات وتأملات في ظلال تلك الوصايا وأفيائها وذلك من خلال محورين رئيسين:
- وقفات مع مضمون تلك المواعظ والوصايا.
- وقفات مع الأساليب والوسائل التربوية المستخدمة لإيصال تلك المواعظ والوصايا.
تميزت وصايا لقمان بتعدد الأساليب والوسائل التي استعان بها لإيصال المضامين العظيمة على أكمل وجه، وذلك من الحكمة التي أوتيها، وهي لنا محل اقتداء واهتداء
وقبل الحديث عن تلك الوصايا، هذه بعض الوقفات المختصرة مع صاحب الوصايا وابنه:
جماهير أهل العلم على أن لقمان كان رجلًا صالحًا ولم يكن نبيًا، قال ابن كثير: «اختلف السلف في لقمان: هل كان نبيًا أو عبدًا صالحًا من غير نبوة؟ على قولين: الأكثرون على الثاني»[2]، ولعله أن يكون في حكاية الحكمة في الصالحين وعدم حصرها على الأنبياء تشويفٌ للنفوس لبلوغ تلك المنازل العلية وتعلّم الحكمة والتطلع لها، فلا تتوهم أنها بعيدة المنال فذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩]، ثم إنَّ حكايةَ القرآن لشيء من أخبار الحكماء وأقوالهم، نموذجٌ حيٌّ لنا لنتعرّف على الحكمةِ الصحيحة، والحُكماءِ الحقيقيين في ميزان القرآن، فلا تنحرف البوصلة ويُقال لما ليس بحكمة: إنَّه حكمة، أو يُوصف بالحكمة مَن هم مِن غير أهلها وما أكثر تلك الدعاوى اليوم!
جاء في وصف لقمان أنَّه كان عبدًا حبشيًا أسمرَ البشرة من النوبة أو من سودان مصر، قصيرًا أفطسَ مشقَّق القدمين، وقيل إنَّه كان نجارًا[3]، ولعلَّ في حكاية الحكمة ممن كانت هذه أوصافه لفتَ النظر للاهتمام بالعقول والمقول والمضمون والجوهر، لا المظاهر والأوصاف المادية والبهرج.
وهل كانت امرأةُ لقمان وابنُه على التوحيد أم على الشرك؟ لأهلِ العلم كلام في ذلك، قال القرطبي: «وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرَين، فما زال يَعظُهما حتى أسلما»[4]، قال الطاهر بن عاشور: «وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتِّضاحًا»[5]. وبهذا لا تَتركُ مثلُ هذه الموعظة عذرًا لأحد أن يتعلَّل بانحراف الموعوظ مهما بلغ انحرافه فليس فوق الشرك ذنب، كما أن تلك الوصايا تضربُ لنا مثلًا حيًا في حُسن نتائجها وعظيم أثرها حيث نَقلت مَن نُصِحَ بها من الشرك إلى التوحيد، وفي ذلك مزيد إيمان بها وبفاعليتها وقوة أثرها.
المحور الأول: وقفات مع مضمون تلك المواعظ والوصايا:
بنظرةٍ شاملةٍ إلى المضامين الرئيسة التي وَعظ بها لقمان ابنَه يُلحظ أنَّه ضمَّنها عدَّة أبواب، فقد شمل في موعظته الوصيةَ بتصحيح العقيدة والقلب والعبادة والأخلاق الظاهرة والباطنة.
قال ابن عاشور: «وقد جمعَ لقمانُ في هذه الموعظةِ أصولَ الشريعة وهي: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس»[6].
كما أنَّها تضمّنت سِمات أهلِ الفوز الواردة في سورة العصر ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣]، وتلك مِن جوامع الوصايا وأعظمها وأجلِّها، وفيما يلي سردٌ لتلك المضامين:
١. تصحيح الاعتقاد:
ابتدأ لقمان وصيّته لابنه بالتأكيد على تصحيح العقيدة إذ هي عمادُ الأمر وأُسُّه، وترتكز عليه سائر الأمور والوصايا، والتي لا صلاح للنفس إلا بها، وفي باب العقيدة أكَّد على ركيزتين رئيستين:
الأولى: التوحيد الخالص لله تعالى حيث حذَّر ابنه من الشرك وبين له قُبحَه وأنَّه ظلم عظيم منافٍ لكلِّ حكمة وعدلٍ وإنصافٍ فقال: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
والثانية: اليقين بالحساب والجزاء في الآخرة فقال: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، فبقدر استحضار العبد للآخرة يزداد قوة وهمة في السعي إليها، وبقدر نسيانها فإنه يلهو ويغفل عن العمل الصالح ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ٧ أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يونس: ٧-٨] «وهاتان القضيَّتان أصلُ عقائد الإسلام، وعمدة شعب الإيمان، ولا يستقيم إيمان عبدٍ كما لا يستقيم سلوكه إلا بالتوحيد الخالص واليقين الجازم بالحساب على كل صغيرة وكبيرة»[7].
٢. الوصية بالبِرِّ وحسن اختيار القدوة:
لا يخفى عظيم حقِّ الوالدين على الابن؛ فإن الفِطَرَ والشرائع دلَّت عليه، ويكفي في بيان عظيم منزلة البرِّ أنَّ الله قَرَنه بتوحيده فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٤]، لذا كان من تمام الحكمة الوصية بالبر والإحسان والتأكيد عليه، وهو بابٌ عظيمٌ من أبواب الجنة؛ فعن أبي الدرداء t قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: (الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّة؛ فحافِظ على ذلك إنْ شِئتَ أو دَع)[8].
جمعَ لقمانُ في مواعظه أصولَ الشريعة: من الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس
الطاهر بن عاشور (بتصرف)
كما أوصاه باتِّباع سبيلِ أهل الإنابة واختيار القدوة الحسنة والصُّحبة الصالحة، وفي ذلك من التأكيد على أهمية تهيئة المحيط الصالح والصاحب المنيب لله كما لا يخفى!
٣. إصلاح القلب:
في هذا الباب كانت الوصية بالمراقبة الدائمة لله تعالى، إذ هو قادر على أن يأتي بمثقال حبة من خردل من أعمال العبد، وإن كانت في صخرة أو في السماوات أو في الأرض[9]، وأكد ذلك له بأن ذكّره بلطف الله وإحاطته بكل شيء ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾، كما تكرر في الوصايا تأكيده على تعليق قلب ابنه بالله تعالى بتكرار ذكر شَيء من صفاته وأسمائه الحسنى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾، ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾، ﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.
وليس خافيًا عليك أهمية القلب وإصلاحه فهو ملك الأعضاء وسيّدها، قال ﷺ: (ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغَةً، إذا صَلَحَت صَلَحَ الجسد كُلُّهُ، وإذا فَسدت فَسدَ الجسدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلب)[10]، فلا صلاحَ لسائر العمل إلا بصلاح القلب، وبفساده يفسُد سائر العمل، وهو سرُّ التفاضل والتمايُز الذي يحصل بين السائرين إلى الله مع اختلاف أعمالهم وعلومهم وأفهامهم، وكانَ النَّبيُّ ﷺ يُكثرُ أن يقول: (يا مُقلِّبَ القلوبِ ثَبِّت قَلبي على دينك)[11]، وبقدر اهتمام المتربّي بصلاح قلبه يسبقُ في ميدان الصلاح والإصلاح، وكلُّ جهدٍ يخلو من العناية بلا تأكيدٍ على صلاح القلب هو عبثٌ وإفساد.
٤. إصلاح العبادة:
وفي باب العبادة أوصاهُ بإقامة الصلاة ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ﴾ أَي: بحُدودها وفروضها وأوقاتها؛ إذ هي عمود الدين، ولا يصحُّ إيمان عبدٍ إلا بها، وهي أوّل ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، (وَالصَّلَاةُ نُورٌ)[12]، وصلاحُ صلاة العبد صلاح لسائر عمله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إنَّ أولَ ما يُحاسب به العبد يوم القيامة من عملِهِ صلاتُه، فإن صَلُحَت فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فَسَدت فقد خاب وخسر)[13].
ولعلَّ من نافلةِ القول التأكيدُ على محورية الصلاة في التربية، وأنَّه بقدر تعلُّق الابن بها وسيطرتها على جوانحه وأولوياته، وتعمُّقه في استيعاب أحكامها ومسائلها ومقاصدها وتمرُّسه على ضبط تفاصيلها وإتقانها، بقدر ما يُرجى له صلاحٌ في سائر عمله وشؤونه: ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ﴾ [العنكبوت: ٤٥].
٥. السلوك الاجتماعي:
وفي باب السلوك الاجتماعي أوصاه بالقيام بواجب الدعوة وإصلاح الناس ونشر الخير فيهم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فقال: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أَيْ: بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ، وفي ذلك إشعار له بقيمته وأهميته ودفعه إلى الإيجابية والفاعلية في مجتمعه، كما أنّ حثّه على سلوك طريق الدعوة وإصلاح الناس دفعٌ له ليكون من صفوة الناس وخيرهم: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
أوصى لقمان ابنه بالقيام بواجب الدعوة وإصلاح الناس ونشر الخير فيهم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفي ذلك إشعار له بقيمته وأهميته ودفعه إلى الإيجابية والفاعلية في مجتمعه، وحثّ له ليكون من صفوة الناس وخيرهم
ثم لما علمَ أنَّ الآمرَ بالمعروفِ والناهي عن المنكر، لا بدَّ أن ينالَه من الناس أذى، أمره بالصبر فقال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ والصبر هو ذروة سنام الأخلاق وأُسُّها الذي ترجع إليه جملة الأخلاق الفاضلة (وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر)[14].
٦. إصلاح الأخلاق:
وفي باب الأخلاق والتعامل مع الآخرين أسس له قواعد في الأخلاق فبدأ بوصيته بتكميل باطنه وقلبه، فأمره بالتواضع ونهاه عن احتقار الناس وازدرائهم بالقول أو الفعل ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ كما حذره من الكِبْر والغرور ﴿ولا تمشِ في الأرض مرحًا﴾ فالتواضع رأس الفضائل، كما أن الكبر أم الخبائث.
ثم أوصاه بما فيه كمالُ ظاهره وسمته وأدب جوارحه، من القصد في المشي وغض الصوت وتلك علامة الحياء و(الحياءُ لا يأتي إلّا بخيرٍ)[15].
قال ابن عاشور: «بعد أن بيَّن له آدابَ حُسن المعاملةِ مع الناسِ قَفّاها بحُسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهرُ ما يلوحُ على المرء من آدابه»[16].
٧. الأخلاق غاية:
من المضامين التي جاءت في وصية لقمان بيانُ غاية الأخلاق وأنها قضية تعبُّدية أُخروية وليست مصلحية نفعُها دنيوي فحسب، وذلك أنَّه بعد وصيته لابنه بإصلاح أخلاقه ذكّره بالغاية منها فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ كذلك بعد وصيته بالبر بوالديه ذكَّره بالمعاد والبعث للحساب فقال: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ وبهذا يؤسِّس له نظرةً صحيحة في غاية الأخلاق حين علَّلها بحبِّ الله لها وكُرهِه لما يُضادُّها وأنه سيُجازى ويُحاسَب عليها، وأنها لا تُقصد لمجرَّد نفعها الدنيوي أو لقيمتها العقلية أو النفعية من جلب ثناء الناس كما هو في كثير الفلسفات الغربية البرجماتية، وغيرها من المدارس التي تنادي بنسبية الأخلاق أو التي تحكّم العقل المطلق على النقل في تحسين الأخلاق أو تقبيحها، وإن كان شيء من ذلك حاصلٌ تبعًا لا أصالة.
صدّر لقمان وصاياه بقوله: (يا بُني( وكررها مرارًا، وفي ذلك من استعطافه بالبُنوّةِ وإشعاره بالشفقة عليه والمودة الخاصة له الشيء الكثير، وهي طريقةٌ مفيدةٌ في طلب حضورِ الذهنِ لوعيِ الكلام، وذلك من الاهتمام بالغرض
المحور الثاني: وقفات مع الأساليب والوسائل التربوية التي استخدمها لقمان لإيصال تلك المواعظ والوصايا:
١. التودد والتلطف في الخطاب:
ظهر ذلك في وصية لقمان حيث كان يُصدِّر وصاياه بقوله: ﴿يا بُني﴾ ويكررها له مرارًا، وفي ذلك من استعطافه بالبُنوّةِ وإشعاره بالشفقة عليه والمودة الخاصة له التي لا تخفى، وهي طريقة الأنبياء والمصلحين مع آبائهم وأبنائهم، قال الطاهر بن عاشور: «افتتاح الموعظة بنداء المخاطَب الموعوظ مع أن توجيه الخطابِ مُغنٍ عن ندائِه لحضوره بالخطاب، فالنداءُ مستعمل مجازًا في طلب حضورِ الذهنِ لوعيِ الكلام، وذلك من الاهتمام بالغرض المَسوقُ له الكلام ُكما تقدم عند قوله تعالى: ﴿يا أبَتِ إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ [يوسف: ٤] وقوله: ﴿يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ﴾ [يوسف: ٥] وقوله: ﴿إذْ قالَ الحَوارِيُّونَ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ﴾ [المائدة: ١١٢]، وقوله تعالى: ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢]»[17].
ولو عوّد الناصح لسانَه على مثل هذه الألفاظ مع كلِّ توجيهٍ وإرشاد لوجد لذلك أثرًا بالغًا واستجابة ولا أقل من أن يُقابل بالإحسان وحسن الرد والتلطف في الجواب.
٢. سهولة العبارة واعتماد التراكيب البسيطة والتوجيه المباشر:
وذلك ظاهر في أكثر وصاياه له كقوله: ﴿لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖوَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّۚ﴾، ﴿أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ﴾.
كما اعتمد أسلوبَ تلخيص الرسالة المقصودة بعباراتٍ واضحةٍ عند ذكر الصورة أو المثل، حتى لا يتشتَّت ذهن الابن؛ فبعد إيراد المثال على عظيم لُطف الله بذكر مثقال الحبة من الخردل؛ لخَّص المقصودَ له فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ وبعد تحذيره من تصعير الخدِّ والمشي مرحًا أفصح له عن مقصوده فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ وهكذا.
ولا شك أنَّ للعبارة الواضحة والتوجيه المباشر وتلخيص الكلام دورًا مهمًّا في وضوح الرسالة المرادة ودوام أثر التوجيه وحفظه وطول الانتفاع به على الوجه الصحيح المراد، على عكس ما كان متكلفًا من الكلمات والوصايا فلا يُرجى منه نفع، بل ربما يُخطئ المنصوح فهمَه أو يَصعُب عليه حفظه وتذكره.
٣. التدرج في النصيحة والبدء بالأهم ثم المهم:
تبين ذلك جليًا من خلال عرضنا لمضمون موعظة لقمان ومحتواها في المحور الأول من هذه المقالة حيث بدأ بترسيخ العقيدة، ثم أوصاه بالبرّ ثم بما فيه صلاح قلبه من اليقين بالآخرة ومراقبة الله، ثم أوصاه بالصلاة والدعوة، وختم وصيته بتهذيب أخلاقه وسلوكه.
وما أحوجَ المربي والواعظ الناصح إلى مراعاة الأولويات وفقه ذلك والدُّربة عليه، ولا شكَّ أن مثل هذا يتطلّب مزيدًا من العلم والبصيرة ومعرفة مراتب الأشياء ومنازلها لتقديم الأهم والأفضل، والبداءة بالأولى والأعظم.
فَقِه لقمان أولويات الدعوة وراعاها، فبدأ وصاياه بترسيخ العقيدة، ثم أوصاه بالبرّ، ثم بما فيه صلاح قلبه من اليقين بالآخرة ومراقبة الله، ثم بالصلاة والدعوة، وختمها بتهذيب الأخلاق
٤. إيراد التعليلات التي تدعوه للاقتناع بما يقول:
ظهر ذلك حينما حذَّره من الشرك فقال مُنَفِّرًا له عنه ومبينًا له قبحَه وبُعده كل البعد عن الحكمة: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ كذلك حينما أوصاه بالبر بوالديه علل ذلك بذكر شيء من الأسباب الفطرية التي تستحثه على البر وتستعطف قلبَه على والدته بشكلٍ خاص فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾.
وحينما دعاه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى، شد من عزيمته وحفزه وشجع قلبه ليزيد من صبره وثباته على طريق الدعوة فقال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
وحينما أرشده إلى خفض صوته إذا تكلم، نفّره من ضد ذلك فقَالَ: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ وغيرها من المواطن.
وهنا نلفت النظر إلى أهمية التعليل وذِكر المقاصد والمصالح والحيثيات وإيراد الشواهد وإيقاظ الفطرة والضمير وتحفيز عقل وقلب المنصوح بما يزيد من قناعته وتمسكه بما يُنصح به وعونًا له على الاستجابة، وألا تكون الوصايا مجرَّد أوامرَ جامدةٍ لا حياة فيها، والتي ربما تكون فتنةً للمنصوح، وسببًا في عصيانه ومخالفته.
٥. التجرد في النصيحة ولو على حساب نفسه:
ظهر ذلك في سياق وصيَّته بالبر بوالديه حيث قيَّد ذلك بذكر قاعدةٍ عظيمةٍ تُعرِّفه حدود تلك الطاعة، وأنها لا تكون في معصية الخالق فقال له: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ﴾ وتلك الوصية ستكون على حساب نفسه هو، لكن تجرُّده لله وصدقَه في نصيحة ابنه جعله يؤكِّد ذلك ويوضحه له تمام الوضوح، وفي ذلك من التجرُّد والصدق ما لا يخفى، ولمثل هذا التجرد الأثرُ البالغ في تربية المنصوح على التزام الحق والثبات عليه وتقديم حق الله على كلِّ حق ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ بِالقِسطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَو عَلى أَنفُسِكُم أَوِ الوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ﴾ [النساء: ١٣٥].
ونؤكِّد هنا على أهمية التربية على التجرُّد المطلق للحق، خاصة فيما يُتوقَّع فيه اختلاط النصيحة بشيءٍ من المصالح الشخصية والمنافع الخاصة بالناصح والموجِّه فيكون البيانُ في مثل هذه الأمور من تمام النصيحة وكمالها، ودليلُ تجرُّد الناصح التامّ وصدقه وإخلاصه.
٦. افتراض عقَبات تعرض للابن، واستباقها بحلول لمواجهتها:
ظهر ذلك في افتراض وقوع الشرك من والديه بل ومُجاهدتهما له على الوقوع فيه ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ﴾ -مع الأخذ بالاعتبار احتمال وجود شيءٍ من ذلك واقعًا من أمه كما أوردْنا في المقدمة- وهنا أوصاه بما يجب أن يكون عليه حاله في مثل هذا فقال: ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
وهنا نلفتُ النظر إلى أهمية معايشة الناصح واقع المنصوح واستباق ما يُتوقع نزوله به بنصيحة وتوجيه ودلالة لكيفية التعامل معها، خاصةً فيما هو من كبار الأمور وعظائمها مما يتعلَّق بشبهات العقيدة والعبادة ونحوها، فضلًا عن مصالحه الدنيوية التي بها صلاح دنياه وحياته، ولتلك الوصايا من توطين المنصوح على الحق وتثبيته عليه ما لا يُقارَن بمن تُعرَض عليه الشبهات أو يقع فيها أو يُساوره فيها شيءٌ من الشكوك، ثم يحصل له التوجيه والتصويب بعدها -إن حصل- فلا يُعلم ما سيزول منها مما سيبقى!
اعتنى لقمان في وصاياه بتضمين الرسالة المرادة في ضرب المثل أو التمثيل بصورة، لما له من أثرٍ بالغٍ في وجدان المدعو ووقعٍ شديد في نفسه وحِسِّه، وهذا أقرب للفهم وأدعى للتذكُّر
٧. تضمين الرسالة في صورة أو مَثَل:
ظهر ذلك في مواضع من وصيته: منها قوله: ﴿يا بُنَيَّ إِنَّها إِن تَكُ مِثقالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ فَتَكُن في صَخرَةٍ أَو فِي السَّماواتِ أَو فِي الأَرضِ يَأتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطيفٌ خَبيرٌ﴾ [لقمان: ١٦]، وهنا بيَّن له رسالته أجملَ بيان، إذ ذكر له أنَّ السيئة أو الحسنة مهما كانت صغيرة بقدر وزن حبةٍ من خَرْدَل وكانت في بطن صخرةٍ لا يطّلع عليها أحد، أو كانت في أي مكانٍ في السماوات أو في الأرض فإنَّ الله يأتي بها يوم القيامة، فيجازي العبد عليها، إن الله لطيف لا تخفى عليه دقائق الأشياء، خبيرٌ بحقائقها وموضعها.
والمثل الآخر ضَرَبه في سياق تهذيب سلوك ابنه الظاهر وإصلاح خُلقه وسمته وتنفيره من رفع الصوت، فصور له صورة مَن يرفع صوته بصورة قبيحة منكرة ينفر منها كل صاحب فطرة سوية فقَالَ: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾.
وهنا نلفتُ النظر إلى أهمية اعتماد ضرب المثل أسلوبًا في التوجيه والتربية واختياره بعناية وبعدَ تأمُّلٍ ونظر، لما له من أثرٍ بالغٍ في وجدان المدعو ووقعٍ شديد في نفسه وحِسِّه، وبخاصة إن كان فيه عمق في التمثيل والتشبيه وربما احتاج ذلك أحيانًا مزيدًا من الوقت والتأمل.
قال السيوطي: «ضربُ الأمثالِ في القرآن يُستفاد منه أمور كثيرة: التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريبُ المراد للعقل وتصويره بصورةِ المحسوس»[18].
٨. إعطاء النموذج الأقصى ليقيس عليه ما هو دونه من باب الأولى:
ظهر ذلك في المثل الذي ضربه: ﴿مِثقالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ فَتَكُن في صَخرَةٍ﴾ قال الطاهر بن عاشور: «فذكِرُ أدقِّ الكائناتِ حالاً من حيث تعلُّق العلم والقدرة به، وذلك أدقُ الأجسام المختفي في أصلبِ مكان أو أقصاه وأعزه منالاً، أو أوسعه وأشده انتشارًا، لِيُعلَم أنَّ ما هو أقوى منه في الظهور والدنو من التناول أولى بأن يحيط به علم الله وقدرته»[19].
٩. بناء العقلية المركبة التي تميز حدود الحق من الباطل:
ظهر ذلك عند وصيته بعدم طاعة والديه لو جاهداه على الشرك، وعندها حدَّ له حدًا دقيقًا فاصلًا حتى لا يتطرَّف في ذلك فيتوهَّم أنَّها مُفاصلةٌ مطلقةٌ في كلِّ شيء، عندما أوصاه بمصاحبتهما بالمعروف فقال: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
ولا يخفى أنَّ شيئًا من التطرُّف الذي يُلحظ أحيانًا في بعض الناشئة أقصى اليمين أو أقصى الشمال وعدم وزن الأمور بميزانها الصحيح إنَّما هو لغيابِ مثل هذا التوجيه العميق الموزون، المحدود بحدود الشريعة والذي يُعطي كلَّ صاحبِ حقٍ حقَّه بلا إفراط ولا تفريط، ولا مبالغة أو إجحاف وبمعرفة الحدود الدقيقة الفاصلة بين الحقوق والواجبات وبين المباحات والمحرمات.
خاتمة:
بهذا! تأمَّل في عظيم حكمة لُقمان، كيف وَعَظ ابنَه بهذه الوصايا العظيمة الجامعة ليجعل منه رجلًا موحدًا لله تعالى، بارًّا بوالديه، مراقبًا لله في سرِّه وعلانيَته، عابدًا لله مصليًّا، آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر صابرًا محتسبًا، متواضعًا خلوقًا مهذبًا، وبذل لإيصال تلك المضامين العظيمة أكملَ الأساليب والوسائل، مِن تلطُّفٍ في الخطاب وسهولةٍ في العبارة وتدرُّجٍ في النصيحة وتعليلٍ لما يريد منه وتمثيلٍ وغيره، ليرسُم لنا بهذا صورةً متكاملةً في توجيهنا ونصيحتنا، فنلتفتَ للمضمون والأسلوب معًا، ولا يُغلَّب جانبٌ على حسابِ آخر، وليس بعدَ هذه الكمالاتِ من كمال، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء.
[1] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (٦/٣٣٦).
[2] المرجع السابق (٦/٣٣٣).
[3] جامع البيان، للطبري (١٨/٥٤٧-٥٤٨).
[4] تفسير القرطبي (١٤/٦٢).
[5] التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢١/١٦٠).
[6] المرجع السابق (٢١/١٥٤).
[7] زاد الدعاة، لعبد المهيمن طحان ص (١٢٤).
[8] أخرجه ابن حبان (٤٢٥).
[9] قوله تعالى: ﴿يأتِ بها الله﴾ أي: يَعلمها الله، وقيل: يُظهرها، أو يأتِ بها الله في الآخرة للجزاء عليها.
[10] أخرجه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩).
[11] أخرجه الترمذي (٢١٤٠).
[12] أخرجه مسلم (٢٢٣).
[13] أخرجه الترمذي (٤١٣).
[14] أخرجه البخاري (١٤٦٩).
[15] أخرجه البخاري (٦١١٧) ومسلم (٦٠).
[16] التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢١/١٦٨).
[17] التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢١/١٥٤).
[18] الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (٢/١٦٧) نقلاً عن بعض العلماء.
[19] التحرير والتنوير، لابن عاشور (٢١/١٦٢).
د. عمر النشيواتي
طبيب، وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه