الأمة اليوم بحاجة إلى البحث عن الحلول والعلاجات للمشكلات والأمراض التي يعاني منها واقعها المتردي أكثر من أي وقت مضى، وذلك أن سهام الأعداء استثمرت في خلافاتها وعلاقاتها، وبالرغم من الجهود المبذولة في رص صفوفها وجمع كلمتها ما زالت بحاجة للمزيد من الاستنارة بنور الوحي والتجرد لتوجيهاته والتخلص من الحظوظ والمكاسب، وهذا المقال يسلط الضوء على جانب تربوي مهم في ذلك
مدخل:
بلغت كثرة الآلام وشدتها بأمتنا مرحلة كادت تفقد الإحساس بها، والتعايش مع هذه الآلام صار أمرًا واقعًا كما يتعايش المريض مع المرض المزمن، لكن بعض هذه المصائب يتجاوز فيها الألم العتبة التي تعوَّد عليها الناس، وفي ذروة الألم يأتي متألم ويصرخ: لو توحَّدنا لما وصلنا إلى ما نحن فيه من الذل والهوان!
ويتكرر هذا النداء ويعلو صوته ليتحول إلى مؤتمرات أو تجمعات تقام بغية التقريب بين تيارات الأمة وجماعاتها، للوصول إلى توافق في المسائل المتنازع عليها، على أساس أن وجود هذا التوافق شرط لتحقق وحدة الأمة، وبعد محاولات البحث عن هذا التوافق تصل العديد منها لنتيجة متكررة، وهي أن يتمسّك كل ذي رأي برأيه وتنفضُّ هذه المحاولات بعداوات وخصومات أشدّ من تلك التي سبقت الاجتماع، وهكذا يتكرر الأمر كلما فجعت الأمة بمصيبة تهز وجدان أبنائها.
الاختلاف سنة كونية في البشر:
هنا يأتي سؤال: هل الاختلاف أمر سنني لازم للبشر؟ أم أنه طارئ والأصل التوافق بينهم؟ وهل كانت أمتنا الإسلامية في أيام مجدها وعزتها مُتفقة من كل وجه؟
تحاول هذا السطور تسليط الضوء على هذه الأسئلة في إطار مفهوم وحدة الأمة.
يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٨-١١٩]. قال ابن عاشور: «والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله: ﴿مختلفين﴾، واللام للتعليل لأنه لما خلقهم على جِبِلَّةٍ قاضيةٍ باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدًا لمقتضى تلك الجبلة وعالمًا به كما بيناه آنفًا؛ كان الاختلاف علة غائية لخلقهم»[1].
ويقول في تعليقه على قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩]: «المعنى: لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح.
و(لو) تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها. فالمعنى: لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤوا على الإيمان، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق»[2].
لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح، لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متفاوتة في إدراك الحقائق فكان منهم المؤمن وكان منهم الكافر
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «تفرَّقتِ اليَهودُ على إحدى وسبعينَ فرقة أو اثنتينِ وسبعينَ فرقةً، والنَّصارى مثلَ ذلِكَ، وتفترِقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً»[3].
تفيدنا هذه النصوص أن الاختلاف أمر واقع في بين البشر عمومًا فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: ١١٨-١١٩]، سئل مالك رحمه الله عن هذه الآية فقال: «خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضًا قوله: خلقهم فريقين، فريقًا يرحمه وفريقًا لا يرحمه»[4].
من رحمة الله تعالى أن استطاع علماء الإسلام التمييز بين الخلاف السائغ من قبيل التنوع أو الاختلاف الذي أعذرت الشريعة به، وبين الخلاف المذموم الذي يؤدي لفتح باب الأهواء والانحراف عن الصرط المستقيم
ووقوع الاختلاف في أمة محمد ﷺ على وجه الخصوص كما سيأتي بيانه أمرٌ مشهود، فهل كل اختلاف مذموم؟ وهل يكون سعيُنا للتوافق إدارة صحيحة لهذا الاختلاف والوصول به إلى عز الأمة؟
أخبرنا النبي ﷺ أنَّ الاختلاف سيقعُ في أمته كما في حديث الافتراق المذكور، نظير ما وقع في أمتي اليهود والنصارى، وأن هذا الاختلاف أمرٌ مذموم لأنه حيدة عما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، ووصفت الفرق المخالفة بأنها في النار.
وفي الوقت نفسه اختلف العلماء في أمتنا منذ عهد الصحابة، فما أكثر المسائل التي تجد فيها لعائشة رأيًا مخالفًا لابن عمر، وقد يُخالف ابنُ عباس من هو أعلم منه، وكذلك وقع بين التابعين، والخلاف بين العراقيين والحجازيين قديم، حتى ظهرت المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها، والحوارات والخلافات بينها وفي داخل كل منها مستمرة بما يمكن الجزم أنه لن ينتهي إلى يوم القيامة.
أنواع مقبولة من الاختلاف:
وهذا الأخير يختلف عن الخلاف الذي قبله، فالخلاف المذموم حاصل قدرًا وغير مقبول شرعًا، أما الاختلاف بين علماء الإسلام المعتبرين فهو حاصل قدرًا ومقبول شرعًا، لأن كثيرًا منه اختلاف سائغ لا مجال للهوى فيه، لتقدم الفضل لأهله، ولشهود أهل العلم لهم بالمكانة والصدق، وأسبابه معروفة فيما يتعلق بوجود النص في المسألة وثبوته وقطعية دلالته … إلى غير ذلك من الأسباب، وكثير منه من قبيل اختلاف التنوع، وإلى هذا ينصرف قول الإمام أحمد لما قال لمن ألف كتاب الاختلاف: «سَمهِ كتاب السعة»، وقول عمر بن عبدالعزيز: «ما أحب أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يختلفوا، لأنه لو كان قولاً واحدًا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، ولو أخذ رجلٌ بقولِ أحدهم كان في سعة»[5]. وهذا كما قال القاضي إسماعيل: «إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا. ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا». قال ابن عبد البر معلقًا: «كلام إسماعيل هذا حسن جدًا»[6].
والخلاف السائغ يقتضي أمورًا منها: ألا يُنكَر على من ذهب إلى أحد الأقوال، ولا يرمى بالتشدد أو البدعة، وكذلك تُصَحَّحُ الآثارُ المترتبة على فعل المخالف، وقد يفتي العالم بالقول الآخر إذا تعذر العمل بقوله، أو ترتب على قوله -لظرف من الظروف- عَنَتٌ كبير، واستحباب الأخذ بأحوط القولين إن كان الخلاف قويًا لم يتبين فيه الرجحان[7].
ومن رحمة الله تعالى أن استطاع العلماء التمييز بين ما هو سائغ من قبيل التنوع أو الاختلاف الذي أعذرت الشريعة به وبين ما هو مذموم يؤدي لفتح باب الأهواء والانحراف عن الصرط المستقيم، والحديث في هذه المقالة عن الخلاف بين أهل السنة لا الخلاف مع المبتدعة الخارجين عن منهجها.
يزخر التاريخ الإسلامي بنماذج رائعة من هذا التصنيف الدقيق لأنواع الاختلاف وكيفية إدارته ورأيناه في أوضح صوره بين الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم رغم الاختلاف في الاجتهاد بينهم، لكن ذلك لم يمنعهم من حفظ كلٍّ منهم للآخر مكانته، بل كانت لديهم عبقرية في إدارة هذا الخلاف عندما يتفقون على عبارات توجِّه التلاميذ إلى البعد عن التعصب والتجرُّد للحق[8].
السعي للتوافق والوصول للحق جزء من التكليف الإلهي الذي أمُرنا به، لكن هناك قدر كبير من التوافق لا يمكن أن يحصل في أمتنا نظرًا لاختلاف طبائع البشر وتفاوت الأفهام، فضلاً عما يعزز هذه الأمور من شهوات ومسوغات نفسية وأخلاقية
هل التوافق ممكن في كل الأمور؟
لا شك أنَّ السعي للتوافق والوصول للحق جزء من التكليف الإلهي الذي أُمرنا به وأن البقاء في الاختلاف والتسليم له تخلُّفٌ عن أوامر الوحي، لكن هناك قدر كبير من التوافق لا يمكن أن يحصل في أمتنا نظرًا لاختلاف طبائع البشر وتفاوت الأفهام فضلاً عما يعزز هذه الأمور من شهوات ومسوغات نفسية وأخلاقية.
وطريق السير نحو التوافق قد تطول، وقد لا نصل للتوافق التام لما تقدم من أسباب، وحيث لم يكلفنا الشرع بما لا نطيق فقد أرشدنا إلى منهج إضافي في هذا الطريق يحفظ للأمة وحدتها وعزَّها، يلخِّص هذا المنهجَ حديثٌ من أعظم ما نزل من الوحي ولا تكاد تجد مسلمًا لم يسمع به أو حتى يحفظه، فقد أخرج الشيخان عن النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قال: قال رسول الله ﷺ: «ترى المؤمنينَ في تراحمِهم وتوادِّهم وتعاطفهم كمثلِ الجسد إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائرُ جسده بالسهر والحمى»[9].
يعطينا هذا الحديث المنهج الذي ينبغي أن تتبعه أمة الإسلام حتى تقترب أشد الاقتراب من الشبه بالجسد الواحد، ولا يمكن أن تجد عبارة تعطيك معنى الوحدة كما في الجسد الواحد. هذا المنهج بشكل محدد ودقيق عبر عنه الحديث بلفظتي التواد والتراحم بين الأمة، فإنه لم يذكر هنا التوافق ولا حتى أشار إليه، بل شرح الحديث معنى الجسد الواحد بأن قال: (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) لأن عين الرحمة أن تشارك أخاك ألمه ومصابه. والأمر إذا وصل إلى هذا الحد فإنه لابد أن يطرد من الذهن مفهوم الكيد والتشفي والصراع بين أبناء الأمة فإنهما لا يمكن أن يجتمعا في وقت واحد.
عين الرحمة أن تشارك أخاك ألمه ومصابه. والأمر إذا وصل إلى هذا الحد فإنه لا بد أن يطرد من الذهن مفهوم الكيد والتشفي والصراع بين أبناء الأمة فإنهما لا يمكن أن يجتمعا في وقت واحد
الرحمة أساس هذا الدين:
قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، قال ابن جرير: «فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك «لنت لهم»، لتُبَّاعك وأصحابك، فسَهُلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمَه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتَّبعك ولا ما بُعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم»[10].
لقد جعل الله الانفضاض وتفرق الكلمة مقرونًا بغلظة القلب لو أنها وجدت. وقابل هذه الغلظة بالأصل الذي يجب أن تبنى عليه الدعوة إلى الله والذي جُبل عليه النبي ﷺ من اللين وسمو الأخلاق التي إنما كانت برحمة الله لأنهما السبيل للاجتماع على كلمة النبي ﷺ، فاقتران الالتفاف حول النبي ﷺ بالرحمة في بداية الآية إشارة عظيمة لأهمية هذا المنهج في الاجتماع، ثم تتابع الآية في نفس السياق بإرشاد النبي عليه والصلاة والسلام بالعفو والاستغفار ومشاركة أصحابه في الرأي.
ثم امتن الله على المؤمنين بأن أرسل فيهم النبي ﷺ، وبين أن مناط المنة في وصفه عليه الصلاة والسلام بالرأفة والرحمة بالمؤمنين بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ:١٢٨].
ويقول سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩].
قرنت الآية الكريمة بين وصفين للمؤمنين فهم أعزة أشداء على أعداء هذا الدين لكنهم في الوقت نفسه رحماء بينهم، لعل وصفَ الرحمة هنا هو الذي اقتضى وحدة الصف والعزة والشدة على العدو، بل إن هذا القيد وهو الوصف بالرحمة تقدم في الذكر على كثرة السجود والركوع لأهميته.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ [البلد ١٧-١٨].
قال ابن عاشور: «والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية، قال تعالى: ﴿رحماء بينهم﴾ [الفتح: ٢٩]»[11].
قال الألوسي: «﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين: الأصل في التصوف أمران: صدق مع الحق، وخُلُقٌ مع الخَلق»[12]، فالرحمة بالمخالف من أهل السنة وفي التعامل معه هي مقتضى الإيمان برحمة الله، وسبب نيلها.
وصف الله المؤمنين بأنهم رحماء بينهم، ولعل وصفَ الرحمة هنا هو الذي اقتضى وحدة الصف والعزة والشدة على العدو، بل إن هذا الوصف تقدم في الذكر على كثرة السجود والركوع لأهميته
صور الاختلاف والافتراق وكيف تم التعامل معها:
وقع الاختلاف في الأمة وأخذ كل ذي رأي برأيه حتى وصل الأمر لظهور الافتراق والجماعات والمذاهب، لكننا نجد في تاريخنا نموذجين من إدارة هذا الاختلاف والافتراق يستحقان التأمل:
النموذج الأول حفظ للأمة وحدتها وقوتها وعزها بين الأمم، والنموذج الثاني تسبب في انهيار كل ما سبق فأصبحت كما قال ﷺ: (كغثاء السيل)[13].
أما الأول: فهو ما كان بين الصحابة رضوان الله عليهم من الرحمة والحوار والتنازل عند الاختلاف ولعل من أوائل هذه المواقف ما حدث عقب وفاة النبي ﷺ واختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في مسألة الخلافة حيث نجد صورة مشرقة في طريقة تعامل الطرفين، فلم يذهب أصحاب الرأي الراجح للنكاية بالطرف الآخر، ولم يعاند أصحاب الطرف المرجوح أو يشقوا صف الجماعة نكاية بالآخرين، بل تعامل الجميع بطريقة حفظت المكانة والحقوق؛ لأنَّ الكل عرف أن الآخر إنما أراد الحق.
ومن أعظم تلك المواقف أيضًا ما تظهر به الرحمة وحفظ المكانة والأخوة حتى بعد حصول الاقتتال؛ فبعد موقعة الجمل لم يظهر من تعامل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا حفظ مكانة زوج النبي ﷺ على الرغم من وقوع القتال بين جيشيهما، فعن عمرو بن غالب أن رجلاً نال من عائشة عند عمَّار، فقال: «اغْرُب مقبوحًا منبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله ﷺ؟!»[14].
ومن ذلك ما حصل بين معاوية رضي الله عنه وملك الروم؛ حيث طمع ملك الروم في غزو بلاد المسلمين بعد الخلاف الذي حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما أجمعين، «فلما رأى ملكُ الروم اشتغالَ معاويةَ بحرب علي تَدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة، وطمع فيه، فكتب إليه معاوية: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحنَّ أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيّقنَّ عليك الأرض بما رحبت! فعند ذلك خاف ملك الروم وانكفَّ، وبعث يطلب الهدنة»[15].
أما النموذج الثاني – والذي تكرر في الأزمنة التي انحدرت فيها الأمة حضاريًا- فقد أدى إلى ضعفها، وانهيار بعض ممالكها ودولها، كما حدث بين أمراء المدن في نهاية الدولة العباسية، وبين ملوك الطوائف في الأندلس قبيل سقوطها، وعلى قدر ما نجد من الرحمة وحفظ المقامات بين الصحابة، نجد هنا كيدًا وعداءً وصل إلى حد الاستعانة بالعدو غير المسلم على الأخ المسلم، واستباحة لدمه وعرضه بذلك.
ولم يقتصر الأمر على جانب السلطة والحكم، بل وصل إلى ساحة العلم والدعوة إلى الله، فقد استعدى فريق من المنتسبين للعلم والدعوة السلاطين والحكام على فريق آخر لمجرد الاختلاف الفكري، فكم عالم تم تهجيره أو تغييبه في ظلمات السجون بسبب وشاية مخالفيه فيه. ومن ذلك تعرض الإمام مالك رحمه الله للأذى والبلاء بسب فتواه في البيعة بيمين الطلاق، واتهام الشافعي رحمه الله بالرفض من قبل خصومه، وتعذيب الإمام أحمد رحمه الله وسجنه بسبب امتحان المعتزلة له في فتنة خلق القرآن، ولم يرحموا شيبته ولا مكانته العملية حتى جاءه الفرج من الله. ومن عجائب شيوع البغي ما ذكره القاسمي: «تقرأ في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي، أنه مع زمانته[16]، وكونه صار حِلْس بيته[17]، يتأبط دائمًا وثيقة أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يُكَفِّرهُ، ولقد أريقت دماءٌ مُحَرَّمَةٌ، وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان أعوامًا وسنين»[18].
نماذج من التراحم بين العلماء عند الاختلاف:
في المقابل نجد في تاريخنا مواقف سامية تصور لنا التراحم بين العلماء المختلفين، فيروي الذهبي موقفًا صعبًا حصل مع الإمام الحافظ وكيع بن الجراح كادت نفسه تذهب فيه بسببه، وظهر في هذه الحادثة موقفٌ سامٍ من سفيان بن عيينة في إنقاذ وكيع من الهلاك.
فقد أخطأ وكيع برواية حديث منكرٍ منقطعِ الإسناد، وظنَّت قريش في هذا الخبر غضًا من منصب النبوة، فاجتمعوا لصلبه ونصبوا له خشبةً، فجاء سفيان بن عيينة وقال لهم: «اللهَ اللهَ، هذا فقيه العراق وابن فقيهه، وهذا حديثٌ معروف».
قال سفيان: «ولم أكن سمعته، إلا أني أردت تخليص وكيع»، وكلم سفيانُ أميرَ مكة في وكيع، فأمر بإطلاقه[19].
وقال ابن القيم: «ما رأيت أحدًا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله رُوحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: «وددت أني لأصحابي مثلَه لأعدائه وخصومه»، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.
وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذىً له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزَّاهم، وقال: «أنا لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجونه فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه» ونحو هذا الكلام، فسرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه»[20].
واستفتى السلطان محمد بن الملك المنصور قلاوون شيخَ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموه في حق شيخ الإسلام، وأخرج السلطان من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله.
إنَّ التراحم بين أبناء الأمة هو السبيل الأمثل لوحدتها، وهو يقتضي حصر الخلاف في المكان الذي يجب أن يبقى فيه
قال شيخ الإسلام: «ففهمت مقصوده أن عنده حنقًا شديدًا عليهم، لما خلعوه، وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم».
قال: فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف -قاضي المالكية- يقول بعد ذلك: «ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا»[21].
هذه النماذج الرائعة هي التفسير الحقيقي لمعنى الجسد الواحد وهو تجسيد لمعنى (رحماء بينهم).
الخلاصة:
إنَّ التراحم بين أبناء الأمة هو السبيل الأمثل لوحدتها، وهو يقتضي حصر الخلاف في المكان الذي يجب أن يكون فيه، وأنه لا ينبغي أن يُصَدّر الخلاف واجهة لأمور خفية تحمل في ثناياها الحسد والضغينة، وإنما قال كل برأيه لأنه يظن أنه بذلك يرضي الله ويرجو ثوابه، ومما لا شك فيه أن مرضاة الله بعيدة كل البعد عن الكيد للمخالف خارج نطاق الحوار العلمي القائم على الحجة والبرهان.
هكذا كان علماؤنا ودعاة الإسلام في الماضي المشرق من تاريخ الأمة وهكذا حفظت لنا صفحات السير مواقفهم هذه لتكون لنا منارات نهتدي بها تخرجنا من ظلمات الجهل والتخلف والانشغال بما لا ينفع إلى شمس الحضارة وقيادة البشرية.
[1] التحرير والتنوير، لابن عاشور (١٢/١٨٩-١٩٠).
[2] التحرير والتنوير (١١/٢٩٢).
[3] أخرجه الترمذي (٢٦٤٠). وقد بدأت بوادر الاختلاف مبكرًا من خلال اختلاف الموقف من مسائل الدين في المسائل العقدية وأصول الاستدلال بالقرآن والسنة والموقف منهما.
[4] تفسير ابن أبي حاتم (١٢/٥٦٤).
[5] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (٢/٩٠١) برقم (١٦٨٩).
[6] جامع بيان العلم وفضله (٢/٩٠٦) تحت الرقم (١٦٩٩).
[7] ملخص من مقالة: ست وقفات مع الخلاف السائغ، للدكتور معن عبد القادر، العدد الثامن من مجلة رواء.
[8] ولهم في ذلك كلام كثير، ومنه: قول أبي حنيفة: «إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي»، وقول مالك: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة؛ فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة؛ فاتركوه»، وقول الشافعي: «أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله r؛ لم يَحِلَّ له أن يَدَعَهَا لقول أحد»، وقول ابن حنبل: «من ردَّ حديث رسول الله r؛ فهو على شفا هَلَكة».
[9] أخرجه البخاري (٦٠١١)، ومسلم (٢٥٨٦).
[10] تفسير الطبري (٦/١٨٦).
[11] التحرير والتنوير (٣٠/٣٦١).
[12] تفسير الألوسي (١٥/٣٥٦).
[13] أخرج أبو داود (٤٢٩٧) عن ثوبان قال: قال رسول الله r: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها)، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهَنَ)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت).
[14] أخرجه الترمذي (٣٨٨٨). أمره بالغروب والاختفاء، والمقبوح: المُبعَدُ الملعون. والمنبوح: مَن يُطرَدُ ويُرَدُّ.
[15] البداية والنهاية (١١/ ٤٠٠).
[16] مرضه المزمن.
[17] لا يبرحه ولا يفارقه.
[18] الجرح والتعديل، للقاسمي، ص (٤٠).
[19] ينظر: سير أعلام النبلاء (٩/١٦٠-١٦٣).
[20] مدارج السالكين (٣/٩٥).
[21] العقود الدرية في مناقب ابن تيمية، لابن عبد الهادي، ص (٢٨٩-٢٩٩).
د. إبراهيم الحسون
دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن، رئيس مجلس أمناء جامعة المعالي
1 تعليق
التعليقات مغلقة