الورقة الأخيرة

وجعلنا بعضكم لبعض فتنة

وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنة

لم تستوعب عقول المشركين مشهدَ نبيٍّ يُوحَى إليه، وهو بشرٌ مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وجهِلوا أنّ الله ابتلاهم به وابتلاهُ بهم، كما يُبتلى المؤمن والكافر ببعضهما؛ ليظهر الطائع من العاصي، ﴿‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌قَبْلَكَ ‌مِنَ ‌الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: 20]. كذلك يُبتلى الغنيُّ بالفقير، والصحيحُ بالمريض، والشريفُ بالوضيع.

وفي الطباع والعادات والقدرات والأفعال والمواقف وأعراض النفوس وأخلاقها من أسرار الابتلاء ما لا يُحصيه إلا خالقها عز وجل. فالعنيف والرفيق، والعجول والمتأني، والغضوب والحليم، والقلق والمطمئن، والفوضوي والمنظَّم، والثرثار والصموت، والغبي والذكي، واللئيم والكريم، والمتكبر والمتواضع، والظالم والمظلوم، والمضلِّل والتابع … كلُّ هؤلاء بعضُهم لبعض فتنة.

وأشدُّ ما تكون الفتنة والامتحان حين يجتمع المختلفان اجتماعًا لا يسهُل الانفكاك منه، كالأزواج، والآباء والأبناء، والشركاء، والجيران، والمعلمين والطلاب، والقادة والأتباع، والمديرين والموظفين؛ فأولئك ابتلاؤهم متكرِّرٌ شديدُ الوطأة.

وفي الابتلاء يكون العطاء على قدر الصبر، ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾، فيتكامل الصبور مع رحيق الآخرين دون أشواكهم التي يدفعها الله عنه، ويسخِّر الله لمحتسبي ثوابِ الآخرة مَن يُنصفهم ولو بعد حين، ويكون أولئك أطول الناس نفَسًا في الإصلاح والتغيير، أُسوتهم مَن رَفَضَ إطباق الأخشبين على المشركين، ثم عفا عن المسيئين له ، وقدوتهم يعقوب ويوسف عليهما السلام بعفوهم العظيم، وكذا مَن تحمّل من أنبياء الله عليهم السلام أن يكون بعض أهله على غير دينه، ويهلكوا أمام عينيه. ومثل هؤلاء هم سلوة المحزونين لمّا كانت سلوتهم مع الله.

تنقُصُ بعضُ تلك المكتسبات بقدر ما يضيق المرء بمن حوله منغِّصًا عيشَه بالتشكِّي وكثرة المعاتبة والمعاقبة، ويفقِدُ من قوّته الداخلية حين يظنّ أنَّ الصبر ضَعف. ومَن أدمن البوحَ للبشر فاته بثُّ الشكوى والحزن إلى مَن يعلم سرّه ونجواه، وحينها قد ينشط للدعاء على من أزعجه قبل دعائه لنفسه هو.

وقد تغمر المرءَ مشاعرُ العُجب بصبره، أو ينفد صبره على مَن حوله، في حين أنّهم ربما يعانون بسببه هو! يتألمون ويتأوّهون، وتُنهكهم آلام الحسرة والبكاء والضيق والضغوط بسببه، وتقع عليهم الكوارث والنكبات والخسائر بأفعاله واجتهاداته واقتراحاته وتوجيهاته وقراراته وكلماته، يريد لهم الخير فيصيبُهم الشرّ، كما أنّهم قد يريدون له الخير فيأتيه منهم الضُّر.

هي هكذا، ﴿بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ فمَن ظنّ أنّه الصبور دون الناس، وأنّه الذي يعفو ويصفح ويغفر ولا يؤذي ولا يُزعج ولا يضايق؛ فذلك الواهم.

ومَن أراد تجاوز هذا الابتلاء بمفارقة الناس عمومًا أو مفارقة من آذوه من الأقربين؛ فخيرٌ له أن يبنيَ جنّة الرضى في قلبه يُمضي بها أيام حياته؛ ليهنأ مع أحبته ورفاقه، ويتساند معهم ليجتازوا الاختبار، وهذا بلا شكّ أسهل وأجمل.

قد لا يشعر بك أحد، وربما لا يواسيك أحد، كما أنّك لن تجد مسعِفًا لك في ميدان الصبر كاليقين بربّك البصير، ويقينك الجازم باطّلاعه سبحانه وتعالى على كلّ معاناتك، وعلى مشاعرِك المتألّمة، وضغوطِك النفسية، ودموعِك الحارّة، وآهاتك الملتهبة، وحبْسِك نفسك في مئات المواقف اليومية، وآثار كلّ ذلك في حياتك.. وأنّ عنده وحده عز وجلّ السلوى.

﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ بدائك ودوائك، وحاجتك إلى ذلك الامتحان ببعض مَن حولك، وإنّ الربَّ لا يضيع أولياءه الصادقين الصابرين المنصفين ﴿‌وَلَقَدْ ‌نَعْلَمُ ‌أَنَّكَ ‌يَضِيقُ ‌صَدْرُكَ ‌بِمَا ‌يَقُولُونَ ٩٧ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ٩٨ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 97-99].

X