نظرات نقدية

هل هناك شماتة في الموت؟!

يُظهر الناس مشاعرهم بشكلٍ عفويٍّ عند موت الأعيان، فيُظهرون حزنهم عند وفاة المحسنين والصالحين، ويظهرون فرحهم وسرورهم عند هلاك الظالمين والمجرمين، لكن تكرَّر في الآونة الأخيرة إنكار بعض الناس على من يظهر الفرح بموت ظالمٍ أو مجرم، مستشهدين بعبارة “لا شماتة في الموت”، تبين هذه المقالة الموقف الصحيح من الشماتة والفرح بموت الظالمين وأمثالهم.

مدخل:

المسلمون بفطرهم السوية؛ إذا مات ظالمٌ أو مجرمٌ مفسدٌ في البلاد، مؤذٍ للعباد، يفرحون أشدَّ الفرح بموته وهلاكه، وقد يعبرون عن ذلك بتصرفات كثيرة من توزيع الحلوى والاحتفالات وما إلى ذلك، وفي غمرة فرحتهم ينبري لهم أشخاصٌ معترضين قائلين لهم: يا ناس اتقوا الله!! فإنّه لا شماتةَ في الموت!

فنقول لهذا المعترض: حنانيك! اسكن ولا تتسرع في حكمك، فهذه العبارة ليست آيةً قرآنيةً، ولا حديثًا نبويًا، ولا قاعدةً علميةً أثريةً، بل هي كلمةٌ مجملةٌ تحتاج إلى تأصيلٍ وتفصيلٍ، فاسمع لذلك رحمني الله وإياك:

تعريف الشماتة:

الشماتة لغة: مصدر قولهم: شَمِت به يَشمَتُ، وهو مأخوذٌ من مادّة (ش م ت) التي تدلّ على فرح ببليّة الغير([1]).

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: “الشَّماتَة: الفرح بِبليَّةِ العدو”([2]).

وقال ابن عاشور: “والشَّماتة: سرور النفس بما يُصيب غيرها من الأضرار، وإنما تحصل من العداوة والحسد”([3]).

فالشماتة فرحٌ ببلاءٍ يقع بالغير، سواء كان هذا البلاء معنويًا أو حسّيًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، حتى يصل إلى مصيبة الموت.

ثم إنه يقال للمعترض: إن عبارة “لا شماتة في الموت” غير صحيحة في نفسها؛ فالشامت لا يشمت بذات الموت، وإنما يشمت بمن وقع عليه الموت؛ لأن الموت يصيب الجميع، ولو أراد الصواب لقال “لا شماتة في موت أحد، أو فلان”، فمِن هنا جاء الغلط في إطلاق هذه العبارة.

عبارة “لا شماتة في الموت” غير صحيحة في نفسها؛ فالشامت لا يشمت بذات الموت، وإنما يشمت بمن وقع عليه الموت؛ لأن الموت يصيب الجميع، ولو أراد الصواب لقال: “لا شماتة في موت أحد، أو فلان”

أنواع الشماتة:

الشماتة نوعان:

نوعٌ محرمٌ لا يجوز: وهي الشماتة بالمؤمنين؛ لأنها منافيةٌ للولاء الواجب للمؤمنين، وأذية لهم، وقد قال الله تعالى: ﴿‌وَالَّذِينَ ‌يُؤْذُونَ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌وَالْمُؤْمِنَاتِ ‌بِغَيْرِ ‌مَا ‌اكْتَسَبُوا ‌فَقَدِ ‌احْتَمَلُوا ‌بُهْتَانًا ‌وَإِثْمًا ‌مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58].

وقال رسول صلى الله عليه وسلم: (لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه)([4])، وقال أيضًا: (مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو ‌تَداعى ‌له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمَّى)([5]).

وقد عدَّ العلماء الشماتة بالمسلم من كبائر الذنوب، قال ابن القيم متحدثًا عن بعض الكبائر: “فالكبائر: كالرِّياء، والعُجب، والكِبر، والفخر، والخُيَلاء، والقنوط من رحمة الله تعالى، واليأس من رَوح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسُّرور بأذى المسلمين، ‌والشّماتة بمصيبتهم، ومحبَّته أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمنِّي زوال ذلك عنهم، …”([6]).

وعلى هذا تحمل أحاديث (اذكُروا محاسن موتاكم وكُفّوا عن مساويهم)([7]) وحديث: (لا تَسُبُّوا الأمواتَ؛ فإنهم قد أفضَوا إلى ما قَدَّموا)([8]) فإنها عامة للمسلمين الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا.

قال بدر الدين العيني رحمه الله: “فإن قيل: كيف يجوز ذكر شر الموتى مع ورود الحديث الصحيح عن زيد بن أرقم في النهي عن سب الموتى وذكرهم إلا بخير؟ وأجيب: بأن النهي عن سب الأموات غير المنافق والكافر والمجاهر بالفسق أو بالبدعة، فإن هؤلاء لا يحرُم ذكرُهم بالشر للحذر من طريقهم ومن الاقتداء بهم”([9]).
ولهذا قال بعض العلماءِ: “غيبة الميت أشد من الحي؛ وذلك لأن عفوَ الحي ‌واستحلاله ‌ممكن ومتوقع في الدنيا بخلاف الميت.

قال العلماء: “وإذا رأى الغاسل مِن الميت ما يعجبه كاستنارة وجهه وطيب ريحه وسرعة انقلابه على المغتسل استُحب أن يتحدث به، وإن رأى ما يكره كنَتَنِه وسوادِ وجهِه أو بَدنِه أو انقلابِ صورته حَرُم أن يتحدث به”([10]).

وقد يطرأ على المسلم ما يبيح الشماتة فيه، من ظلمٍ أو إجرامٍ، أو بدعةٍ ضالةٍ، مما لا يخرجه عن دائرة الإيمان، ولكن استحق هذه الشماتة لما تلبّسَ به كما سيأتي.

لا تجوز الشماتة بعامة للمسلمين الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، ولم يُعرفوا بظلمٍ أو إجرامٍ أو بدعةٍ ضالة؛ لأنها منافيةٌ للولاء الواجب للمؤمنين، وأذية لهم، وقد عدَّها العلماء من كبائر الذنوب

والنوع الثاني: هو الشماتة بالفاجر، وكلمةُ الفاجر شاملةٌ للكافر وللمسلم المجرم المتعدي بظلمه وفجوره.

فالشماتة بهم لا حرج فيها، ولاسيما إذا جمعوا مع فجورهم الظلمَ والعدوانَ على المسلمين.

بل إنَّ هذا الفرحَ هو نتيجةٌ طبيعيةٌ للدعاء عليه ابتداء؛ فقد شُرع الدعاءُ على الظالمين ووَعَدَ اللهُ المظلومَ باستجابة دعائه، فإذا وقع قيل له لا يجوز أن تفرح؟!

قال تعالى: ﴿‌لَا ‌يُحِبُّ ‌اللَّهُ ‌الْجَهْرَ ‌بِالسُّوءِ ‌مِنَ ‌الْقَوْلِ ‌إِلَّا ‌مَنْ ‌ظُلِمَ ‌وَكَانَ ‌اللَّهُ ‌سَمِيعًا ‌عَلِيمًا﴾ [النساء: 148].

وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ‌(اللهمَّ ‌أصلح ‌لي ‌سمعي ‌وبصري، ‌واجعلهما ‌الوارِثَين ‌مني، وانصرني على من ظلمني وأرني منه ثأري)([11]).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قلّما كان يقوم من مجلسٍ حتّى يدعو بهؤلاء الدّعوات لأصحابه: (اللهم اقْسِم لنا ‌من ‌خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك… واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا)([12]).

والفرح والشماتة بهلاك الأعداء سنة مشروعة، وهدي ظاهر؛ ‏قال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿‌فَقُطِعَ ‌دَابِرُ ‌الْقَوْمِ ‌الَّذِينَ ‌ظَلَمُوا ‌وَالْحَمْدُ ‌لِلَّهِ ‌رَبِّ ‌الْعَالَمِينَ﴾: “إيذانٌ بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة وأنه من أجلِّ النِّعم”([13]).

وقال ابن عاشور: “في المراد منها اعتبارات ثلاثة:

أحدها: أن تكون تلقينًا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسلَه وأولياءَهم وإهلاك الظالمين؛ لأنّ ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض، ولأنّ في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقّب الأسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقَّبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم…

ثانيها: أن يكون “الحمد لله” كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى؛ لأنّ من لوازم الحمد أن يكون على نعمة، فكأنّه قيل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا، وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده.

ثالثها: أن يكون إنشاءَ حمدٍ لله تعالى من قِبَل جلاله مستعملاً في التعجيب من معاملة الله تعالى إيّاهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حقّ عليهم العذاب.

ويجوز أن يكون إنشاءَ الله تعالى ثناءً على نفسه تعريضًا بالامتنان على الرسول والمسلمين… وفي ذلك كلّه تنبيه على أنَّه يحقّ الحمد لله عند هلاك الظلمة؛ لأنّ هلاكهم صلاح للناس، والصلاح أعظم النعم، وشكر النعمة واجب، وهذا الحمد شكر لأنّه مقابل نعمة، وإنّما كان هلاكُهم صلاحًا لأنّ الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة، فإذا تغير الحقّ والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم، فإذا هلك الظالمون عاد العدل، وهو ميزان قوام العالم”([14]).

لا حرج في الشماتة بالفاجر المجرم، كافرًا كان أم مسلمًا، لا سيَّما إذا جمع مع فجوره الظلمَ والعدوانَ على المسلمين، بل إنَّ هذا الفرح هو نتيجةٌ طبيعيةٌ للدعاء عليه ابتداءً

فرح غيرِ البشر بموت الظالم والفاجر:

بل لو قلنا: إنَّ الكونَ كلَّه يشمت بالفاجر لما كان بعيدًا؛ فكلُّ الكون إذا هلك العبدُ الفاجرُ استراح من فجوره، قال تعالى: ﴿‌فَمَا ‌بَكَتْ ‌عَلَيْهِمُ ‌السَّمَاءُ ‌وَالْأَرْضُ﴾ [الدخان: 29] قال السعدي رحمه الله: “أي: لما أتلفهم الله وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والأرض، أي: لم يُحزَن عليهم ولم يُؤْسَ على فراقهم، بل كلٌّ استبشر بهلاكهم وتلفهم حتى السماء والأرض؛ لأنهم ما خَلّفوا مِن آثارهم إلا ما يُسوّد وجوهَهم ويوجب عليهم اللعنةَ والمقتَ مِن العالمين”([15]).

وقال القرطبي رحمه الله: “وقيل: في الكلام إضمار، أي: ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة، كقوله تعالى: ﴿‌وَاسْأَلِ ‌الْقَرْيَةَ﴾، بل سُرّوا بهلاكهم”([16]).

وفي الصحيحين عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه: أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة، فقال: (مُسترِيحٌ ومُستراحٌ منه). قالوا: يا رسول الله، ‌ما ‌المستريح ‌والمستراح ‌منه؟ قال: (العبدُ المؤمنُ يَستريح مِن نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبدُ الفاجرُ يَستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدواب)([17]).

فالبلاد والعباد والشجر والدواب يستريحون من العبد الفاجر؛ من كفره وضلاله وظلمه، لأنَّ كلَّ ذلك ينشر الفساد الذي ينعكس على الخلق سلبًا، كما قال تعالى: ﴿‌ظَهَرَ ‌الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

ومن أظهر ما جاء في هذا الباب قوله تعالى: ﴿‌قَاتِلُوهُمْ ‌يُعَذِّبْهُمُ ‌اللَّهُ ‌بِأَيْدِيكُمْ ‌وَيُخْزِهِمْ ‌وَيَنْصُرْكُمْ ‌عَلَيْهِمْ ‌وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ١٤ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14-15]، فقد امتلأت قلوب المؤمنين غيظًا وغضبًا على أعداء الله لكفرهم وعدوانهم، ولا يَذهب هذا الغيظُ إلا بهلاكهم بالقتل على أيدي المؤمنين، وهذا أعلى ما يكون من الشفاء، ولا شك أن السرور حاصل كذلك بهلاكهم على أيدي غير المؤمنين، كما حصل للسليماني الإيراني المجرم الذي تلطخت يداه بدماء المسلمين لما قتل على أيدي الكافرين، وبعض الجهلة يمنعك من الفرح بقتله لأنه قتل على يد عدو للمسلمين!

ومثل ذلك: لو هلك المجرم بحادث، أو واقعة، فكل ذلك يفرح به المظلومون الذين ذاقوا العذاب على أيدي هؤلاء، وليس هذا من باب الفرح بالمصائب بذاتها، وإنما بهلاك الظالمين.

ومثل ذلك الفرح بهلاك الحاكم الظالم، قال ابن كثير رحمه الله فيمن توفي سنة (568ه): “الحسن بن صافي بن بزدن التركي، كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيًّا خبيثًا متعصبًا للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره، ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنَّة، وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحًا شديدًا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدًا منهم إلا يحمد الله”([18]).

فما بالك بمن ليس له قدم صدق في الإسلام، بل هو زنديق مجرم، ثم قتل وشرَّد الملايين من الناس؟!
الشماتة بهلاك أهل البدع:

وممن يُشمت بهلاكهم: أهل البدع المغلظة المؤذين للمسلمين، وهذه الشماتة سنةٌ ماضيةٌ، فقد كان السلف يفرحون بموتهم وهلاكهم.

لما قيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد، عليه في ذلك إثم؟ قال: “ومن لا يفرح بهذا”؟!([19]).

وهذا عبيد الله بن عبد الله بن الحسين، أبو القاسم الخفاف، المعروف بابنِ النقيبِ، ذكرهُ الإمامُ ابن كثيرٍ في “البداية والنهاية”، وقال عنه: “كان من أئمةِ السنةِ، وحين بلغهُ موتُ ابنِ المعلمِ فقيهِ الشيعةِ سجد للهِ شكرًا، وجلس للتهنئةِ، وقال: ما أبالي أي وقتِ متُ بعد أن شاهدتُ موتَ ابنِ المعلمِ”([20]).

ولما جاء خبر موت المريسي الضال إلى بشر بن الحارث وهو في السوق قال: “لولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود، والحمد لله الذي أماته”([21]).

وقال سلمة بن شبيب: كنت عند عبد الرزاق -يعني الصنعاني- فجاءنا موت عبد المجيد، فقال: “الحمد لله الذي أراح أمة محمد من عبد المجيد”([22]). وعبد المجيد هذا هو ابن عبد العزيز بن أبي روّاد، وكان رأسًا في الإرجاء.

ولما جاء نعي وهب القرشي -وكان ضالاً مضلاً- لعبد الرحمن بن مهدي قال: “الحمد لله الذي أراح المسلمين منه”([23]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه -يعني الخوارجَ- وذكر فيهم سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم، وسجد لله شكرًا لما رأى أباهم مقتولاً وهو ذو الثُّدَيَّة، بخلاف ما جرى يوم الجمل وصفين؛ فإن ّعليًّا لم يفرح بذلك، بل ظهر منه من التألّم والندم ما ظهر، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنَّة بل ذكر أنه قاتل باجتهاده”([24]).

وقال ابن القيم: “وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتلُ مسيلمة الكذاب، وسجد عليُّ بن أبي طالب لما وجد ذا الثُّديَّةِ مقتولاً في الخوارج”([25]).

وتجد أن المشروع في الفرح من فعل السلف هو السجود لله تعالى، لأنه هو المتفضل أولاً وآخرًا، ولو عبر المسلم عن فرحه بما لا يخالف الشرع فلا مانع من ذلك، ولكن كل خير في اتباع من سلف.

“وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه -يعني الخوارجَ- وذكر فيهم سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم، وسجد لله شكرًا لما رأى أباهم مقتولاً وهو ذو الثُّدَيَّة، بخلاف ما جرى يوم الجمل وصفين؛ فإن ّعليًّا لم يفرح بذلك، بل ظهر منه من التألّم والندم ما ظهر، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنَّة، بل ذكر أنه قاتل باجتهاده”
ابن تيمية

الدعاء على من مات منهم:

وقد جوّز العلماء الدعاء على الهالكين ممن كاد للإسلام والمسلمين من كفّار وأهل بدع، ومن ذلك: عبارة الإمام الذهبي رحمه الله: “لا رحم الله فيه مغرز إبرة”.

فقد قال في أحداث سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة: “ولم يحجّ الرَّكْبُ لموت القُرمطي الطاغية أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنَّابي في رمضان بهَجَر مِن جدريّ أهلكه، فلا رحم الله فيه مغرز إبرة”([26]).

وقال أيضًا في ترجمة “عبيد الله المهدي الباطني”: عبيد الله المهدي، أبو محمد، أول خلفاء الباطنية بني عبيد أصحاب مصر والمغرب، وهو دعي كذاب ادعى أنه من ولد الحسن بن علي، …، توفي عبيد الله في ربيع الأول بالمغرب، وقد ذكرنا من أخباره في حوادث هذه السنة، فلا رحم الله فيه مغرز إبرة”([27]).

ونحن نقول: لا رحمَ اللهُ مغرزَ إبرةٍ لكلِ من مات وقد آذى المسلمين، أو نكَّل بهم، أو عذبهم.

ولا شكَّ أن في الموت عبرًا وعظات، ولما يموت أمثال هؤلاء الطغاة، نعلم علم اليقين أننا سنذوق الموت لا محالة، كما قال تعالى: ﴿‌كُلُّ ‌نَفْسٍ ‌ذَائِقَةُ ‌الْمَوْتِ ‌وَإِنَّمَا ‌تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، وقال أيضًا: ﴿‌إِنَّكَ ‌مَيِّتٌ ‌وَإِنَّهُمْ ‌مَيِّتُونَ ٣٠ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر: 30-31]، وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالبكاء إذا مررنا في مساكن المعذبين، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “لما مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحِجْر قال: (لا تدْخُلُوا مساكنَ الذين ظلموا أنْفُسهم؛ أَن يُصِيبَكم ما أَصابَهُمْ، إِلا أن تكونوا باكين)، ثم قَنَّعَ رَأسَه، وأسرع السَّيْرَ، حتى جاز الوادي”([28]).

جوّز العلماء الدعاء على الهالكين ممن كاد للإسلام والمسلمين من كفّار وأهل بدع، ومن ذلك: عبارة الإمام الذهبي رحمه الله: “لا رحم الله فيه مغرز إبرة”

الجزاء من جنس العمل:

لا يزال أعداء الله من الكافرين والمنافقين فرحين شامتين بما يصيب المؤمنين على مر الأيام والسنين، والواقع شاهد بذلك، فالشماتة بهلاكهم أو وقع المصائب بهم هو من مقابلتهم بمثل صنيعهم.

وقد ذكر القرآن العظيم من ذلك الشيء الكثير، كما في قوله تعالى: ﴿‌إِنْ ‌تُصِبْكَ ‌حَسَنَةٌ ‌تَسُؤْهُمْ ‌وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ٥٠ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ٥١ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: 50-52].

وكما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ‌قَدْ ‌بَدَتِ ‌الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ١١٨ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ١١٩ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 118-120].

فلذلك كان من ديدن الأنبياء والصالحين الاستعاذة من شماتة الأعداء، كما قال تعالى عن هارون عليه السلام: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ ‌اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 150]. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تُشْمِتْ بي عدوًّا حاسدًا)([29]).

وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (يَتَعَوَّذُ مِن جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القضاءِ، وشماتةِ الأعداءِ)([30]).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بذلك، ويقول: (تَعَوَّذُوا بالله من جَهدِ البَلاء، ودَرْكِ الشَّقَاء، وسُوء القضاء، وشماتة الأعداء)([31]).

قال ابنُ بطَّالٍ: “شماتةُ الأعداءِ ممَّا ينكَأُ القَلبَ، ويبلُغُ من النفسِ أشدَّ مَبلَغٍ”([32]).

وقال الشوكاني: “استعاذ صلى الله عليه وسلم من شماتةِ الأعداءِ، وأمَر بالاستعاذةِ منها؛ لعِظَمِ مَوقِعِها، وشدةِ تأثيرِها في الأنفُسِ البشريةِ، ونفورِ طباعِ العبادِ عنها، وقد يتسبَّبُ عن ذلك تعاظُمُ العداوةِ المُفضيةِ إلى استحلالِ ما حرمه اللهُ سبحانه وتعالى”([33]).

ختامًا:

إن الفرح والشماتة بهلاك الأعداء سنةٌ مشروعةٌ، وهي مِن عاجل بشرى المؤمن في الدنيا، ومواساته عما أصابه ممن ظلمه وآذاه، كما أنها فطرة تدعو إليها النفس البشرية السوية، فالإنكار على الناس في فرحهم ذلك مع ما فيه من مخالفة شرعية، فيه أذية للمؤمنين وتنغيص عليهم، وكفى به أذية!


د. فايز الصلاح
دكتوراة في العقيدة الإسلامية، باحث متخصص في الدراسات الشرعية، عضو مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.

 



([1]) المصباح المنير (1/322)، والآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 319).

([2]) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/319).

([3]) التحرير والتنوير (9/117).

([4]) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) عن أنس رضي الله عنه.

([5]) أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) واللفظ له، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

([6]) مدارج السالكين (1/172).

([7]) أخرجه أبو داود (4900).

([8]) أخرجه البخاري (1393).

([9]) عمدة القاري (8/195).

([10]) تحفة الأحوذي (4/85).

([11]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (649).

([12]) أخرجه الترمذي (3502).

([13]) الكشاف (2/24).

([14]) التحرير والتنوير (7/232).

([15]) تفسير السعدي، ص (773).

([16]) تفسير القرطبي (16/140).

([17]) أخرجه البخاري (6512)، ومسلم (950).

([18]) البداية والنهاية (14/ 228).

([19]) السنة للخلال (5/ 121).

([20]) البداية والنهاية (12/20).

([21]) ينظر: تاريخ بغداد (7/66)، ولسان الميزان (2/308).

([22]) سير أعلام النبلاء (9/ 435).

([23]) لسان الميزان، لابن حجر (8/ 402).

([24]) مجموع الفتاوى (20/395).

([25]) زاد المعاد (4/424).

([26]) ينظر: العِبر في خبرِ من غبر (2/42).

([27]) تاريخ الإسلام (24/ 108).

([28]) أخرجه البخاري (4419)، ومسلم (2980).

([29]) أخرجه الحاكم (1924)، وقال: “صحيح على شرط البخاري”.

([30]) أخرجه البخاري (6347)، ومسلم (2707).

([31]) أخرجه البخاري (6616).

([32]) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/110).

([33]) تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين، للشوكاني، ص (447).

X