تميّز الإمام الشافعي بغزير علمه ووضوح منهجه وشدة اتباعه ونصره للسنة النبوية وإظهاره لقوتها، وما كان ذاك لولا عقل راجح صيّره إمامًا، فما أحوج الأمة اليوم للتعرّف إلى منهجيته المستقيمة وعلمه الموسوعيّ ونبوغه الفريد، وتقديمه نموذجًا يُحتذى وقدوة لأهل العلم وطلابه
لقد تمتّع الإمام الشافعي رحمه الله بشخصية علمية جذابة، وأُعجب به كثيرٌ من أئمة عصره، وحضروا حلقاته العلمية، وأثنوا عليه الثناء العطر.
قال أبو ثور الكلبي: «ما رأينا مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي مثل نفسه»[1].
وقال أحمد بن حنبل: «لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث»[2].
وقال إسحاق بن راهويه: «ما تكلم أحدٌ بالرأي -وذكر جماعة من أئمة الاجتهاد- إلّا والشافعيُ أكثر اتّباعًا منه، وأقلّ خطًا منه، الشافعيُ إمامٌ»[3].
ولقد كان الإمام الشافعي متميّزًا بمنهجه وعلمه، فهو صاحب موسوعية علمية، ومنهجيّة مستقيمة صحيحة:
الموسوعية العلمية:
كان الشافعيُّ رحمه الله موسوعةً علميةً بحقّ، فلهُ الباع الطويل في علوم القرآن والسنّة واللغة العربية:
- قال الربيع بن سليمان: «كان الشافعي يجلس في حلقته إذا صلّى الصبح فيجيئُه أهلُ القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه عن تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمُذَاكَرة والنّظر، فإذا ارتفع الضّحى تفرّقوا وجاء أهلُ العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى أن يَقْرُبَ انتصافُ النهار، ثم ينصرفُ رحمهُ الله»[4].
وحدّث محمد بن عبد الحكم قال: «ما رأينا مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث ونقّاده يجيؤون إليه فيعرضون عليه، فربما أعلَّ نقد النقاد منهم، ويُوقفهم على غوامض من علم الحديث لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون منه، ويأتيه أصحاب الفقه المخالفون والموافقون فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والديانة، ويجيئه أصحاب الأدب فيقرؤون عليه الشعر فيفسره، ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها، وكان من أضبط الناس للتاريخ، وكان يعينه على ذلك شيئان: وفور عقل وصحة دين، وكان مِلاك أمره إخلاص العمل لله عز وجل»[5].
- وفي التفسير كان له القِدْحُ المعلَّى، حتى كان شيخُه سفيان بن عيينة يحيل عليه، قال أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي: «سمعت أبي وعمّي يقولان: كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي، فيقول: سَلوا هذا»[6].
- ومما كان يساعده في فهم كتاب الله: تميُّزه بالفصاحة والبيان، فكان فصيحَ اللسان، بليغًا، حجّة في لغة العرب. قال يونس بن عبد الأعلى: «ما كان الشافعي إلا ساحرًا»[7]، ما كنّا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، كأن ألفاظه سُكَّرٌ، وكان قد أوتي عذوبةَ منطق، وحُسنَ بلاغة، وفرطَ ذكاء، وسَيلانَ ذهن، وكمال فصاحة وحضور حجة»[8].
وكان يحضُّ على تعلم اللغة العربية؛ فهي مفتاح علوم الكتاب والسنّة، ومِن ذلك قوله: «فعلى كل مسلم أن يتعلّم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، ويتلوَ به كتاب الله، وينطق بالذّكر فيما افتُرض عليه من التكبير وأُمر به من التسبيح والتشهد، وغير ذلك»[9].
ويؤكّد على أهمّية تعلّمها لمن تصدَّى للاجتهاد، قال: «ولا يكون لأحدٍ أن يقيسَ[10] حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب»[11].
«إذا رأيتُ رجلاً من أصحاب الحديث فكأنّي رأيت رجلاً من أصحاب النبي ﷺ، جزاهم الله خيرًا، هم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل»
الشافعي رحمه الله
- وكان رحمه الله يلقَّبُ بناصر السنّة والحديث، قال الشافعي: «سُمّيت ببغداد: ناصر الحديث»[12].
وكان قد ظهر في عصر الشافعي ثلاثة انحرافات في مجال السُّنَّة: انحراف يرى أنّ الحجة في القرآن وحده ويُنكر أن تكون السُّنَّة مصدرًا من مصادر التشريع، والانحراف الثاني: يُنكر أن تستقل السُّنَّة بتشريع الأحكام ولا يقبل السُّنَّة إلا إذا كان في معناها نصٌّ صريحٌ من القرآن، والانحراف الثالث يقبل من السُّنَة فقط ما كان متواترًا، أما ما كان خبر آحاد فلا يرى فيه حجة[13].
وقد تصدَّى الشافعي لهذه الانحرافات ببيانه القوي، ومنهجه العلمي، وأظهر للسنّة قوَّتَها وحيويتَها، ولاسيما في الأحكام الفقهية من خلال الاعتماد على الأخبار والآثار، وترك التطرّف في استخدام الرأي. قال الشافعي: «كل ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، مِن ذِكرِ ما مَنَّ الله به على العباد من تَعَلُّم الكتاب والحكمة: دليلٌ على أن الحكمة سنة رسول الله.
مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله، وبيَّن مِن موضعه الذي وضعه الله به مِن دينه: الدليلُ على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه:
منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره.
ومنها: ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله عن الله كيف فرْضُهُ؟ وعلى من فرْضُهُ؟ ومتى يزول بعضه وَيَثبُتُ وَيَجِبُ؟
ومنها: ما بيّنه عن سنةِ نبيه بلا نص كتاب.
وكل شيء منها بيانٌ في كتاب الله.
فكل مَن قَبِلَ عن الله فرائضَه في كتابه: قَبِلَ عن رسول الله سننه بفرْضِ اللهِ طاعةَ رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حُكمه، ومَن قَبِلَ عن رسول الله، فعَن الله قَبِلَ لِمَا افترض الله من طاعته.
فيَجمعُ القبولُ لما في كتاب الله ولسنة رسول الله: القبولَ لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قُبِل بها عنهما»[14].
وكان الشافعي محبًّا لأهل الحديث معظّمًا لهم، داعيًا إلى اتّباع منهجهم، فقد قال: «إذا رأيتُ رجلاً من أصحاب الحديث فكأنّي رأيت رجلاً من أصحاب النبي ﷺ، جزاهم الله خيرًا، هم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل»[15].
قال الحافظ النووي متحدّثًا عن الشافعي: «وهو الذي قلَّد المنن الجسيمة أهلَ الآثار وحَمَلَةَ الحديث ونَقلَةَ الأخبار، بتوقيفه إياهم على معاني السنن، وتبيينه وقذفه بالحق على باطل مخالفي السنن وتمويههم، فنَعَشَهُم بعد أن كانوا خاملين، وظهرت كلمته على جميع المخالفين، ودمغهم بواضحات البراهين، حتى ظلّت أعناقهم لها خاضعين.
وقال محمد بن الحسن رحمه الله: إنْ تكلَّم أصحابُ الحديث يومًا فبِلسانِ الشافعي، يعني لِما وضع مِن كتبه. وقال الحسن بن محمد الزعفران: كان أصحابُ الحديث رقودًا فأيقظهم الشافعي فتيقّظوا. وقال أحمد بن حنبل: ما أحدٌ مسَّ بيده محبرةً ولا قلمًا إلا وللشافعي في رقبته مِنَّة. فهذا قول إمام أصحاب الحديث وأهله، ومَنْ لا يختلف الناس في ورعه وفضله»[16].
وعن عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران، قال: «قال لي أحمد بن حنبل: ما لك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحدٍ وضع الكتب منذ ظهرت أتبعُ للسنّة من الشافعي»[17].
من مظاهر الاتباع عند الإمام الشافعي رحمه الله: نهيُه عن علم الكلام الذي أجمع السلف على ذمّه، والمقصود به: تلك القواعد والتأصيلات الفاسدة التي استُخدِمت في تحريف وتعطيل النصوص في مسائل الاعتقاد، ولاسيما فيما يتعلّق بأسماء الله وصفاته وأفعاله.
المنهج الصحيح:
كان منهج الإمام الشافعي قائمًا على الكتاب والسنّة وفهم الأولين، من الصحابة ومن تبعهم من أئمّة الدين، وقد بيّن منهجه بكلمة جامعة عندما قال: «آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله»[18].
وقال أيضًا: «لا يقال لأصلٍ: لم، ولا: كيف؟»[19].
ولما سُئِل عن القرآن قال: «القرآن كلام الله، مَن قال: مخلوق، فقد كفر»[20].
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: «الإيمانُ قولٌ وعملٌ، يزيدُ وينقصُ»[21].
ومن مظاهر الاتباع عند الإمام الشافعي رحمه الله: نهيُه عن علم الكلام، الذي أجمع السلف على ذمّه، وليس المقصود بعلم الكلام: الحججَ العقليةَ البرهانية لإثبات العقائد الدينية والدفاع عنها كما يعرّفه أصحابه؛ فهذا مطلوبٌ بل واجبٌ، فإنَّ الشرع جاء بالمسائل والدلائل سواء كانت نقليّة أو عقليّة، لكنّ المقصود بعلم الكلام المذموم: تلك القواعد والتأصيلات الفاسدة التي استُخدِمت في تحريف وتعطيل النصوص في مسائل الاعتقاد، ولاسيما فيما يتعلّق بأسماء الله وصفاته وأفعاله.
والشافعي لا يَعُدُّ علمَ الكلام علمًا، فعن الربيع عن الشافعي رحمه الله أنه قال في مبسوطه في كتاب الوصايا: «لو أنّ رجلاً أوصى بكتبه من العلم لآخَر، وكان فيها كتب الكلام، لم يدخل في الوصية؛ لأنّه ليس من العلم»[22].
وعن الربيع بن سليمان قال: «قال لي الشافعي: لو أردتُ أن أضعَ على كلِّ مخالفٍ كتابًا لفعلتُ، ولكن ليس الكلام من شأني، ولا أحب أن يُنسب إلي منه شيء»[23].
قال الذهبي تعليقًا على هذا: «قلت: هذا النفس الزَّكِيُّ متواتر عن الشافعي».
وقال أيضًا: «لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفرّوا منه كما يفرون من الأسد»[24].
وعن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: «كان الشافعي -بعد أن ناظر حفصًا الفرد- يكره الكلام، وكان يقول: واللهِ لَأنْ يفتي العالم فيُقال أخطأ العالم، خيرٌ له من أن يتكلّم فيقال: زنديق، وما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله»[25].
قال الذهبي تعليقًا على هذا: «قلت: هذا دالٌّ على أنّ مذهب أبي عبد الله أنّ الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع».
وقال الشافعي: «ما ارتدى أحدٌ بالكلام فأفلح»[26].
وقال: «حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر، يُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام»[27].
كان الناس يستعملون أصولَ الفقه في استدلالهم كما في عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولم تكن هذه الأصول مجموعةً في كتاب، حتى جاء الإمام الشافعي فأظهرها واضحةً تسرُّ الناظرين
وهو الإمام الأصولي التأصيلي، الذي وضعَ الناسَ على المحجّة البيضاء، فلقد كان الناس يستعملون أصولَ الفقه في استدلالهم كما في عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولم تكن هذه الأصول مجموعةً في كتاب، حتى جاء الإمام فأظهرها واضحةً تسرُّ الناظرين.
«وقد اتفق الناس أنّه أوّل من صنَّف في أصول الفقه، وهو الذي رتّب أبوابها، وميَّز بعض أقسامها عن بعض، وشرح مراتبها في القوة والضعف»[28]، وذلك في كتابه المشهور: «الرسالة».
وقد تحصّل له ذلك من أخذه للعلم عن الأكابر، كالإمام مالك ومحمد بن الحسن الشيباني صاحبِ أبي حنيفة، قال الحافظ ابن حجر: «انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حِمْلَ جَمَلٍ ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرّف في ذلك حتى أصّل الأصول وقعّد القواعد»[29].
وسبب تأليف الشافعي لكتاب «الرسالة»: أنّ عبد الرحمن بن مهدي (ت ١٩٨هـ) -أحد أركان العلم بالحديث في العراق- اِلْتَمَسَ -وهو شابٌ- من الشافعي أن يضع له كتابًا، يجمع فيه قَبول الأخبار، وحجّة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسُّنَّة، فوضع له الشافعي كتاب «الرسالة» وبعثها إليه، فلمّا قرأها عبد الرحمن بن مهدي سُرّ بها سرورًا شديدًا[30]. ثم إنّ الشافعي حين خرج إلى مصر وقام بتنقيح كثير من كتبه: أعادَ تصنيف كتاب «الرسالة»[31]، وهذا التصنيف المهمّ هو الذي بين أيدينا اليوم[32].
وعن عبد الله بن ناجية الحافظ قال: «سمعت محمد بن مسلم بن وَارَة يقول: لما قدمت من مصر أتيت أبا عبد الله: أحمد بن حنبل لأسلم عليه فقال لي: كتبتَ كتب الشافعي؟ فقلت: لا، فقال لي: فرّطتَ، ما عرفنا العمومَ من الخصوص، وناسخَ حديثِ رسول الله ﷺ مِن المنسوخ حتى جالسنا الشافعي رحمه الله. قال ابن وارة: فحملني ذلك أن رجعت إلى مصر وكتبتها»[33].
وقال الـمُزَني: «أنا أنظر في «كتاب الرسالة» عن الشافعي منذ خمسين سنة، ما أعلم أنّي نظرت فيه من مرّة إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته»[34].
ومن تأصيلاته البديعة في باب الأصول قوله رحمه الله: «الأصلُ: قرآن أو سنة، فإن لم يكن فقياسٌ عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله ﷺ وصحّ الإسناد منه فهو سنّة، والإجماع أكثرُ من الخبر الواحد المُنفرِد، والحديثُ على ظاهره، وإذا احتملَ الحديثُ المعاني فما أشبه منها ظاهرَهُ أَولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحُّها إسنادًا أَولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيّب، ولا يقاس أصلٌ على أصل، ولا يقال لأصلٍ: لم ولا: كيف؟ وإنما يقال للفرع: لِمَ؟ فإذا صحّ قياسُه على الأصل صحّ وقامت الحجة به، فإذا روى الثقةُ حديثًا ولم يروِه غيره لا يقال: شاذ؛ إنّما الشاذ أن يروي الثقات حديثًا على نصٍّ -أو قال على نسق- ثم يرويه بعضُهم مخالفًا لهم، يقال: شَذَّ عنهم»[35].
«ما ناظرت أحدًا فأحببتُ أن يُخطئ، وما في قلبي مِن علم إلا وَدِدْتُ أن يتعلَّمه كلُّ أحدٍ ولا ينسب إليّ»
الشافعي رحمه الله
وكان للإمام قدرةٌ عجيبةٌ على المناظرة والتمكّن منها، فهو الإمام المناظر، قال هارون بن سعيد: «لو أنَّ الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنّه من خشب لغلب بالمناظرة؛ لاقتداره عليها»[36].
وقال ابن عبد الحكم: «ما رأيت الشافعي يناظر أحدًا إلا رحمته، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنّه سَبعٌ يأكُلك، وهو الذي علّم الناس الحجج»[37].
وهذه المناظرات من الإمام لم تكن على سبيل العلو والمغالبة، وإنّما كانت للنصيحة وإظهار الحق.
قال الشافعي: «ما ناظرتُ أحدًا قطُّ إلا على النصيحة»[38].
وقال أيضًا: «ما ناظرت أحدًا فأحببتُ أن يُخطئ، وما في قلبي مِن علم إلا وَدِدْتُ أن يتعلَّمه كلُّ أحدٍ ولا ينسب إليّ»[39].
من مظاهر عدم جمود الإمام الشافعي وتقليده: عدمُ ركونه للمدارس العلمية في عصره، فقد استفاد منها، ونَقَدَ ما يراه مخالفًا للتأصيل والدليل.
وكان الشافعي يرفضُ التقليد والجمود، فكان ينهى عن تقليده وتقليد غيره، وكلامُه في هذا الباب كثيرٌ متنوع، فمن ذلك قوله: «لقد ضلَّ من ترك حديث رسول الله ﷺ لقول مَنْ بعده»[40]، وقال: «إذا صحَّ الحديث عن رسول الله ﷺ، فقلت قولاً، فأنا راجعٌ عن قولي، وقائلٌ بذلك»[41].
وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي بمصر عن مسألة فأفتاه وقال: قال النبي ﷺ كذا. فقال الرجل: أتقول بهذا؟، قال: أرأيت في وسطي زِنَّارًا؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول: قال النبي ﷺ، وتقول لي: أتقول بهذا؟ أروي عن رسول الله ﷺ ولا أقول به؟!»[42]، وقال: «إذا رأيتموني أقول قولاً وقد صحَّ عن النبي ﷺ خلافُه؛ فاعلموا أنّ عقلي قد ذهب»[43].
وقال: « كلُّ ما قلت؛ فكان عن النبي ﷺ خلاف قولي مما يصح؛ فحديث النبي أولى، ولا تقلدوني»[44].
وقال: «ما من أحد إلا وتذهب عليه سنّة لرسول الله ﷺ وتعزُبُ عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصّلت من أصل، فيه عن رسول الله ﷺ خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسولُ الله ﷺ، وهو قولي»[45].
وكان يقول للإمام أحمد: «أنتم أعلم بالحديث والرجال منّي، فإذا كان الحديث الصحيح؛ فَأَعلِموني به، كوفيًّا كان، أو بصريًّا، أو شاميًّا؛ حتى أذهب إليه إذا كان صحيحًا»[46].
ومن مظاهر عدم جمود الإمام وتقليده: عدمُ ركونه للمدارس العلمية في عصره، فقد استفاد منها، ونَقَدَ ما يراه مخالفًا للتأصيل والدليل.
لقد جمع الإمام مدرسة الحجاز ومدرسة العراق، مع ما استفاده من مدرسة الحديث، فكان مدرسةً جامعةً أفادت من الجميع.
لمَّا وجدَ الإمام الشافعي الناسَ يتعصّبون للإمام مالك رحمه الله ويعظّمونه تعظيمًا مبالغًا فيه خرجوا فيه إلى الغلوّ، ردَّ على أستاذه مالك؛ للتخفيف من هذا الغلو وبيان أنّ مالكًا بشرٌ يخطئُ ويصيبُ.
وإذا كان كلُّ إمام في عهد الشافعي هو مدرسة، فيمكن أن نسمي الإمام الشافعي «الجامعة»؛ لأنّه جمع كلّ المدارس وصاغ منها مذهبًا معظِّمًا للحديث والأثر، مفجِّرًا لينابيع الفقه والنظر، فلا هو بحامل للحديث من غير فقه، ولا هو فقيه من غير حديث.
قال محمد بن الحسن: «إن كان أحدٌ يخالفنا ويثبت خِلافُه علينا، فالشافعي. فقيل له: لِمَ؟ فقال: لِتَأَتِّيه وتَنَبُّهِهِ في المسائل»[47].
وعن أحمد بن أبي سُريح قال: «سمعت الشافعي، يقول: أنفقتُ على كتب محمد بن الحسن ستين دينارًا، ثم تدبّرتها، فوضعت إلى جنب كل مسأَلة حديثًا. يعني ردًّا عليه»[48].
ولـمَّا وجدَ الناس يتعصّبون للإمام مالك رحمه الله ويعظّمونه تعظيمًا مبالغًا فيه خرجوا فيه إلى الغلوّ، ردَّ على أستاذه مالك؛ للتخفيف من هذا الغلو وبيان أنّ مالكًا بشرٌ يخطئُ ويصيبُ.
قال البيهقي: «قرأت في كتاب زكريا بن يحيى الساجي فيما حدّثه المصريون، أنّ الشافعي إنّما وضع الكتاب على مالك أنّه بلغه أنّ بالأندلس قلنسوة لمالك يُستستقى بها، وكان يقال لهم: قال رسول الله ﷺ، فيقولون: قال مالك! فقال الشافعي: إنَّ مالكًا بشرٌ يخطئُ ويصيبُ، فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه، وكان يقول: استخرت الله تعالى في ذلك سَنَةً»[49].
وقال الشافعي لتلميذه الربيع يومًا: «كيف تركت أهل مصر؟ فقلت: تركتهم على ضربين: فرقة منهم قد مالت إلى قول مالك وأخذت به واعتمدت عليه وذبَّت عنه وناضلت، وفرقة قد مالت إلى قول أبي حنيفة فأخذت به وناضلت عنه.
فقال الشافعي: أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله وآتيهم بشيء وأشغلهم به عن القولين جميعًا.
قال الربيع: ففعل ذلك -والله- حين دخل مصر»[50].
«إن فاتك عقل الشافعي فأخاف ألا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيتُ أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي»
الإمام أحمد بن حنبل لأحد طلابه
ختاما: هل فاتنا عقل الإمام الشافعي؟!
قال ابن أبي حاتم: «سمعت محمد بن الفضل القزّاز، قال: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلتُ في مكانٍ واحدٍ معه، أو في دار، يعني: بمكة، وخرج أبو عبد الله، يعني: أحمد بن حنبل، باكرًا، وخرجت أنا بعده، فلمّا صليت الصبح وردت المسجد، فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة، فكنت أدور مجلسًا مجلسًا طلبًا لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، حتى وجدت أحمد بن حنبل عند شاب أعرابي، وعليه ثيابٌ مصبوغة وعلى رأسه جمّة؛ فزاحمت حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله، تركت ابن عيينة، وعنده الزهري، وعمرو بن دينار، وزياد بن علاقة، ومن التابعين ما أنت به عليم، فقال لي: اسكت، فإنْ فاتك حديثٌ بعلوٍّ تجده بنزول؛ لا يضرك في دينك ولا في عقلك ولا في فهمك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيتُ أحدًا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي، قلت: مَنْ هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي»[51].
فهذا الشاب القرشي الذي لـمّا يشتهر بَعْدُ، كانت قوّةُ جذبه للإمام أحمد أشدّ وأكبر من جذب الأكابر في عصره؛ فهؤلاء نهاية أمرهم عند أحمد أن يفوت حديثهم بعلوٍّ، والذي يمكن أن يُستدرك بنزول، ولكن لو فات التأصيلُ من عقل هذا الشاب فات الشيء الكثير.
وهذا الكلام من الإمام أحمد يدلُّ على رجاحة عقله وفطنته، وحسن تدبيره وفقهه للواقع ومراتب الناس وفقه الأولويات.
- فهل الذي اتخذ الجمود المذهبي في حياته العلمية منهجًا وتديّنًا من غير أن ينفكّ عنه، مع قدرته على ذلك، فهل مثل هذا استفاد من عقلية الإمام الشافعي وتأصيله، حتى لو انتسب إلى الإمام؟ أو استدل بكلامه؟ إن حقيقة الانتساب تكون في التأصيل وليس في كلّ تفصيل، والإمام له أقوال تراجعَ عنها في حياته وتراجع عمّا يخالف الدليل بعد مماته.
- وهل الذي اتّخذ علم الكلام منهجًا في فهم دينه وعقيدته، ونافح عنه وخالف طريقة الأئمة وعلى رأسهم الإمام الشافعي، فهل مثل هذا استفاد من عقلية الشافعي أم فاتته؟ ووقع عليه حكم الشافعي في أهل الكلام.
- وهل الذي عكف على أقوال الشافعي في كتب غيره، ولم يكحّل عينيه بقراءة كتب الشافعي التي خطّها بيده كـ«الأم» و«الرسالة» و«جماع العلم» وغيرها، واستمتع ببيانه وفصاحته وطريقته في المناظرة والمحاجّة والاستدلال، فهل مثل هذا استفاد من عقلية الشافعي؟ لا يكفي أن نتمسّك بأقوال الإمام في فروع المسائل دون النظر إلى طريقته في الاستدلال عليها. ومن عجيب ما يُنسب لبعض المتأخرين أنّه لـمّا قيل له: لما لا تقرؤون كتاب «الأم» و«الرسالة» في مجالسكم العلمية؟! قال: كتاب الأم يُفسد علينا المذهب!!.
- وهل مَنْ ناظر غيره في مسائل العلم وكان متعصّبًا لقوله، ولم يُخلص النيّة لله في هذه المناظرة، وكان راغبًا في ظهور الحق على لسانه لا على لسان غيره، فهل مثل هذا استفاد من الإمام الشافعي المناظر؟!.
- وهل الذي رغب عن علم الحديث وطعن في أهله وحَمَلته، يكون قد استفاد من منهج الإمام الشافعي وأثريته؟!.
لا ينبغي أن يُفهم من كلامنا أنّنا نعيب المذهبية والتقليد مطلقًا، فإنَّ هذا غير ممكن للعامّة وليس من شأنهم، وإنّما كلامنا لمن دخل في سلك أهل العلم وترقّى فيه، حتى وصل لأعالي الدرجات العلمية، ثم هو يُعلن انتسابه لأئمة العلم كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ثم يخالفهم في منهجهم وطريقتهم في السلوك والاتباع.
لا تُعاب المذهبية والتقليد مطلقًا، فإنَّ هذا غير ممكن لعامّة الناس وليس من شأنهم، وإنّما كلامنا لمن يُعلن انتسابه لأئمة العلم كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ثم يخالفهم في منهجهم وطريقتهم في السلوك والاتباع.
[1] توالي التأسيس، لابن حجر، ص (٩٣).
[2] الاحتجاج بالشافعي، للبيهقي، ص (٨٦).
[3] سير أعلام النبلاء، للذهبي (١٠/٤٧).
[4] مناقب الشافعي، للبيهقي (٢/٢٨٥).
[5] الاحتجاج بالشافعي، للخطيب ص (٦٨).
[6] مناقب الشافعي، للبيهقي (٢/٢٤٠)، و: سير أعلام النبلاء، للذهبي (١٠/١٧).
[7] والمقصود هنا السحر الحلال وهو سحر البيان، وفي الحديث عن الرسول r قال: (إنَّ مِن البيان لَسِحْرًا)، أخرجه البخاري (٥١٤٦).
[8] مناقب الشافعي، للبيهقي (٢/٥٠).
[9] الرسالة، للشافعي ص (٤٨).
[10] يعني: يجتهد في مسائل الفقه باستعمال القياس.
[11] الرسالة، للشافعي ص (٥١٠).
[12] حلية الأولياء، لأبي نعيم (٩/١٠٧)، سير أعلام النبلاء، للذهبي (١٠/٤٧).
[13] ينظر: جماع العلم (في كتاب الأم)، للشافعي (٧/٢٥٠، و٢٥٤)، وكتاب الرسالة، للشافعي ص (٣٦٩)، وتاريخ المذاهب الإسلامية، لأبي زهرة (٢/٢٥٨).
[14] الرسالة، للشافعي ص (٣٢-٣٣).
[15] سير أعلام النبلاء (١٠/٦٩).
[16] تهذيب الأسماء واللغات، للنووي (١/٥٠).
[17] آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم ص (٤٦)، ومناقب الشافعي، للبيهقي (١/٢٣٥).
[18] منازل الأئمة الأربعة، للسلماسي ص (١٤٦)، وينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٤/٢)، (٦/٣٥٤).
[19] مناقب الشافعي، للبيهقي (٢/٣٠).
[20] معرفة السنن والآثار، للبيهقي (١/١٩١)، وقال الذهبي في: سير أعلام النبلاء (١٠/١٨): «هذا إسناد صحيح».
[21] توالي التأسيس، لابن حجر ص (٦٤)، وينظر: آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم ص (١٩٢).
[22] أحاديث في ذم الكلام وأهله، لأبي الفضل الرازي (١/٩٠).
[23] سير أعلام النبلاء، للذهبي (١٠/٣١).
[24] المرجع السابق (١٠/١٦).
[25] المرجع السابق (١٠/١٨-١٩).
[26] حلية الأولياء، لأبي نعيم (٩/١١١).
[27] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٤٦٢).
[28] الإمام الشافعي مناقبه وعلمه، للفخر الرازي ص (٩٨).
[29] توالي التأسيس، لابن حجر ص (٧٣).
[30] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٢٣٠).
[31] المرجع السابق (١/٢٣٤).
[32] الرسالة، للإمام الشافعي. تحقيق: أحمد محمد شاكر، مقدّمة المحقّق ص (١١).
[33] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٢٦٢).
[34] المرجع السابق (١/٢٣٦).
[35] المرجع السابق (٢/٣٠).
[36] حلية الأولياء، لأبي نعيم (٩/١٠٣).
[37] سير أعلام النبلاء (١٠/٤٩-٥٠)، وينظر: مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٢٠٨).
[38] آداب الشافعي ومناقبه للرازي ص (٦٩).
[39] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/١٧٤).
[40] الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (١/٣٨٦).
[41] حلية الأولياء، لأبي نعيم (٩/١٠٧).
[42] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٤٧٤).
[43] المرجع السابق نفسه.
[44] آداب الشافعي ومناقبه، للرازي ص (٦٧)، ومناقب الشافعي، للبيهقي (١/٤٧٣).
[45] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٤٧٥). وقد سار على هذا أئمة المذهب، قال النووي رحمه الله: «واختلف العلماء في الصلاة الوسطى، فنصَّ الشافعي رضي الله عنه والأصحابُ: أنّها الصبح، وقال صاحب (الحاوي): نصَّ الشافعي أنّها الصبح. وصَحّت الأحاديث، أنّها العصر، ومذهبهُ: اتّباع الحديث؛ فصار مذهبه: أنّها العصر. قال: ولا يكون في المسألة قولان، كما وهم بعض أصحابنا، والله أعلم» روضة الطالبين وعمدة المفتين (١/١٨٢).
[46] آداب الشافعي ومناقبه، للرازي ص (٧٠).
[47] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/١٦٠).
[48] آداب الشافعي ومناقبه، للرازي ص (٢٧)، ومناقب الشافعي، للبيهقي (١/١٦٣).
[49] مناقب الشافعي، للبيهقي (١/٥٠٨-٥٠٩) بتصرف يسير.
[50] مناقب الشافعي، للبيهقي، مقدمة المحقق ص (١٣).
[51] آداب الشافعي ومناقبه، للرازي ص (٤٤). وحلية الأولياء، لأبي نعيم (٩/٩٨).
أ. فايز الصلاح
ماجستير في الشريعة، باحث متخصص في الدراسات الشرعية، عضو مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.