معركة المصطلحات من أهم المعارك التي تدور رحاها اليوم في السجالات الفكرية والثقافية، خصوصًا تلك المصطلحات التي لم تنشأ تحت ظلال الشريعة ومفاهيمها، ففي الوقت الذي يبدو فيه المصطلح براقًا جاذبًا تجده يحمل في ثناياه معاني ونتائج تصادم الشرع وتفتح أبوابًا واسعة للشر، وبيانُها واجب على أهل العلم والبصيرة، ومن بين هذه المصطلحات ما يعرف بالحرية وخصوصًا في جانب الاعتقاد، وهذا المقال يتناول هذا المصطلح بالحوار والتفنيد.
مصطلح «حرية الاعتقاد» من المصطلحات المعاصرة، وبداية استخدامه مصطلحًا بالمعنى المتعارف عليه هو من إفرازات الثقافة الغربية بعد عصر الثورة، فجاءت المطالبة بالحريات المسلوبة لانتزاعها من الكنيسة والبلاط بعد عهود من الاستبداد والاستعباد ومصادرة كرامة الإنسان. ثم وجد المصطلح طريقه إلى الإعلانات والدساتير العالمية كما في المادة (١٨) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، والذي ينص على أن: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرًا أم مع الجماعة».
وقد شاع استخدام هذا المصطلح مؤخرًا في الكتابات الإسلامية من علماء ومفكرين ومثقفين، حتى صار مألوفًا ومستساغًا عند الكثيرين.
ولما كان المفهوم الغربي لحرية الاعتقاد مصادمًا للشريعة الإسلامية بشكل صارخ، لجأ كثير من الكتاب المسلمين إلى وضع القيود على المصطلح، في محاولة للجمع بين ما جاء في الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان وما فرضته الشريعة الإسلامية، فكانت النتيجة التعسف في تأويل النصوص وإبطال بعض الأحكام الثابتة.
وقد بين بعض الكتاب تهافت دعوى حرية العقيدة وفنّد الاحتجاجات التي سيقت لها[1].
إلا أن الأخطر من ذلك هو انتقال الحديث عن «حرية العقيدة» من محاولات التلفيق بين ما جاء في الشريعة وبين الأنظمة الوضعية إلى القول بأن «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة»، بل جعلها بعضهم في مصاف المقاصد الكلية الكبرى، ثم بدأ يوظفها في استنباط الأحكام والتحكم في النصوص.
فما نصيب هذه العبارة «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة» من الصحة؟ هذا ما تناقشه هذه المقالة.
لما كان المفهوم الغربي لحرية الاعتقاد مصادمًا للشريعة، لجأ كثير من الكتاب المسلمين إلى وضع القيود على المصطلح، في محاولة للجمع بين ما جاء في مواثيق حقوق الإنسان وما فرضته الشريعة الإسلامية، فكانت النتيجة التعسف في تأويل النصوص وإبطال بعض الأحكام الثابتة
معنى الحرية:
الحرية مفردة عربية، وهي شائعة في النصوص الشرعية في مقابل الرق أو العبودية، كما في قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ [البقرة: ١٧٨]، وتُذكر بهذا المعنى ضمن شروط وجوب أو صحة بعض الأحكام الشرعية، أما في استخدامها المعاصر فهي تدور حول «الاختيار».
ولمزيد من التحرير لمعنى «الحرية» في الاستخدام المعاصر، فإنه ينبغي التمييز بين استخدامين:
1. الاستخدام الأول: يراد بالحرية «القدرة على الاختيار»، فحين يقول شخص ما: أنا حر في أن أفعل كذا أو لا أفعله، أي لي القدرة على أن أختار هذا الفعل أو ذاك. وبهذا المعنى فالإنسان حر في كل ما هو تحت قدرته أن يفعله، فهو حر فيما يعتقد، وحر فيما يقول، وحر فيما يعمل، وحر فيما يترك، ومناط التكليف والحساب والعقاب في الإسلام هو في الحقيقة حول هذا الاختيار، الذي لو سُلب منه فكان مكرهًا ارتفع عنه التكليف. والحرية بهذا الاستخدام لا تمنع العقاب الدنيوي أو الأخروي على الاختيار المحرّم شرعًا.
ويزعم البعض أن الإسلام أطلق الحريات الفردية بشرط ألا تعتدي على حرية الآخرين، وهذه عبارة قاصرة، بل هذا هو مفهوم الحرية الغربي[2].
أما الإسلام -الذي يعني الاستسلام لله- فقد جاء لإخراج المكلف عن داعية هواه، ولذلك قد يقيد حريته في أمور ولو لم يكن فيها اعتداء على الآخرين، كأن يقتل نفسه أو يشرب الخمر، أو يقترض بالربا مختارًا. بل وصف الله رسالة النبي ﷺ بقوله: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، فهو يُقيِّد حُريتهم في كلِّ أمرٍ خبيث، ولو لم يتعدَّ الضرر إلى غيره. وكذلك قال: ﴿وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، والمنكر قد يكون لازمًا وقد يكون متعديًا.
2. الاستخدام الثاني: الحرية بمعنى «الحق في الاختيار»، وإذا أعطيت الحرية –بهذا الإطلاق- من جهة أعلى إلى أدنى فهي بمعنى الإذن. فحين يعطي الأب ابنه حرية اتخاذ القرار في شأن من شؤونه فهو إذنٌ له بذلك، وحين تعطي الدولة رعاياها حرية تصرفات معينة فهو إذن لهم بذلك. ويلزم من هذا ألا يُعاقَب الفاعل على اختياره. وهذا المعنى هو الذي تقصده الدساتير، كما في النقل أعلاه عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فحين تنص على أن لكل شخص الحق في حرية التفكير أو الدين فهي تعني أنه لا ينبغي معاقبته على اختياره من حيث كونه حقًا مشروعًا مكفولاً له.
ويمكن أن نوصّف هذين الاستخدامين بالاصطلاحات الشرعية فنقول: إنَّ الحرية بمعنى «القدرة» على الاختيار هي من الأمر الكوني، فإن الله قضى أن يكون للبشر إرادة وقدرة على أفعالهم، وقد يفعلون بها ما يحبه الله ويرضاه، وقد يفعلون بها ما يغضبه ويسخطه، بينما الحرية بمعنى «الحق» في الاختيار هي من الأمر الشرعي فلا تكون إلا لما يحبه الله.
فالإنسان حر في أن يعتقد ما يشاء بالاستخدام الأول، ولكن ليس مأذونًا له أن يعتقد ما يشاء، وهذا هو الفرق الجوهري بين النظام الإسلامي والقانون الوضعي.
وعلى سبيل التمثيل، فقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] –لو تنزلنا وقلنا بالاستدلال بها على حرية العقيدة- فهي حرية بالاستخدام الأول، أي القدرة على اختيار الإيمان أو الكفر، ولولا أن لهم القدرة لما خاطبهم بها، ولكنها ليست إذنًا بهذا الاختيار، بل يقول الله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧].
الحرية بمعنى «القدرة على الاختيار» هي من الأمر الكوني، فإن الله قضى أن يكون للبشر إرادة وقدرة على أفعالهم، وقد يفعلون بها ما يحبه الله ويرضاه، وقد يفعلون بها ما يغضبه ويسخطه، بينما الحرية بمعنى «الحق في الاختيار» هي من الأمر الشرعي فلا تكون إلا لما يُحبه الله
المراد بالحرية في عبارة «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة»:
وبعد هذا التوضيح لإطلاقَي الحرية في الاستخدام المعاصر، نأتي إلى مناقشة العبارة «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة» وسنشير إليها في المقال بـ «العبارة». الحريةُ هنا بأي اعتبار؟
لا شك أنها ليست بمعنى «القدرة على اختيار عقيدة ما»، إذ لا يستقيم معنى العبارة بأي وجه من الوجوه، فما معنى أن نقول: من مقاصد الشريعة أن للناس قدرة على اختيار ما يعتقدون؟! هذا تحصيل حاصل! وأي عاقل يجادل في ذلك؟ ولو صح هذا المعنى فما فرق حرية العقيدة عن حرية أي شيء آخر مما يقع تحت قدرة المكلف؟
إذن لم يبق إلا أن يكون معنى العبارة أن الإسلام أعطى الناس الحق والإذن (وبلغة الفقهاء: الإباحة أو الجواز) في أن يعتقدوا ما يشاؤون. وبناء عليه فإنه لا يؤاخذهم على اختيارهم. فحين نقول مثلاً: إن الشريعة أعطت للناس حرية التصرف في أموالهم -في غير ما حرمت عليهم- فهذا يعني أنهم لو باعوا أو وهبوا أو تصدقوا أو أقرضوا أو أوقفوا فلا تؤاخذهم الشريعة على ذلك. فكذلك إذا قلنا: إنَّ الشريعة أعطت الناس الحق في أن يعتقدوا ما يشاؤون، لزم ألا تعاقبهم على اختيارهم.
فهل أعطت الشريعة الناس الحرية في اختيار الدين؟ كيف والله يقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾؟ [آل عمران: ٨٥].
ولو فعلوا فهل يمرُّ اختيارهم بلا عقاب؟ ألم يتوعد الله الكفارَ بالنار في آيات وأحاديث يطول سردها، واتهمهم في عقولهم، وسفه آلهتهم، وأخبر عنهم أنه لا يحبهم وأنه غاضب عليهم، وذمهم بوصفهم أنهم كالأنعام بل هم أضل، وأنهم شر البرية؟ فأين هذا من «حرية العقيدة»[3]؟
والمرتد –وهو الذي يحاجّ عنه بذريعة حرية العقيدة– لا يخرج عن هذا الوعيد: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٠٦ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ١٠٧ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ١٠٨ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [النحل: ١٠٦-١٠٩].
﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢١٧].
فأي عاقل يفهم من هذا الكلام أن الشريعة أعطت الكفار –والمرتدين– حرية العقيدة؟
فإذا كانت الشريعة لا تأذن بالكفر ولا يرضى الله عنه فكيف تكون حرية العقيدة –ومن صورها اختيار الكفر– من مقاصدها؟!
ومن أعجب ما يورده البعض دليلاً على حرية العقيدة أن القرآن لم يذكر عقوبة دنيوية على من يختار الكفر! من ذلك قول أحدهم: «يُقرّر القرآن أن ثمة عقابًا مستحقًا على من رفض اعتناق الإسلام؛ ولكنه يُقرّر -في الوقت نفسه- أن هذا العقاب عقاب أخروي: مصير غيبي، ولا يذكر القرآن -إذ يؤكد هذا العقاب الأخروي بشكل متكرر- أي عقاب دنيوي لغير المسلمين في هذه الحياة». ويقول: «إنه لأمر مُلْفت أن تُشَدّد الآيات التي تتحدث عن حرية الاعتقاد على العقاب الأخروي، دون أن تشير -أدنى إشارة- إلى أي عقاب دنيوي شهير»[4].
وليكن ملفتًا، ثم ماذا؟! وما دلالته على حرية العقيدة؟
هذا الربا قد نهى الله عنه في مواضع من كتابه، وشدَّد فيه حتى قال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٢٧٨ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٨-٢٧٩]، ولم يذكر له أي عقاب دنيوي.
وتوعَّد الله المتولِّين يوم الزحف بقوله: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ١٦]، ولم يذكر له عقابًا دنيويًا.
وقل مثل ذلك في عقوق الوالدين، والغِيبة وغيرها من الكبائر والموبقات، لم تذكر لها عقوبات دنيوية، فهل يعد هذا إذنًا فيها، وإعطاء الحرية في فعلها؟!
والملاحَظ في كتابات الكثير من المفكرين الإسلاميين أثناء معالجة الحرية وقضاياها: الاقتصار على النظرة الدنيوية كما يفعل الغربيون، وهذا بتأثير سيطرة الفكرة العلمانية، فهم لا يستندون في محاكماتهم العقلية إلى روح الشريعة ومقاصدها، فالمقاصد في الشريعة تُوازن بين الدنيا والآخرة، بل إن ما يذكر من الثواب والعقاب الأخروي أقوى دلالة من الثواب والعقاب الدنيوي، لأن الآخرة هي دار الجزاء الأوفى. فالتفريق عند المستدلين هنا بين العقاب الدنيوي والأخروي يشير إلى خلل منهجي خطير ينتج تطبيقًا مشوهًا[5].
ثم من قال إنَّ الكفر لم تكن له عقوبة دنيوية؟ ألم يُهلك الله المكذِّبين السابقين بسبب بقائهم على الكفر، وهدد المكذبين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام بالعذاب في الدنيا ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ [السجدة: ٢١].
الحرية و «لا إكراه في الدين»:
فإن قيل: نحن لا نقصد بقولنا «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة» المعنى الذي أشرتَ إليه، وإنما قصدنا بها ألا يُكرَه أحد على الدخول في الإسلام، وهذا من مقاصد الشريعة. نقول: هذا كلام حقّ، فبعض أهل العلم وأفاضل المفكرين والمثقفين ممن لا ينكر فضلُهم وعلمُهم إنما أرادوا هذا المعنى، ونصوا عليه، وقيدوا عباراتهم عن الحرية الدينية به[6]، لكن هل تساعد العبارة على هذا المعنى؟
إذا كانت الشريعة لا تأذن بالكفر ولا يرضى الله عنه، فكيف تكون حرية العقيدة –ومن صورها اختيار الكفر– من مقاصد الشريعة؟!
ولن نستطرد هنا في فقه الآية ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ونترك الحديث عنها لكتب التفسير والبحوث الكثيرة فيها لمن أراد الرجوع إليها.
لكننا نسأل: هل قوله تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ يساوي أو يطابق أو يعدل القول بحرية العقيدة؟ أم أن العبارة أوسع بكثير من دليلها؟
ولنضرب لذلك مثلاً، لو حدّث أبٌ ابنته عن الحجاب، وبين لها وجوبه على المرأة البالغة، والحكمة منه، وأنه لباس أمهات المؤمنين والصحابيات رضي الله عنهن، وأنه يحفظ المرأة عن أعين الرجال، ويُظهر عفَّتها وحِشمتها، ثم يذكّرها بما توعد به النبي ﷺ الكاسيات العاريات، وأن المرأة بترك الحجاب تُغضب ربها، … ثم قال لها بعد ذلك كله: ها قد تبين لكِ الرشد من الغَي، وأنا لن أُكرِهك على الحجاب، ولكن إن لم تتحجَّبي فأنا غير راض عنك، فخرجت فلقيتها أمها فسألتها: ماذا قال لك أبوك آنفًا؟ فقالت: قال: لك حرية الحجاب! هل صدقت في قولها؟ وهل هذا الجواب يعبر فعلاً عما قاله لها أبوها؟
إن قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] لا يقال فيه أن الله أعطى الكفار الحق أن يعتقدوا ما يشاؤون. فـ ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ خطاب للمسلمين، ينهاهم أن يُكرِهوا غيرَهم على الدخولِ في الإسلام، فكيف صار خطابًا للكفار بأن يعتقدوا ما يشاؤون؟!
فالحق أن عبارة «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة» أوسع بكثير من دلالة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، والقواعد الأصولية والفقهية ليست عبارات أدبية يُغتفر فيها مثل هذا التوسع، بل هي قائمة على الدقة والضبط، والتعريفات الجامعة المانعة.
فإذا انضاف إلى ذلك: أن عبارة: «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة» يمكن أن تفهم على معنى باطل، أو يوظفها البعض لمعنى باطل، صار حريًّا أن تُجتنب، استرشادًا بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة: ١٠٤]، وقول النبي ﷺ: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)[7]، مع أن لفظة «راعنا» لا إشكال فيها في ذاتها، لكن لما أُسيء استخدامها منع منها، فكيف بعبارةٍ لا تَسلم من النقد، ثم هي ذريعةٌ لأفهامٍ فاسدة.
عدم الإكراه في الدين وموقعه من مقاصد الشريعة:
ولو تنزَّلنا مع القائلين أن «حرية العقيدة» يُراد بها عدم الإكراه على الدين، هل يصحُّ أن يُقال «عدم الإكراه على الدين من مقاصد الشريعة»؟.
لا شكَّ أن عدمَ إكراهِ الناس على الدين له حِكَم، وكذلك كلُّ أحكام الشريعة لها مقاصد وحكم، وهي التي يسمِّيها العلماء المقاصد الجزئية، ولكن هذا لا يُسوِّغ أن نقول: «هذا الأمر من مقاصد الشريعة» هكذا بإطلاق، فضلاً عن أن نجعله من المقاصد الكبرى الكلية للشريعة، كما يريد أصحاب هذه العبارة، بل يريد بعضهم أن يُضيفه إلى الكليات الخمس!
فمثلاً، للشريعة حِكمةٌ في تشريع الطلاق، ولها مقصدٌ من ورائه، لكن لا يُقال: الطلاق من مقاصد الشريعة الإسلامية، بل من مقاصد الشريعة النكاح، فكذلك لا يقال: «من مقاصد الشريعة عدم الإكراه في الدين» وإن كان هذا حُكمًا صحيحًا وله حكمته، بل من مقاصد الشريعة تعبيد الناس لله وحده لا شريك له.
هل نقول: «حرية العقيدة ليست من مقاصد الشريعة»؟
على المسلم أن يكون فطنًا حكيمًا، حريصًا في انتقاء كلماته لئلا يُفهم خطأ، أو يشغّب عليه في قوله، فعبارة «ليس من مقاصد الشريعة حريةُ العقيدة» قد يفهم البعض أنَّ قائلها يريد أن يُكرِه الناس على الدين، وقد لا يفهمون ذلك لكن يجدون قوله فرصة للاصطياد في الماء العكر. فعلى المسلم أن يتجنب العبارات حمّالة الأوجه، وأن يتمسك بالواضح البين. فيكتفي بالتأكيد على أنه لا يقال: «من مقاصد الشريعة: حرية العقيدة» لما فيها من الخطأ والذريعة إلى الضلال، دون النص على نفيها بالقول: «حرية العقيدة ليست من مقاصد الشريعة» -وإن كان معنى العبارة المنفية صحيحًا بوجه- دفعًا للّبْس.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «ولهذا يوجد كثيرًا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك لخلوِّ النقيضين عن الحق، ولا قصور أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأنَّ تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة، المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين»[8].
الناس أحرار فيما يعتقدون، وحريتهم هي مناط التكليف، لكن هذا ليس إذنًا لهم بأن يبتغوا غير الإسلام دينًا؛ فالله لا يحبُّ الكفر ولا يرضاه، وعليه فإنْ صحَّ أن يقال: الناس أحرار فيما يعتقدون، فلا يصح أن يقال: «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة»
حُكم المرتد:
من أخطر ما ترتب على إطلاق القول بأن حرية العقيدة من مقاصد الشريعة، الجرأة على الشريعة بالاعتراض على حكم المرتد، فقال بعضهم: حديث (من بدل دينه فاقتلوه)[9] يصادم مقصدًا ثابتًا من مقاصد الشريعة!
ونحن لا نجادل في مكانة مقاصد الشريعة، وأهمية اعتبارها عند الاستدلال، فالشريعةُ مُغَيَّاةٌ في أصلِها وفي أركانِها وجزئياتها من العبادات والمعاملات، وما زال العلماء من عصر النبي ﷺ إلى عصرنا هذا يَعْتَدُّونَ بالمقاصد. والمقاصِدُ حاضِرَةٌ بقوة في الأدلةِ الشرعيةِ في مباحثِ أصولِ الفقهِ وفي قواعِد الترجيح والمُوازنات.
لكن المقاصد الصحيحة لا يمكن أبدًا أن تتعارض مع النصوص الصريحة، فإن المقاصد إنما استفيدت من النصوص فكيف تتعارض معها؟ وحين يدّعى التعارض بين نصٍّ شرعيٍّ ومقصدٍ شرعيٍّ فلا بدَّ من التحقق من صحة المقصد الشرعي.
وقد تبين لنا أنه لا يصح الإطلاق بأن حرية العقيدة من مقاصد الشريعة، فبماذا إذن نعارض حديثًا صريحًا ثابتًا في صحيح البخاري، وحُكمًا مستقرًا لم يحصل جدال فيه على مر التاريخ الإسلامي.
يقول د.فهد العجلان في مقال له بعنوان «قصة الجدل الفقهي في عقوبة المرتد»: «القصة -باختصار- أنّه ليس لدينا أيّ جدل فقهي في هذه القضية، وأنّ أهل الإسلام لم يعرفوا أيّ خلافٍ في هذه الجزئية، بل كانت الكلمة واحدة في تجريم الردّة عن الدين، ورفض أي مُجاهرةٍ برفضه، ويسوقون الدلائل عليه، ولا يذكرون في ذلك أيّ خلاف قوي ولا ضعيف ولا شاذ، وهي من المسلّمات البدهية التي يُستدل بها ولا يعترض أحد عليها.
فقصّة الجدل حول هذه القضية هي جدل معاصر، نشأ بعد هيمنة الثقافة العَلمانية الغربية، حيث أصبح الدين مهمّشًا لا أثر له في النظام العام، إنّما يقوم النظام على مرجعية محايدة لا يكون للدين أثر في فرض شيء أو المنع منه، فالنظام محايد في أيّ قضية متعلّقة بالدين.
في مثل هذا الفضاء العَلماني لم يعد مفهوم التجريم بسبب ترك الإسلام مفهومًا، فترك الإسلام وفق الرؤية العلمانية هو حرّية شخصية، لا فائدة من منع أي أحد منها، لأنّ الدين أساسًا شيء هامشي متعلّق بخيار الشخص لا علاقة للنظام به. هذه الثقافة العَلمانية المعاصرة أثّرت في كثير من الناس، فأُعيد لاحقًا قراءة النصوص الشرعية والأقوال والمذاهب وفقًا لذلك، ونشأ بعض المسلمين وهم يسمعون مثل هذه الأقوال المعاصرة حتى ظنّوا أنّها هي الدلالة الصحيحة للإسلام، أو لها على الأقل قول فقهي معتبر شائع ومعروف، والواقع أنّ هذا لا وجود له في الفقه الإسلامي، فهو مبني على رؤية مناقضة تمامًا لهذه الرؤية المتأثرة بالعَلمانية، فالشريعة تقوم على الحكم بما أنزل الله، وليس تحييد الحكم بالدين».
وخلاصة القول أنَّ الناس أحرار فيما يعتقدون، وهذه الحرية هي مناط التكليف، ولكن هذا ليس إذنًا لهم من الشريعة بأن يبتغوا غير الإسلام دينًا، وسينالون جزاء كُفرهم في الآخرة، وقد يعذِّبهم الله في الدنيا أيضًا، فالله لا يحبُّ الكفر ولا يرضاه، وعليه فإنْ صحَّ أن يقال: الناس أحرار فيما يعتقدون، فلا يصح أن يقال: «حرية العقيدة من مقاصد الشريعة».
[1] تهافت دعوى حرية الاعتقاد، للدكتور إبراهيم الحقيل، مجلة البيان، جمادى الآخرة ١٤٣٦هـ.
[2] حتى الميثاق الدولي يقيد الحريات بأكثر من عدم المساس بالآخرين، ففي المادة (١٨) فقرة (٣) من الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمد عام ١٩٦٦م ما نصه: لا يمكن لحرية إظهار الدين أو القناعات أن تكون مقيدة إلا بالقيود التي يضعها القانون، والتي هي ضرورية لحماية الأمن والنظام والصحة العامة أو لحماية الأخلاق والحريات والحقوق الأساسية للآخرين. وجاء نحو ذلك في الفقرة (٢) من المادة (٩) من المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان. أما في الميثاق الأفريقي فهي مقيدة بالمحافظة على النظام العام. فجميع المواثيق والدساتير تنص على مرجعية للحريات من وضع البشر، فلماذا يُستكثَر على المسلمين وضع مرجعية للحرية من دينهم؟!.
[3] كثيرًا ما نفتن بظاهر فكرة ما، ولو تأملناها قليلاً لتبين بطلانها، لكن الافتتان يحول بيننا وبين التأمل لأننا أُشرِبنا الفكرة. وقد حضرت يومًا محاضرة لأحد كبار الرموز في حركة إسلامية مفتون بالديمقراطية والحريات وحق المعارضة في أن تقول ما تشاء، وأراد أن يستدل لذلك فقال: حقُّ المعارضة محفوظ، حتى إنَّ الله بجلاله وعظمته أذن لإبليس في المعارضة ولم يعاقبه على اعتراضه على أمره! وأعطاه أمانًا بالإنظار إلى يوم القيامة بألا يتعرض له! فقلت له: وماذا عن توعُّده له بعد ذلك: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٥]؟! هل انقلبت الديمقراطية إلى ديكتاتورية! تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
[4] من مقال الحرية الدينية في الإسلام، لمحمد المحمود، https://www.alhurra.com/different-angle/٢٠٢١/٠٤/١٩
[5] حتى الآخرة صارت محل نقاش عند أكثر هؤلاء إما بعدم الجزم بالكفر واستحقاق العذاب، أو الزعم بجواز الدعاء لهم وأنهم يخفف عنهم العذاب، أو غير ذلك.
[6] وربما أضافوا جزئيات أخرى من قبيل السماح لأهل الكتاب بممارسة شعائرهم في كنائسهم وبِيَعِهم.
[7] أخرجه الترمذي (٢٥١٨).
[8] درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (١/٧٦).
[9] أخرجه البخاري (٣٠١٧).
د. معن عبد القادر
أكاديمي وكاتب في قضايا التربية والحوار والفكر
1 تعليق
التعليقات مغلقة