يستعرض المقال تجربة سنغافورة التنموية باعتبارها نموذجًا يمكن الاستفادة منه في صياغة رؤية لنهضة سوريا المستقبلية، مع التأكيد على الفوارق الجوهرية بين السياقين؛ فبينما واجهت سنغافورة تحدّيات الفقر والتخلّف، تواجه سوريا آثار حرب مدمرة، ويؤكّد أنّ الاستفادة من التجربة السنغافورية لا تعني استنساخها، بل لا بدّ من تكييف مبادئها بما يتناسب مع الواقع السوري وخصوصيته. فكيف يمكن لسوريا أن تستفيد من هذه التجربة الملهمة؟ وما الدروس التي يمكن استخلاصها منها؟ هذا ما سنحاول استكشافه في هذا المقال.
مدخل:
تنهض الأمم من كبواتها حين تمتلك إرادة التغيير وبصيرة المستقبل، فمِن رحم المعاناة تولد العزائم الكبرى، ومن قلب الظلام تنبثق شعلة الأمل لتضيء دروب المستقبل، وحين نتأمل في مسيرة الشعوب التي نهضت من تحت الركام نجد قصصًا ملهمة لشعوب حولت المحن إلى منح، والتحديات إلى فرص، والعقبات إلى محطات لانطلاقة جديدة، وإذ تتطلع سوريا اليوم إلى المستقبل بعد سنوات طويلة من الحرب والدمار، فإنها تبحث عن نماذج ناجحة يمكن أن تستلهم منها دروسًا في النهضة والبناء.
تُعدُّ تجربة سنغافورة واحدةً من أكثر التجارب التنموية إثارة للإعجاب في العصر الحديث؛ فقد استطاعت هذه الجزيرة الصغيرة أن تقفز في أقل من نصف قرن من مصافِّ الدول النامية إلى نادي الدول المتقدمة، ورغم أن سنغافورة لم تخرج من حرب مدمرة، إلا أنها واجهت تحديات الفقر والتخلف والصراعات العرقية، وثمة دروس قيمة يمكن استخلاصها من تجربتها.
إن استحضارنا للتجربة السنغافورية في سياق البحث عن رؤية لنهضة سوريا المرتقبة ليس دعوة للاستنساخ الأعمى، بل محاولة لاستخلاص مبادئ وآليات يمكن تكييفها مع الواقع السوري بكل تعقيداته وخصوصياته؛ فسوريا اليوم تواجه تحديات فريدة تتمثل في إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، ومعالجة الجراح النفسية والاجتماعية العميقة، وإعادة دمج ملايين اللاجئين والنازحين، وترميم النسيج الاجتماعي الممزق، وتحقيق المصالحة الوطنية، وهي تحديات لم تواجهها سنغافورة.
إن فلسفة النهضة السنغافورية قائمة على الاستثمار في الإنسان، وبناء المؤسسات القوية، ومحاربة الفساد، والتخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، وإيجاد هوية وطنية جامعة في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، وتبني نموذجًا تنمويًا يجمع بين القدرة التنافسية العالمية والعدالة الاجتماعية.
تُعدُّ تجربة سنغافورة واحدةً من أكثر التجارب التنموية إثارة للإعجاب في العصر الحديث؛ فقد استطاعت هذه الجزيرة الصغيرة أن تقفز في أقلّ من نصف قرن من مصافِّ الدول النامية إلى نادي الدول المتقدّمة، ورغم أنّ سنغافورة لم تخرج من حرب مدمرة، إلا أنّها واجهت تحدّيات الفقر والتخلّف والصراعات العرقية، وثـمّة دروس قيّمة يمكن استخلاصها من تجربتها.
القيادة الرؤيوية والإرادة السياسية:
لم يكن لسنغافورة أن تشقَّ طريقها نحو النهضة دون قيادة رؤيوية واضحة المعالم، فقد مثَّل “لي كوان يو” رمزًا للقائد الذي استطاع أن يحول جزيرة صغيرة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى، وكانت الرؤية في ذهنه واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار؛ إذ قال: “لم نكن نملك أرضًا أو موارد طبيعية أو إمكانات مادية كبيرة، لكننا ملكنا المورد الأهم: العقل البشري”.
تجلت عبقرية الرجل في قدرته على تحويل النقائص إلى محفزات للتطور؛ فقد حوَّل صغر المساحة إلى ميزة إدارية، وعدم وجود الموارد الطبيعية إلى دافع للابتكار والاستثمار في الإنسان، ولعل إحدى أهم الخطوات التي اتخذها كانت الحرب الشرسة على الفساد، وتأسيس نظام قضائي مستقل وعادل؛ إذ كان يقول: “إذا أردتَ أن تحارب الفساد، فكن مستعدًا لإرسال أصدقائك وأقاربك إلى السجن”.
وفي سوريا نحتاج إلى قيادة تمتلك رؤية حضارية مشرقة تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة، وتضع نصب عينيها مصلحة الوطن العليا، ومع زوال النظام الديكتاتوري الطائفي بعد عقود من الظلم والقهر، فإن الفرصة متاحة لبروز نخب قيادية جديدة، تؤمن بالعمل الجماعي، وتقدم المصلحة العامة على المنافع الشخصية، وتكون قادرة على اتخاذ قرارات صعبة وشجاعة في سبيل النهوض بالبلاد.
الاستثمار في رأس المال البشري:
أدركت سنغافورة مبكرًا أن العقل البشري هو الثروة الحقيقية لأي مجتمع يسعى إلى النهوض؛ فسخَّرت الإمكانات المتاحة لتطوير العنصر البشري، وبناء منظومة تعليمية قوية تنافس أفضل النظم العالمية، إن ما يميز العمارات الشاهقة في سنغافورة ليس فقط ارتفاعها، بل العقول العملاقة التي صممتها وأدارتها.
يقول الدكتور “تونغ يونغ فونغ” وهو مفكر سنغافوري بارز: “بدأنا ببناء العقول قبل بناء المباني، وزرع القيم قبل زرع الحدائق”، وقد تمثل ذلك في تخصيص 20% من الميزانية السنوية للتعليم، وإعطاء الأولوية المطلقة لاستقطاب أفضل الكوادر للعمل في مجال التدريس، مع توفير بيئة محفزة للإبداع والابتكار.
وفي سوريا يشكو التعليم من جراحات عميقة خلفتها الحرب وما سبقها من سنوات الإهمال والإفساد والتسييس الخاطئ، إن إعادة بناء المنظومة التعليمية يجب أن تكون أولوية قصوى في أي مشروع للنهوض بالبلاد، فالمدارس المدمرة يمكن إعادة بنائها، والمناهج المتهالكة يمكن تطويرها، أما العقول التي تتشكل في ظلام الجهل وغياب الرؤية فإنها تمثل خسارة لا تُعوَّض.
الحوكمة الرشيدة ومحاربة الفساد:
لعل أحد أهم الدروس المستفادة من التجربة السنغافورية هو أن الحوكمة الرشيدة تمثل حجر الأساس في أي مشروع نهضوي، فقد حاربت سنغافورة الفساد بضراوة لا هوادة فيها، وأسست آليات صارمة للرقابة والمساءلة، وأرست قواعد الشفافية في جميع تعاملات الدولة.
من أبرز ملامح هذه المكافحة: تأسيس “مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد” عام 1952م، والذي مُنح صلاحيات واسعة واستقلالية كاملة، وقد وصل الأمر إلى اعتقال ومحاكمة وزراء ومسؤولين كبار بتهم الفساد، دون النظر إلى مكانتهم الاجتماعية أو صلاتهم السياسية.
وفي سوريا يمثل الفساد أحد أكبر التحديات التي تقف أمام أي مشروع نهضوي، فقد تغلغل في بنية الدولة ومؤسساتها لعقود طويلة، وكان أساسًا في تعامل الدولة ورجالاتها، وفُرض حتى أصبح جزءًا من الثقافة السائدة، ولا يمكن تحقيق أي تقدم حقيقي دون استئصال هذا الداء من جذوره، وبناء مؤسسات قوية تقوم على أسس الشفافية والمساءلة وسيادة القانون.
أمام سوريا فرصة كبيرة للنهوض من خلال قيادة تمتلك رؤية حضارية مشرقة تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة، وتضع نصب عينيها مصلحة الوطن العليا، والاستثمار في رأس المال البشري من خلال إعادة بناء المنظومة التعليمية وإعطائها الأولوية القصوى
التنمية الاقتصادية المتوازنة:
عندما أعلنت سنغافورة استقلالها عام 1965م، كانت إحدى أفقر دول العالم؛ إذ كان معدل دخل الفرد لا يتجاوز 500 دولار سنويًا، واليوم أصبحت من أغنى دول العالم؛ إذ يتجاوز متوسط دخل الفرد فيها 60 ألف دولار سنويًا.
كما اعتمدت سنغافورة نهجًا اقتصاديًا فريدًا؛ فقد اتبعت سياسة الانفتاح على الأسواق العالمية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتوفير بيئة أعمال مستقرة وجاذبة، مع تنويع اقتصادي ذكي ينتقل من صناعات كثيفة العمالة إلى صناعات قائمة على المعرفة والتكنولوجيا. وفي الوقت نفسه لم تترك الدولة مواطنيها فريسة لقوانين السوق القاسية؛ فقد طورت أنظمة متقدمة للضمان الاجتماعي، وشيدت مساكن عامة ذات جودة عالية يسكنها أكثر من 80% من السكان، وطورت نظامًا صحيًا عالي الكفاءة والجودة.
وفي سوريا يواجه الاقتصاد تحديات هائلة؛ منها: تدمير البنية التحتية، وتراجع الإنتاج في مختلف القطاعات، وتدهور قيمة العملة، وتفشي البطالة، وهجرة رؤوس الأموال والكفاءات، مع وجود فرص كبيرة وواعدة، من إصرار الشعب على الإصلاح والخروج من الوضع الحالي، وتاريخ عريق ضارب في القدم، توافق ذلك مع رغبة دولية في رفع العقوبات وتشجيع إعادة الإعمار، وتؤكد التجربة السنغافورية أن الوضع الصعب ليس قدرًا محتومًا، بل يمكن تجاوزه بسياسات اقتصادية حكيمة تجمع بين الانفتاح على الأسواق العالمية والعدالة الاجتماعية، وبين تشجيع القطاع الخاص ودور الدولة الرقابي والتنظيمي.
التقدير الواقعي للموقع الجغرافي والتوازنات الدولية:
أدركت سنغافورة منذ البداية أهمية موقعها الجغرافي على خريطة العالم، واستثمرت ذلك بذكاء بالغ، وقد كان “لي كوان يو” واقعيًا في تعامله مع التحالفات الدولية؛ فلم يكن يعادي أحدًا من أجل العداء، ولم يكن يصادق أحدًا من أجل الصداقة، بل كان يتخذ مواقفه بناءً على المصلحة الوطنية العليا.
يقول في مذكراته: “عندما تكون صغيرًا وضعيفًا لا تستطيع أن تغيّر العالم، لكنك تستطيع أن تتكيّف معه بذكاء”، وقد حافظت سنغافورة على علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة والصين في الوقت نفسه، ونجحت في تحويل موقعها الجغرافي من نقطة ضعف (صغر المساحة وقلة الموارد) إلى نقطة قوة (مركز تجاري ومالي عالمي).
ويكتسب هذا الدرس أهمية خاصة بالنسبة لسوريا التي تقع في منطقة جغرافية بالغة الحساسية والتعقيد، وتتقاطع فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية، فإعادة البناء تتطلب تقديرًا واقعيًا لهذه التوازنات، وتعاملاً ذكيًا مع مختلف الأطراف بما يخدم المصلحة الوطنية، بعيدًا عن الشعارات الفضفاضة والمواقف الأيديولوجية المتشنجة.
يمثّل الفساد أحد أكبر التحديات التي تقف أمام نهضة سوريا، ويواجه الاقتصاد تحديات هائلة نتيجة دمار البنية التحتية وتراجع الإنتاج وتدهور العملة وهجرة رؤوس الأموال والكفاءات، لكن أمامها فرصة كبيرة للنهوض من خلال محاربة الفساد، واستغلال موقعها الجغرافي، والتوازن في التعامل مع مختلف الأطراف بحكمة وبصيرة
بناء الهوية الوطنية الجامعة:
تميزت سنغافورة بتنوعها العرقي والثقافي والديني؛ إذ يتكون مجتمعها من مزيج من الصينيين والملايويين والهنود وغيرهم، وكان التحدي الأكبر الذي واجههم هو كيفية بناء هوية وطنية جامعة في ظل هذا التنوع.
اعتمدت سنغافورة سياسة “تعددية متساوية”؛ فلم تفرض ثقافة أغلبية على أقلية، ولم تخضع لمطالب مجموعة عرقية أو دينية على حساب غيرها، بل أقرّت بالتنوع واعتبرته مصدر قوة لا ضعف، واعتمدت أربع لغات رسمية (الإنجليزية والماندرين والملايوية والتاميلية)، مع جعل الإنجليزية لغة التعليم والإدارة؛ لأنها محايدة ثقافيًا وتسهّل الاندماج في الاقتصاد العالمي.
كما عملت على تعزيز قيم المواطنة والتسامح والاحترام المتبادل من خلال المناهج التعليمية والبرامج الثقافية، وسنّت قوانين صارمة تجرّم خطاب الكراهية والتحريض ضد أي مجموعة عرقية أو دينية.
أما سوريا فهي تنتمي لإرث حضاري متقدم للغاية في التعايش بين المكونات المتنوعة، والعدل بينها، دون أن يزري ذلك بأي مكون أو يسلبه حقه، وقد حان الوقت لعودة هذه البصمة الحضارية، وآن الأوان لتجاوز حقبة مظلمة من التمييز والتفرقة، بعيدًا عن المحاصصات الطائفية والانتماءات الضيقة.
لقد صاغ الإسلام منذ فجره صيغة متقدمة للمواطنة داخل مفهوم الأمة، يشعر فيه الجميع بانتمائهم، وبقدرتهم على نيل حقوقهم، في ثلاثية قيمية تدور بين الحرية والعدل والرحمة، وكما أن الانتصار في سوريا على النظام البائد يعزز بناء السلم الأهلي والتعايش المجتمعي، فكذلك تلمس الإرث الحضاري للشام وأهلها وهوية أبنائها سيكون بمثابة ضمانة حقيقية لهذا التعايش، وهو ما أكدت عليه كافة القوى السورية، ومن ذلك ما جاء في وثيقة المبادئ الخمسة التي أطلقها المجلس الإسلامي السوري: “المبدأ الرابع: الحفاظ على وحدة سوريا أرضًا وشعبًا واستقلالها وسيادتها وهوية شعبها. والمبدأ الخامس: رفض المحاصصة السياسية والطائفية”.
تنتمي سوريا لإرث حضاري متقدم للغاية في التعايش بين المكونات المتنوعة، والعدل بينها، دون أن يزري ذلك بأيّ مكون أو يسلبه حقه، وقد حان الوقت لعودة هذه البصمة الحضارية، وآن الأوان لتجاوز حقبة مظلمة من التمييز والتفرقة، بعيدًا عن المحاصصات الطائفية والانتماءات الضيقة
ثقافة الإنجاز والانضباط:
لم تكتفِ سنغافورة بتأسيس أطر قانونية ومؤسسية للنهوض، بل عملت على تكوين ثقافة مجتمعية تُعلي من قيم العمل والإنجاز والانضباط، وقد نجحت في غرس قيم إيجابية في المجتمع، مثل:
- المسؤولية الفردية: كان شعار “لي كوان يو” دائمًا: “لن نكون مجتمعًا من المتسولين الذين ينتظرون الإعانات”، وكان يؤمن بأن على كل فرد أن يبذل قصارى جهده لتحسين ظروفه.
- الجدارة والاستحقاق: رفضت سنغافورة مبدأ المحاباة والمحسوبية، وأصبحت الكفاءة هي المعيار الأساسي للتقدم في السلم الوظيفي والاجتماعي.
- الانضباط واحترام القانون: وضعت سنغافورة قوانين صارمة للمحافظة على النظام العام والنظافة والسلامة، وطبّقتها بحزم على الجميع دون استثناء.
ولا شك أن تكوين ثقافة مجتمعية إيجابية في سوريا سيكون عاملاً حاسمًا في نجاح أي مشروع نهضوي، فمن الضروري تعزيز قيم العمل والإنتاج واحترام القانون والتعايش السلمي، ومحاربة ثقافة الاتكالية والفساد والمحسوبية التي تفشت خلال العقود الماضية.
التخطيط طويل المدى والمرونة في التنفيذ:
تميزت سنغافورة بقدرتها على وضع خطط إستراتيجية طويلة المدى، مع مرونة في التنفيذ تسمح بالتكيف مع المتغيرات المتسارعة، وقد أنشأت “مجلس التخطيط الوطني” الذي يضع خططًا خمسية وعشرية، ويراجعها بصورة دورية لضمان ملاءمتها للمستجدات.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك: التدرج في التنمية الصناعية؛ فقد بدأت سنغافورة بصناعات كثيفة العمالة (مثل المنسوجات والإلكترونيات البسيطة) في الستينيات؛ ثم انتقلت إلى صناعات ذات قيمة مضافة أعلى (مثل بناء السفن والبتروكيماويات) في السبعينيات؛ ثم ركزت على خدمات تكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية في الثمانينيات؛ وأخيرًا أصبحت مركزًا عالميًا للبحث والتطوير والابتكار في العقود الأخيرة.
وفي سوريا تبرز أهمية وضع خطة وطنية شاملة لإعادة الإعمار، تتجاوز التفكير قصير المدى والحلول المؤقتة، وتضع أسسًا متينة لنهضة حقيقية ومستدامة، ولا بد أن تكون هذه الخطة واقعية وقابلة للتنفيذ، وأن تكون سهلة الاستيعاب من جميع فئات المجتمع التي ستتأثر بها، وأن يتم نشرها والإعلان عنها لكي تتبناها جميع عناصر المجتمع السوري: الأفراد والمؤسسات، تأخذ في الاعتبار الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وتسمح بالمرونة والتكيف مع المتغيرات المتسارعة.
الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية:
تُعد سنغافورة نموذجًا عالميًا في الاستثمار الذكي في التكنولوجيا والبنية التحتية، فقد أطلقت مشروع “الجزيرة الذكية” في التسعينيات، وكانت من أوائل الدول التي طبقت مفهوم “الحكومة الإلكترونية”، واستثمرت بكثافة في شبكات الاتصالات والإنترنت فائق السرعة.
وفي مجال النقل طورت نظامًا متكاملاً يشمل شبكة مترو أنفاق حديثة، ونظام حافلات متطورًا، ومطارًا دوليًا يُعد من أفضل مطارات العالم، وميناءً بحريًا رائدًا، كما حققت اكتفاءً ذاتيًا في مجال المياه على الرغم من ندرتها، من خلال الاستثمار في تقنيات تحلية مياه البحر وإعادة تدوير المياه المستعملة.
ولا شك أن إعادة بناء البنية التحتية المدمرة في سوريا تمثل تحديًا هائلاً، لكنها أيضًا فرصة لتأسيس بنية تحتية عصرية ومستدامة، ويمكن الاستفادة من التجربة السنغافورية في هذا المجال، خصوصًا في توظيف التكنولوجيا لتحسين أداء المؤسسات العامة، وتطوير النقل العام، وإيجاد حلول مبتكرة لمشكلات المياه والطاقة.
من الجوانب الملهمة لسوريا في التجربة السنغافورية: العمل على تكوين ثقافة مجتمعية إيجابية، وتعزيز قيم العمل والإنتاج واحترام القانون والتعايش السلمي، وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة في سوريا بطريقة عصرية ومستدامة، مع الاستثمار الذكي في التكنولوجيا، وتطبيق مفهوم “الحكومة الإلكترونية”، والاستثمار بكثافة في شبكات الاتصالات والإنترنت فائق السرعة.
البعد البيئي والاستدامة:
على الرغم من كونها دولة صناعية وتجارية متقدمة، فقد حرصت سنغافورة على المحافظة على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، وأطلقت على نفسها لقب (Singapore – A City in a Garden) أي: سنغافورة- مدينة في حديقة، وهي تعكس الرؤية التي تتبناها في التخطيط الحضري؛ حيث تسعى لدمج الطبيعة والمساحات الخضراء ضمن النسيج العمراني للمدينة، بحيث تتحول المدينة بأكملها إلى جزء من حديقة كبرى وتحافظ على التنوع البيولوجي.
وفي مجال الطاقة تُعد سنغافورة من أوائل الدول التي طبقت ضريبة على الكربون، واستثمرت بكثافة في مصادر الطاقة المتجددة، خصوصًا الطاقة الشمسية، كما طورت نظامًا متقدمًا لإدارة النفايات وإعادة التدوير.
وفي سوريا يمكن محاكاة التجربة في إعادة البناء وفق معايير بيئية مستدامة، والاستثمار في الطاقة المتجددة التي تمتلك سوريا إمكانات هائلة فيها (خصوصًا الطاقة الشمسية)، وتطوير زراعة مستدامة تحافظ على الموارد المائية المحدودة، وتلبي احتياجات السكان.
الخاتمة – دروس مستفادة وآفاق مستقبلية:
في نهاية هذه الرحلة المثرية في ثنايا التجربة السنغافورية، نقف بإجلال أمام قصة نجاح استثنائية صنعتها إرادة شعب وحكمة قيادة، إنها قصة تلهمنا وتعلمنا أن النهوض من تحت الركام ليس مستحيلاً، وأن الانتقال من الفقر إلى الغنى، ومن التخلف إلى التقدم، ومن الفوضى إلى النظام، ليس حلمًا بعيد المنال، بل هو هدف يمكن تحقيقه بالتخطيط السليم والعمل الدؤوب والتضحيات المخلصة.
لقد قدمت سنغافورة نموذجًا فريدًا في التنمية، يجمع بين الحكمة في استثمار الموارد، والبراغماتية في التعامل مع المتغيرات، والمرونة في تبني السياسات، وفي تجاوز التصنيفات الأيديولوجية الجامدة.
وفي سوريا التي تنفض عنها غبار حقبة طويلة من القهر والظلم والحرب، نجد أنفسنا أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء الوطن على أسس متينة، ووضعه على مسار تنموي مستدام، ويمكننا تلخيص أهم الدروس المستفادة من التجربة السنغافورية في النقاط الآتية:
* أولاً: أهمية القيادة الواعية والرؤيوية؛ فالدولة تحتاج إلى قيادة تمتلك الرؤية والإرادة، وتضع مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات.
* ثانيًا: دور المؤسسات القوية والرشيدة؛ فالنظم الديكتاتورية تخلق مؤسسات ضعيفة وخاضعة، ولا بد من إعادة بناء مؤسسات قوية ومستقلة ومحترفة.
* ثالثًا: أهمية الاستثمار في رأس المال البشري؛ فالعقول المبدعة هي أثمن ما تملكه الأمم، وهي ما يصنع الفارق بين الشعوب.
* رابعًا: الحوكمة الرشيدة ومحاربة الفساد؛ فلا يمكن بناء دولة عصرية وقوية في ظل الفساد وانعدام المساءلة.
* خامسًا: الانفتاح على العالم والتعامل الذكي مع المتغيرات الدولية؛ فالانعزال والانكفاء على الذات لا يمكن أن يكون خيارًا في عالم مترابط ومتسارع التغير.
* سادسًا: التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية؛ فالنمو الذي لا يحقق منافع عادلة لجميع أفراد المجتمع لن يكون مستدامًا، ولن يحقق الاستقرار المنشود.
* سابعًا: تعزيز الهوية الوطنية الجامعة والتمسك بمبدأ المواطنة المتساوية؛ فالتنوع ثروة إذا أُحسن استثماره، وقوة الأمم تكمن في وحدتها وتماسكها.
* ثامنًا: بناء ثقافة العمل والإنجاز والانضباط؛ فالنهضة ليست مشروعًا حكوميًا فحسب؛ بل هي مشروع مجتمعي شامل يشترك فيه الجميع.
ولعل هذه الدروس تتكامل مع ما يمكن استلهامه من تجارب دول أخرى عانت من ويلات الحروب ونجحت في تجاوزها، مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ورواندا بعد الإبادة الجماعية.
ومع ذلك لا بد من التأكيد على أن النهوض لا يعني التقليد الأعمى للتجارب الخارجية؛ فلكل مجتمع خصوصيته وظروفه وتحدياته، كما أن النهضة ليست مشروعًا ماديًا بحتًا؛ بل هي مشروع حضاري متكامل يشمل البعد الروحي والأخلاقي والثقافي؛ فالمال وحده لا يصنع أمة، والعمارات الشاهقة وحدها لا تبني إنسانًا.
وهنا تبرز أهمية الهوية العربية الإسلامية كإطار جامع للنهضة المنشودة؛ فهي منبع الأصالة والقيم، وركيزة الانتماء والمقاومة، وضمان الاستمرارية في وجه التحديات، ولعل هذا ما يوازن الاقتباس من التجربة السنغافورية؛ إذ يمكننا الاقتباس من آلياتها وتطبيقاتها، مع الحفاظ على روحنا وقيمنا وهويتنا.
إن الطريق نحو بناء سوريا من تحت الركام طويل وشاق، وسيتطلب تضحيات جسامًا وصبرًا طويلاً، ولكن ما من شك في أن الأمة التي صبرت على الظلم والقهر لعقود طويلة، ودفعت ثمنًا باهظًا من دماء أبنائها وعرقهم ودموعهم من أجل الحرية والكرامة؛ قادرة -بإذن الله- على صناعة نهضتها وبناء مستقبلها.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واهدنا سبل الرشاد والفلاح، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، واجعل بلادنا وبلاد المسلمين آمنة مطمئنة، يعمها العدل والخير والبركة، آمين.
إن الطريق نحو بناء سوريا من تحت الركام طويل وشاق، وسيتطلب تضحيات جسامًا وصبرًا طويلاً، ولكن ما من شك في أن الأمة التي صبرت على الظلم والقهر لعقود طويلة، ودفعت ثمنًا باهظًا من دماء أبنائها وعرقهم ودموعهم من أجل الحرية والكرامة، قادرة -بإذن الله- على صناعة نهضتها وبناء مستقبلها.
د. مصطفى يعقوب
باحث متخصص في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والدراسات القرآنية