في جنح الظلام يتسلل كبراء المشركين (فرادى) يستمعون القرآن من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (فتجمعهم) أزقَّة مكة، فيتعاتبون على ذلك الاستماع، ثم يعاودونه مرارًا، وأخيرًا يتعاهدون على ترك المعاودة قبل أن يشعر بهم نساؤهم وصبيانهم.
وتروي كتب السيرة مواقف صادقة (لأفرادهم) حينما تأسر أحدهم روعة القرآن، فإذا اجتمعوا (جميعًا) غلبهم الموقف الجماعي فتواطؤوا على الباطل، رغم ما حدث لنفوسهم من لين تجاه الحق حينما كانوا (فرادى) أو (مثنى). وما حالُ أبي طالبٍ عند موته ببعيد، حينما كان يُدرك الحقيقة في نفسه، لكنه خضع لرغبة المجموع، فحُرم الهداية.
لهؤلاء ولكل مفتقر إلى هداية كلية أو جزئية جاءت الموعظة بأمر يُقرِّب النفس من الحقيقة بإزالة المشوشات وتهيئة الحال للنظر والتفكير الصحيح العميق الموصل إلى الهداية والصواب في القضايا الكبرى والمصيرية، فقال عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ﴾ [سبأ: ٤٦].
وقد كانت هذه الدعوة القرآنية تربية مبكرة على الخروج من حالة إغلاق العقل والصدود، أو الجدل العقيم، إلى قضية واحدة مركزية محددة، وإخضاعها للتفكير الصادق (الفردي) أو (الثنائي).
دعوة لها صورتان تتساندان وتتكاملان: (مثنى) و(فرادى)، تؤدي إلى إبصار الحقيقة واتباع الحق، وتقوم على عملية اتصال بين عقل الإنسان ونفسه، أو بين عقله وعقل جليسه، دون مقاطعات أو مشوشات.
- (فرادى): كتاب الله زاخر بتوجيه بوصلة الفرد إلى نفسه والعناية بذاته وباطنه، والتفكر في نشأته وخلقه ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾، وفي رزقه وقوته ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ﴾، وفي عمله وكسبه ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾، وفي المآل الذي سيصير إليه ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾، الأمر الذي يستلزم الوقوف مع النفس في الخلوات ومواجهة حيلها وخدعها وتصنعها أمام الناس، وإلزامها السبيل، فكم من متصنع إذا واجه نفسه بدت له حقيقتها الضعيفة الخائفة المفتقرة إلى من يهديها ويدلها على الطريق.
- (مثنى): لأن تذاكر المرء مع غيره أعون على الفهم وعلى فتح آفاق جديدة للعلم والتفكر، والمراد من التفكر مثنى: «دفع عوائق الوصول إلى الحقّ بالنّظر الصّحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوًى ولا شبهةٍ ولا يخشى فيه النّاظر تشنيعًا ولا سمعةً، فإنّ الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوًى وذي شبهةٍ وذي مكرٍ وذي انتفاعٍ، وهؤلاء- بما يلازم نواياهم من الخبث- تصحبهم جرأةٌ لا تترك فيهم وازعًا عن الباطل ولا صدًّا عن الاختلاق والتّحريف للأقوال بعمدٍ أو خطأٍ، ولا حياءً يهذّب من حدّتهم في الخصام والأذى، ثمّ يطيرون بالقالة وأعمال أهل السّفالة.
فللسّلامة من هذه العوائق والتّخلّص من تلك البوائق الصّادّة عن طريق الحقّ قيل هنا: مثنى وفرادى، فإنّ المرء إذا خلا بنفسه عند التّأمّل لم يرض لها بغير النّصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنّما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيًا فسلم كلاهما من غشّ صاحبه»[1].
- (مثنى وفرادى): بوابتان مفتوحتان للمصلحين الجادين لمعالجة الأسئلة الكبرى المتعلقة بواقع الضعف والمدافعة، والنهوض لأجل إقامة الدين واجتناب الفرقة فيه، بعيدًا عن فتنة الكثرة وضجيجها، وصخب وسائل التواصل، وأحاديث المنتديات، وضيق نطاق المجالس والمحافل.
فإذا ما أردنا النهوض والريادة فأهم بداية للطريق: تلك الهمسات الصادقة التي تتردد في جنبات النفس، ومع عقلاء منصفين، لا تأسرهم نظرياتهم، ولا يُعجبون بطروحاتهم، ولا يشغلون الناس بغير ما أشغلهم به الوحي المطهر، يتلمسون أطراف الحقيقة وخيوط النور في نفق التيه.
على أن تكون تلك الأحاديث جادة، تبتغي مرضاة الرحمن وعزَّ الإسلام ونجاة النفوس، لا مكان فيها لرضى الخلق ومحاباتهم، ولا تنظر إلى عز النفوس وتحصيل حطام الدنيا وملذاتها.
هي دعوة إلى تحرير الموقف الشخصي من الأهواء الخفية والظاهرة، لتتهيأ لبلورة القناعات المتجردة، وحمل المسؤولية المبنية عليها. وسيجد حينها المرء باب الطلب من ربه لا يغلق، والمنح الربانية لا تتوقف.
وإن لحظات الصفاء (الفردية) و(الثنائية) التي تتحرك فيها فطرة الإنسان، فتبدو له الحقائق جلية، وتجعله أمام المسؤولية.. لهي الفرصة النادرة لأخذ القرار في قضايا مصيرية ومفصلية دون تأثيرٍ من البيئة المحيطة أو أسرٍ من الرأي السائد أو العادة المتأصلة.
[1] التحرير والتنوير (٢٢/ ٢٣٣).