يتنازع شركاء النصر عادةً نسبة النصر إلى أنفسهم، فكلٌّ يدعيه ليحصل على أكبر قدر من الأنفال، وبالرجوع للقرآن الكريم نجد أنّ الله رفع الأنفال من أيدي المجاهدين وجعلها لله والرسول، فهو سبحانه الذي رمى وقتل وأنزل السكينة. وللمجاهدين نصيب في النصر كلٌّ بحسب جهده، أمّا تولّي المناصب بعد النصر فيستحقّه القوي الأمين القادر على بناء نظام العدل.
روافد النصر المؤزر:
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
انتصرت الثورة السورية انتصارًا مؤزرًا، لم يكن يتوقع تفاصيله العظيمة أحد، فاجأ القاصي والداني، وأدهش العدو والصديق، وعاش النّاس مدة من الفرح الكبير الذي لم تتحمله قلوبهم، ففاضت عيونهم فرحًا، كثير من السوريين عرفوا دموع الفرح لأول مرة، بعد أن ذرفوا طويلاً دموع الأسى، وبعد هدوء مشاعر الفرح بالنصر قليلاً بدأت تظهر عبارات تنسب النصر على الطاغية إلى شخص أو فئة أو فصيل، فمن الذي أسقط النظام؟
إن الخوض في تحديد من أسقط النظام بعد سقوطه عادة يكون غرضه نفعيًا، فالذي أسقطه أحق بثمرة النصر وأجدر، وله أن يتمتع بالغنائم التي خلفها النظام وراءه، والغنائم هنا -في منظور مصالح الدنيا- كبيرة جدًا، إنها الأحقية بإدارة ما خلفه العدو وراءه، علمًا أنها بالمنطق الشرعي أمانة ثقيلة يفر منها من لا يقدر عليها، ويهرب منها من يشفق أن يتضلع بها فيعجز عنها.
إذا كان الإنسان يميل إلى تبسيط الأمور، ونسبة النتيجة إلى سبب واحدٍ، هربًا من تعقيدات تفاعل الأسباب المجتمعة، فإن الواقع يقول: قلّ أن تجد نتيجة من النتائج نجمت عن سبب واحد، وغالبًا ما يرفدها اتحاد مجموعة أسباب تفاعلت معًا وأدى كل سبب دورًا -صغيرًا كان أو كبيرًا- في الوصول إلى تلك النتيجة، واتحاد الأسباب المتباينة للوصول إلى النتيجة الظاهرة أمر نجده في المجتمع والطبيعة، فالورقة في الخريف لا تسقط بفعل الرياح فقط، وإن ظهر للرائي أن نسمة خريفية أسقطت تلك الورقة، إلا أن العوامل الداخلية في تلك الورقة التي أضعفت ارتباطها بأمها الشجرة عواملُ مؤثرة، إذ لولا ضعف ارتباطها لما فعلت بها النسمة فعلها، فإذا كان هذا في ورقة تسقط، فما بالك بنظام عمره أكثر من خمسة عقود، هل سنعزو سبب سقوطه إلى العاصفة الأخيرة التي أسقطته؟
وإذا استقر ذلك فإنه من المتعذر كذلك الإحاطة بكل الأسباب التي أنتجت تلك الفرحة العارمة، فالأسباب الصغيرة والفرعية كثيرة كثرةً عصية على الحصر والتتبع.
تدبير الله في سقوط النظام:
لا شكّ أن فوق كل الأسباب التي أدّت إلى سقوط النظام مسبّب واحد هو الله سبحانه وتعالى الأحد الصمد خالق الأسباب وموجدها وميسّرها.
قد يبدو هذا خروجًا عن مقصود البحث عمن أسقط النظام، فقد سبق أن الناس تتنازع في الإجابة عن هذا السؤال لتنازعهم في تقسيم الغنائم أو لاختلاف زاوية نظر كل منهم، لكن المنطق الشرعي في معالجة التنازع على الغنائم ورد في القرآن بهذه الطريقة، بطريقة إرجاع الأمر إلى مصدره الأساسي، بطريق ذكر السبب الوحيد الذي لا ثاني له.
عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا). قال: فتقدم الفِتيان ولزم المشيخةُ الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قال المشيخة: كنا ردءًا لكم، لو انهزمتم فئتم إلينا، فلا تذهبون بالمغنم ونبقى، فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فأنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال: 1] إلى قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ [الأنفال: 5] يقول: فكان ذلك خيرًا لهم، فكذلك أيضًا فأطيعوني، فإني أعلم بعاقبة هذا منكم»[1].
فتأمّل كيف وقع النزاع بين المجاهدين في الأنفال يوم بدر، ولكلّ فريق من المتنازعين رأيه ووجهة نظره، ولكلّ منهم جهده في المعركة وإحقاق النصر؛ فكان الحكم من الله تعالى جليًا واضحًا ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ…﴾ فإذا كان الذي قتل هو الله، والذي رمى هو الله؛ فالذي يفصل في الأنفال هو الله سبحانه.
فنّدت الآيات هذا الجانب فنفت أن يكون القتل تم من طرفهم، ونصّت على أن الرماية رماية الله ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17].
فإذا كان الذي قتل هو الله، والذي رمى هو الله، فالذي يفصل في الأنفال هو الله.
ونسبة القتل والرمي إلى الله لا يراد بها إنزال الملائكة لتقاتل مع المؤمنين فحسب، كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 123 إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ 124 بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ 125 وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 123-126]، بل هي شاملة أيضًا لما قام به الصحابة من تضحيات هداهم إليها وأعانهم عليها الله سبحانه وتعالى، وأعطاهم الدافع للقيام بها عندما أوحى إلى نبيّه r أنّ من يقاتل في سبيل الله فيقتل فله الجنّة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (نعم). قال: بخٍ بخٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟). قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: (فإنك من أهلها)… ثم قاتلهم حتى قتُل[2].
وفي الأحزاب وبني قريظة قال: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا 25 وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا 26 وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 25-27].
وبما أننا في حالة تشبه حالة فتح مكة والعودة إليها بعد طول تهجير فلننظر كذلك في سورة الفتح؛ إنّ استقراء سورة الفتح يؤكّد على نسبة النّصر إلى الله سبحانه وتعالى، فالذي فتح الفتح المبين هو الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1].
وفي بيعة الرضوان التي سبقت هذا الفتح قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]، والمعنى: قوّة الله فوق قوّتهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهو سبحانه وتعالى الذي أنزل السّكينة بعد هذه البيعة: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18].
وهو سبحانه وتعالى الذي كفى المؤمنين المبايعين شر الكفار وقتالهم: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الفتح: 24]. وهو سبحانه الذي هدى ويسّر صلح الحديبية الذي كان مقدّمة لفتح مكة، وسمّاه فتحًا أيضًا، ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27].
ومن آثار لطف الله ورحمته في تأخر النصر في سوريا أن أخره حتى انفض عن الثورة القريب والبعيد، ووصل الناس إلى الاستيئاس، وكأننا نجد في واقعنا مصداق الآية: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
فنحن أمام كلّ نصر مدينون لله، أنْ وعد من يضحي بموعودات وجوائز عظيمة، فيقبل الناس على التضحية إزاء تلك الوعود، ثم نحن مدينون لكل من نقل إلينا تلك الوعود، والتزم بتطبيقها إيمانًا وتصديقًا، فانطلق الناس من ورائه مؤمنين مصدقين، وهذا الوصف ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة الكرام y الذين قادوا الفتوحات في أرجاء الدنيا وبخاصة في أرض الشام، وعلى كل من سار على دربهم، وصولاً إلى أقرب الأسلاف الذين تظهر آثار تضحياتهم للملأ، وهم الذين أداروا الثورة الأولى ضد نظام الإجرام في ثمانينات القرن الماضي، فقصص تضحياتهم محفوظة ماثلة، ووثبتهم وإن لم تبلغ بهم الغلبة في الدنيا إلا أنها أثبتت لهم شرفًا وأولية لا يجدر أن يتم تجاوزها
شرف الوثبة أن ترضي العلا *** غلب الواثب أم لم يغلب
نحن أمام كلّ نصر مدينون لله، أنْ وعد من يضحي بموعودات وجوائز عظيمة، فيقبل الناس على التضحية إزاء تلك الوعود
إنما السيل اجتماع النقط:
نشأ كثير من ثوار اليوم على قصص تضحيات كانت قبل ثلاثين وأربعين سنة، والمثال القريب مؤثر في النفس، بل إنك إن تأملت في كوادر الثورة ستجد فيها رجالاً ممن شهدوا المشهدين[3].
ضحّى المؤمنون الذين أحرقوا في الأخدود بأنفسهم ولم ينتصروا على مَن ظلمهم في الدنيا، لكنّ الله تعالى حفظ لنا تضحياتهم، وجعلها جولة في معركة مستمرّة مع الباطل إلى يوم الدين، وخلّد ذكرهم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ [البروج: 4]، وكذلك تضحيات المجاهدين في ثمانينيات القرن الماضي نُقلت وأثّرت وكان لها دور في الجولة التالية.
والسجون كلمة مفتاحية تفسر حجم التضحيات وشدتها، فالنظام المجرم كان يمعن في القتل تارة، ويمعن في إيقاع الظلم على الأسرى يريد -بزعمه- أن يجعلهم عبرة لمن وراءهم، ولم يعلم أنه بذلك يذكي حربًا قادمة أو قائمة، وعندنا عبارة متداولة تقول: “نامت أم الشهيد ولم تنم أم الأسير” فأم الشهيد تقريبًا أغلق لديها الملف، ويئست من لقاء ابنها في هذه الدار، بقيت أطياف الكرى، تأتي خفيفة وتغادر لطيفة لا يشعر بها أقرب الناس، وبقيت آمال اللقاء في الآخرة، حيث تفوح رائحة المسك من الشهيد في المحشر، أما أم الأسير فلن تفتأ تحلم به، وكذا إخوانه المجاهدون سيحركون الجيش، ويخوضون المعارك استنقاذًا له[4].
ساحات الربيع العربي وهتافات تطالب الطغاة والمستبدين بالتنحي سبقت انطلاق الثورة في سوريا ساهمت في انطلاق شرارة الثورة في سوريا الحبيبة، وإذا كان للتضحيات القديمة دور في وصول الرسالة إلينا فإن التضحيات المعاصرة التي نقلتها شاشات التلفاز دور أبرز وأوضح، خصوصًا وأنها أثمرت انتصارات سريعة، أسفرت عن رحيل بعض الزعماء الظلمة، فالسوري إذ يرى أخاه العربي تحمل خطرًا جسيمًا ونزل إلى الساحات وطالب بإسقاط النظام فسقط رأسه وتنحى رئيسه سيمنّي نفسه بلا شك بنتائج مشابهة، هل سيصبر أن يرى احتفالات ميادين التحرير في البلدان العربية، ونشوة النصر تملأ الوجوه وتغمر القلوب هناك ثم لا يسعى لنفسه بمثيلها؟
إن ما سبق سرده قبل وصول الشرارة إلى سوريا أسباب غير مباشرة هيأت الجو لانطلاق التضحيات الجسيمة في سوريا، أما صرخات المتظاهرين في سوريا فهي بداية الأسباب المباشرة، وهي أولى الفؤوس التي بدأت تضرب في الشجرة الخبيثة.
كل صرخة في مظاهرة هي فعل ثوري مباشر ساهم في إسقاط النظام، فتأمل ما أكثر من أسقط النظام، تأمل المليونيات في الساحة العامة للمدن الكبرى، وانظر إلى نقاط التظاهر المتفرقة في القرى السورية النائية، إذ في بداية الثورة انتشر مصطلح نقاط التظاهر، للدلالة على انتشار الثورة في الأرياف والقرى، فالأرياف بنقاطها والمدن الكبرى بآلافها وملايينها كانت فعلاً مباشرًا ساهم في إسقاط النظام[5].
وكل ثائر خرج بلثامه إلى الجدران يخط عليها عبارات الحرية شريك في إسقاط نظام الإجرام، وما أكثر الجدران التي تزين بعبارات الحرية، وكل منشور كتب على وسائل التواصل، وكل يد حملت آلة تصوير نقلت إلى الناس مطالب المتظاهرين وأصواتهم يد مباركة ثائرة، إذ كيف للناس في إدلب أن تعرف بما خطته الأيدي المتوضئة على جدران دير الزور لولا آلة التصوير التي صورت، والقناة الفضائية التي نشرت، وكيف للناس في حمص أن يسمعوا هتافات مظاهرات حماة لولا الجناح الإعلامي المضحي في هذه الثورة[6].
كما يجب علينا ألا ننسى دور العاملين في القطاع الطبي في الثورة، والخطر العظيم الذي احتملوه لمعالجة مصابي المظاهرات، ولمعرفة مدى الخطر علينا أن نتذكر ما الذي كان يفعله النظام بمن وجد لديه أدوات طبية تستعمل لعلاج المتظاهرين، لقد كان ينزل بهم أقصى أنواع التعذيب ليرهب من وراءهم، شأنهم في ذلك شأن الإعلاميين، وطلبة العلم الشرعي الذين وقفوا في وجه الطاغية[7].
لم تكن عقوبة المتظاهر في سجون النظام بدرجة عقوبة الداعية والإمام الذي وقف على المنبر يسرد الآيات والأحاديث وقصص الشجاعة الملهمة للناس حتى يتشجعوا على الخروج، لقد كان دور خطيب الجمعة محوريًا في ثورتنا؛ فنحن نعلم أن المظاهرات في المرحلة الأولى من الثورة كانت أيام الجمعات، فهذا مسجد الحسن في دمشق يقف خطيبه بكل شجاعة ليجابه النظام المجرم، وتنطلق المظاهرات بعد ذلك بمنتهى الحماس والإقدام، ومثل هذا حصل في آلاف المساجد وفي كل جمعة[8].
كل هذه الأفعال الثورية ونحن بعد لم نخرج من سنتنا الأولى، أفعال ثورية سلمية تنطوي على أخطار لا يعلمها إلا الله، فكيف يمكن حصر الذين شاركوا في إسقاط النظام، ولم تنطلق بعد ضده رصاصة.
كل صرخة في مظاهرة هي فعل ثوري ساهم في إسقاط النظام
لا تخفى على أحد الوحشية التي جابه بها النظام المجرم الفعل الثوري السلمي، ما أنتج أنواعًا جديدة من الفعل الثوري تحتاج إلى مزيد شجاعة، إنها الانشقاق عن جيش النظام، حيث القبضة الأمنية القوية، ففي قطعات الجيش لا يكاد المرء يجرؤ أن يحدث نفسه بالانشقاق فضلاً عن أن يحدث إخوانه، لكن مع ذلك أظهر الثوار في الجيش شجاعة منقطعة النظير تغلبت على قبضة النظام الدموي فانعتقوا منه، وحملوا على عاتقهم حماية المتظاهرين، وبدأ العمل الثوري المسلح[9].
تشكلت الفصائل، واندفع الشباب إلى التطوع لحمل السلاح فيها لتحرير بلدهم، وتوالى تحرير القرى والمدن حتى تم تحرير ثلاثة أرباع البلاد، أليس لهذا التحرير علاقة بالتحرير الأخير؟ ألم يمهّد له ويجعله ممكنًا، لقد ساهم بصورة مباشرة في إسقاط النظام، بل إنه أسقط النظام على الحقيقة، لكن النظام سارع إلى القوى الإقليمية فأمدوه بحبل من المليشيات الشيعية فلم يقو الحبل على إنقاذه، فهرع إلى روسيا فأضافت قوتها الجوية وخبراتها ومليشياتها إلى ما سبق مما أدى إلى انكفاء سيطرة الثوار إلى شريط ضيق على الحدود التركية، وظهر النظام للناس منتصرًا لكنه على الحقيقة كان مشلولاً متكئًا على عكازين، عكاز إيراني وعكاز روسي، فالذي أحوجه إلى العكازين هو الذي أسقطه على الحقيقة.
واحتياجه إلى الدولتين معًا جعله أمام استحقاقات أودت به في النهاية من أبرزها مسألة التطبيع مع تركيا، إذ ترفض إيران هذا المسار وتريده روسيا، وبهذا نصير أمام نظام متهالك حقيقة متماسك ظاهرًا فيه شركاء متشاكسون، كل منهم له رغباته ومصالحه، واختلاف الشريكين جاء بعد انشغالهما بحروب خارج سوريا أنهكتهما، فروسيا انشغلت بحرب أوكرانيا، وإيران تعرضت لقصقصة أذرع عنيفة فضعفت العصوان اللتان يتكئ عليهما النظام واختلفتا، وظل أمام الناس يلقي الخطابات وكأنه يقف بنفسه، حتى كانت المعركة الأخيرة التي أظهرت أنه شجرة نخرة تتنظر من يدفعها حتى تقع[10].
إن كل صيحة في ميدان وكل كتابة على جدار وكل خطبة على منبر وكل مرهم دهن على جرح متظاهر وكل عدسة نقلت خبرًا ثوريًا، وكل سلة إغاثة تم توزيعها، وكل فتوى وجهت عمل الثائر وضبطت بندقية المجاهد، وكل جهد سياسي وحقوقي بذله الناشطون، وكل رصاصة أطلقت على النظام ساهمت في احتياج النظام إلى الشريكين الأبرز كل ذلك أسقط النظام، كلها قطرات صغيرة اجتمعت فشكلت جداول، واجتمعت الجداول فشكلت نهر الثورة الجارف الذي ألجأ النظام إلى أعداء الثورة.
عوائق أخَّرت السقوط:
وقبل الوصول إلى المعركة الأخيرة ودورها البارز في إسقاط النظام المتهالك يجدر بنا أن نجيب عن سؤال آخر: هل من أبناء الثورة من أخر سقوط النظام؟ صحيح أن معظم أبناء الثورة قدموا أفعالاً ثورية ساهمت في إسقاط النظام، إلا أن بعض المنسوبين إلى الثورة المحسوبين عليها أخروا إسقاط النظام، عندما ارتكبوا أفعالاً تصب في مصلحته وتعاكس جهة محصلة القوى الثورية، فالقتال البيني وتفرق الكلمة، وتصديق إشاعات العدو ونقلها، والسرقة من أموال الإغاثة، وإعلان انتهاء الثورة وهروب الثائر خارج ميادين الثورة حتى من ميادين وسائل التواصل، وربط الجهاد في سوريا بالجهاد العالمي مما جرّ على الثورة نقمة دول غربية عديدة؛ كل هذه أفعال أخرت سقوط النظام -على تفاوت فيها، فهي وإن سردت في سياق واحد إلا أنها متباينة الخطر كل التباين- فالثائر الواحد قد يجتمع فيه الفعلان الفعل الثوري والفعل المضاد، وذلك أن النفس البشرية ألهمت فجورها وتقواها، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]، والمؤمن يخرق ثوب الإيمان بالمعاصي ويرقعه بالاستغفار، وتقييم المرء يكون بمحصلة أفعاله، فمن الظلم أن نقف عند أخطائه وعثراته التي أخرت سقوط النظام فنجعلها تحت المجهر، ونكررها كلما ذكر اسمه، كما أن من الخطأ تقديس الأشخاص الذين جمعوا بين الفعل الثوري ومضاده حتى يظن السامع أننا نتحدث عن ملَك من الملائكة، فالعدل والتوسط خير الأمور، ثم إذا تحصل أن شخصًا ما فعله الثوري غلب فعله المضاد فعلينا أن ننصره دون تقديس، إذ هو في المحصلة ثائر.
فإذا ما وصلنا إلى آخر حملة ثورية أودت بالشجرة النخرة، تلك المعركة المباركة، فالكلام في وصفها قليل، ويكفي أنها أتت حيث لم يتوقع القريب والبعيد، وما زال السوريون يؤكدون أنها أقرب للأحلام منها للواقع، فإذا تحققت أحلامنا بهذه الحملة فما أعظمها من حملة، وما أحبها إلى قلوبنا، لكنَّ الخطأ كل الخطأ أن نجعلها الفعل الثوري الوحيد الذي أسقط النظام، وكذلك من أعظم الظلم أن نجعلها مجرد معركة من المعارك، لا بل هي معركة فاصلة تضيف رصيدًا ثوريًا كبيرًا لمن قاداها ولكل من شارك فيها[11].
صحيح أن معظم أبناء الثورة قدموا أفعالاً ثورية ساهمت في إسقاط النظام، إلا أن بعض المحسوبين عليها أخروا إسقاط النظام، عندما ارتكبوا أفعالاً تعاكس جهة محصلة القوى الثورية، فالقتال البيني وتفرق الكلمة والسرقة، وربط الجهاد في سوريا بالجهاد العالمي جرّ على الثورة نقمة دول غربية عديدة، كل هذه أفعال أخرت سقوط النظام
لماذا نستعرض الأفعال الثورية ونقيضها وقد انتصرت الثورة؟ هل هذا أوان المحاسبة؟
إن استحضار الأفعال التي أخرت سقوط النظام في هذه المرحلة مهم من حيث إن الثورة أنجزت قسمًا مهمًا من وظيفتها وهو إسقاط نظام الإجرام، لكنها أمام وظيفة لا تقل خطورة وهي بناء نظام العدالة البديل، فإذا كان الثائر سيدخل هذه المرحلة بأخطائه الماضية فهذا نذير خطر وتأخر في البناء، بل ربما لا قدر الله عودة النظام السابق من خلال ثورة مضادة وما شأن مصر عنا ببعيد.
وإذا كنا عددنا في أسباب تأخر سقوط النظام تناقل الشائعات وتصديقها فنحن اليوم بحاجة للحذر في هذا الجانب، وكذلك السرقات والانهزامية والاختلاف البيني والتغول على القوى الثورية الأخرى وحرمانها من المشاركة في مرحلة البناء، كل هذه ذنوب قديمة تُوجد الآن نذرٌ بتجددها.
أوَضعتم السلاح؟
لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق إلى المدينة، لم يكن إلا أن وضع سلاحه، فجاءه جبريل، فقال: أوضعت السلاح؟ والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها! فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة، ورسول الله r على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار، وقال لأصحابه يومئذ: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة[12].
أمامنا ألف قريظة تنتظرنا: هل سيتفانى المعلمون في تنشئة الأجيال على القيم التي ندين بها بدلاً من القيم التي كان يغرسها النظام المجرم؟ هل ستتحرر منابر الجمعة من تقديس الأشخاص فتصير إلى تقديس الأفكار التي جاء بها ديننا الحنيف؟ هل ستتجاوز مؤسساتنا المحسوبية والرشاوى التي كانت تنخر مؤسساتٍ كان يديرها النظام المجرم؟ ألف هل وهل يمكن أن تطرح ها هنا، فليصغ كلٌّ السؤال الذي يتناسب مع الموقع الذي أقامه الله فيه، أهلك ربنا عدونا فله الحمد والمنة، واستخلفنا في الأرض فله الحمد والمنة، فهل سنري الله من أنفسنا خيرًا؟ فهو القائل سبحانه ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129].
ليست المناصب غنيمة يتقاسمها المنتصرون، بل هي مسؤولية عظيمة في مرحلة حرجة، فلنراعِ أمر الله في المرحلة التالية مرحلة البناء فنستكفي بالقوي الأمين
ختامًا:
إن استعراض الأفعال الثورية التي ساهمت في إسقاط النظام، واستعراض الأفعال التي أخرت سقوطه ليس له علاقة باستحقاق الحكم والتحكم في الفترة التي تلي سقوط النظام، فربما كان الثائر جديرًا في العمل الثوري الموجه إلى هدم نظام الإجرام لكنه لا يملك نفس الجدارة في العمل الموجه إلى بناء النظام البديل، فالبناء الذي تعرض للتصدعات عقيب الزلزال يحتاج إلى خبرات معينة لإزالته، وبعد إزالته نحتاج إلى خبرات مختلفة تمامًا لبناء البديل، أما أن نصرَّ على تولية من أزاله مسؤولية بناء بديله ففيه تكلف.
نعم لا بد من مرحلة انتقالية تتولى فيها القوى التي أسقطت النظام زمام الأمور، وتمهّد للمرحلة التالية وتسلّمها للكفاءات المناسبة.
ليست المناصب غنيمة يتقاسمها المنتصرون، بل هي مسؤولية عظيمة في مرحلة حرجة، مسؤولية عند الله يوم القيامة، ومسؤولية أمام الملايين الذين ينتظرون ليحاكموا فكرة الثورة بأكملها انطلاقًا من نتائجها، وفي عود على بدء: إذا كان الناصر هو الله، وإذا كان النصر فقط من عند الله، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126] وإذا كان الذي قتل هو الله، والذي رمى هو الله، فالفضل لله وحده، فلنراع أمر الله في المرحلة التالية مرحلة البناء فنستكفي بالقوي الأمين ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26].
الجدير بالثائرين المنتصرين أن يبذلوا أقصى الجهود لاستكمال النصر الذي تحقق جزء كبير منه، لقد كسبنا جولة كبيرة في معركة متطاولة، فهل سنكسب الجولات القادمة؟
عبد المجيد بدوي
[1] أخرجه أبو داود (2737).
[2] أخرجه مسلم (1901).
[3] مجزرة حماة https://aja.ws/yfiisx
[4] سجون الأسد https://aja.me/ynpcz1
[5] نقاط التظاهر https://youtu.be/vR8_1jJfJdQ?si=0xBpuJtk1iF-IS-Q
[6] https://jusoor.co/ar/details/وسائل-التواصل-الاجتماعي-في-الحراك-السوري-المعارض-2011-2021
[7] https://jusoor.co/ar/details/تجربة-الأطباء-في-سورية-بين-السلم-والحرب
[8] https://aja.me/fpry9 دور العلماء في الثورة
[9] الجيش السوري الحر https://aja.me/hlur
[10] تعارض مصالح روسيا وإيران في سوريا https://aja.me/z4dza3
[11] ردع العدوان https://aja.ws/0wwzum .
[12] زاد المعاد، لابن القيم (3/118).