مدخل:
لكلِّ مقامٍ مقال، بل لكلِّ مقالٍ مقام؛ فالكلام الذي يصلح في أوقات الرخاء لا يصلح في أوقات الشدّة، ومخاطبة سَراة الناس ونخبهم ليست كخطاب عمومهم، وما يفهمه قوم قد لا يفهمه آخرون، وما يكون مِن الكلمات والعبارات والمعاني والحجج والأمثلة في موقفٍ مِن المواقف كالدواء الناجع والبلسم الشافي، يكون نفسه في موقف آخر كالجمر إذا رُمي في هشيم يابس، أو كصرخةٍ في سهل مجدب أو واد مقفر لا رجع فيه ولا صدى.
ولكلّ قوم لسانٌ ينطقون به، واللغة أعمق مِن مجرّد الألفاظ وطريقة التعبير؛ بل تشمل ما يتصل بخصائص التفكير، وطرائق الفهم والإفهام؛ لذا كان الرسول يُبعث بلسان قومه ليبيّن لهم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4]، فلا بدّ لمن يريد التحدّث إلى الناس أن يعرف لغتهم وعاداتهم وطبائعهم، وأن يفهم تاريخهم وسياق الأحداث التي يمرّون بها، حتى يكون كلامه ذا قيمةٍ كبيرة وتأثير بالغ.
الأزمات وما يجب فيها:
من أهمّ المواقف التي ينبغي فيها مراعاة القول وانتقاء الكلام: الأزمات والفتن، فمن سنّة الله في الحياة تعرّض الأمم والشعوب للابتلاء والأزمات، ومن صفاتها: أنّها تقع فجأةً في الزمان والمكان نتيجةً لعوامل عديدة؛ فيكون وقعُها شديدًا صادمًا على النفوس، ولأنَّها قد تكون معقَّدةً متشابكة؛ فقد يشعُرُ المرء حيالها باليأس أو العجز في التعامل، أو نقص الثقة في نفسه فيستكينُ ويخضع لها، ممّا يؤثّر على شخصيته وسلوكه، وقد تؤدّي رغبته في الخروج منها ومدافعتها مع ما جُبل عليه مِن عجلةٍ وقِلَّة صبرٍ إلى المجابهة بقوّةٍ وعنف، وفي كل الحالات؛ فإنّ الأزمات تؤدِّي إلى حصول ارتباكٍ في الرؤية وتقدير الموقف، واضطرابٍ في ترتيب الأولويات، ومِن ثَمَّ يحدث خللٌ في التعامل وإيجاد الحلول والمخارج.
لذا كان مِن أهمّ التوجيهات الشرعية في تلك الأوقات: لزوم السكينة ابتداء، ومِن أهم واجبات المصلحين: تسكين الثائرة، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغه أنّه وقع بين حَيَّينِ من الأنصار كلامٌ حتّى ترامَوْا بالحجارة فذهب إليهم ليُصلح بينهم، حتى تأخر عن بداية صلاة الجماعة من أجل ذلك([1]). والسكينة ضروريةٌ ليعود الناس إلى رُشدهم، ويعرفوا واجبهم، ويُدبِّروا شؤونهم، ويتَّخذوا القرارات التي تُناسب حالهم، قال ابن القيم: “السَّكينةُ إذا نزلت على القَلبِ اطمأَنَّ بها، وسكَنَت إليها الجوارحُ وخَشَعت، واكتَسَبت الوَقارَ، وأنطَقَت اللِّسانَ بالصَّوابِ والحِكمةِ، وحالت بينه وبَينَ قولِ الخَنَا والفُحشِ، واللَّغوِ والهُجرِ وكُلِّ باطلٍ”([2]). وقال السعدي: “السَّكينةُ من تمامِ نِعمةِ اللهِ على العبدِ في أوقاتِ الشَّدائِدِ والمخاوِفِ التي تطيشُ بها الأفئدةُ، وأنَّها تكونُ على حَسَبِ معرفةِ العَبدِ برَبِّه، وثِقَتِه بوَعدِه الصَّادقِ، وبحَسَبِ إيمانِه وشجاعتِه”([3]).
أهل العلم وأمانة الكلمة:
لعلماء الشريعة في الإسلام مكانة رفيعة، خصوصًا إذا كانوا ربّانيين يَدرُسون الوحي ويُعلِّمونه للناس ويَعملون به، فيقومون بواجب أنفسهم من طلب العلم، وبواجب الأمّة من البيان والبلاغ والتوجيه، وهم الضمانة لتوضيح الحق وسلامة المجتمع من الظلم والبغي أو الانحراف، وذلك ببيان الحق وتصحيح الخطأ والصدع في وجه الظالمين، وبجمعهم للناس على كلمة واحدة، ويعينهم على ذلك نصيبهم من خشية الله المتجذّرة في قلوبهم بما يَهُونُ معه أيُّ أحد؛ فلا يهابون جبارًا ولا طاغية ولا صاحب قوة أو سطوة.
وبهذا يكونون ملاذًا للناس في الملمّات والخطوب، وتكون لهم اليد الطولى في التأثير على الناس عند الحاجة، ومن نافلة القول أنَّ التأثير الأكبر والأهمّ لحملة العلم الشرعي في بيان الحكم الشرعي التوجيهي؛ فهم ورثة الأنبياء، ورثوا منهم العلم، وأوجب الله عليهم بيان الحقّ للناس، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187].
ملامح الأزمة السورية الحالية:
تكاد الأزمة الحاليّة التي يعانيها معظم السوريين في مختلف البلدان تتجلّى في عدد من المسائل، في مقدّمتها:
- صعوبة الإقامة في بلدان اللجوء والاغتراب، وما يُرافق ذلك من متطلَّباتٍ “قانونيةٍ” يصعُبُ توفيرها، إما بسبب صعوبة القوانين الناظمة وعدم وضوحها، أو لارتفاع كلفتها الشديد.
- العنصرية المتصاعدة الرافضة في تلك المجتمعات لوجود السوريين، مع ما يتبعها من ظلم في جميع أشكال التعامل.
- الترحيل القسري إلى سوريا، مع ما في ذلك من نزع للاستقرار المكتسب، وهناك مخاطر في الترحيل إلى مناطق غير آمنة، وكذلك التسليم للنظام ومن ثم تهديد الحياة، أو الترحيل بصورة مفاجئة أو بطريقة غير إنسانية وتمزيق شمل العائلات.
- مخاوف التطبيع مع النظام وإعادة الاعتراف به ممثلاً للسوريين، وما يترتّب على ذلك من إجبار الناس على التعامل معه باعتباره الممثل السياسي والشرعي الوحيد لهم، مع إشاراتٍ متعدِّدةٍ لاحتمال نشوب صراعاتٍ جديدة في المنطقة داخليًا أو خارجيًا، وما قد يترتَّب عليه من اختلاط الأوراق، أو زيادةٍ في تقسيم البلد أو التهجير، أو دخول أطرافٍ أخرى، مما قد يُطيل الأزمة أو يُعمقها.
ولا شكّ أنّ على جميع أطياف المجتمع ومؤسساته أدوارًا مهمّة في رفع هذا الظلم، ومنعه قبل حصوله ما أمكن، وفي مقدّمة هؤلاء: طلبة العلم والدعاة. ومع تقدّم كثير منهم بخطابات تقرأ بين سطورها تحميل الخطأ على الضحية! أو تحريضًا للناس على القيام بما لا يطيقون أو بما لا تُحمد عقباه؛ فإنّه يجدر البحث في الخطاب المناسب لهذا المقام، بحيث يوصل الرسالة، ويحقّق الهدف.
ملامح الخطاب الشرعي في التعامل مع المظلوم:
يعيش المظلوم مرارة الظلم والقهر وسلب الحقوق؛ لذا لا بدّ أن يرتكز الخطاب الشرعي في التعامل مع المظلوم على مجموعة من المبادئ والقيم، تهدف إلى حماية حقوقه، وتعزيز حصوله على العدالة والرحمة، ومن أهمّها:
- العدالة والإنصاف:
فأهمّ ما يطلبه المظلوم ابتداءً هو إثباتُ حقِّه والإقرارُ بما نزل به من ظُلم، بِغضِّ النظر عن القُدرة على تحقيق العدالة أو رفع الظلم؛ فالقرآنُ يدعو إلى الإنصاف، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58].
وكان صلى الله عليه وسلم يحثُّ على نصرة المظلوم ومعاقبة الظالم، كما جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا). قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: (تأخذ فوق يديه)([4]).
وهذا الخطاب يستفيد منه المظلوم في الاطمئنان إلى وجود مَن يدافع عنه ويقف بصفّه، فتسكن نفسه ويصبح أقدر على الصبر وعلى التصرّف.
- الرحمة والرأفة:
فالمظلوم بحاجة لمن يستمع إليه، ويواسيه ويرحمه ويرأف به، ويمسح دموعه، ويقدِّم له يدَ العون بما يُناسب حاله، وقد شدّد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء)([5]). وقال: (مَن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة مِن كرب يوم القيامة)([6]).
وما أجمل أن يحضر أهل العلم في الوقت والمكان المناسبين، لتطييب القلوب وجبر الخواطر، فالمريض الذي تحسن عيادته وأهل الميت الذين تُطلب تعزيتهم ليسوا بأحوج من المظلوم في مواساته والحديث معه بما يزيل عنه مخاوفه.
- الانتصار للمظلوم وأخذ حقه:
فالواجب على كل قادر بذل الجهد واستنفاد الوسع في نصرة المظلومين والدفاع عن حقوقهم، وذلك بالوسائل والطرق الممكنة مِن بذل الجاه والمال، والتعاون مع الجهات السياسية والحقوقية والمدنية، بما في ذلك التشجيع على طرق أبواب المحاكم، والاستعانة على ذلك بالعلاقات والمعارف، والاستفادة مِن الفضاءات المتاحة في كلّ بلد بحسبه؛ حتى يحصل القيام بالمستطاع تجاه الناس، والمعذرة أمام الله.
- بث معاني الصبر والرضا بالقدر:
فما نزل بالمظلوم مِن ظلمٍ هو نوعٌ مِن الابتلاءات والمصائب التي يُستعان عليها بالصبر وعدم الفزع، والرضا بالقدر وعدم التسخُّط، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]، وهذا في كل حال، لكنَّه يتأكَّد أكثر في أحوال الضعف الشديد واستفحال الظلم، وصعوبة تحصيل الحقوق، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع أصحابه في مكة قبل الهجرة، فقال لياسر وسميّة وعمار رضي الله عنهم: (صبرًا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنة)([7])، وأعاد خباب بن الأرتّ رضي الله عنه الذي جاء يشكو الظلم والتعذيب إلى هذه المعاني، وأنّ على المؤمن أن يوطّن نفسه على البلاء والصبر عليه([8]).
ومن ذلك: بثّ فكرة احتساب الأجر فيما ينزل بالعبد من المظالم والمصائب، وأنّه في خير ما دام صابرًا محتسبًا، وأنّه بصبره مع إيمانه بالله يُحقق ما خُلق لأجله من العبادة والتسليم لخالقه، وإلى جانب ذلك ينبغي إشاعة روح التفاؤل بأنّ العاقبة للحق، والاقتصاص للمظلوم.
- التبشير بكمال الاقتصاص في الآخرة:
فالقصاص الأكمل والأعظم إنّما يكون بين يدي جبار السماوات والأرض الذي لا يُظلم عنده أحد، ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه: 111].
وكثيرًا ما تنتهي الحياة الدنيا ولا يأخذ المظلوم حقه من ظالمه، بل لو أحصينا المظالم التي قام بها الطغاة وعتاة الظالمين لوجدنا أنّهم لم ينالوا عشر معشار ما يستحقّون من العقوبة على ما فعلوه في الدنيا من البطش والتعذيب والتشريد، وإذا كان مَن يعمل ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ فما بال المجرمين والظالمين، لا شك أنّه سيُقتصّ منهم بما يحقّق العدل ويشفي صدور المظلومين ويذهب غيظ قلوبهم.
- بثّ التوعية والوعي الاجتماعي:
من خلال التعليم والتوجيه للعموم بالانحياز للمظلومين، وبيان حقوقهم وأهمّية نصرتهم والدفاع عنهم، ودور كلّ فرد في تحقيق ذلك، وعواقب التخلي عنهم.
وبيان ضوابط الاقتصاص من الظالم وأخذ الحق منه كي لا يتحوّل المظلوم إلى ظالم بالاعتداء على مَن لا ذنب له، غير أنّه مِن جنسيّة الظالم أو جماعته، وأنَّ التمادي في هذا يؤدّي إلى مزيد تسلّط مِن الظالمين، وإلى فوضى لا خطام لها ولا زمام، فالظلم لا يبرّر الظلم.
يعيش المظلوم مرارة الظلم والقهر وسلب الحقوق؛ لذا لا بدّ أن يرتكز الخطاب الشرعي في التعامل مع المظلوم على مجموعة من المبادئ والقيم، تهدف إلى حماية حقوقه، وتعزيز حصوله على العدالة والرحمة
ملامح الخطاب الشرعي في التعامل مع الظالم:
وكما أنّ للمظلوم خطابًا يناسبه، فللظالم خطابٌ يرتكز على التعامل معه بالحزم، والتركيز على تحقيق العدالة والانتصاف للمظلوم، وإنهاء الظلم ومعاقبة الظالم، ومِن أهم ملامح هذا الخطاب:
- التحذير من الظلم وعواقبه:
وذلك ببيان حُكمه في الشرع، وآثاره الوخيمة على الظالم وعاقبته عليه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 42]. وقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)([9]).
ويُنتقى مِن الأساليب والعبارات الزاجرة ما يؤثّر على الظالم ويثنيه عن بغيه، ومن ذلك تخويفه بزوال حكمه أو سلطته، وبمآلات الظلم الدنيوية، والتي مِن أيسرها انقلاب الناس إلى أعداء، وتسليط الآلام والأوجاع عليه، ونيل الأمراض البدنية والنفسية منه.
ومن ذلك: تذكيره بسُنن التاريخ والدول والممالك، وكيف أنَّ الملك يزول، وأنّ التاريخ يلعن الظالمين، وأن الأجيال لا تذكر الظالم بخير أبدًا.
- الإنكار على الظالم وكفه عن الظلم:
بالسعي في ردِّ المظالم وتحقيق العدل وكفّ الظالم عن ظلمه حين القدرة على ذلك، وبما يتوفّر من أدوات ووسائل وقوانين، وقوّة مادية أو معنوية من خلال جمع كلمة الناس على رأي واحد، وتحريض العقلاء والمنصفين على رفع صوتهم وإنكار الظلم، وتنظيم الفعاليات والكتابة والنشر والظهور فيما يمكن من وسائل الإعلام والتأثير لتوضيح الحقائق ووضع النقاط على الحروف.
- النصح والإرشاد والدعوة إلى التوبة والإصلاح:
فالظالم عاصٍ وقع في معصيةٍ، ويجب تقديم النصح له لتحذيره من عواقب أفعاله، وإصلاح سلوكه، وإرشاده ليعود إلى الطريق الصحيح ويتوقَّف عن ظلمه. مع تشجيعه على التوبة والعودة إلى الله. يقول الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160].
وكم من موعظة صادقة نفع الله بها، فأثمرت إيقافًا للظلم، وردًا للمظالم، وتحقيقًا للعدل.
- تقريع الظالم وعقوبته:
فمِن تحقيق العدالة: إيقاع العقوبة بالظالم -جزاءً له على ما اقترفت يداه، وردعًا لغيره من أن يجاريه في الظلم- بما يناسب بحيث تكون العقوبة عادلة متناسبة مع الجريمة، قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وكلُّ أدرى بما عنده من الأدوات والوسائل التي تعين على ردع الظالم عن ظلمه.
ومما تجدر العناية به: أنّ عقوبة الظالم قد تتعدّى إلى من لا علاقة له بالظلم، وهذا أمر لا يجوز بل هو منكر في حدّ ذاته وظلم ينبغي الاحتراز منه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164].
- منع الظلم في المستقبل:
باتخاذ التدابير الإصلاحية والاحترازية لضمان عدم تكرار الظلم في المستقبل، بتعزيز العدالة والتعليم والتوعية بالحقوق، والتعاهد على منع الظلم ومناصرة المظلوم، بما يتطلبه ذلك من المواثيق والعهود، والجمعيات والمنظمات، والقوة الرادعة إن أمكن.
- الخروج من دائرة ردود الأفعال:
مع طول الأزمة وتشعبها وكثرة أحداثها يغرق الكثير في تفاصيل التعامل معها، حتى تتحول مواقفهم إلى ردود أفعال واستجابات لما يطرح عليهم فحسب، مما يُفقدهم زمام المبادرة والقدرةَ على التحكم والتوجيه، وقد يُقادون إلى مساحاتٍ ومعاركَ يُريدها الآخرون للحصول على نتائج مطلوبة.
وهنا لا بد أن تكون النُّخب على قدرٍ كبيرٍ من المسؤولية والوعي، وعدم الاستغراق في التفاصيل والوقائع، والصعود إلى المستويات العليا لاستعادة زمام المبادرة، وبخاصة عند انعدام أو فساد طبقات أخرى من النخب.
وقد يكون من الأنسب حينها الخروجُ من بعض مساحات العمل إلى مستوياتٍ أخرى أبقى أثرًا وأعظم فائدةً؛ كالتربية والتعليم ونحو ذلك، بدلاً من استغراق الجهد في ملفات آسرة أو لا يُستطاع التأثير فيها.
مِن تحقيق العدالة: إيقاع العقوبة بالظالم -جزاءً له على ما اقترفت يداه، وردعًا لغيره من أن يجاريه في الظلم- بما يناسب؛ بحيث تكون العقوبة عادلةً متناسبةً مع الجريمة
أهمية الخطاب المتزن وقت الأزمات:
يُعدُّ الخطاب المتَّزن ذا أهميةٍ كبيرةٍ وقت الأزمات، وبالإجمال يُمكنه أن يكون عاملاً حاسمًا في إدارة الأزمة بشكل فعّال وتحقيق استقرارٍ أكبر في المجتمع، وتتضح الأهمية في الآتي:
- يمنعُ تصاعدَ الفوضى والتصرّفات غير المحسوبة، على عكس الخطاب الانفعالي الذي يزيد الوضع تأزّمًا وانفلاتًا، أو الخطاب غير الواقعي الذي يدعو الناس للخضوع والاستسلام مما يفقدهم الثقة فيه والتخلّي عنه.
- يبني الثقة مع جميع الأطراف، وبالتالي يزيد من إمكانية الحوار للوصول للحلول الممكنة.
- يوفّر توجيهاتٍ واضحةً وإرشاداتٍ حول كيفية التعامل مع الأزمة، مما يُساعد الناس على التصرُّف بطُرُقٍ تساهم في الحلول وليس في تفاقم المشكلة.
- نشر المعلومات الصحيحة؛ مما يساعد في التقليل من انتشار الشائعات والمعلومات الخاطئة التي يمكن أن تزيد من حدّة الأزمة وتفاقمها، مما يتيح للناس اتخاذ قراراتٍ مستنيرةً وصحيحةً بناءً على الحقائق والمعلومات.
- توحيد الصفوف: في وقت الأزمات يكون من المهمّ توحيد الصفوف والعمل المشترك. والخطاب المتّزن يمكنه أن يعزّز الوحدة والتضامن بين أفراد المجتمع.
- دعم الصحّة النفسية: يُساعد الخطاب المتَّزن في دعم الصحّة النفسية للأفراد، حيث يقلّل من مستويات التوتّر والقلق الناتجة عن الأزمات، ويُسهم في تعزيز الاستقرار النفسي والاجتماعي.
- تعزيز الابتكار والتفكير الإبداعي: عندما يكون الخطاب هادئًا ومتزنًا، يتيح المجال للتفكير الإبداعي والابتكاري في إيجاد حلول جديدة ومبتكرة للأزمة، وتوضيح مكامن الخلل وسوء الفهم.
- تحفيز الأمل والصمود: يمكن أن يُلهم الخطاب المتَّزن الأمل ويعزِّز من معنويات الناس، مما يُساعدهم على الصمود أمام التحدّيات والتغلّب على الصعوبات.
- الحفاظ على النظام الاجتماعي: كما يمنع حدوث اضطرابات وفوضى قد تنجم عن ردود فعل غير مدروسة.
بالتوسع في هذه النقاط، يصبح واضحًا أنّ الخطاب المتّزن ليس فقط أداةً للتواصل، بل هو عنصر أساسي في إدارة الأزمات وتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في المجتمع.
يُساعد الخطاب المتَّزن في دعم الصحّة النفسية للأفراد، حيث يقلّل من مستويات التوتّر والقلق الناتجة عن الأزمات، ويُسهم في تعزيز الاستقرار النفسي والاجتماعي
وفي الختام:
ما أجمل أن يتداعى سَراة الناس ووجهاؤهم فيتحالفوا على منع الظلم، ويعقدوا لذلك المواثيق، ويقيموا الجمعيات والمؤسسات الحقوقية، وجماعاتٍ للضغط في القضايا العادلة، ومنصّاتٍ لصناعة وتصحيح الرأي العام حول ما يقع من المظالم والبغي والاعتداء، حتى يُدفع الظلمُ بالعدل، والباطلُ بالحق، فلا يَخاف ضعيف أو يطغى قوي.
وتروي لنا السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وألا يَعُزَّ ظالمٌ مظلومًا)، قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفِجَار بأربعة أشهر، وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة.
قال ابن كثير رحمه الله: “وكان حِلفُ الفضول أكرمَ حِلف سُمِع به، وأشرفَه في العرب”([10]).
أسرة التحرير
([1]) ينظر: صحيح البخاري (684).
([3]) ينظر: تفسير السعدي، ص (337).
([5]) أخرجه أبو داود (4941) والترمذي (1924).
([6]) أخرجه البخاري (2442) ومسلم (2580).
([8]) أخرج البخاري (6943) عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟» فقال: (قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب مِن صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
([10]) البداية والنهاية، لابن كثير (3/456)، ألا يَعُزَّ: ألا يَغْلِب.