نظرات نقدية

مقولة: «السنة ليست كلها تشريعًا» في الميزان

عمل أهل العلم على خدمة السنة النبوية وتبويبها بما يُسهّل على من جاء بعدهم النظر فيها، ووضعوا لذلك العديد من القواعد والضوابط بعد استقراء نصوص الشريعة من كتاب وسنة، فإذا وردت بعد ذلك مقولات أو استنتاجات فينبغي عرضها على هذه القواعد والضوابط لمعرفة مدى قبولها.

شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م

تَشِيعُ مَقولةُ (السنة النبوية ليست كلها تشريعًا) بين المشتغلين بالعلم الشرعي على اختلاف توجهاتهم ومقاصدهم واستعمالاتهم لهذه الجملة، فبينما استعملها أهل العلم للسَّبر والتقسيم، ولاستثناءِ عددٍ مِن تصرفات النبيِّ ﷺ  مِن وجوب الاتِّباع لأسباب سيأتي ذكرُها، يتوسَّع عددٌ من المعاصرين في فهمها ويتّكئون عليها لإخراج أنواعٍ مِنَ السنة الواردة عن النبي ﷺ مِن حَيِّزِ الاحتجاج بها بمزاعم شتى يجمعُها ترك العمل بسنة النبي ﷺ، توصُّلًا إلى تغيير عدد من الأحكام بحجة أنه ليس فيها تشريع.

فما قيمة هذه المقولة من الحقيقة؟ وكيف يتعامل المسلم معها؟ وكيف يُميّز بين أنواع السنة الواردة عن النبي ﷺ إذا كانت هذه المقولة حقيقة؟

معنى السنة، ومعنى كون السنة تشريعًا:

السنة في اللغة هي: السيرة والطريقة([1]).

والسنة في الاصطلاح هي: ما صدر عن رسول الله ﷺ مِن قولٍ أو فعلٍ أو تقرير([2]).

والشريعة: اسمٌ للأحكام الجزئية التي يتهذَّب بها المكلَّف معاشًا ومعادًا، سواء كانت منصوصةً من الشارع أو راجعةً إليه([3]).

والحُكمُ الشرعي في الاصطلاح: خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال العباد: طلبًا أو تخييرًا أو وضعًا.

فالحكم الشرعي نوعان:

النوع الأول منه (الحكم التكليفي) هو خمسة أقسام: (الوُجوبُ، والنَّدبُ، والإِباحَةُ، والكَراهَةُ، والتَّحريمُ).

والنوع الثاني منه (الحكم الوضعي) وهو كون الشيء سببًا أو شرطًا، وكون الفعل صحيحًا أو فاسدًا. وهذا النوع الثاني خارجٌ عن مقدور المكلَّفين لذا لن نتكلم عنه.

ومعنى كون السنة تشريعًا: أنَّها مصدرٌ تشريعيٌ يُستفادُ منها شرعٌ، وهو كونُ الفعل مندرجًا تحت أنواع الحكم التكليفي الخمسة (الوجوب، الندب، الكراهة، التحريم، الإباحة).

قال الإمام الشافعي رحمه الله: «وضعَ اللهُ رسولَه من دينه وفرْضه وكتابه الموضع الذي أبانَ -جل ثناؤه- أنه جعله عَلمًا لدينه، بما افترضَ من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبانَ من فضيلته، بما قَرنَ من الإيمان برسوله مع الإيمان به».

وقال: «ففرضَ الله على الناس اتباع وحيه وسُنن رسوله».

وقال: «وأنَّ الله افترض طاعة رسوله، وحَتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقولٍ: فرضٌ، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله»([4]).

ما الجديد في مقولة (السنة ليست كلها تشريعًا)؟

الجديد في التعامل مع هذه المقولة (السنة ليست كلها تشريعًا) هو توسيع بعض المعاصرين لمفهومها توسيعًا غير مقبول، حتى أساؤوا استخدامها وأخرجوا بعض أقسام السنن من الاحتجاج بها، وللتوضيح لا بدَّ من معرفة أقسام السنة النبوية.

الأصل في السنة النبوية:

اتَّفق أهل العلم على أنَّ الأصل فيما ورد عن النبي r أنَّه حجةٌ شرعيةٌ يكلَّف المسلم باعتقاد أنها حجة أولًا، ثم بالعمل بها على وفق درجات الطلب الوارد فيها أمرًا أو نهيًا أو تخييرًا.

والأمر على درجتين: أمرُ إيجابٍ وأمرُ ندبٍ، والنهي على درجتين: نهي تحريم ونهي تَنْزِيه، والقسم الثالث هو التخيير، والتخيير حكمٌ شرعي؛ لأنَّ معناه أنَّ هذا الأمر الذي يخير المكلف بين إتيانه أو تركه لا حرج عليه في فعله ولا في تركه.

قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: «واعلم أن أشدَّ الأحوال التي ذكرناها اختصاصًا برسول الله ﷺ هي حالةُ التشريع؛ لأن التشريعَ هو المرادُ الأول لله تعالى من بعثته، حتى حَصَرَ أحوالَه فيه في قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران:144] فلذلك يجبُ المصيرُ إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله ﷺ من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادرًا مصدر التشريع، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك»([5]).

أشدَّ الأحوال اختصاصًا بالرسول ﷺ هي حالةُ التشريع؛ لأن التشريعَ هو المرادُ الأول لله تعالى من بعثته، حتى حَصَرَ أحوالَه فيه في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}

الطاهر بن عاشور

أقسام السنة النبوية:

قرَّر عُلماءُ الإسلام أن التصرفاتِ الفعليةَ والأقوالَ والتقريراتِ التي وصلتنا عن النبي ﷺ ليست كلُّها على نوعٍ واحد وفي مرتبة واحدة، وميّزوا بين أنواعها على أسسٍ علمية رصينة، ووضعوا القواعد التي بها يميز المسلم بين أنواع السنة النبوية.

وقد قسَّموا التصرفاتُ النبويةَ في الجملة إلى خمسة أقسام، هي([6]):

  • القسم الأول: ما صدر عنه ﷺ بوصفه نبيًا ورسولًا مبلغًا عن الله تعالى.
  • القسم الثاني: ما صدر عنه بوصفه الإمام الأعظم في دولة الإسلام، والحاكم الأعلى فيها.
  • القسم الثالث: ما صدر عنه بوصفه قاضيًا يقضي بين الناس.
  • القسم الرابع: ما صدر عنه من التصرفات الإنسانية العادية.
  • القسم الخامس: ما فعله ﷺ ودَلَّ الدليلُ على أنَّه من خصوصياته.

فهذه الأقسام لكل منها حكم خاص به، حسب التفصيل التالي:

القسم الأول: ما صدر عن النبي ﷺ باعتباره مُبلِّغًا للشريعة عن الله تعالى، وهو حجّةٌ على كل مكلَّف، سواء كان قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، فكل ما أمر به أو نهى عنه في أمور الدين (العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق)، وما فعله بيانًا للقرآن الكريم، وما أَقَرَّه، وما أمر به أو نهى عنه ممّا لم يوجد في كتاب الله، فهو حجّة على كلِّ مكلَّف؛ لأنَّ هذه التصرُّفات يشملها الأمر العام بالاقتداء به وطاعته ﷺ، فعلًا في الأمر، وتركًا في النهي.

والدليل على هذا القول من كتاب الله تعالى، ومن سنة النبي ﷺ، وعليه إجماع الأمة:

فمن القرآن قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 31 قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران 31-32].

وقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63].

وغيرها من الآيات التي يُبَيِّنُ اللهُ تعالى فيها بوضوح وجوبَ طاعةِ الرسول ﷺ، ويربطُ الفلاحَ بهذه الطاعة، ويَعدُّ طاعةَ الرسول ﷺ طاعةً لله تعالى، ويُحَذِّر مِن مخالفة أمره ﷺ، ويبين أن مخالفتَه سببٌ للعقوبة والعذابِ الأليم على المخالفين.

ومن الأحاديث النبوية قوله ﷺ: (كلُّ أُمتي يدخلون الجنة إلا من أَبَى، قالوا: يا رسول الله، ومن يَأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أَبَى)([7]).

وقوله ﷺ: (ما نَهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)([8]).

قال الإمام القَرافي رحمه الله: «فكلّ ما قاله ﷺ أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكمًا عامًا على الثِّقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورًا به أَقدَم عليه كلُّ أحدٍ بنفسه، وكذلك المباح، وإن كان منهيًا عنه اجتنبه كلُّ أحدٍ بنفسه»([9]).

وأجمع العلماء على الاحتجاج بالسُّنة النبوية، قال الإمام الشافعي رحمه الله: «ولا أعلمُ من الصحابة ولا التابعين أحدًا أخبر عن رسول الله ﷺ إلا قَبِلَ خبره، وانتهى إليه، وأثبت ذلك سنة»([10]).

القسم الثاني: ما صدر عن النبي ﷺ باعتباره الإمام الأعظم (حاكم الدولة)، كتجهيز الجيوش، وقسمة الغنائم، وإقامة الحدود، فهذه أحكامٌ سلطانيةٌ أقامها النبي ﷺ فيُقيمها مِن بعده الحكّامُ والسلاطين، قال الإمام القَرافي رحمه الله: «وكلُّ ما تصرف فيه عليه السلام بوصفِ الإمامة لا يجوز لأحدٍ أن يُقدم عليه إلا بإذن الإمام، اقتداء به عليه السلام؛ ولأنَّ سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دونَ التبليغ يقتضي ذلك»([11]).

ومعنى أنّ هذه التصرّفات من الأحكام السلطانية: أنّ المخاطب بها هو الحاكم الذي يلي أمور العامّة، أما عامة الناس فلا يجوز لهم التصدِّي لها والقيام بها إلا بأمر الإمام، فلا يجوز للناس -مثلًا- إعلان الجهاد داخل الدولة أو خارجها إلا بأمر الإمام، ولا يجوز لهم إقامة الحدود إلا بأمر الإمام.

وفي المقابل: ليس معنى كون هذه التصرفات من الأحكام السلطانية أنّها ليست شرعًا؛ فليس للإمام اختراع حدودٍ لم يشرعها الله، ولا تعطيل الحدود التي شرعها الله، ولا يجوز له التصرُّف في أموال الأمّة إلا بما أذن الله به وفي مصلحة الأمة، وهكذا.

ولخطورة هذه الأحكام وتأثيرها على الأمة لم تُترك لاجتهاد الحاكم الشخصي، فقد أمرت الشريعة الإمامَ بالشورى فيها، والشورى تكون من أهل العلم الشرعي ومن الخبراء في الأمر الذي يقدِّر فيه الإمام مصلحة الأمة، فأهل العلم الشرعي يُخبرون الإمام بحكم الله فيها، ممّا في كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله ﷺ، وأهل الخبرة يُخبرونه بالأحسن من الطرق لتنفيذها.

قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران:159]، وقال تعالى:﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى:38]، وقد طبَّق النبي ﷺ الشورى في الأمور العامة في حياته كما هو معلوم، ونقلت مدونات السنة وكتب التاريخ ذلك بالتفصيل.

ويدخل تحت هذا القسم بعض أقوال النبي ﷺ التي تكلم فيها أهل العلم قديماً: هل هي تشريع عام يجب أن يلتزمه كل من بعده، أم أنه قاله بصفته إمامًا مجتهدًا في ظرف معين، فللإمام من بعده أن يجتهد فيه؟، ومثاله حديث (من قتل قتيلاً فله سلبه) وحديث (من أحيا أرضًا مواتًا فهي له)، فهذا مرجعه إلى القرائن من فهم الصحابة الذين عاصروا التنزيل، وفقه العلماء المجتهدين، ويبقى من الخلاف السائغ بينهم، وإن كان فعله ﷺ يدل على الجواز في أقل مراتبه.

القسم الثالث: ما صدر عنه ﷺ بوصفِه قاضيًا يقضي بين الناس، كقولِه ﷺ لهندِ بنت عُتبة امرأةِ أبي سفيان لما قالت: يا رسولَ الله إن أبا سفيان رجل شَحيحٌ وليس يعطيني ما يكفيني وَوَلدي، إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (خُذي ما يكفيكِ وَوَلدَك، بالمعروف)([12])، وكحُكمه ﷺ بين الزبير بن العوام وحميد الأنصاري رضي الله عنهما في خلافهما في سَقيِ النَّخل: «اسْقِ يا زبَيرُ، ثم احْبِسِ الماء حتى يرجِعَ إلى الجَدْرِ»([13]).

فمثل هذه الحوادث تكلّم فيها أهل العلم قديمًا، هل قضاء النبي ﷺ فيها تشريع عامٌّ في مثلها أو مرجعه إلى القاضي الذي ينظر فيها، ويسترشد بأقضية النبي فيها؟ فإن كانت الحالة مشابهةً قضى بذلك، قال الإمام القَرافي رحمه الله: «وما تصرف فيه ﷺ بوصفِ القضاء لا يجوز لأحدٍ أن يُقدم عليه إلا بحُكم حاكم، اقتداءً به ﷺ؛ ولأن السبب الذي لأجله تصرَّف فيه ﷺ بوصفِ القضاء يقتضي ذلك»([14]).

وحتى ما ورد من أقضية خاصة كقوله ﷺ: (إنَّما أنا بَشر، وإنكم تختصمونَ إِليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون أَلحَنَ بِحُجَّته من بعض؛ فأقضي له بنحوِ ما أسمع، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه فإنَّما أقطعُ له قطعةً من النَّار)([15])، فإنه يستفاد منها تشريعٌ عامٌّ لجميع الأمة أنه حكم القاضي لا يبيح الحرام، وما أُخذ بالباطل فإنه سيُحاسب عليه في الآخرة.

ما صدر عن النبي r من التصرفات الإنسانية العادية إذا اقترن به ما يدل على أنه واجب أو مندوب ينتقل حكمه من الإباحة إلى ما دلَّ عليه الدليل.

القسم الرابع: ما صدر عن النبي ﷺ من التصرفات الإنسانية العادية (الجبلّية)، فهذه التصرفات يستفاد منها شرع وهو الحكم بإباحتها، ومن أمثلتها: لبسه ﷺ العمامة التي كان يلبسها قومه.

لكن إذا اقترن بهذه التصرّفات ما يدلُّ على أنّها واجبة أو مندوبة فينتقل الحكم من الإباحة إلى ما دلّ عليه الدليل.

وبالمثال يتضح المقال:

في اللباس: كان النبيُّ ﷺ يلبس ما يتعارف عليه الناس في وقته، وما هو متوفر من أنواع القماش وطريقة تفصيلها وخياطتها، لكنه عليه الصلاة والسلام أمر بلبس البياض، وذكر فضيلةً لِلُبْسِ البياض، فقال: (اِلبَسوا من ثيابكم البَياض؛ فإنها من خيرِ ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم)([16])، فهذا الأمر منه ﷺ يُخَصِّصُ هذا النوعَ من ألوان الثياب بفضيلة، ويأمر به على سبيل الندب، فيخرج هذا النوع من حَيِّزِ المباح إلى حَيِّزِ المندوب المطلوب فعله.

وفي الطعام: كان النبي ﷺ يأكل كما تعارف الناس في زمانه، ويأكل بيده كما يأكل قومه بأيديهم، فدلّ ذلك على أنَّ الأكل باليد من المباح، وأَمَرَ عليه الصلاة والسلام بالأكل والشرب باليد اليمنى، وأَمَرَ بالأكل من جانب القصعة لا من وسطها، فتنتقل هذه الهيئات في الأكل والشرب من حَيِّزِ المباح إلى حَيِّزِ المطلوبِ المُثابِ عليه، وقِسْ على هذا.

وعلى العكس: لو نهى النبي ﷺ عن نوع من الثياب التي يتعارف الناس في وقته على لبسها، تخرج بهذا النهي عن حيّز المباح إلى حيّز الممنوع، إما على سبيل التحريم وإما على سبيل الكراهة، كنهيه ﷺ الرجالَ عن لبسِ الحرير ولبسِ الذهب، وعن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فقال ﷺ: (لا تَشربوا في آنيةِ الذَّهب والفضة، ولا تَلبسوا الحريرَ والدِّيباجَ)([17])، فهذا النهيُ أخرج التصرفات المنهي عنها من حيِّز المباح في الأصل إلى حيز المُحَرَّمِ، فهذه الأحاديث والأخبار حجّة شرعية بلا شك، لأن عموم الأمر بطاعته ﷺ يشملها كما سبق.

ومما يُستفاد من هذا القسم: أن العادة والعرف في أمثال هذه الأمور مشروع، ويكون قاعدة لمعرفة العديد من الأحكام الشرعية فيها، كنهيه ﷺ عن ثوب الشهرة، فقد استنبط منه أهل العلم ضوابط الحكم على اللباس بكونه شهرة في لونه أو شكله أو قيمته بالرجوع للعرف.

الخصوصيات في حق النبي ﷺ ثلاثة أنواع:

الأول: واجبٌ عليه غيرُ واجبٍ على أمته.

الثاني: مباحٌ له دون أمته.

الثالث: حرامٌ عليه غيرُ حرامٍ على أمته.

القسم الخامس: ما صدر عن النبي ﷺ ودَلَّ الدليلُ على أنَّه مِن خُصوصياتِه.

وهذا القسم الأصل فيه أنَّه لا تكليفَ فيه، لاختصاصِه بالنبي ﷺ، لكن الخصوصية فيه ليست مطلقة، بل قد تكون درجةُ التكليف فيه بالنسبة للنبي ﷺ هي التي من خصوصياته، ويكون مشروعًا لأمته بدرجة أخرى، وللتوضيح نقول:

إنّ الخصوصيات في حق النبي ﷺ ثلاثة أنواع:

  • الأول: واجبٌ عليه غيرُ واجبٍ على أمته.
  • الثاني: مباحٌ له دون أمته.
  • الثالث: حرامٌ عليه غيرُ حرامٍ على أمته.

فالأول: كقيام الليل، هو واجب على النبي ﷺ، لكنَّ كونه من خصوصيات النبي ﷺ لا ينفي مشروعيته للأمة، بل اتفقت كلمة الفقهاء على أنَّ قيام الليل مشروع في حقِّ الأمَّة، وهو في درجة الندبِ بالنسبة لغير النبي ﷺ.

أما الثاني: فكجواز الجمع بين أكثر من أربع نسوة في الزواج، وكجواز الوصال في الصوم، فهذا أيضًا له درجات، فما دل الدليل الشرعي على تحريمه على الأمة كان حرامًا عليهم، كالجمع بين أكثر من أربع نسوة في الزواج، وقد دلَّ الدليل على تحريمه على غير النبي ﷺ، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء:3]، قال عكرمة رحمه الله في تفسير هذه الآية: «فَنُهوا أن يتزوجوا فوقَ الأربع»([18])، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أسلم غَيلان الثقفي وعنده عَشر نِسوة، فقال رسول الله ﷺ: (أَمسِك أربعًا، وفارِق سائرهنَّ)([19]).

وإن لم يدلَّ الدليل على تحريمه فيكون النهي عنه للكراهة، كالوصال في الصوم، فهو مكروه لأمته، عن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي ﷺ وَاصَلَ، فواصَلَ الناس، فشقَّ عليهم فنهاهم، قالوا: إنَّك تواصِل! قال: (لَستُ كَهيئتِكم، إنِّي أَظلُّ أُطعم وأُسقى)([20]).

قال الترمذي رحمه الله: وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: كَرِهُوا الوِصَالَ فِي الصِّيَامِ([21]).

وأما الثالث: فهو كتحريم إحداثه زواجًا بعد زواجه بميمونةَ رضي الله عنها، وقد تزوجها في العام السابع للهجرة، وأنزل الله تعالى بعد زواجه بها قولَه: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ [الأحزاب:52] ففي هذه الآية حرَّم اللهُ على النبي ﷺ إحداثَ زواجٍ جديد، حتى لو توفيت أزواجه كلهن، رضي الله عنهن، وهذا لا يتوجه فيه الخطاب التكليفي للأمة قطعًا؛ لأن الخطاب الشرعي جاء خاصًا بالنبي ﷺ دون غيره من أفراد الأمة.

إن أحكام الشرع الشريف وإن شُرعت لجلب مصالح المكلفين الدنيوية والأخروية، لكنَّ ميزانَ اعتبار المصالح وعدم اعتبارها هو أدلةُ الشرع لا أذواق ورغبات المكلفين

الخلاصة:

يتلخَّصُ لنا أنَّ الأصل فيما يصدُرُ عنه ﷺ هو التشريع، لكن هذا التشريع له حالات ومراتب، فقد يكون تشريعًا خاصًّا بالأئمة والقضاة دون غيرهم، وقد يكون تشريعًا غير ملزم وهو المباح، وقد يكون تشريًعا ملزمًا وهو باقي الأحكام التشريعية (الواجب والمندوب والمكروه والمحرّم).

وحملُ هذه التصرّفات على غير التشريع هو خلاف الأصل العام، والذي يحكم به هم أهل العلم المُطَّلِعونَ على أدلة الشرع العَارِفونَ بمراتب الأدلة ودلالاتها، والمُطَّلِعون على السنة بتفاصيلها ورواياتها وقد اشترطوا لذلك وجودَ القرينةِ الصالحةِ لِصَرفِ الأمرِ مِن الصفةِ التشريعيةِ إلى غيرها من الأوصاف، كما مر معنا في كلام الطاهر بن عاشور رحمه الله «فلذلك يجب المصير إلى اعتبارِ ما صدرَ عن رسول الله r من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادرًا مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك»([22]).

ومن أمثلة تلك القرائن قوله ﷺ: «أنتم أعلمُ بأمورِ دنياكم»، و«لعلَّ بعضَكم أن يكونَ أَلْحَنَ بحُجتِه مِن بعض فأقضي له على نَحوِ ما أَسمع»، و«لستم كهيئتي إنما يطعمني ربي ويسقين»، و«لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» وأمثالها.

الأصل فيما يصدر عنه ﷺ هو التشريع، لكن هذا التشريع له حالات ومراتب

ومن قواعد التمييز بين هذه الأقسام:

فهمُ الصحابة رضي الله عنهم قولًا وعملًا تطبيقيًا، فهم أعلم بالوحي ممن بعدهم، وعاصروا التنزيل.

وكذا: فهم علماء التابعين، وإجماع العلماء من أهل الاختصاص([23]).

فمحاولة بعض المعاصرين إخراج كثيرٍ من كلامه r عن قصد التشريع وحمله على محامل أخرى دون قرائن، ودون أن يكون لهم سَلَفٌ في ذلك إلا اعتبار مصالحَ مظنونةٍ في زعمهم، يقود إلى تنحية السنة النبوية الشريفة عن كثير من نواحي الحياة العملية، من اقتصاد وسياسة وعادات ومعاملات وأخلاق، وشؤون الحرب والطب ونحوها، بحجة أن هذه الأمور يديرها الناس بحسب تجاربهم الحياتية العملية وبحسب ما يرون من مصلحتهم، دون التفات إلى ما ورد في السنة النبوية بشأنها من أوامر ونواهٍ وتوجيهات، متكئين في هذا على أن ما ورد عنها في السنة النبوية إنما كان لمصالح وقتية في ذلك العصر، ويؤدي هذا في المآل إلى خَطَرِ تعطيل شرع الله، وتشريع أحكام أخرى لم يأذن بها الله، مع نزعة حَصْرِ الدِّين في أمور العقائد والعبادات فقط.

إن أحكام الشرع الشريف وإن شرعت لجلب مصالح المكلفين الدنيوية والأخروية، لكنَّ ميزانَ اعتبار المصالح وعدم اعتبارها هو أدلةُ الشرع لا أذواق ورغبات المكلفين، فالله تعالى أعلم بعباده وبما يصلحهم وبما لا يصلح لهم، فإذا أمر الله تعالى بشيء ففيه المصلحة في الدنيا والآخرة، وإذا نهى عن شيء ففيه الضرر في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14].


([1]) لسان العرب، لابن منظور (13/225).

([2]) البحر المحيط، للزركشي (4/164).

([3]) الكليات، للكفوي (ص: 524).

([4]) الرسالة، (75-77).

([5]) مقاصد الشريعة، لابن عاشور (3/136).

([6]) هذا التقسيم مأخوذ من مجمل كلام أهل العلم على تقسيم تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم في عدة مصادر، ذكر منها القرافي رحمه الله الأقسام الثلاثة الأولى، وذكر ابن عاشور في (مقاصد الشريعة الإسلامية) اثني عشر تقسيمًا: وهي: التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهّدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرّد عن الإرشاد. وذكر انقسام التصرفات إلى أنواع كلٌ من: ابن قتيبة وابن القيم والدهلوي، وغيرهم. وذكر بعضهم تقسيم التصرفات إلى تشريعية وغير تشريعية، وقسَّمَ التشريعية إلى أنواع، وهكذا. فرأيت أن كثيرًا منها يتداخل في بعضها، فجمعتها في هذه الأقسام العامة.

([7]) أخرجه البخاري (7280).

([8]) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

([9]) أنوار البروق في أنواء الفروق، للقرافي (1/206).

([10]) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، للسيوطي (50).

([11]) أنوار البروق، للقرافي (1/206).

([12]) أخرجه البخاري (5364).

([13]) أخرجه البخاري (2359)، ومعنى (الجَدْر): أصل الحائط.

([14]) أنوار البروق، للقرافي (1/206).

([15]) أخرجه البخاري (6967)، ومعنى (أَلحَنَ بِحُجَّته): أقدر على بيان مقصوده.

([16]) المرجع السابق (4/8) (رقم: 3878).

([17]) أخرجه البخاري (5633)، ومسلم، (2067).

([18]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري (6/361).

([19]) أخرجه ابن حبان في صحيحه ( 4157).

([20]) أخرجه البخاري (1922)، والمواصلة: متابعة الصيام بين اليومين من غير إفطار بالليل.

([21]) أخرجه الترمذي تحت الحديث رقم (778).

([22]) مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، ص (154).

([23]) “ولعل من السائغ أن نُضيفَ في هذه العصور المتأخرة قيدًا آخر وهو: “أن يكون القولُ بأن ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم في حادثةٍ بعينِها ليس بصفة التشريع قولًا قديمًا لأهل العلم، لا قولًا حديثًا للمعاصرين؛ لأن مثل هذا القول لا يتغير بتغير الزمان، وصدورُه عن المعاصرين دونَ المتقدمين دليلٌ على تأثرهم بأحوالِ زمانِهم، وهذا كافٍ في إسقاطِ الاستدلالِ به”. من كتاب (كي لا يكون الخلافُ مِعولًا للهدم) – معن عبد القادر كوسا (42).

 

X