حضارة وفكر

مقاصدُ العمل التطوُّعي في الإسلام

التطوع مبدأ أصيل في شريعتنا الغراء، فهو قرين لأداء الواجبات والفرائض ومكمل لها، وبه يكمل المرء إيمانه ويُزيِّن خُلقه ويتقرب من ربه وينفع مجتمعه، وللتطوع بمعناه العام مقاصد وغايات، تسهم في البناء الإيجابي للمجتمع، والنهوض الحضاري للأمة.

الإسلام دين العطاء، والمرء إذا تمكن الإيمان من روحه وخالطت حلاوته بشاشة قلبه؛ فإن طباع البخل والشحِّ تتلاشى من نفسه، ويصبح كريمًا معطاءً لا يبخل بمال ولا يضنُّ بجُهد، يحدوه في عطائه موعود ربه العظيم، وفيضٌ من الجواد الكريم يبلغ عشرةَ أضعافٍ لكل حسنةٍ إلى سبعمائة ضعف، وحفظٌ من العذاب الأليم الذي توعَّد الله به مانعي الزكوات والصدقات والمتلذِّذين بمعاناة الضعفاء.

فالعطاء يزداد إذا زكَت نفس المرء، وبالعطاء تزكو النفوس، والعلاقة بينهما تبادلية تفاعلية على المستوى الفردي، وهي أوضح وأعمق أثرًا على المستوى الجماعي، فالمجتمع المتراحِم أقرب إلى رحمة الله ورضاه من غيره، ولذلك شرع الله تعالى العمل التطوعي وجعله شعيرةً ثابتة من شعائر الشريعة الإسلامية السمحة، تحقِّق للمجتمع المسلم عددًا من المقاصد الجزئية، التي كانت وما زالت سمات يتميز بها ويعرف بها.

المقصد الأول: ديمومة العطاء واستمرارية البذل:

إنَّ مقصود الشريعة الأعظم من التبرعات والأعمال التطوعية هو إقامة مصالح ضعاف المسلمين وقضاء حوائجهم التي لا تستقيم حياتهم العادية إلا بتلبيتها، ولا يبلغ هذا المقصد تمامه إلا إذا كان الإنفاق بمقادير ذات بالٍ وبصورة دائمة وعامة، قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩]، لأنَّ دوام الإنفاق وعمومه لا يحصل إلا ببذل ما لا يشقُّ على المنفقين ولا يثقل عليهم، قال العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: «وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين، فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم، ولا يُخِلُّون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني»[1]، وقد قال ﷺ: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً، وابدأ بمن تعول)[2]، ولأنه لا يجب أن يُفهم من هذا الحديث أن الإنفاق الصادر عن غير غنى هو دون ذلك، فإن ثناء الشريعة على إنفاق الغني لا يُنقص من فضل إنفاق المُقلِّ شيئًا، بل ذلك خاضع لما يحوط الإنفاق من الاستمرارية عند الغني والتضحية عند الفقير، ولذلك قال النبي ﷺ وقد سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: (جهد المقل)[3].

إنَّما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين، فحينئذٍ لا يشقُّ عليهم فلا يتركه واحدٌ منهم، ولا يُخِلُّون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني

الطاهر بن عاشور رحمه الله

وإقامة لهذا المقصد ندب الشرع الحنيف إلى جملة من التصرفات المعينة على إقامة هذا المقصد وإتمام نفوذه واستكمال هيئته، وعلى رأسها الأحباس والوصايا والعواري والهدايا والصدقات، وجميع أنواع التبرعات والهبات، حيث جعلت المصلحة العاجلة في هذه التصرفات للمقلين القابضين الذين هم أحوج إليها في دار الغرور، وجعلت المصلحة الآجلة للباذلين المنفقين الذين هم أحوج اليها في دار القرار.

فالوقف على سبيل المثال يحقق مصلحة واضحة لما فيه من الصلة وإغاثة الملهوف وإغناء المحتاج، وإقامة كثير من مصالح المسلمين، وفي هذا السياق يقول ابن راشد القفصي مبينًا الحكمة من تشريعه: «تكثير الأجر وعموم النفع ومراعاة مقاصد العبيد بعد الممات، والتنبيه على أن أعمالهم محفوظة عليهم»[4].

ومن ضمن ما يندرج في سلم هذه المعاني ما نقله الونشريسي في معياره عن محيي الدين النووي لما سئل عن سلطان اشترى من بيت المال أرضًا أو غيرها ووقفه على شيء من مصالح المسلمين كمدرسة أو مارستان أو رباط أو خانقات أو زاوية أو رجل صالح وذريته ثم على الفقهاء، هل يصح وقفه على ذلك أرضًا لبيت المال؟

فأجاب: «نعم يصح وقفه من بيت المال إذا رأى ذلك مصلحة لأن مال بيت المال لمصالح المسلمين وهذا منها»[5].

فكانت ديمومة العطاء واستمراريته مقصدًا عظيمًا من مقاصد الشريعة وغاياتها.

المقصد الثاني: جلب المصالح للمحتاجين ودرء المفاسد عنهم:

العمل التطوعي من أهم الوسائل التي تحقق مصالح ضعاف المسلمين وقضاء حاجات المعوزين وسد خلة الفقراء منهم وإجابة المضطرين، والمعلوم في علم المقاصد أن الوسائل تأخذ حكم الغايات، والمبدأ الأصلي للمقاصد هو درء المفاسد وجلب المصالح، يقول الإمام ابن القيم: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، وحكمة كلها»[6]؛ لأن «الله أمر بكل خير دقّه وجلّه، وزجر عن كل شرّ دقّه وجلّه، فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح»[7].

فالتبرعات -على سبيل المثال لا الحصر- من بين الوسائل الناجعة في تحقيق أصل جلب المصالح ودرء المفاسد عن المحتاجين وغيرهم. يقول الإمام السرخسي في شأنها: «إن التبرعات مشروعة في الأصل للإيثار بالعين لا لإيجاب شيء منها في الذمة»[8]. بل إنها على حد تعبير الإمام العز بن عبدالسلام وسيلة «يحصلون بها على دفع الحاجات والضرورات»[9]. إلا أن من بين وسائل التبرعات التي تجسد هذا الأصل أكثر من غيرها هو الوقف، فقد جعله النبي ﷺ حسب الشيخ ولي الله الدهلوي: «لمصالح لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيرًا، ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارةً أخرى، ويجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقَون محرومين، فلا أحسنَ ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبسًا للفقراء وأبناء السبيل تصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله على ملك الواقف»[10].

من استقرى الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة بأنواعها يرى أنَّ الغرض منها كلَّها مراعاة الفضائل من الحق والبر والإحسان، واجتناب الرذائل من الظلم والغدر ونقض العهود، والكذب والخيانة … وغيرها

محمد رشيد رضا رحمه الله

ومن الواضح أن هذا الأصل – أي تحقيق الشريعة – لمصالح المحتاجين يشمل كل جزئيات الشريعة، ولا يقتصر على المجال التطوعي فقط. وممن أكَّد هذه المزية الشيخ محمد رشيد رضا قائلاً: «من استقرى الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة بأنواعها من شخصية ومدنية وسياسية وحربية يرى أن الغرض منها كلها قاعدة مراعاة الفضائل فيها من الحق والبر والإحسان، واجتناب الرذائل من الظلم والغدر ونقض العهود، والكذب والخيانة والقسوة والغش والخداع، وأكل أموال الناس بالباطل، كالربا…»[11].

وما أكثر النصوص التي حث فيها النبي ﷺ على قضاء حوائج الآخرين، وبيَّن لهم فضل ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)[12]. قال الإمام النووي: «معنى نفّسَ الكربةَ: أزالها. وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونةٍ أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك»[13].

فلا شك أن من أهم الحوائج سرور وسعادة تدخلهما على نفس المسلم، من خلال مساعدته على التخلص من الفقر أو الجهل أو المرض، من خلال التعليم والتدريب، أو تقديم الرعاية الصحية، أو النصح والإرشاد، أو مساعدته في إيجاد فرصة عمل، أو تقديم قرض[14]، وهذه من وسائل العمل التطوعي للتخلص من التخلف والفقر من جهة، وتحقيق التنمية من جهة أخرى.

المقصد الثالث: تعاون وتماسك المجتمع الإسلامي:

إن تحقيق التعاون والتماسك الاجتماعي مقصدٌ عظيمٌ من مقاصد الشريعة الإسلامية، وتحقيق هذا المقصد رهين بأمرين:

الأمر الأول: وهو ترسيخ قيم التعاون والتضامن، مثل: الإيثار والأخوة والجود والكرم والرفق، ولا سبيل لتحقيق مقصد التماسك الاجتماعي إلا بهذه الطريقة، ويعد العمل التطوعي تجسيدًا فعليًا لهذه القيم، وفي هذا السياق يشير الدكتور باحو مصطفى إلى أن مقاصد الشريعة الإسلامية في الناحية الاجتماعية: «الحفاظ على تماسك المجتمع وترابطه وترسيخ معاني الأخوة وغرس روح التعاون والإيثار بين أفراده والتواضع والجود والكرم والرفق والسخاء والورع والرفق والقناعة والمحبة، وتشجيع كفالة اليتيم والإحسان للأرملة والفقير والمسكين، وإكرام الضيف والجار ومساعدة الغريب وابن السبيل، ومحاربة كل ما يهدد التماسك الاجتماعي كالظلم والغيبة والنميمة والتحاسد والتباغض والاستهزاء بالآخرين، والحقد والخيانة والغش والغدر والكذب والتجسس وسوء الظن ونقض العهد والكبر وغيرها مما جاء الإسلام بمحاربته، إنه نظام اجتماعي فريد يحق لنا أن نفتخر به»[15].

الأمر الثاني: تجريد تلك القيم من حظوظ النفس حتى تكون صافيةً لا يعكِّر صفوها أي شيء. يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: «ولتحقيق قصد الشريعة من جعل المواساة خلقًا للمسلمين جاءت الأوامر والنواهي بتجريد أنواع المواساة عن كل ما فيه حظ عاجل لنفس المواسِي (بصيغة اسم الفاعل) وكل ما فيه إضرار بالمواسَى (بصيغة اسم المفعول) وعن اتباع النفس لما واست به وتعلقها به فتنزيهها عن حظ نفس الباذل ثبت بالنهي عن طلب الأجر العاجل عن المعروف»[16].

عندما يتأتَّى الأمران السابقان يمكن أن نحقق مجتمعًا يصدق عليه التشبيه النبوي (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وشبّك أصابعه[17].

تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض، فكما أن أصابع اليدين متعددة فهي ترجع إلى أصلٍ واحدٍ ورَجُلٍ واحد، فكذلك المؤمنون وإن تعدَّدت أشخاصهم فهم يرجعون إلى أصل واحد وتجمعهم أخوة النسب إلى آدمَ ونوحٍ وأخُوَّة الإيمان

ابن رجب الحنبلي رحمه الله

يقول ابن رجب الحنبلي معلقًا على هذا الحديث: «وهذا التشبيك من النبي ﷺ في هذا الحديث كان لمصلحة وفائدة، لم يكن عبثًا، فإنه لما شبه شَدَّ المؤمنين بعضَهم بعضًا بالبنيان كان ذلك تشبيها بالقول، ثم أوضحه بالفعل فشبّك أصابعه بعضها في بعض؛ ليتأكد بذلك المثال الذي ضربه لهم بقوله، ويزداد بيانًا وظهورًا. ويفهم من تشبيكه: أن تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض، فكما أن أصابع اليدين متعددة فهي ترجع إلى أصلٍ واحدٍ ورَجُلٍ واحد، فكذلك المؤمنون وإن تعددت أشخاصهم فهم يرجعون إلى أصل واحد وتجمعهم أخوة النسب إلى آدم ونوح وأخوة الإيمان»[18].

وقد وصف النبي ﷺ أن من آثار هذه الأخوة والمحبة إخفاء مشاعر الأنانية والأثرة، فقال ﷺ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[19]. وشبه الرسول ﷺ مجتمع المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وقد جسد الرسول ﷺ هذه الأخوة بين المؤمنين من خلال مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار ليعلم الناس أن الأخوة ليست مجرد شعار، ولا عواطف ومجاملات وإنما هي أخوة حقيقية تصل في وقت الشدة والحاجة إلى اقتسام الثروة والقوة.

المقصد الرابع: بناء المجتمع وتنميته:

ليس المقصد من العمل الاجتماعي التطوعي سدُّ فراغ جائع أو ستر عورة عريان فحسب، ولكنه منهج شامل لبناء مجتمع أفضل. يقول الدكتور محمود غريب: «الصدقة في الإسلام ليست لُقَيمات تسد فراغ جائع ولا سترًا لعورة عريان. ولكنها منهج متكامل يمكن أن يسُدَّ حاجة كل إنسان»[20].

ومن المهم أن هذا المنهج الذي يتحدث عنه الدكتور غريب لا يمكن أن يحقق مقصد التنمية إلا إذا استُمِدّ من الكتاب والسنة على هدي الصحابة والتابعين. إذ إنَّ أي استمداد من غير هذين المصدرين محكوم عليه بالفشل منذ الوهلة الأولى. يقول الدكتور المرسي: «لقد تعاملنا مع كل «الأيديولوجيات» والمذاهب السياسية الموجودة في العالم، مع ذلك فهي لم تنفع لا في تنظيم الجماهير، ولا في إصلاح الدولة، ولا في تطوير الاقتصاد، ونحن لدينا كل المقومات في القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي الصحابة والتابعين، والأمثلة الزاهية من العلماء والفقهاء على مختلف العصور، ولكن لا نتحرك لتعميم الإفادة من كل ذلك في مواجهة كوارث الواقع ومتغيراته، بل على العكس، نحن نزداد بعدًا عن سبل الهداية في القرآن والسنة والتراث الصالحة لكل زمان ومكان، ونلجأ إلى تطبيق تجارب الأجانب التي تفضي في النهاية إلى الضياع»[21].

وهذا لا يمنعنا من الاستفادة من التجارب العصرية في حدود ما يوافق شريعتنا، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وهذه الاستفادة بهذه الصورة تطبيق عملي للأمر بالسير والاعتبار والتعلم والتفكر، وهي جزء من الهدي الإسلامي الأصيل.

إنَّ العمل الاجتماعي التطوعي اليوم لم يعد مقتصرًا على منح المساعدات المالية والعينية فحسب، بل هو حسب الدكتور القدومي تعدى إلى أن يكون عملاً منظمًا شاملاً يحتوي على مختلف الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وأصبحت هناك إدارات ومؤسسات متخصصة لجمع التبرعات وحفظ المعلومات عن المتبرعين وعناوينهم، كما أصبحت الجامعات في الدول المتقدمة تمنح الدرجات العلمية للدراسين في مجال إدارة العمل الخيري[22]. وبناء على هذا يعُدُّ الدكتور القدومي نظرة كثيرين إلى العمل التطوعي ومؤسساته لا تتعدى كونها نوعًا من «الاستجداء» وهذه النظرة لها انعكاساتها السلبية[23]. بل إن جمع التبرعات في أذهان كثيرين هو فتح صندوق ومناشدة للتبرع ووضع النقود فيه ثم أخذه إلى حيث لا ندري![24].

ولتخطي هذه النظرة السلبية ينبغي عدّ العمل التطوعي ركنًا أصيلاً في عملية التنمية والبناء. يقول الدكتور غانم: «ونحن نرى أن العمل الخيري الإسلامي ليس مرحلة أولية من مراحل تطور العمل الاجتماعي التطوعي المعني بالشأن العام، وإنما هو ركن أصيل في بناء المجتمع، وفي تمدينه وبناء تقدمه العلمي والمعرفي، كما أنه يتسع معناه لمختلف المراحل التي يشيرون إليها، وقد أثبتت التجربة التاريخية أن تطبيقاته تشمل مختلف مجالات الحياة بما في ذلك الأعمال الإغاثية، ولها أهميتها التي لا يجادل فيها أحد. والأعمال التنموية وأنشطة التأهيل والتمكين والدفاع عن الحقوق الإسلامية والدفاع عنها، وثمة العديد من الأدلة والبراهين التي تثبت صحة ما نذهب إليه»[25].

وممن يؤكد الفكرة نفسها الدكتور فؤاد عبد الله حين جعل الوقف أحد أهم عناصر التنمية في قوله: «يعتبر الوقف أحد عناصر التنمية الاجتماعية، فهو يقوم على عمليات تغيير اجتماعي تركز على البناء الاجتماعي ووظائفه بغرض إشباع الحاجات الاجتماعية للأفراد وتقديم الخدمات المناسبة لهم في جوانب التعليم والصحة والإسكان والتدريب المهني وتنمية المجتمعات المحلية؛ بحيث تنفذ من خلال توحيد الجهود الأهلية والحكومية»[26].

الوقف هو الحجر الأساس الذي قام عليه العمل الخيري في تاريخ حضارتنا، وهو الذي كان يمدُّ المؤسسات الاجتماعية بالموارد المالية التي تعينها على أداء رسالتها الإنسانية النبيلة. ولأجل هذه الخصائص استطاع الوقف أن يوفِّر مناخًا للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي

وبهذا المعنى الأخير فإنَّ الدور الذي أداه الوقف في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في كثير من الدول الإسلامية دورٌ مؤثر كما هو الشأن للأحباس المغربية[27]. وهو الحجر الأساس الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية في تاريخ حضارتنا على حد تعبير الدكتور السباعي، وهو الذي كان يمد كل المؤسسات الاجتماعية بالموارد المالية التي تعينها على أداء رسالتها الإنسانية النبيلة[28]. لأجل كل هذه الخصائص التي تميَّز بها الوقف استطاع أن يوفِّر مناخًا للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي[29].

وقد بيّن الدكتور القدومي بعض أسس التنمية التي يحققها العمل الخيري وأهمها ما يلي[30]:

  • تحقيق المشاركة الشعبية التي تعد ركيزة من ركائز الرعاية والتنمية الاجتماعية.
  • تنشيط الحركة الاجتماعية الذاتية بمضاعفة المؤسسات الخيرية والاجتماعية والتطوعية ورفع كفاءتها.
  • غرس المفهوم الصحيح للعمل الخيري والطوعي الذي يتجاوز المفهوم الضيق الحالي ليشمل النهضة والتنمية وكل معاني البر والإحسان والعدل والرحمة وكل المعاني المرتبطة بتكريم الإنسان.
  • إحياء قيم التكافل والتعاون ورعاية ذوي القربى وأهل الجوار وذوي الحاجة في المجتمع.
  • ترسيخ العمل التضامني بين المواطنين والدولة والمجتمع، فالتنمية الاجتماعية جهد مشترك.
  • مساعدة الفقراء وذوي الدخل المنخفض ومحاربة الفقر ودرء المخاطر الاجتماعية والأخلاقية المترتبة عليه ومحوها محوًا كاملاً.
  • دعم ومساندة الفئات الخاصة في المجتمع من المسنين والمعاقين والأيتام وغيرهم.
  • توسيع نطاق العمل الخيري والطوعي ليتجاوز نطاق المحلية إلى إطار الإقليمية والعالمية.

المقصد الخامس: تربية نفس الإنسان على الرحمة وحب الخير:

من مقاصد العمل التطوعي تربية نفس الإنسان على الحبِّ والرحمة والشفقة والحنان، والأخوَّة في الله، حتى إذا تمكَّنت هذه المشاعر اللطيفة من نفس الإنسان كانت أقرب إلى التعاون وأدنى إلى التكافل.

وقد تولى القرآن الكريم خدمة هذه المقاصد النفيسة في آيات كثيرة، منها: أمر الناس بالتقوى في سياق تذكيرهم بأصلهم المنحدر من نفس واحدة ومن زوجها، قال تعالى في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].

وفي ظل الحبِّ والرحمة وتمكُّن التقوى من القلوب حرص القرآن الكريم على ترسيخ خُلُق الإيثار والتضحية بما هو عزيز على النفوس في سبيل إسعاد الآخرين، فلا بدَّ للتكافل من قوم يؤثرون على أنفسهم، ويضحُّون بالغالي والعزيز عليهم، فالمجتمع فيه الواجدون والمحرومون، وإذا لم يؤثر الواجدون على أنفسهم، وإذا لم يضحوا بما يملكون؛ لم يقم التكافل، ولم يقم التعاون[31].

كما حرص القرآن الكريم على تطهير النفس الإنسانية من الرياء، حتى يكون العمل الخيري التطوعي خالصًا لوجه الله لا سمعة فيه ولا رياء، فقال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: ٨]، وقال في سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٢]. ثم إنَّ الإسلام جاء بمفهومٍ واسعٍ للإحسان الخيري التطوعي لا يقتصر على الأغنياء وحدهم، بل حتى الفقراء أمامهم مجال واسع للإسهام في التكافل، وطلب الآخرة والثواب.

وهكذا بين الرسول ﷺ بأن (كل معروف صدقة)[32] وفي سياق بيانه لوجوه الخير وكثرتها قال ﷺ: (كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطبية صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)[33].

في ظل الحبِّ والرحمة وتمكُّن التقوى من القلوب حرص القرآن الكريم على ترسيخ خُلُق الإيثار والتضحية بما هو عزيز على النفوس في سبيل إسعاد الآخرين، فلا بدَّ للتكافل من قوم يؤثرون على أنفسهم، ويضحُّون بالغالي والعزيز عليهم، وبدونهم لا يقوم التكافل ولا التعاون

الخلاصة:

يتضح مما سبق أن المقصد العام من الشريعة الإسلامية هو جلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد، والعمل التطوعي باعتباره مبدًا إسلاميًا أصيلاً، يروم تحقيق هذه الغاية التي جاء من أجلها الشرع الحكيم، لما ينطوي عليه العمل التطوعي من مقاصد جزئية كثيرة.


[1] التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (٢/٣٥١).

[2] أخرجه البخاري (1426).

[3] أخرجه أبو داود (1677).

[4] لباب اللباب، لابن راشد القفصي، ص (٢٣٧).

[5] المعيار المعرب والجامع المغرب، للونشريسي، (٧/٢٦٦).

[6] إعلام الموقعين، لابن القيم (٣/١١).

[7] قواعد الأحكام، للعز بن عبدالسلام (٢/١٨٩).

[8] أصول الفقه، للسرخسي (٢/٢٨٠).

[9] القواعد في اختصار المقاصد، للعز بن عبدالسلام (١١٩).

[10] حجة الله البالغة، للشاه ولي الله الدهلوي (٢/١٨٠).

[11] الوحي المحمدي، لمحمد رشيد رضا، ص (٢٠٧).

[12] أخرجه مسلم (٢٦٩٩).

[13] شرح صحيح مسلم، للنووي (١٧/٢١).

[14] العمل الخيري ودوره في التنمية الاقتصادية من منظور إسلامي «دراسة حالة: قطاع غزة»، لمحمد إبراهيم أبو عليان، ص (٦٠).

[15] العلمانية والمذهب المالكي، لباحو مصطفى، ص (١٤٨).

[16] أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، للطاهر بن عاشور، ص (١٣٩).

[17] أخرجه البخاري (٤٨١).

[18] فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن رجب الحنبلي (٣/٤١٩-٤٢٠).

[19] أخرجه البخاري (١٣).

[20] المال في القرآن، لمحمود محمد غريب، ص (٨٨).

[21] من قضايا التربية الدينية في المجتمع الإسلامي، لكمال الدين عبد الغني المرسي، ص (١٨٦).

[22] أسس العمل الخيري وفنون تسويقه، لعيسى القدومي، ص (١١٦).

[23] المصدر نفسه، ص (١٢٢).

[24] المصدر نفسه، ص (١٨).

[25] مقاصد الشريعة الإسلامية في العمل الخيري رؤية حضارية مقارنة، لإبراهيم غانم، ص (٤٣).

[26] إسهام الوقف في العمل الأهلي والتنمية الاجتماعي، الأمانة العامة للأوقاف، الكويت، ص (٤١).

[27] ينظر: ندوة التجارب الوقفية لدول المغرب العربي، ص (١١).

[28] ينظر: من روائع حضارتنا، لمصطفى السباعي، ص (١٩٨).

[29] ينظر: الزكاة الأسس الشرعية والدور الإنمائي والتوزيعي، لمشهور نعمت عبداللطيف، ص (٤١٠).

[30] أسس العمل الخيري وفنون تسويقه، لعيسى القدومي، ص (٢٦-٢٨).

[31] ينظر: دراسات إسلامية، لسيد قطب، ص (٥٣-٥٤).

[32] أخرجه البخاري (٦٠٢١).

[33] أخرجه مسلم (١٠٠٩).


د. مصطفى بوهبوه

حاصل على الدكتوراه في الفقه والأصول – المغرب، وللكاتب عدة مواد في الموضوع، منها كتاب “العمل الخيري التطوعي أصوله وأبعاده”.

X