تزكية

معركة الإرادة والدّوبامين في رمضان

معركة الإرادة والدّوبامين في رمضان

خلق الله الإنسان وأودع فيه أسرارًا كثيرة، وأمره بالتفكُّر والتبصُّر في خلقه، لعل ذلك يهديه إلى معرفة الله وإدراك الحِكَم من تشريعاته مما يزيد من يقينه ويُعين على عبادته، وهذه الأسرار تتكشَّف يومًا بعد يوم كُلَّما تقدم العلم، ومعرفتُها تُفيد في تهذيب النفس والسموِّ بها نحو معالي الأمور، حيث يترفَّع الإنسانُ عن الطباع الرذيلة والأخلاق الوضيعة، وتكمل فيه صفات العزة والإرادة والحرية.

مدخل:

رمضان شهرٌ صمّم الله لك فيه عباداتك، ووزّع فيه أوقاتك، وأرشدك إلى ما يجب أن تفعل فيه وتترك، ووعدك -وهو أعلم بك منك- أنّك لو فعلت ذلك على وجهه فإنّك سوف تنجح في تغيير نفسك، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].

ثم زاد في تحفيزك بتعظيم الأجر والثواب في كلّ عملٍ صالحٍ تفعله في رمضان عامّة، وفي العشر الأواخر وليلة القدر خاصّة. ثم صوّر لك أنّ الأمر يسير فلا تعجز، وأنّ الفرصة نادرة وقد تفوتك، فوصف رمضان بأنّه: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾!

بعد كلّ هذا، كم هو محروم مَن فاته العمل في رمضان!

شرع الله الصيام لحِكَمٍ عظيمة، لا شكَّ أنَّ المقصد الأول منه: التقوى، والذي يتحقَّق بالامتناع عما نهى الله عنه من المباحات والمحرمات، بالإضافة لفعل الطاعات، كما أنَّ من الحكم المهمّة: تقوية الإرادة وتحقيق الصبر، وهو ما سيتناوله هذا المقال، من خلال النظر في آخر ما توصل إليه علم الأعصاب وعلم النفس؛ ليَخْلص إلى فهمٍ عميقٍ للسلوك البشري، وللعادات والإدمان بشكلٍ خاصّ، وبعض القواعد العملية المساعدة على التغيير، وكيف يمكننا استثمار شهر رمضان لهذا التغيير.

 المقصد الأول من تشريع الصيام هو التقوى، والذي يتحقَّق بالامتناع عما نهى الله عنه من المباحات والمحرمات، بالإضافة لفعل الطاعات، كما أنَّ من الحكم المهمّة: تقوية الإرادة وتحقيق الصبر

الدوبامين كلمة السرّ في السلوك الإنساني:

عندما نغوص في علم الأعصاب لنفهم كيف تتشكّل العادة والإدمان، ولماذا يصبح البعض مثل العبد، تأسره العادة فلا يملك إلّا أن يُساق لها، فإنّنا لا بد أن نقف وقفةً طويلةً مع كلمة السرّ وهي: الدوبامين.

هنالك اعتقاد شائع أنّ الدوبامين هو هرمون السعادة وهذا غير صحيح، بل الدوبامين هو ناقل عصبي كيميائي يولّد في الإنسان الرغبة ليقوم بسلوكٍ يجلب له المتعة[1].

حتى تكون الأمور أكثر وضوحًا لا بدّ من إطلالة على ما يُسمّى بحلقةِ تَشَكُّل العادة أو ما يُسمّى أيضًا بنظام المكافأة، وهي ما يُفسّر تحوّل سلوكٍ ما إلى عادةٍ أو إدمان، أي أنّ حلقةَ تَشَكُّل العادة تجيب على سؤال: لماذا تتحوّل بعض السلوكات إلى عادات أو إلى إدمان فيما لا يتحوّل غيرها!؟

معظم الناس يعتقدون أنّ تكرار السلوك كفيلٌ بتحويله إلى عادة وهذا غير دقيق، فالعادة لا تتشكّل نتيجة تكرار السلوك، بل نتيجة تكرار: حَلَقَة تشكُّل العادة.

وهذه الحلقة تتألّف من ثلاثة أجزاء هي:

  1. الإشارة: وهي الحدث الذي يولّد فينا الرغبة لنقوم بالسلوك الذي سيتحوّل إلى عادة.
  2. السلوك.
  3. المكافأة: وهي المتعة التي يشعر بها الإنسان بعد قيامه بالسلوك[2].

لنأخذ مثالاً على ذلك: عادة متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، ونطبّق عليها أجزاء حلقة العادة:

  1. الإشارة: وهي ما يولّد فيك الرغبة بفتح الفيسبوك أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، فقد تكون الإشارة مشاهدة غيرك يمسك جواله، أو قد تكون سماعك لصوت إشعار لتعليق أو رسالة.
  2. السلوك: هو دخولك وتصفّحك.
  3. المكافأة: التسلية التي تحصل عليها، أو تقدير الذات نتيجة الثناء الذي تتلقّاه من الآخرين على منشوراتك، أو المتعة والتسلية لمشاهدتك بعض المقاطع.

العادة لا تتشكَّل نتيجة تكرار السلوك فحسب، بل نتيجة تكرار حَلقَة تشكُّل العادة، ولذلك تحرص شركات التكنولوجيا أن تصمّم منتجاتها بما يحقّق حلقة تشكُّل العادة، وهذا يفسّر كثرة استعمال الناس لها، وإدمانهم عليها

كلّ سلوك يحقّق حلقة تَشَكُّل العادة، يمكن أن يتحوّل إلى عادة، بل يمكن أن يتحوّل إلى إدمان، ولذلك تحرص شركات التكنولوجيا المصنّعة لوسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الالكترونية أن تصمّم منتجاتها بحيث تحقّق حلقة تشكُّل العادة وهذا يفسّر كثرة استعمال الناس لها، بل وإدمانهم عليها، حتى صارت تصنّف عالميًا على أنّها إدمان![3].

حتى إنّ الكاتب «آدم إلتر» ذكر في كتابه (لا يُقَاوَم) إحصائيات مخيفة عن انتشار هذا الإدمان، منها أنّ الصين فيها أكثر من ٤٠ ألف مركز طبي لمعالجة مدمني الإنترنت![4].

لنعد إلى الدوبامين، ودعني أسألك هذا السؤال:

في أيّ مرحلة من المراحل الثلاثة لحلقة تشكُّل العادة يُفرز الدوبامين؟

الاعتقاد الشائع عند الذين يُسمّون الدوبامين بهرمون السعادة أنّه يُفرَز بعد حصولنا على المكافأة وهذا غير صحيح، بل يُفرَز الدوبامين بعد المرحلة الأولى، أي بعد حصول الإشارة؛ فيولِّد فينا الرغبة لنقوم بالسلوك. ففي مثالنا الأخير عن عادة متابعة وسائل التواصل الاجتماعي: يتمّ إفراز الدوبامين عند سماعنا لصوت إشعار أو رسالة مما يولّد فينا الرغبة لندخل في السلوك.

هل عرفت الآن لماذا قلت: إنّ الدوبامين هو كلمة السرّ في السلوك الإنساني؛ لأنّه لولا الدوبامين ما تولّدت فينا الرغبة لفعل أي شيء!

لولا الدوبامين الذي أودعه الله فينا لما استطعتُ أن أكتب هذا المقال، ولما استطعتَ أنت أن تقرأه، بل لولا الدوبامين لما درستَ ولا عملتَ ولا مارستَ الرياضة ولا سافرتَ … إلخ.

ربّما تظنّني مبالغًا في توصيفي، لكنّي ما وصفت الأمر على حقيقته بعد!

في عام ١٩٥٤ أجرى عَالِمَا الأعصاب «جیمس أولدز» و«بیتر میلنر» تجربة على الفئران حيث منعا إفراز الدوبامين عندها، العجيب أنّ الفئران فقدت الرغبة في عمل أيّ شيء تمامًا، حتى الأكل.

كان الأكل بجوارها ومع ذلك لم تأكل، ماتت الفئران من الجوع ولم تأكل![5]

فمن أجل المحافظة على بقائنا: فإنّ الدوبامين يُفرز بكمّيات كبيرة ليدفعنا نحو السلوك الغريزي الذي يحافظ على بقائنا مثل الأكلِ والشربِ، والجنسِ (الذي يحافظ على بقائنا كنوع إنساني لا كأفراد)، والهربِ عند تعرّضنا للخطر.

لكن بعيدًا عن السلوكات الغريزية، متى يتم إفراز الدوبامين بكميات كبيرة؟

يتناسب إفراز الدوبامين طردًا مع أمرين:

1. القيمة المتوقّعة للمكافأة اللحظية: أي أنّ دماغنا بعد تعرّضه للإشارة التي تذكّره بالسلوك، سيتذكّر التجارب السابقة له معها، فإذا كانت تلك التجارب ممتعة، عندها سيُفرِز كميات كبيرة من الدوبامين حتى يدفعك أكثر لتقوم بهذا السلوك؛ لأنّ دماغنا يحبّ المتعة!

على سبيل المثال: طلب منك مجموعة من أصدقائك أن تلعب معهم لعبةً ما؛ فشاركتهم فيها، ثم بعد بضعة أيام عاودوا ذلك الطلب، هنا يتوقّف إفراز الدوبامين على القيمة المتوقّعة للمكافأة، فلو كانت تجربتك الأولى معهم ممتعة جدًّا سيتم إفراز كميات كبيرة من الدوبامين، وإلا فالعكس بالعكس.

2. سهولة السلوك: كلّما كان السلوك المطلوب للحصولِ على المتعة أسهل، كانت كمّية الدوبامين المفرزة أكبر. على سبيل المثال: الألعاب الإلكترونية يعتاد عليها الإنسان بسرعةٍ أكبر من الألعاب الحركية الرياضية لأنّها أسهل، ولذلك تُفرز لأجلها كمّياتٌ كبيرة من الدوبامين.

حقيقتان عن دماغ الإنسان لا تنسهما: (كسول، ويحب المتعة).

ولذلك فإنّه يفرز كمّيات كبيرة من الدوبامين تجاه أيِّ سلوك يجلب له متعةً كبيرة، ولا يتطلَّبُ جهدًا كبيرًا، مثل بعض الألعاب الإلكترونية، والمواقع الإباحية، والمخدّرات!

وهذا ما يفسّر تشكّل بعض العادات بسرعةٍ كبيرة، حيث إنّ العادات من الناحية العصبية هي عبارةٌ عن مسارات (طرق) عصبية يفضّل الدماغ السير فيها، عن السير في غيرها؛ لأنّها أسهل وأكثر مُتعة، هذه المسارات تتشكّل بسرعة كلما:

  • قمت بتكرار حلقة تَشَكُّل العادة أكثر.
  • أُفرزت كمّيات أكبر من الدوبامين.

إذا أردت أن تبني عادةً فلا بدّ لك أنّ تصمم حلقة تَشَكُّل العادة الخاصّة بها، وأن تحرص على أن تكونَ مستمتعًا حين قيامك بالسلوك، لأنّ هذا الاستمتاع سيجعل الدماغ يُفرز كمّيات كبيرة من الدوبامين في المرّات التالية مما يجعلك متحمسًا مستمتعًا للقيام به

ولذلك فإذا أردت أن تبني عادةً فلا بدّ لك من مراعاة هذين الأمرين:

أوّلاً: أنّ تصمم حلقة تَشَكُّل العادة الخاصّة بها. لا تَقُل: سأقرأ كلّ يوم، بل اربط السلوك بإشارة وقُل: سأقرأ كلّ يوم بعد فنجان القهوة الصباحي مثلاً.

ثانيًا: احرص على أن تكونَ مستمتعًا حين قيامك بالسلوك، لأنّ هذا الاستمتاع سيجعل الدماغ يُفرز كمّيات كبيرة من الدوبامين في المرّات التالية، ممّا يساعد على سُرعة تشكيل المسارات العصبية للعادة الجديدة.

أي لو كانت كمّيات الدوبامين عاليةً لديك فهذا يجعلُك متحمّسًا في حياتك، مستمتعًا بها، وأكثرَ قدرةً على تشكيل عاداتٍ إيجابيةٍ جديدة.

لكن ماذا لو كانت كمّيات الدوبامين الموجودة لديك قليلة بالعموم!؟

انخفاض مستوى الدوبامين يعني انخفاض الرغبة والدافع للقيام بسلوكٍ ما، فإذا كان الانخفاض عامًّا فهذا يعني فقدان الرغبة في القيام بأيّ شيء! ولعلّك مررت بمثل هذه اللحظات، حالةٌ من المللِ الشديد وعدمِ الرغبة في فعل أيّ شيء، مهما رآه غيرك ممتعًا ومثيرًا.

ماذا لو انخفض الدوبامين أكثر!؟

عندها قد يدخلُ الإنسان في مرض الاكتئاب، وهو فُقدان الرغبة في فعل أيّ شيءٍ في الحياة، وقد يتطوّر الأمر إلى فقدان الرغبة في الحياة نفسها، والانتحار.

لكن ما الذي يجعل كمّيات الدوبامين تنخفض في الجسم؟

لذلك عدّة أسباب، منها: مَرَضِيٌ كمرض ألزهايمر، ومنها متعلّق بنقص التغذية أو تعاطي بعض الأدوية، وكلّ مما سبق لا يهمّ معظم الناس، إلا أنّ هنالك سببًا شائعًا اليوم يجعل غالبية الناس في عصرنا يعانون من انخفاض مستوى الدوبامين في جسمهم!

لكن قبل أن أذكر السبب دعنا نتعرف على الدوبامين أكثر، وقد سبق أن عرفناه على أنّه ناقل عصبي كيميائي، فما المقصود بذلك؟

النواقل العصبية الكيميائية هي مواد كيميائية يفرزها الدماغ ثم تنتقل من خلية عصبية إلى خلية عصبية أخرى حاملة معها رسائل معيّنة، قد تكون هذه الرسائل حسّية كالإحساس بالألم أو الصوت أو المذاق، وقد تكون الرسائل حركيةً لتحريك عضلةٍ ما.

تنتقل هذه النواقل من خليةٍ إلى أخرى في المنطقة التي تتشابك فيها نهايات الخليّتين العصبيّتين مع بعضهما، تسمّى هذه المنطقة بالمشبك العصبي، حيث تقوم خلية بإفراز النواقل العصبية الكيميائية فتستقبلها الخلية الأخرى عبر ما يسمّى بالمستقبِلات، بحيث يكون لكلّ ناقلٍ عصبي كيميائي مستقبِلٌ خاصٌّ به يتعرّف عليه ثم يدخله إلى خليته لينتقل إلى غيرها وهكذا.

الدوبامين هو أحد هذه النواقل العصبية الكيميائية.

ما الذي يجعل مستوى الدوبامين اليوم منخفضًا إذًا!؟

قبل أن أجيبك سأحكي لك موقفًا حصل معي ومع كثيرين غيري، حيث إني قبل سنوات قرّرت أن أُقلع عن تناول السكر والحلويات تمامًا، وذلك بعد أن عرفتُ أضرارها، وبعد قرابة أسبوعين من إقلاعي هذا، جربت أن آكل قطعةً من الشوكولاتة فتفاجأتُ عندما أكلتُ أول قضمةٍ منها بأنّها حُلوةٌ جدًّا إلى درجة غير مقبولة، لدرجة أني ما استطعتُ إتمام أكلها، على الرغم من أني كنتُ سابقًا مكثرًا منها وربما آكل قطعتين في وقت واحد.

ما تفسير هذا!؟

لقد صرتُ أكثر حساسيةً تجاه الحلويات بعد امتناعي عن تناولها لعدّة أيام، وتفسير ذلك: أنّ في الفم خلايا عصبية تُسمّى براعم التذوق، هذه الخلايا هي التي تنقل إحساس الطعام الحلو والحامض والمرّ وغيره، ولكن حتى تنقُلَ هذه الخلايا أيَّ إحساس يجب أن يكون بتركيز معيّن يُسمّى عتبة الإحساس، فلو كان تركيز الطعم الحلو تحت عتبة الإحساس فإنّ براعم التذوّق لا تتعرّف عليه ولا تنقل مذاقه، وعندها قد يأكل الإنسان شيئًا حلوًا لكنّه لا يشعر بحلاوته لأنّ التركيز دون العتبة.

لكن ماذا لو أنّك أدمنت على تناول الحلويات، وصرت تأكلها بكميات كبيرة وتراكيز عالية؟! عندها سيقوم الجسم بالتكيّف مع الوضع الجديد، ويرفع عتبةَ الإحساس إلى مستوىً جديد! وعندها ستأكل طعامًا حلوًا جدًّا ولن تشعر بأنّ حلاوته مزعجة.

رفْعُ عتبة الإحساس سيجعلك أقلّ إحساسًا بالطعم الحلو، أي أنّك لو أكلت من الفواكه فلن تشعر بحلاوتها كما هي، بل ربما لن تشعر بحلاوتها أبدًا لأنّ تركيز الطعم الحلو فيها أقلّ من عتبة الإحساس الجديدة لديك.

وكما يقال: كثرة المساس تُميت الإحساس.

لكنّك لو امتنعت عن الحلويات لعدّة أيام فإنّ هذه المستقبلات تبدأ باسترداد عافيتها وتعود إلى حساسيتها الأصلية وترجع عتبة الإحساس لديها طبيعية، وحينها ستشعرُ بطعم الفواكه أكثر، وحينها ستزعجُك قضمةٌ واحدة صغيرة من الحلوى.

لكن ما علاقة الحلويات وبراعم التذوّق بالدوبامين!؟

ما جرى على براعم التذوق هو ما يجري على مُستقبلات الدوبامين، أي أنّ هذه المستقبلات عندما تتعرّض لكمّيات كبيرة من الدوبامين فإنّها تضعف حساسيتها ويقلّ تأثرها، وبالتالي لا تولّد الرغبة كما كانت، ويصبح الإنسان بحاجة إلى كمّيات أكبر من الدوبامين حتى تتولّد الرغبة في داخله.

فما الذي يجعل الدوبامين اليوم يُفرَز بكمّيات كبيرة عند الكثير من الناس؟

إنّها ثلاثية الإدمان على التكنولوجيا: (وسائل التواصل الاجتماعي، والألعاب الإلكترونية، والمواقع الإباحية).

إدمان واحدة من هذه المواقع والتطبيقات أو أكثر يجعل الدماغ يفرز كمّيات هائلة من الدوبامين لم تكن مستقبلات الدوبامين معتادة عليها؛ ممّا يؤدي إلى تخريب حساسيتها، وينتج عن ذلك أنَّ الدوبامين يُفرَز بكمياتٍ كبيرة لكنّه مع ذلك لا يقوم بدوره.

للإدمان تأثير خطير على البشر، فهو يجعل الدماغ يفرز كمّيات هائلة من الدوبامين لم تكن مستقبلات الدوبامين معتادة عليها؛ ممّا يؤدي إلى تخريب حساسيتها، وهذا بدوره يفسد دافعية الإنسان لأي عمل إيجابي أو منتج؛ لأنَّ الكميات العادية من الدوبامين لم تعد تقوم بدورها في التحفيز

عندها تصبح الكميات الطبيعية من الدوبامين لا تولّد في الإنسان أيّ رغبة لأنْ يقرأ مثلاً أو يتعلّم مهارةً جديدةً، أو يمارس رياضةً مفيدة …إلخ.

هي ذاتُها الأعراض التي تظهر على مُدمني المخدّرات وللسبب ذاته تمامًا، حتى أنّ «غاري ويلسون» ذكر في كتابه: (دماغك تحت تأثير الإباحية) أنّ التغيّرات التي تطرأ على الدماغ نتيجة إدمان الإباحية شبيهة بتلك التغيرات التي تحصل نتيجة إدمان المخدرات![6]

فما هو الحل!؟

صوم الدوبامين:

لعلّ قصّة الامتناع عن تناول الحلويات لعدّة أيام قد ألهمتك الحلّ مع مشكلة الدوبامين.

الحلّ هو «صوم الدوبامين»، ويُقصد به: أن تُخفّف من تعرّض مستقبلات الدوبامين للجرعات الكبيرة من الدوبامين حتى تستعيد حساسيتها الأصلية.

ولا شكّ أنّ مصطلح «صوم الدوبامين» هو تعبير مجازي لا يُقصد به المعنى الحرفيُّ للكلمة، بل يمكنك أن تقول: إنّك ستجعل مستقبلات الدوبامين هي من ستصوم عن استقبال الكميات الكبيرة من الدوبامين.

كيف تفعل ذلك؟

بأن تقلّل من استعمالك لما يفرز كمّيات كبيرة منها، ويأتي في مقدّمة ذلك: إدمان الجوال، يمكنك أن تخصّص يومًا في الأسبوع، بدون جوال نهائيًّا، أو أن تخصّص عددًا معينًا من الساعات اليومية بدون جوال، والخيار الأخير أفضل، لأنّه يتحوّل بعد فترة إلى عادة يسهل الحفاظ عليها.

لو أنك نجحت في «صوم الدوبامين» فهذا سينعكس إيجابيًّا على جوانب عديدة في حياتك منها:

  1. ستخفّف من مضيعتك لوقتك بدون فائدة.
  2. عودة الحساسية لمستقبلات الدوبامين إلى المستوى الطبيعي سيجعلك أكثر قدرةً على بناء عاداتٍ إيجابيةٍ جديدة لأنّ كلمة السر (الدوبامين) عادت لعملها.
  3. ستشعر بمتعة أكبر في نشاطاتٍ حياتيةٍ كنت قد فقدت الكثير من متعتها بسبب تخرّب حساسية مستقبلات الدوبامين.

نحن في معركة دائمةٍ بين الدوبامين الذي يدفعنا أحيانًا لننغمس في المعاصي وفي إضاعة أوقاتنا بغير طائل من جهة، وبين قوّة إرادتنا التي تحاول أن تستلم زمام الأمور لننجح في الدنيا والآخرة، ولذلك كلّما استطعنا أن نزيد من قوّة إرادتنا كان احتمال انتصارنا في هذه المعركة أكبر

معركة الإرادة والدوبامين:

قلنا إنّ «صوم الدوبامين» يساعد على بناء عاداتٍ إيجابية، لكن ماذا عن العادات السيئة؟

ماذا نصنع مع الكميات الكبيرة من الدوبامين التي تتدفّق لتدفعنا بشكل قهري لننغمس في عاداتنا السيئة وإدماناتنا؟

ما الذي يجعلنا نستطيع أن نقول: لا!؟

أن نترك هذه الرغبة، ونمضي في طريق آخر!

إنّها قوة الإرادة! وهي محطّ اختبارنا في هذه الدنيا، أن نتغلّب على الشهوات والإغراءات ونمضي في الطريق الصحيح.

أي أنّنا في هذه الحياة نكون في معركة دائمةٍ بين الدوبامين الذي يدفعنا أحيانًا لننغمس في المعاصي وفي إضاعة أوقاتنا بغير طائل من جهة، وبين قوّة إرادتنا التي تحاول أن تستلم زمام الأمور لننجح في الدنيا والآخرة.

ولذلك كلّما استطعنا أن نزيد من قوّة إرادتنا كان احتمال انتصارنا في هذه المعركة أكبر، فكيف يمكننا أن نفعل ذلك!؟

يُسمِّي بعض العلماء قوّة الإرادة بعضلة الإرادة، والمقصود بهذه التسمية التركيزُ على ميزةٍ مهمّة في قوّة الإرادة تشترك فيها مع العضلات وهي:

أنّه يمكننا أن نزيد من قوّة إرادتنا أو أن نُضعفها كما العضلات، نزيدها كلّما استعملناها أكثر، ونُضعفها كلّما أهملناها ولم نستعملها[7].

فما هي تمارين عضلة الإرادة!؟

كلّ استعمال لقوّة الإرادة هو تمرين لتقويتها، كلّ جولةٍ في معركة الإرادة مع الدوبامين هي تمرين لزيادة قوّة هذه العضلة.

مثل محاولة اكتساب عادات جديدة، أو التخلّي عن العادات السيئة، أو تعلّم أمور ومهارات جديدة.

ومن التمارين أيضًا أن تتحكّم في انفعالاتك، أن يُسيء إليك أحدهم فلا تردَّ الإساءة، أن تغضب فتكظم غيظك أو تعفو عمّن أغضبك، أن ترغب في قول كلامٍ فيه فحش ثم تمسك لسانك.

إلا أنّ أحدَ أهمّ تمارين عضلة الإرادة وأكثرها فعاليةً هو: الحرمان!

أنْ تحرم نفسك مما تشتهي، أنْ يتدفّق الدوبامين رغبةً في أمرٍ ما، ثم تحرم نفسك منه!

هنا نرى أنّ صوم رمضان هو دورةٌ تدريبيةٌ طويلةٌ لتقوية عضلة الإرادة، لكن لمن يحسن أن يؤدّي الصيام على وجهه!

لو أردت أن تخرج بأكبر فائدة ممكنة من صوم رمضان، فعليك ألا تنسى أنّ الصوم هو معركة بين إرادتك وبين شهواتك، وهذه المعركة لا ينحصر ميدانها في الطعام والشراب، بل يتعدّاها لكلّ جوانب حياتك اليومية، والتي يأتي على رأسها اليوم تعاملك مع الإنترنت

بين صوم رمضان وصوم الدوبامين:

الصوم هو عبادة الترك! فأنت تؤجر لأنَّك تترك فعل أشياء تشتهيها النفس، وتؤجر لأنَّك تحرم نفسك مما تشتهيه إرضاءً لله سبحانه وتعالى.

وكلّما منعت نفسك مما تشتهيه فإنّ عضلة الإرادة لديك سوف تقوى، وكلّما قويت صارت أكثر قدرةً على الانتصار في معركتها في وجه الدوبامين الذي يتدفّق من أجل أن يغمسك في المعاصي.

فعندما تصوم، تقوى إرادتُك، فيساعدُك ذلك على الانتصار في معركتك على الدوبامين الذي يدفعنا للإدمان والانغماس في عاداتنا السيئة، مما يقوي قدرتك على الامتناع عن شهوات النفس، ولعل هذا يفيدك في معركة التقوى بعد رمضان.

والنبي ﷺ لم يكتفِ بالنهي عن مفسدات الصوم، بل وجّه المسلمَ توجيهاتٍ كفيلةً بتعديل سلوكه الذي اعتاد عليه قبل رمضان، انظر مثلاً إلى توجيهاته ﷺ للصائم أثناء صومه في قوله: (إذا أصبحَ أحدُكُم يَومًا صائِمًا، فلا يَرْفُثْ ولا يَجهَل. فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَهُ أَو قَاتَلَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صَائِمٌ)[8].

والتوجيه يقتضي أن تقاوم رغباتك الانفعالية، بأن تتحكّم بذاتك وسلوكك فلا تكون منجرًّا وراء دفقات الدوبامين، بل أن تكون مسؤولاً عن سلوكك مالكًا له.

لكن ماذا لو أنّك كنت في رمضان، تصوم عن الطعام والشراب، ثم تمضي وقتك على التكنولوجيا بين المواقع والتطبيقات والألعاب!

أيّ إرادة هذه التي سوف تقوّيها، وأنت تُهزم في معاركك مع رغباتك وشهواتك (الدوبامين)!؟

إنّك لو أردت أن تخرج بالفائدة الأكبر من صوم رمضان، فعليك ألا تنسى أنّ الصوم هو معركة بين إرادتك وبين شهواتك (الدوبامين)، وهذه المعركة لا ينحصر ميدانها في الطعام والشراب، بل يتعدّاها لكلّ جوانب حياتك اليومية، والتي يأتي على رأسها اليوم تعاملك مع الإنترنت.

خاتمة:

لو أردتُ أن ألخّص لك هذا المقال بعد كلّ التطواف السابق لقلت لك:

  • إنَّ رمضان فرصة عظيمة استثنائية لمن يريد أن يغيّر من نفسه، الله جل وعلا هو من اختار هذا الشهر، وهو من اختار نظام الأكل والشرب فيه، وهو من أمر بصومه، ووعد الصائمين بأنّهم لو أحسنوا صيامهم فسوف يخرجون من رمضان وهم أكثر تقوى.
  • إنّ الدوبامين هو كلمة السرّ في سلوك الإنسان، وكلّما كان الدوبامين أعلى أعانك ذلك على بناء عادات إيجابية وعلى أن تستمتع في حياتك أكثر، إلا أنّنا اليوم نشهد حالة وبائية من انخفاض الدوبامين عند عموم الناس بسبب إفراطهم في استعمال الانترنت.
  • إنّ كميات الدوبامين الكبيرة التي تفرز على عاداتنا السيئة هي التي تجعلنا أسرى لهذه العادات، وكأنّنا نُساق إليها بسلوك قهري، وليس لنا هنا إلّا أن ندخل في معركة مع الدوبامين عن طريق قوّة إرادتنا.
  • قوّة الإرادة عضلةٌ يمكن أن نقوّيها من خلال عدّة تمارين يأتي على رأسها حرمان النفس مما تشتهيه، ومن ذلك الصيام.
  • تتحقّق فائدة الصيام الأكبر من خلال أن تتغلّب على رغبات نفسك وتنهاها عن عاداتها السيئة وإدماناتها، لتخرج من رمضان بإرادة أقوى على الابتعاد عمّا يغضب الله تعالى.

[1]Molecular Neuropharmacology: A Foundation for Clinical Neuroscience .

[2] قوة العادة لتشارلز دوهيج.

[3] مصيدة التشتت لفرانسيس بوث.

[4]Irresistible, Adam Alter .

[5] العادات الذرية لجيمس كلير.

[6] دماغك تحت تأثير الإباحية، لغاري ويلسون.

[7] Willpower, Roy F.Baumeister .

[8] أخرجه البخاري (١٨٩٤) ومسلم (١١٥١) واللفظ له.


د. وائل الشيخ أمين

مؤسس ومدير أكاديمية عين.

X