سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي الاتصال بين البشر، ووفّرت فرص التعليم والعمل عن بعد، لكنها أيضًا سيطرت عليهم، وهزت كيان أسرهم، وساعدت على تصدّر التافهين، وغياب الهوية وانحراف العقيدة، وانتشار الأمراض النفسية والعصبية، فبات من واجب أرباب الأسر أن يستعيدوا دورهم التربوي، ويعيدوا الدفء والمودة إلى البيوت.
الأسرة هي البنيان الأساسي للمجتمع، لذا تحظى بالمكانة العالية في الإسلام، الذي حث على تكوين الأسرة المسلمة كما في الحديث الشريف: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء)([1]).
وقد حرص الإسلام على تعزيز العلاقة الزوجية وتوفير المودة والرحمة بين الزوجين، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
ودعا المرأة لطاعة زوجها، وكذا أوصى الرجال بالنساء خيرًا؛ ولهذا كان لزامًا على الزوجين أن يحافظا على ذلك الميثاق الغليظ، ويجاهدا لحماية تلك الأسرة من أي رياح عاتية تهب لتقتلع ذلك البنيان المتين.
فالتواصل بين البشر غاية منشودة، لتحقيق إعمار الأرض وتعزيز التعارف بين البشر، واكتساب المعرفة، وتبادل الخبرات والمعلومات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
وقد توسعت آفاق الاتصال بين البشر، وظهرت مواقع للتواصل الاجتماعي مع بداية القرن الحادي والعشرين، أو ما يعرف بــ «السوشيال ميديا»، ورغم أن البشرية عجزت عن التوحد حول هدف أو محتوى يجمعهم إلا أن استخدام هذه الشبكات والتفاعل عليها كان شيئًا توحدوا حوله من الشرق إلى الغرب، وكان له أثرٌ كبير على البشريةِ جمعاء على اختلاف أعراقهم وألوانهم.
ولما كان لزامًا لمواقع التواصل الاجتماعي أن تكون جزءًا من حياتنا فمن الضروري تقنين استخدامها ومحتواها، لتحقيق الإفادة المرجوة.
الأسرة المسلمة ورياح التغيير:
في عصر الثورة التكنولوجية الهائلة واتساع الاتصال بين البشر، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياة البشر بما في ذلك الأسر المسلمة، التي وقفت في مهب تلك الرياح العاتية، واستطاع بعضُهم الصمود دون أن تنالَ من عقيدته وثوابته، لكن آخرين جرفتهم الرياح في طريقها وبدلت أحوالهم، وبدا السؤال الذي يُلح: هل تلك المواقع أثرت إيجابًا أم سلبًا على الأسر المسلمة؟
المؤكد أنه لا شيء مؤذٍ بشكل مطلق أو ضار مطلقًا، بل إن كل شيء يجمع بين الخير والشر والنفع والضرر، وتبقى الفكرة الأساسية في كيفية استخدام البشر له والانتفاع به.
نسمات الخير:
لا يمكن إنكار أن بعضًا من آثار وسائل التواصل كانت بمثابة النسمات الطيبة التي حملت الخير معها، ومن تلك الآثار الطيبة:
-
التواصل المحمود:
فقد وسّعت وسائل التواصل الاجتماعي سبل الاتصال والتواصل، بما يتضمن ذلك من فوائد متعددة مثل: تقريب وجهات النظر وتصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة، وتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام وتعريف أصحاب الديانات الأخرى به، وتحقيق التواصل الثقافي والفكري والسياسي بين الأفراد من شتى البقاع، وباتت تلك المواقع منابر مفتوحة لعرض الآراء البناءة والترويج لها، كما أن التواصل عبر تلك المنابر ساهم بشكل كبير في توجيه الرأي العام العالمي تجاه الكثير من القضايا الدولية التي كانت غائبة أو مُغيبة قسرًا عن الإعلام لعقود وأبرزها القضية الفلسطينية، وقضية مسلمي الروهينجيا، والحرب في السودان وغيرها من القضايا العربية والإسلامية، وبالتالي: فإن الدور الإيجابي لتلك المواقع في التواصل لم يقتصر على التواصل الفردي فقط بل تخطى ذلك لتصبح منابر مفتوحة تعرض الآراء المتنوعة وتمنع تحكم الأقوياء في الرأي العالمي وتوجيهه.
-
التعلم عن بُعد:
وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي فرصًا جادة للتعلم عن بعد، حيث أعطت الفرصة لمن فاته قطار التعليم أو لمن يبحث عن تعلم مهارات وخبرات إضافية ليلحق بركب التعليم من جديد دون أعباء إضافية، وقد شهدت هذه السوق إقبالاً ملحوظًا، وبحسب إحصاء نشرته مجلة innovito فإنه من المتوقع أن يصل سوق التعليم الإلكتروني العالمي إلى 336.98 مليار دولار بحلول عام 2026([2]).
والمؤكد أن الأسرة المسلمة لم تنفصل عن ذلك الإقبال الهائل على التعلم الإلكتروني، ولعل المجال بات مفتوحًا لكل أفراد الأسرة لأخذ قسط وافٍ من التعليم سواء التعليم الأكاديمي أو الحر.
-
فرص للعمل عن بعد:
وفرت مواقع التواصل الاجتماعي فرص عمل مناسبة لكافة أفراد الأسرة وبالأخص للمرأة، حيث استطاعت العمل من المنزل وتوفير دخل إضافي للأسرة دون النزول لسوق العمل أو الإخلال بدورها الأسري والتربوي، وقد أظهرت دراسة أمريكية حديثة أن نسبة النساء المالكات لمشاريع تدار عبر الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط تُعد هي الأعلى في العالم بأكمله.
كما يمكن للرجال والشباب كذلك العمل عبر المنصات الإلكترونية وتوفير دخل إضافي لأسرهم وهذا ما فتح أبواب العمل والرزق لكل أفراد الأسرة لمواجهة سوء الأحوال الاقتصادية والبطالة([3]).
الآثار السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي أشبه بالريح العاتية التي تدمر ما يواجهها في الطريق، وهذا ما يهدد بنيان الأسرة المسلمة، فالخطر داهم وعواقبه وخيمة خصوصًا أن تلك المواقع أصبحت تستهلك الجزء الأكبر من وقت كل فرد في الأسرة
ريح صرصر عاتية:
أما الآثار السلبية لمواقع التواصل فهي أشبه بالريح الصرصر العاتية التي تهب حاملة العذاب والهلاك، وتدمر ما يواجهها في الطريق، وهذا ما يهدد بنيان الأسرة المسلمة من الأساس ويجعلنا نطلق صافرات الإنذار للتنبيه وأخذ الحيطة، فالخطر داهم وعواقبه ستطال المجتمع بأسره وخاصة وأن تلك المواقع أصبحت تستهلك الجزء الأكبر من وقت كل فرد في الأسرة، وقد كشف تقرير موقع داتا ريبورتال لعام 2023م أن معدل الوقت المستهلك على مواقع التواصل الاجتماعي شهريًا للفرد الواحد خلال عام 2022م كالآتي:
(23) ساعة يوتيوب، (19) ساعة فيسبوك، (17) ساعة على واتساب، (12) ساعة إنستجرام، (23) ساعة تيك توك، (3) ساعات ماسنجر، (3) ساعات على تليجرام، (5) ساعات تويتر، و(10) ساعات سناب شات([4]).
التأثير المباشر لتلك المواقع على بنيان الأسرة:
من المؤكد أن مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الأسرة، ومن الآثار المدمرة لتلك المواقع:
-
ارتفاع نسب الطلاق:
إن إدمان الجلوس على مواقع التواصل الاجتماعي يسبب تفكك الأسر المسلمة ويهدد بنيانها بأكمله بالانهيار، حيث ينعزل الزوجان عن بعضهما البعض وكذا عن أبنائهما، والإفراط في هذا الأمر يؤدي إلى الشعور بعدم الاكتفاء الزوجي؛ الأمر الذي قد يزيد وتيرة المشاكل الزوجية ويرفع من احتمالات الطلاق.
وبحسب تقارير سعودية فإن هناك زيادة غير مسبوقة في معدلات الطلاق خلال عام 2022م، حيث وصلت لـ 168 حالة يوميًا، بواقع 7 حالات طلاق في كل ساعة، وبمعدل يفوق الحالة الواحدة كل 10 دقائق، وكشفت التقارير أن مواقع التواصل الاجتماعي برزت سببًا رئيسيًا في ازدياد هذه المعدلات([5]).
كما يشير تقرير صادر عن مركز معلومات مجلس الوزراء الكويتي إلى أن الكويت هي الأولى على رأس قائمة الدول العربية في ارتفاع معدلات الطلاق، إذ ارتفعت نسبة الطلاق بها إلى 48% من إجمالي عدد الزيجات، وتعد وسائل التواصل الاجتماعي أحد الأسباب([6]).
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر فإن عدد حالات الطلاق في مصر سجل 269.8 ألف حالة عام 2022م، مقابل 254.8 ألف حالة طلاق عام 2021م بنسبة ارتفاع قدرها 5.9%.
إن الدول السالف ذكرها جميعها دول عربية مسلمة وهذا يكشف حجم الكارثة التي تهدد الأسرة المسلمة جراء الاستخدام المفرط لتلك المواقع.
-
الصمت الأسري:
أوجد إدمان الأفراد لمواقع التواصل الاجتماعي حالة من الصمت الأسري، حيث غاب الحوار والنقاش بين أفراد الأسرة الواحدة؛ ما خلق جوًا من الفتور والانعزال سواء بين الوالدين أو الأبناء، حيث تتسبب هذه المواقع في تقليل الحوار البيني التفاعلي بين أفراد الأسرة بنسبة (65.5%)، كما أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي من قِبل الأبناء يؤدي إلى تغيير سلبي في سلوكهم بسبب عزلتهم بنسبة (60%)([7]).
وهذا ما أصاب الأسر عمومًا، فغاب الحوار فيما بينهم كما غاب توجيه الوالدين للأبناء وضعفت استجابة الأبناء لتوجيهات الوالدين، واختفت بشكل كبير الجلسات العائلية التي يجتمع فيها أفراد الأسرة للحديث والضحك وتداول الأفكار ووجهات النظر المختلفة.
-
غياب القدوة وانحراف الأبناء:
لا شك أن مواقع التواصل الاجتماعي تتَّسع وتنمو بشكل كبير، حيث يتغلب فضاء العالم الافتراضي على ضيق الواقع الذي يقيده الدين والأعراف والعادات والتقاليد، وهذا ما خلق فجوة كبيرة بين ما يشاهده الأبناء على تلك المواقع وما يعيشونه واقعًا على الأرض، حتى أصبحوا يتلقون الكثير من السلوكيات والعادات السلبية من تلك المواقع التي تفتقد الرقابة والسيطرة بشكل كبير، ومن هنا غاب تأثير الوالدين ولم يعودا هما المربي الأول والأساسي لأولادهما، فأصبحنا نعاني من الانحراف السلوكي والعنف وغياب الوازع الديني والأخلاقي لدى الأبناء.
وهذا ما أشار إليه الخبراء الذين كشفوا أن مواقع مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتيك توك تسهم بشكل كبير في ارتفاع حالات الإيذاء الجسدي، إذ إن الساعات التي يقضيها المراهق فيها تؤدي إلى خلق فجوة بين الخيال والواقع بما لا يسمح له بالتأقلم مع واقعه بسبب صغر سنه، كما أن عدم تقنين ما يشاهده الأبناء عبر تلك المواقع يسهم بشكل كبير في تصدر النماذج السيئة والمنحرفة للمشهد واقتداء الأبناء بهم وهذا يشكل كارثة تهدد بنيان الأسرة والمجتمع.
-
فساد العقيدة وغياب الهوية:
إن من أخطر الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة أنها لامست العقيدة والهوية وأثرت عليهما بشكل مباشر، حيث إنها روجت لأفكار ومعتقدات هدامة، كما أنها تعرض الآراء والمعتقدات المتنوعة والتي قد تكون متناقضة أو مضللة في بعض الأحيان، وهذا قد يؤدي إلى الارتباك والشك في العقائد والمفاهيم الدينية والثقافية، ما قد يعرّض الأفراد للتأثيرات السلبية التي تهدد استقرار عقيدتهم.
وبحسب دراسة أجريت في الكويت تبيّن أن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي بين المراهقين مرتبط سلبًا بالدين، كما أظهرت دراسة أخرى أن العلاقة بين التدين ونمط استخدام الإنترنت هي علاقة سلبية([8]).
وهذا يقودنا إلى استنتاج يقضي بأن إدمان الإنترنت يقلص من الوازع الديني والأخلاقي خاصة لدى المراهقين والشباب.
كما أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية والدينية، نظرًا لما يتم مشاهدته عبر تلك المواقع من سلوكيات وممارسات لا تنتمي لقيم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهذا يؤدي إلى ضعف الهوية الثقافية والاندماج الضعيف في المجتمع.
ومن المؤكد أن تداول الأخبار الزائفة والمعلومات غير الموثوقة عبر تلك الوسائل يؤدي إلى تشويش الرؤية والتفكير النقدي، ما يجعل من الصعب على الأشخاص التمييز بين الحقائق والأكاذيب، وهذا يؤثر على فهمهم الصحيح للعقيدة والهوية.
وتشير دراسة إلى أن الانتشار الواسع للأفكار والثقافات المختلفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي له آثار خطيرة على عقيدة المجتمع المسلم خاصة مع قلة الوعي لدى أفراد المجتمع بالثقافة الإسلامية، وكذا بالطريقة الصحيحة التي يجب على أفراد المجتمع المسلم اتباعها في التعامل مع تلك الوسائل وما تحتويه من ثقافات وأفكار وسلوكيات مخالفة للهوية الإسلامية([9]).
كما توصلت بعض الدراسات إلى أن البلدان التي تتقلص فيها منابر التوعية والتعريف بالانتماء الوطني والديني وغير المشجعة على ممارسة الشعائر وإحياء العادات والتقاليد خاصة لدى فئة الشباب؛ مثل هذه البلدان تصنف كبيئات مرنة لتسلل ظواهر سلبية إلى المجتمع كالإلحاد والعلمانية والمثلية والتحول الجنسي وغيرها من الظواهر الخطيرة والتي عرفت طريقها للعلن عبر تلك المواقع.
كما أن هناك أدلة على تصاعد واضح -في العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصة بين الشباب- لفئة من يصفون أنفسهم بأنهم “غير متدينين”، وهناك مخاوف من ظهور ما يسمى “ربيع الملحدين ومعتنقي الأفكار الشاذة” في المستقبل، حيث إن الدور الذي يلعبه استخدام الإنترنت والانفتاح التكنولوجي على مستوى المجتمع يسهم في انتشار الإلحاد وفك الارتباط بالإسلام والعقيدة، ومع انتشار هذا الفكر المنحرف يزيد معدل المخاطر التي تهدد العقيدة الإسلامية خاصة تلك المتعلقة بزيادة رصد السلوكيات المضطربة والعدوانية كالانتحار والتنمر مع تصاعد النزعة للعنف والتطرف السلوكي والتشيع والإلحاد.
تشير بعض الدراسات إلى أن البلدان التي تتقلص فيها منابر التوعية والتعريف بالانتماء الوطني والديني تصنف بيئاتٍ مرنة لتسلل ظواهر سلبية إلى المجتمع -خاصةً لدى فئة الشباب- كالإلحاد والعلمانية والمثلية والتحول الجنسي وغيرها من الظواهر الخطيرة
الآثار غير المباشرة للاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي:
إن ما تحمله مواقع التواصل الاجتماعي من عواصف تهدد كيان الأسرة بشكل عام لا تقتصر كوارثه على ما سبق ذكره من آثار، ولكن تشكل الآثار الخفية وغير المباشرة لها كذلك خطرًا حقيقيًا لا بد من إدراكه والتعامل معه بجدية، لحماية مجتمعاتنا من تبعاته المدمرة.
-
الإدمان الخفي:
إن اعتياد الإنسان العيشَ في عالم وسائل التواصل، والاستخدام المفرط لها يخلق نوعًا من الإدمان الذي يُشبه إدمان الفرد للمخدرات والكحوليات، وهذا ما أثبتته دراسة حديثة حيث أوضحت أن 400 مليون شخص في العالم يعانون من ظاهرة الإدمان على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، واعتبروا أن هذا النوع من الإدمان الجديد أقوى من الإدمان على الخمر أو المخدرات أو التدخين، كما أنه أحد أسباب التوتر والاكتئاب التي قد تؤدي إلى الانتحار([10]).
وبات من المعلوم أنَّ “صناعة وسائل التواصل الاجتماعي مصممة حتى يظل المستخدم باقيًا لأطول فترة ممكنة أمامها، وليس هدف تلك المنصات جعل حياة الناس أكثر سعادة، وهذه هي الحقيقة للأسف، وقد نجحت في ذلك”([11]).
وبحسب تحليل أجرته جامعة «كامبريدج» البريطانية فإن نحو نصف المراهقين يشعرون بأنهم مدمنون على وسائل التواصل الاجتماعي([12]).
ولو طبقنا ذلك على الأسرة نجد أن أفرادها يعانون من إدمان تلك المواقع ويغيب تمامًا عن عالمه الواقعي بكل أحداثه وشخوصه، وهنا تنشأ الفجوة بين أفراد الأسرة الواحدة، كما تقل إنتاجية الأفراد ويتأثر روتينهم اليومي ويغيب عنهم الإبداع والتميز وكذا التركيز.
-
العزلة الاجتماعية:
فرضت وسائل التواصل الاجتماعي عالمًا افتراضيًا تغيب عنه الحقائق وأحداث الواقع، وجعلته مألوفًا يهرع إليه الناس بشكل دائم هربًا من مشاكل الواقع، ويعيشون الانعزال والوحدة حتى وهُم داخل بيوتهم ووسط ذويهم، مما فرض سياجًا حول كل فرد من أفراد الأسرة الواحدة، وجعل كلاً منهم يعيش في عالمه الخاص به منعزلاً عن أسرته وبالتبعية عن مجتمعه، وهذا ساهم في خلق حالة من الانعزال بين أفراد المجتمع وغابت التجمعات العائلية والمناسبات المجتمعية التي تجمع فئات وطوائف شتى من المجتمع([13]).
كما أوضح أن الكثير من الدعاة والموجهين وأصـحاب الدراسات النفسية يُحمّلون تلك المواقع العبء الأكبر في ظاهرة الجفـاء الأسـري وفقر المـشاعر والاستغلال العاطفي، والخيانات الزوجية، والانحطاط الأخلاقي في الردود والمناقشات بين المراهقين، وانتزاع سلطة توجيه الأسرة من الوالدين أو المشاركة والمزاحمة فـي توجيههم وتربيتهم، وكثرة الزخم والغثاء في المواد المعروضة والتي يقابلها ضعف الاختيـار وصـعوبة التمييز عند أفراد الأسرة وخاصة المراهقين والشباب ما يفاقم المشكلة.
وبالتالي أصبحنا نرى الأبناء يتقوقعون في عالمهم الخاص ولا يتقبلون توجيهات ونصائح الوالدين، ولا يحرصون على المشاركة في التجمعات أو المناسبات العائلية لأنهم اكتفوا بعالم الخيال عن الواقع.
-
الاكتئاب والقلق وضعف التركيز:
تؤثر مواقع التواصل الاجتماعي على الحالة النفسية للمستخدمين، حيث إن الفجوة التي تخلقها بين الواقع والعالم الافتراضي تسبب الاضطراب النفسي والقلق وضعف التركيز، وهذا ما توصلت إليه دراسة أجريت عام 2016م وشارك فيها 1.787 شخصًا تتراوح أعمارهم بين 19 و32 عامًا في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى وجود علاقة بين الوقت الذي يقضيه الشخص على مواقع التواصل الاجتماعي يوميًا، وعدد أعراض الاكتئاب التي تظهر عليه([14]).
واستنتجت الدراسة أنه كلما زاد عدد الساعات التي يقضيها المرء على هذه المواقع، زاد شعوره باليأس وانعدام الثقة وضعف الهمة.
كما أشارت دراسة أخرى إلى أن كل ساعة إضافية يقضيها الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي أو مشاهدة التلفاز تزيد من أعراض الاكتئاب لديهم([15]).
كما توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال الآباءَ بوضع حدود ثابتة لعدد الساعات التي يقضيها أولادهم في سن المراهقة على الشاشات، وبضرورة عدم تعارض وقت الشاشة مع التمارين اليومية والنوم، وتجنب التعرض للأجهزة أو الشاشة لمدة ساعة واحدة قبل وقت النوم([16]).
ولعل تلك الدراسات تكشف أخطارًا نفسية واجتماعية تصيب الأبناء من الإفراط في استخدام تلك المواقع، وتضع الوالدين أمام مسؤوليتهما الثابتة بالحفاظ على صحة أولادهما النفسية وحمايتهم من أي أضرار نفسية تلحق بهم، وأهمها الاستخدام غير المقنن لمواقع التواصل الاجتماعي.
-
مخاطر خاصة على المرأة:
لا يمكننا أن نغفل أثر تلك المواقع على المرأة تحديدًا، حيث أظهرت دراسة أجربت عام 2009م أن (85%) من النساء يتعرضن لمضايقات من الأصدقاء والصديقات على الفيسبوك، كما أظهرت النتائج أن (80%) من النساء تأثرن بعادات وتجارب المشاركات على الفيسبوك، وأن (85%) مـنهن أعربن عن الشـعور بالـضيق مـن أصـدقائهن وصديقاتهن على “الفيسبوك” بنسب مختلفة، وكانت الشكوى من الأصدقاء والصديقات هي أحد أكثر الأمور المزعجة لمستخدمات الفيسبوك بنسبة (63%)، ثم تبادل الآراء السياسية بنسبة (42%)، يليها التفاخر والادعاء بعيش حياة هادئة ومثالية بنسبة (32%).
وهذا لا يمنع أن الدراسة كشفت أن (91%) من النساء عبرن عن تقديرهن للدور الاجتماعي الذي تلعبه مواقع التواصل في حياتهن، وتحديدًا إمكانية تبادل ومشاركة الأفكار والآراء([17]).
الفجوة التي تحدثها مواقع التواصل الاجتماعي بين الواقع والعالم الافتراضي تسبب الاضطراب النفسي والقلق وضعف التركيز، وثمة علاقة بين الوقت الذي يقضيه الشخص على مواقع التواصل الاجتماعي يوميًا، وعدد أعراض الاكتئاب التي تظهر عليه
مواجهة واجبة:
لا ينكر أن لمواقع التواصل الاجتماعي آثارًا إيجابية على الأسرة المسلمة، لكن السؤال عن كيفية مواجهة آثارها المهلكة دون أن تنال منا أو من ترابط الأسرة والمجتمع، وهذا ما نحاول طرحه.
-
علاج إدمان مواقع التواصل الاجتماعي:
وهذا من أهم الأولويات، وبحسب بعض الأبحاث فإن نصف المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 يعتقدون أن الامتناع فجأة عن استخدام الشبكات الاجتماعية لشهر ستكون له آثار إيجابية على النوم والعلاقات الاجتماعية الحقيقية([18]).
لذا فأول خطوات العلاج هو خفض ساعات استخدام تلك المواقع تدريجيًا، وكذا ينصح الخبراء بغلق إشعارات التطبيقات للتخلص من القلق والاضطراب المرتبط بسماع رنين تلك الإشعارات، وكذا حذف تطبيقات التواصل الاجتماعي من الهواتف المحمولة للتأقلم على غيابها عن النشاط اليومي لأفراد الأسرة.
-
خلق جو أسري دافئ:
من المهم أن يستعيد أفراد الأسرة روح الحب والحوار فيما بينهم، والترابط الأسري يمكن استعادته من خلال إدراك وجود مشكلة في التواصل بين أفراد الأسرة، يتبع ذلك إرادة أفرادها استعادة الدفء الأسري فيما بينهم، مع ضرورة فتح دوائر أكثر للحوار والمناقشة داخل الأسرة، وكذا تحديد وقت ثابت للاجتماع فيما بينهم والالتزام به، على أن يكون ساعة على الأقل في اليوم دون هواتف أو مشغلات، مع ضرورة التزام جميع الأفراد بالحضور دون أعذار، حيث إن هذا يعين على استعادة دفء الأسرة من جديد.
-
سياج من الدين والأخلاق:
ثوابت وأخلاق الإسلام هي السياج الواقي الذي يحافظ على بنيان الأسرة المسلمة من التفكك، لذا فإن من الأولويات المحافظة عليها وعدم تخطيها بأي حال من الأحوال.
ومن تلك الثوابت الحرص على الصلاة، واصطحاب الوالد الأبناء معه للصلاة في المسجد، والبعد عن الاختلاط، وكذا البعد عن أي محتوى يروج لأفكار تخالف تعاليم ديننا الحنيف، وتعزيز خلق الحياء والعفة وغيرهما من الأخلاق الحميدة، كما أنه لا بد أن تكون هناك ضوابط أخلاقية تحكم الأفراد داخل الأسرة ومنها الرضا بالواقع الذي كتبه الله علينا، والاقتداء بالصالحين دون غيرهم، وعدم إهدار الوقت فيما لا يجلب النفع، والأهم هو أن يقوم كل فرد في الأسرة بالدور الذي أوجبه الله عليه دون إفراط أو تفريط، وهذا ما يضمن الحفاظ على البنيان الأسري من الانهيار.
-
شغل وقت الفراغ:
يعد وقت الفراغ هو المسبب الأساسي لكل انحراف ينال أيًا من أفراد الأسرة، لذا كان لزامًا على الوالدين وكذا الأبناء شغل أوقات فراغهم بكل ما هو مفيد من القراءة وتعلم المهارات واللغات، وكذا تنمية مواهبهم بشكل احترافي، أو ممارسة الرياضة، وأن يكون لكل منهم هدف بَنّاء يسعى لتحقيقه، حتى لا تسرق تلك المواقع الافتراضية أوقاتهم الواقعية الثمينة، وبالتالي أعمارهم دون فائدة، وهذا مما يجب أن تهتم به الأسرة لكي تحافظ على تكاملها.
-
القدوة الحسنة:
من واجب الوالدين أن يقدما القدوة الحسنة للأبناء حتى يقتدوا بهما دون غيرهما، ومن هنا فمن واجب الوالدين أن يحرصا على التحلي بالأخلاق الحميدة وأن يقدما النموذج الأمثل لأبنائهما، فليس مقبولاً أن ينصح أحد الوالدين أبناءه بسلوك ويأتي بنقيضه، كما أنه ليس مقبولاً أن ينفتح الوالدان على مواقع التواصل الاجتماعي دون رقيب ثم يطلبا من الأبناء الحد من استخدام تلك المواقع.
بدائل بناءة:
إذا كانت مشكلة الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي تهدد بنيان الأسرة المسلمة فإن الحل الأمثل يتمثل في بناء دعائم للأسرة تساعد على تقوية الروابط بين أفرادها وتخلق جوًا من الدفء والحب يغمرهم جميعًا، حيث إن من واجب الوالدين أن يحرصا على إيجاد جسور التواصل مع الأبناء وذلك بتفعيل الجلسات العائلية التي يقودها رب الأسرة ليتحدث مع أبنائه عن ثوابت دينهم، ويتبادلون النقاش حول ما يواجهونه من مشاكل يومية وكيفية حلها، ويقرؤون القرآن الكريم معًا ويتدبرون آياته، ويتدارسون السيرة النبوية وقصص الصحابة والتابعين، وقطعًا سيكون لتلك الجلسات أثرٌ قويٌ في غرس العقيدة داخل قلوب الأبناء، واستعادة روح الأسرة من جديد، وكذا اصطحاب الأبناء في زيارات عائلية لأهلهم وأقاربهم، والخروج معهم في نزهات ترفيهية، وكذا حثهم على قراءة الكتب النافعة، واكتشاف مواهبهم وتنميتها، وشغل أوقات فراغهم بأعمال نافعة كالمشاركة في الأعمال الخيرية والاجتماعية التي تجعلهم ينغمسون في الواقع ويشعرون بمعاناة غيرهم فيقدرون نعم الله عليهم.
يمكن استعادة الترابط الأسري من خلال الوعي بالمشكلة، ووجود إرادة لدى أفراد الأسرة لاستعادة الدفء الأسري فيما بينهم، مع ضرورة تطبيع الحوار والمناقشة داخل الأسرة، وكذا تحديد وقت ثابت للاجتماع، على أن يكون ساعة على الأقل في اليوم دون قواطع أو مشغلات، مع ضرورة التزام الجميع بالحضور دون أعذار
وختامًا:
فإن وسائل التواصل الاجتماعي ضرورة يتطلبها العصر ولا يمكن الاستغناء عنها، وقد حملت إلى جانب الخير في جنبيها شرورًا عديدة، هدت بشكل مباشر وغير مباشر كيان الأسرة وبالتالي كيان المجتمع ككل، لذا كان من الضروري أن نسجل وقفة نرصد فيها فوائد تلك المواقع لكننا كذلك نسلط الضوء على تأثيرها المدمر على الأسرة بشكل عام والمسلمة بشكل خاص، وندعو الوالدين للعودة سريعًا لدورهما التربوي والقيادي وغرس قيم الدين والأخلاق في الأبناء والأخذ بزمام الأسرة حتى نحافظ على ذلك البنيان المتين والعمل وفق التوجيه الرباني الملهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].
أ. هند معوض
كاتبة وأديبة مهتمة بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية – مصر.
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري (5066) ومسلم (1400).
([2]) مقال بعنوان: إحصائيات هامة عن التعليم الإلكتروني نشر بمجلة Innovito.com وهي مجلة تهتم بالتعليم الإلكتروني، وقد حصلت على جائزتين ذهبيتين مرموقتين من جوائز ستيفي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2024م.
([3]) بحسب تقديرات البنك الدولي في 2023 فإن أعداد العاملين في الوظائف المؤقتة عبر الإنترنت تترواح ما بين 154 إلى 435 مليون عامل.
([4]) تابع التقرير السنوي لموقع داتا ريبورتال datareportal.com، بعنوان: (DIGITAL 2023: GLOBAL OVERVIEW REPORT) لعام 2023م.
([5]) تحقيق بعنوان: (7 حالات طلاق في المملكة كل ساعة)، صحيفة الوطن السعودية، alwatan.com.sa، بتاريخ 17 جمادى الآخرة 1443هـ، الموافق 20 يناير 2022م.
([6]) مقال بعنوان: (لماذا تتزايد معدلات الطلاق في الدول العربية؟) على موقع BBC، 4 أيلول سبتمبر 2022م.
([7]) رسالة مقدمة للحصول على درجة الماجستير من جامعة القاهرة – كلية الإعلام – قسم الإذاعة والتلفزيون، بعنوان: تأثير استخدام تكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت على العلاقات الاجتماعية للأسرة المصرية، أعدها هشام البرجي، 2015م.
([8]) تقرير بعنوان: (إدمان الانترنت ومواقع التواصل يهدد المعتقدات الدينية ويحرض على الالحاد، مخاوف من ظهور ربيع الملحدين ومعتنقي الأفكار الشاذة)، نشره مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث، بتاريخ 17 آب أغسطس 2023م.
([9]) دراسة حول أثر وسائل التواصل الاجتماعي على عقيدة المسلم، للباحث (محمد علي يحيى الحدادي) جامعة الملك خالد السعودية، نشر البحث في العدد الخامس عشر لمجلة (مجمع) وهي مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة، ojs.mediu.edu.my.
([10]) مقال بعنوان: (400 مليون مدمن على استخدام مواقع التواصل)، على موقع الجزيرة نت، 16 أغسطس 2015م
([11]) مقال بعنوان: (مواقع التواصل الاجتماعي أزمة الجيل.. إدمان وعلاج)، للكاتب عمر سامي، على موقع سكاي نيوز عربية، 7 مارس 2023م.
([12]) مقال بعنوان: (الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي «يغزو» المراهقين)، على صحيفة الشرق الأوسط، aawsat.com، 3 يناير 2024م.
([13]) بحث بعنوان: أثر وسائل التواصل الاجتماعي على سلوكيات وقيم الشباب من منظور التربية الإسلامية، نشر في مجلة كلية التربية، جامعة الأزهر، العدد 169 الجزء الثالث، بوليو 2016م.
([14]) مقال نشرته BBC بعنوان: (هل تصيبك وسائل التواصل الاجتماعي بالاكتئاب أم تخلصك منه؟)، للكاتب أليكس رايلي، 22 فبراير 2018م.
([15]) مادة بعنوان: (دراسة جديدة تربط بين مواقع التواصل الاجتماعي وأعراض الاكتئاب بين المراهقين)، على موقع arabic.cnn.com، 23 يوليو 2019م.
([16])مقال بعنوان: (تحذير.. مواقع التواصل الاجتماعي تؤدي إلى اكتئاب المراهقين)، على موقع مصراوي masrawy.com، 23 يوليو 2019م.
([17]) مقال بعنوان: (85% من النساء يتعرضن لمضايقات على الفيسبوك)، على موقع عكس السير aksalser.com، 2 نيسان أبريل 2011م.
([18]) مقال بعنوان: (أربع نصائح للتخلص من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي)، على موقع الجزيرة نت، 29 يوليو 2018م.