الربيع العربي مرحلة فارقة في تاريخ المنطقة، انطلق ومرَّ بمراحل عدّة ولما تنطفئ شعلته بعد، وقد نال اهتمامًا عالميًا بحكم اتساع رقعته وتعدُّد بلدانه، وعُمق آثاره وقابليتها للانتقال، ومن أجمل ما كُتب فيه: كتاب أسئلة الثورة للدكتور سلمان العودة، والذي تضمّن خلاصاتٍ عميقةً من تاريخ الثورات، ونصائحَ ذهبيةً للثوار، وإشارات للمخاطر التي ستواجهُهم، والمخارج التي تأخذهم إلى بر الأمان، والجسور التي تعبر بهم إلى النهضة.
تمهيد:
جاء كتاب “أسئلة الثورة” للدكتور سلمان العودة في أوج الثورات عام 2012م، ليستبق فيه ظهور العقبات والتحديات والتساؤلات المستقبلية، مستشرفًا طول الطريق وكثرة المنعرجات، وأبعاد حلقات التفاعل والتحول الحضاري الكلي المتوقع، والنافذة الزمنية الكبيرة لتحققه وتمخض النهضة من رحمه، وذلك من خلال رؤيته الثاقبة والسابرة لمفهوم الثورة حلقةً ومرحلةً نابضةً في بناء الوعي التجريبي، لها ما بعدها.
من المعروف أنّ كتابات المؤلف من النوع السلس الذي يباشر الموضوعات بوضوح ومتانةٍ تصل مباشرةً إلى مختلف الشرائح بعباراتٍ يسيرةٍ وبتراكيبَ رصينةٍ، وبالتالي فإن شرحها قد يكبل حيويتها، ويحيد بها عن سعة اعتبار ما بين دفتيها؛ لذا أقول: هكذا فهمت. ونحن هنا لا نحصر وريقاتنا هذه في كتاب الشيخ ورؤيته، بل نتدارس الطرح والواقع والتاريخ ونتوسع بمحاذاته، ونحاول الإثراء كذلك ما أمكن، مجتهدين حسب تصورنا البشري المحدود.
ولا بد أن نشير إلى أننا في طرحنا لموضوع المقالة هنا -بغض النظر عن عنوان الكتاب- نُعْنَى بدراسة العلاقة العامة بين الثورات والنهضة نموذجًا وظاهرة، وليس أحداث وتفاصيل بالدرجة العليا، وبالتالي فلم يتعرض المؤلف، وكذلك هذه المقالة لثورةٍ بعينها، ولا إلى مدى نجاحها ودروسها التفصيلية؛ وذلك لأننا نرى أن الثورات في حد ذاتها تُسهم في نقلةٍ معرفيةٍ عامةٍ ووعيٍ وتجربةٍ كحلقةٍ ستؤدي إلى ما بعدها، لكن يلزمها حلقات أخرى مترابطة معها كمتطلباتٍ لنجاح أية ثورةٍ كثورة.
إنّ نجاح آحاد الثورات واستقلال الدول أمرٌ يلزمه تضافر حلقات أخرى كالإصلاح والعلم والاجتماع والهوية وغيرها إلى جانب حلقة الثورة على الاستبداد والتسلط والاستعمار. من هنا نرى مثلاً قصور وتعثر التحول النهضوي والاستقلال التركي الحقيقي، رغم الوصول إلى السلطة وحصول ثورةٍ سياسيةٍ، وذلك لعدم تفعيل الحلقات الإصلاحية الأخرى بشكل حثيث وكافٍ. وهذا ما لسنا بصدد دراسة أمثاله هنا؛ لأنه مجال خاص يستحق دراسة حالاته وفرزها بشكل مسهب يتعمق في واقعها الخاص بآحادها وعمومها.
إنّ نجاح الثورات واستقلال الدول أمرٌ يلزمه تضافر حلقات أخرى كالإصلاح والعلم والاجتماع والهوية وغيرها، إلى جانب حلقة الثورة على الاستبداد والتسلط والاستعمار
مقدمة مختصرة حول النموذج:
نجد أنّ المؤلف في ثنايا كتابه يرسم بهدوءٍ دائرةً واسعةً، واضعًا أسئلة الثورة كحلقةٍ نابضةٍ متجددةٍ على طريق سؤال “النهضة” الأكبر، دون أن يُصرح بلفظة “النهضة” إلا في الجزء الأخير من الكتاب. نعم؛ العناوين والمفردات انتظمت لتعطي معنًى لمفهوم الثورة يتسق مع حالة الصيرورة والتحول، وليس مجرد الانقلاب حسب المزاج المتحمس الفوري والتصور المعتاد للعوام، فكان من الطبيعي أن يؤكد الشيخ على أنها لا تلتقي مع نموذج الثورة الخمينية، ولا الثورات البلشفية وأضرابها.
تيه المثقف والفقيه:
أراد المؤلف تحت هذا العنوان في تمهيد الكتاب أن يطرح شتى الأسئلة الواقعية التي تختلج في الأذهان قبل أن يشرع في بسط نصائحه، حيث يقول: “بعد الحرب العالمية الثانية كتب فرانسوا فوريه مقالاً بعنوان: “تيه المثقفين بعد الحرب العالمية الثانية”. وبعد الثورة الجزائرية ضد الاستعمار كتب مالك بن نبي: “تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة”([1]). الآن ونحن نعيش ربيع الثورات العربية أشعر أن هناك حالةً يمكن أن نسميها كذلك: “تيه المثقفين بعد الثورات العربية”؛ تيه في البحث عن المخرج … تيه في إعادة بناء المفاهيم… تيه في تصور واقع الثورة… تيه في إعادة ترتيب العلاقات، الحلفاء، الأصدقاء، والأعداء. في زمن التيه لا تستغرب من كثرة الحلول والأفكار والأطروحات. وفي زمن التيه يشعر التائه أن حلّه هو الحل المقدس… ويستمسك الكثير بحلولهم الخاصة. وفي زمن التيه جميع الحلول مسكونة بالخوف والتردد”([2]).
يكمل الشيخ قائلاً: “ثَمَّ حاجة ماسة في ظل المتغيرات العربية إلى ظهور فقهاء ذوي نظر سديد وثقافة، إضافة إلى العدالة والانضباط الأخلاقي، وواجب الدول والمجتمعات والمؤسسات السعي في صياغات عادلة أكثر من التوجه للاستحواذ على السلطة. نحن بحاجة إلى الفقيه الذي يتعامل مع النصوص أكثر من الواقع؛ كحاجتنا إلى المفكّر الذي يتعامل مع الواقع أكثر من النصوص…”([3]).
أسئلةٌ ومفاتيح:
دعونا ننظر في تعريف المؤلف الدقيق للثورة تحت عنوان (في مفهوم الثورة)، حيث ستتضح تلك الدائرة الأكبر أكثر عند النظر في محتوى العناوين الأخرى: (تيه المثقف والفقيه)، (هل التاريخ يعيد نفسه؟)، (بحثًا عن الأسباب)، (متى تحدث الثورة؟).
ماذا أراد أن يقول الشيخ؟ أو على الأقل؛ ما الذي يمكن أن نفهمه منه؟ فلنقرأ ما تركه لنا تحت عنوان (بحثًا عن الأسباب)، وكيف تحدث عن خاصية التجديد والإصلاح، ثم وضع السبب الأول تحت إحدى السنن الإلهية المتعلقة بالتجديد والتغيير ما بين ارتفاع وهبوط، كما دل على ذلك حديث أنس في البخاري: (حَقٌّ على اللهِ أنْ لا يرتفعَ شيءٌ مِنَ الدنيا إلَّا وضعَهُ)([4]). لنتأمل لعلنا نصل إلى المدى الواسع لدائرة أسئلة الثورة، وربما إلى حيث يريد أن يصل بنا صاحب الكتاب.
يبدو أنّ أسئلة المؤلف الاستشرافية والمبكرة جدًّا جاءت من خلال استقراءٍ نافذٍ لصيرورة المجتمعات في عصور التحولات، فقد أبان عنها بوضوح تحت عنوان (هل التاريخ يعيد نفسه؟)، ثم (مفهوم الثورة) عبر إشاراته إلى مسيرة الثورة الفرنسية الطويلة ومرورها بتعرجات اجتماعية وسياسية. لقد اختار الشيخ فيما اختار بعناية للتدليل على ذلك بعضًا من مقولات ألكسيس توكفيل (1805 – 1859م) المُنَظِّر السياسي والاجتماعي والمؤرخ للديمقراطية ووزير الخارجية الفرنسية. يدرك د. العودة أن توكفيل تقلب بين اليسار والوسط، والمعارضة والموالاة، وسافر طويلاً إلى أمريكا وكندا، وعاين تجربتهما الثورية والديمقراطية، ودرس حال السجون والسجناء، فكان كتابه المرجعي الكبير (الديمقراطية في أمريكا).
“ثَمَّ حاجة ماسة في ظل المتغيرات العربية إلى ظهور فقهاء ذوي نظر سديد وثقافة، إضافة إلى العدالة والانضباط الأخلاقي، وواجب الدول والمجتمعات والمؤسسات السعي في صياغات عادلة أكثر من التوجه للاستحواذ على السلطة”
سلمان العودة – أسئلة الثورة
دعونا نلاحظ أنّ مناسبة إشارة المؤلف إلى مراحل وتحديات مختلف الثورات خصوصًا الفرنسية -الحالة الأبرز في عصر التغيير الأوروبي، لا سيما الاجتماعي والسياسي منها- واختطافها على يد البرجوازية ونابوليون، ثم تقلبها بين الجمهورية الفرنسية الأولى والثانية والثالثة، لم تكن تلك اللفتات منه إلا في سياق التنبيه على مسار حلقات الثورات والتجديد والتغيير ضمن عملية النهوض التي أشار إلى أنها ستسغرق أزمانًا ولا بد!
وضمن كتاب (أسئلة الثورة) كانت هناك إجاباتٌ إسعافيةُ مستعجلةٌ، اقتضاها أُوار الثورة وحماس الجماهير وشدة التطلعات وبداية نوازل جديدة. وكذلك هناك بيانٌ توضيحي وربطٌ لأساسيات وتثبيتات فقهية لازمة -مثل مختلف مسائل السياسة الشرعية- حتى يتكامل الطرح وينتظم المعنى والمبنى.
العلاقات الجسرية مع الذات والآخرين هي صلة الوصل التي تُنَشِّط وتُفعِّل حلقات منظومة النهضة، لتعبر بنا الجسور في العملية النهضوية، ولتتراكم نحو الوثبة النهضوية الكاملة، مُشَكِّلَةً نهوضًا حضاريًّا يمر لِزامًا بكل المتطلبات الشرعية والعقلية والسُّنَنيَّة والوقتية والتكاملية، وإن استغرقت أجيالاً متتالية
العلاقة مع الآخر جسرٌ إلى النهضة:
استقرأ المؤلف استباقيًا وطرح مقدمًا التحديات والحلول المقترحة في العام 2012م، فمثلاً: تكلم بوضوح عن الثورات المضادّة في وقت ارتفاع موج الثورات، واستشرف أبرز تحديات العلاقات البينية داخل طبقات الثورات، وكذلك الغيرية حولها. تلك العلاقات الجسرية مع الذات والآخرين التي ختم بها كتابه -يمكن إدراجها تحت (فقه الحياة) كما في مسمى كتاباته الأخرى- هي صلة الوصل التي تُنَشِّط وتُفعِّل حلقات منظومة النهضة؛ لا سيما المعرفية والفقهية والسياسية الشرعية والصيرورية الثورية والمقاصد الكلية، لتعبر بنا الجسور في العملية النهضوية في محصلةٍ ستبقى تتغذى دوريًّا على مفردات هذه المنظومة، ولتتراكم نحو الوثبة النهضوية الكاملة، مُشَكِّلَةً نهوضًا حضاريًّا يمر لِزامًا بكل المتطلبات الشرعية والعقلية والسُّنَنيَّة والوقتية والتكاملية، وإن استغرقت أجيالاً متتالية.
لقد أطلق المؤلف عنوانه (الثورة مقدمة للنهضة) بعناية في آخر الفصل الرابع عقب العنوان (ما بعد الثورة وسؤال العلاقة مع الآخر)، ومباشرة قبل عنوان الفصل الأخير (قلق ما بعد الثورة)، لتتجلى بذلك حيوية التجسير بين الثورة والنهضة عبر ممرات العلاقة مع الآخر، والتي تستدعي الكثير من السياسة الشرعية والكليات والمرونة الفقهية والتجربة والحكمة والصبر. لذا أخذنا الشيخ إلى مدخل “النهضة” في خضم انتقاله بين عناوين الفصلين الأخيرين والتي تتابعت كأسئلة وأجوبة ترشيدية وتجسيرية تدور كلها في فلك العلاقات مع الآخرين بكل أصنافهم، في ملحمة فك القيود وتخطي الموانع ثم العبور من حالة الثورة إلى النهضة.
وهكذا أخذت العناوين برقاب بعضها البعض، وانتظمت، مثلاً في: “الإسلاميون والعلاقة مع غير الإسلاميين”، “الإسلاميون والعلاقة مع الغرب”، “المصالحة الوطنية”، “الثورة تَجُبُّ ما قبلها”، “مخاوف الصراعات الثورية”، “الثورة مقدمة للنهضة”، ثم جاءت مباشرة عناوين الفصل الخاتم “قلق ما بعد الثورة”، مثل: “سرقة الثورات”، “الثورة والتدخل الخارجي”، “الثورة والفتنة الطائفية”، “مستقبل الثورة إلى أين؟”.
دعونا نتذكر أنّ هذا كلّه ليس بدعًا من التاريخ ولا القول أو الفقه؛ فقد تحَقَّقَ كسر قيود وحصار وحواجز المشركين في مكة أمام انطلاق الدعوة وتأثيرها من خلال فتح كل نوافذ العلاقة مع الآخر، حيث امتدت الجسور إلى الحبشة وغِفار وأسلم -المتحكمة بطريق تجارة اليمن- ودَوْس من خلال النجاشي وأبي ذر والطفيل بن عمرو الدوسي، وامتدت إلى الطائف وبني النجار والأنصار، ثم تُوِّجت بوثيقة المدينة مع جميع أطرافها اتساقًا مع مفهوم حلف الفضول. كما تمَّ إرسال معاذٍ إلى اليمن، فضلاً عن قَبول صلح الحديبية ثم الموقف من أبي بصير، مما شكَّل حالة من اللامركزية والديناميكية والتواصلية الخارجية، سَعَت قريش جاهدة إلى منعها منذ البداية، كي تخنقَ حالة النهوض الرسالي وأسباب انتعاش كيانه وتُعطِّلَ مراكب عالميته… ثُمَّ ما لبث كلُّ ذلك أن تُوِّج بانتصارٍ إقليميٍ وعفوٍ واستمالةٍ تجلّت في: (مَن دخلَ دارَ أبي سفيان فهوَ آمنٌ، ومَن أغلقَ عليهِ بابَه فهوَ آمن)، وكذلك في: (اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ).
إننا نلحظ اليوم بجلاء أنّ المكر العالمي حريصٌ على عدم خروج الدعاة والدعوة من مركزيتها الجغرافية والمادية والمعنوية والإدارية، حتى يسهل عليه محاصرتها وقطع أسباب انتعاشها، ومنع تنفسها من رئات أخرى، فاجتهد في قطع أوصالها وتواصلها مع أطرافها وأطراف العالم. إنّ المستكبرين يعلمون أنّ كياناتهم تُهدِّدها عالمية الرسالة بما تحمله من قوة الحق ونور الوحي وميثاق الفطرة وعدالة القضية وسمو القيم. إذن، فلا بد أن يشغلوها بصراعات داخلية وكبتٍ وردود أفعال غلواء يستحثونها، فتبقى بذلك الأمة مشلولةً لا تكاد تضمد جراحاتها، وبالتالي يتم إعاقة تمددها في مساحات قوتها الرسالية بهدف تعطيل تحركها المتسارع في نطاق ضعف المجتمعات الغربية وخواءها الروحي وفراغاتها الحداثية، حيث ستجد الدعوة مددًا وأنصارًا وحلفاء يتعاظمون من داخل البيت الغربي([5]).
إنّ المستكبرين يعلمون أنّ كياناتهم تُهدِّدها عالمية الرسالة بما تحمله من قوة الحق ونور الوحي وميثاق الفطرة وعدالة القضية وسمو القيم. إذن، فلا بد أن يشغلوها بصراعات داخلية وكبتٍ وردود أفعال غلواء يستحثونها، فتبقى بذلك الأمة مشلولةً لا تكاد تضمد جراحاتها
نماذج أخرى لامركزية من الصدر الأول في تبادل المهام وتدويرها:
ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث أسامة على رأس كبار الصحابة، وها هو أبو بكر رضي الله عنه يشكل أربعة جيوشٍ تتعاقب باتجاه فتح الشام. ثم نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحطم المركزية، فيعزل خالدًا حتى لا تتعلق القلوب بخالد -الذي صنع تألقَه موقفٌ لا مركزي آخر في مؤتة- فيظن الناس أن النصر لا يكون إلا بخالد، فتعجز هممهم. وها هم صغار الصحابة كابن عمر يدخلون مع أشياخ بدر.
ولنتأمل دور ألوف الأوقاف التي خرجت عن المركزية، فعُنيت بالعلماء والطلاب والمرضى حتى قيل إنها دولة موازية. وصارت حوالي ثلاثة أرباع أراضي مصر أوقافًا في عهد المماليك. وتلكم فاطمة الفهرية التي بنت أول جامعة في العالم بوقفٍ من مالها، فخرّجت لنا أمثال ابن خلدون والإدريسي. ودوننا السمر المرابطون الذين جاؤوا من السنغال ومالي ومورتانيا فأنقذوا الأندلس المتخمة بالنخب!
اطلاعٌ معرفي وسموٌ أخلاقي:
ما سبق يدل على أنّ المؤلف لديه نموذجٌ معرفيٌ واضحٌ ذو مرتكزات ليس أقلها فهمه للسنن القرآنية والسيرة والتاريخ والحضارة والعمران، ومختلف عصور النهضة والتحولات، بل ووعي بكينونة النفس البشرية وصيرورة المجتمعات! وهو في كتاباته المتنوعة لا تغيب عن ذهنه أهمية عالم الأفكار وتناقلها في سياق الإنسان والنهضة، ولا تنمية الفهم الاجتماعي من أجل الوصول التدريجي إلى حالة العمران الحضاري.
د. العودة قارئ جيد لتشخيصات الأئمة مثل ابن تيمية -استجماع أوصال الأمة مقابل التتار- والعز بن عبد السلام -القدوة والمقاصدي- وابن خلدون في الاجتماع والعمران. وهو مُطَّلعٌ على كتابات الخبراء المعاينين أمثال مالك بن نبي وعلي عزت بيغوفتش والشيخ صالح الحصين -درس القانون في فرنسا وكتب عن مفهوم الحرية- ومحمد أسد وجارودي وهوفمان وعبد الوهاب المسيري، حيث استوعب الشيخ تفكيكاتهم للنماذج المعرفية في عصور النهضة الغربية والحداثة، بما فيها من عوار ومحاذير وانسلاخ، مقابل مقارنتها بالنموذج الإسلامي.
لقد قدم الشيخ في كتابه السلس المختصر “أسئلة الثورة” إعلانًا راقيًا متحضرًا للتجديد والإصلاح يفوق كثيرًا ما قدَّمه فلاسفة الثورة الفرنسية التي كانت موغلة في العنف والنهب وحِدَة الأيدولوجيا حسب تعبير عبد الوهاب المِسيري. في هذا الكتاب ما يسمو بكثير فوق كتبٍ مؤسسةٍ في عصور النهضة الأوروبية، كمثل كتاب “العهد الجديد” لجان مسيليه الراهب الذي ألحد، وهو صاحب مقولة: “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”، فوصل كتابه المدفون بعد موته بعشرات السنوات إلى صالون الفلاسفة البارون دي هولباخ وروسو وفولتير، فأطلقوا منه هذا الشعار العنيف للثورة، وانطلق معها النهب والعنف.
ما قدّمه الشيخ في هذا الكتاب مع نتاجه المتنوع الآخر، لا سيما ما جُمع في كتابي “فقه الحياة” و”شكرًا أيها الأعداء”، يفوق بمراحل عدلاً وفقهًا وإنسانية وأخلاقًا دُرّةَ ما أنتجه توماس هوبز ثم جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، مع الفارق الكبير في حجم المكتوب، مقابل وضوح اختصار الشيخ وبُعده عن الفلسفة لصالح النموذج المعرفي الإسلامي المباشر.
تجلّت بعض تلك المعاني والجسور في كتابه “شكرًا أيها الأعداء” حينما قال: “أسوأ صناعةٍ في الحياة هي صناعة الأعداء، وهي لا تتطلب أكثر من الحمق وسوء التدبير وقلة المبالاة، لتحشد من حولك جموعًا من الغاضبين والمناوئين والخصوم… وقد علمتني التجارب أنّ من الحكمة الصّبرَ على المخالِفين وطولَ النّفَس معهم واستعمال العلاج الربانيّ بالدفع بالتي هي أحسن: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
عالم العلاقة مع الآخر يجب أن يُحلِّق لينتقل بين الذوات والموضوعات -كالدعوة والإصلاح والحرية والعدالة- ليحقق المقاصد الممكنة، فلا يتحجَّر ويتلاشى في حيزٍ ضيق وكينونةٍ محدودة. وفي ذات الوقت، ينبغي أن تنطلقَ العلاقات من الذات -أفرادًا وجماعات- إلى الآخر -الغير بكل أشكاله- لتصل تلك الموضوعات إلى الآخرين أو يُتخذ موقفٌ بصددها، سواءً كان مهادنًا أو محالفًا أو مواجهًا
المجال العلاقاتي:
عالم العلاقات من أهم موضوعات ومدخلات فقه الدعوة والتغيير وعلوم الاجتماع، ومن خلاله تتم حسبة (المخاطر والفرص)، وبالتالي حجم المكاسب الإصلاحية على طريق النهضة. عالم العلاقة مع الآخر يجب أن يُحلِّق لينتقل بين الذوات والموضوعات -كالدعوة والإصلاح والحرية والعدالة- ليحقق المقاصد الممكنة، فلا يتحجر ويتلاشى في حيزٍ ضيق وكينونةٍ محدودة. وفي ذات الوقت، ينبغي أن تنطلقَ العلاقات من الذات -أفرادًا وجماعات- إلى الآخر -الغير بكل أشكاله- لتصل تلك الموضوعات إلى الآخرين أو يُتخذ موقفٌ بصددها، سواءً كان مهادنًا أو محالفًا أو مواجهًا.
بهذا يصبح لدينا مجالان؛ مجالٌ ذاتي ومجالٌ علاقاتي يشمل الموضوعات السديدة التي سنوصلها إلى الآخر من خلال فقهٍ شرعي يستوعب المقاصد ويستحضر الشكل الممكن والأصلح واقعًا، مُستخدمًا علوم الاجتماع وأدوات الحكمة وسياسة الأمور. وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ هذا الأمر تركيبي، فكثير من الأشياء تتغير طبائعها بسبب العلاقات التي تؤثر فيها، ولنأخذ على سبيل المثال؛ الحكمة من سهم المؤلفة قلوبهم، وأعطيات غنائم حنين لغير الأنصار، وبُعد النظر في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر فيما رواه البخاري: (دعه، لا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)([6]). وكذلك تحقيق التدرج والأخذ بيد الناس، كما ورد في الصحيحين عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترضَ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فَتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكَرَائِمَ أموالِهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)([7]).
المجال العلاقاتي وارتباطه بالتنفس الحضاري عند مالك بن نبي:
مالك بن نبي -كما يشخصه سليمان الخطيب في كتابه (فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي)- يرى باختصار أن الحضارة تتنفس لتنهض من خلال تصحيح علاقة الإنسان بالذوات والأشياء بعد الأفكار. فينطلق مالك في تصحيحه لعلاقة الإنسان بالأفكار من خلال ضرورة توجيه الأفكار أولاً، ثم ربطها والتربيط بين أصحابها ثانيًا، ثم التركيز على الأفكار الفعالة ثالثًا.
لذا قرر مالك بن نبي أن الحضارة ستتحرك قُدمًا عند تفعيل الأفكار الفعالة لتعمل وتؤثر في عالم البشر والأشياء، فتنتج منتجات حضارية. وتفعيل الأفكار عند مالك يكون بالوصول إلى (منطق العمل) والذي سيقلع بالعمران الاجتماعي والمدني.
هل فاتنا عقل ابنة شعيب؟
العالم الداعية والقائد الموفق والمؤسسات المهنية والدعوية ليس ما يميزهم عمل الخير وحسب، بل توظيفهم الناس في الخير فيكونون بذلك صنّاع خيرات جارية ويتحول الناس إلى معامل الخير، فتنشأ لدينا مصانع خير نهضوية متوالية؛ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.
ألا نرى كم نحن معطلون اليوم عن صناعة الخير الجاري ومنهمكون أكثر بمجرد عمل الخير بأيدينا المحدودة، والذي لا نكاد نسد طلباته وحاجاته المتكاثرة، لا سيما في ظل مركزيتنا الضيقة. ولو تأملنا في مزايا الأوقاف وثمراتها مثلاً لوجدنا أنها كانت مصانع خير جارية متنوعة في حقبات مهمة، وحملت الأمة وقامت مقام الدولة لما تهاوت أمام الفاطميين والصليبين.
أما توظيف الناس الأقوياء المتخصصين أو تأهيلهم في سبل الخير فهي صناعةٌ ودرجةٌ أعلى تحولهم إلى منتجي خيرات وأيدٍ كثيرةٍ متنوعةٍ في الخير.
إذا لم ينجح الدعاة في إشراك طاقات الأمة وتوظيفها في شتى المجالات، فعليهم أن يعلموا أنهم لا يدورون في فلك الأمة ولم ينزلوها منزلتها، ولا هم تدبروا شأن الأمة في كتاب ربهم.
خلاصة ونتيجة:
إن أي دعوة أو حركة أو مؤسسة كبرى لا تستطيع أن توجد مجالاتٍ لتوظيف طاقات الأمة وتفعيلها بتنوعٍ ولامركزيةٍ، هي هياكل بروتوكولية جامدة أو فردية بعباءةٍ مركزيةٍ حتى لو أكثرت من المواعظ والعلاقات العامة والمؤتمرات.
وفيما الأصل والممكن أن تكون جموع الأمة قوةً أممية كبيرة تمامًا كما كانت أمام الصليبيين والتتار. يومئذ كانت الأمة تمتلك بنيةً وقفيةً وتعليميةً مؤسسيةً ضخمةً لا مركزيةً وحركةً علمائية مترفعةً وتربويةً متغلغلةً، استطاعت أن تجمع أطراف كيانها وتنهض. بينما لا مركزية في الإسلام إلا للوحي والرسالة والأمة واجتماعها، وما عدا ذلك لا بد أن يدور في فلك الأمة.
إذا لم ينجح الدعاة في إشراك طاقات الأمة وتوظيفها في شتى المجالات، فعليهم أن يعلموا أنهم لا يدورون في فلك الأمة ولم ينزلوها منزلتها، ولا هم تدبروا شأن الأمة في كتاب ربهم.
لذا ينبغي على العلماء أن يتنبهوا إلى (تغول دورهم ومركزيتهم) على حساب الدعاة والدعوة التي لا تنتعش وتنتشر بفاعليةٍ إلا بالتخصص والتنوع والإبداع والتمدد اللامركزي.
أ. عبد الله أحمد عبد الرحمن
كاتب في قضايا الفكر والنهضة.
([1]) أسئلة الثورة، للدكتور سلمان العودة، ص (17).
([2]) المرجع السابق، ص (17-18).
([5]) ينظر: مقال “مقدمات معرفية في التدافع الأممي والحضاري ودور اللامركزية فيه”، لطاهر صيام، مجلة رواء، العدد الرابع والعشرون.
([7]) أخرجه البخاري (4347) ومسلم (19).