الحوار بين الزوجين وسيلة لبناء علاقة مستقرة وتجاوز الخلافات الناتجة عن اختلاف الطباع أو الخلفيات أو المعتقدات، ونجاح الزواج لا يقوم على إزالة الاختلافات بل على إدارتها بحكمة ومرونة، فالنقاش الهادئ، والاحترام، وتجنب الاتهام أو رفع الصوت: أساسٌ لحلّ المشكلات. وتُظهر نماذج من التراث الإسلامي أن الحوار الصادق والمبكّر يضمن التفاهم والسكينة، فيما تُعد المبالغة في المكاشفة أو “الفضفضة” -أحيانًا- سببًا لتصدّع العلاقة.
يُعد الحوار لبنة أساسية في أي علاقة إنسانية عميقة ووطيدة وطويلة الأمد، ولكن عادة ما يأخذ الحوار في العلاقة الزوجية منحى مختلفًا وأهمية أكبر؛ ذلك أن مؤسسة الزواج في إسلامنا تتضمَّن اجتماع فردين مختلفين قليلاً أو كثيرًا -وربما متناقضين أحيانًا- على أمل بناء أسرة مسلمة وسوية، ونظرًا لمحورية دور الحوار في حل كثير من المشاكل الزوجية، أردنا أن نوضح في هذا المقال: طرحًا لبعض أبرز المسائل التي تسبب الخلافات الزوجية، واقتراحات لأساليب الحوار الناجحة في العلاقة الزوجية، وأمثلة من ثقافتنا العربية والإسلامية على كيفية حل بعض المشاكل الزوجية والحفاظ على نجاح العلاقة، ومتى قد يشكل الحوار في بعض الموضوعات خطرًا على العلاقة الزوجية.
أمور قد تتسبب في الخلافات الزوجية وتستلزم الحوار لحلها:
» اختلاف الطبائع ووجهات النظر:
من أبرز أمثلة تلك الخلافات الدائمة تلك التي تدور حول اختلاف الطبائع، مثل أن يكون أحدهما عجولاً والآخر بطيئًا، أو أن يكون أحدهما عصبيًا والآخر هادئ الأعصاب، أو حسن الخلق في مقابل سيئها، أو يكون شخصًا منطويًا وصاحبه اجتماعيًا، أو يكون كثير الكلام والآخر قليله، أو أن يحب أحدهما الخروج ويميل الآخر للجلوس في المنزل.
ورغم أن التناقض لا يعكس بالضرورة في كل مرة الحَسَن وما يقابله من سيّء الطباع، بل قد يكون مجرّد اختلاف في الطبائع البشرية؛ لكنّه يؤدي إلى رغبة دائمة -وربما غير مجدية- في تغيير الطرف الآخر أو إلى خلافات دائمةٍ مستمرة.
والمشكلة في كثير من الأحيان لا تكمن في وجود التناقض في حد ذاته، بل في تحوله إلى خلاف ورغبة مستميتة لدى أحد الطرفين أو كليهما في تغيير الآخر عوضًا عن التأقلم والتقبل، فالاختلافات في وجهات النظر فيما يتعلق بإدارة شؤون المنزل -من تنظيف وترتيب وإنفاق وإعداد للطعام وغيره- لا بد من التحاور بشأنها للوصول إلى حلول يرتضيها جميع الأطراف.
أثبتت الإحصاءات والدراسات العلمية أن قوة مفعول الحوار تخبو في مثل هذا النوع من الخلافات إذا كان هدفه هو الوصول إلى حل دائم، يقول جون غوتمان John Gottman -وهو عالم نفس أمريكي وباحث في شؤون العلاقات الزوجية- من خلال طريقته المشهورة بـ “طريقة جوتمان”[1]:
“إن الحوار والتفاعل بين الأزواج يتخذ مسارًا واحدًا بمرور الزمن، وحوالي ٦٩٪ من المشكلات بين الطرفين هي مشكلات دائمة لا تُحل أبدًا لأنها ناتجة عن اختلافات جوهرية في الشخصيات، ولكن قد يمكن إدارتها والتعامل معها”.
وكانت هذه واحدة من النتائج التي وصل لها “جوتمان” على مدار أكثر من أربعين عامًا، وأجرى جون غوتمان مئات الدراسات التجريبية على أكثر من ثلاثة آلاف زواج، واستنادًا على أبحاثه أكد غوتمان أنه رغم شعور بعض الأزواج بأن علاقاتهم فريدة من نوعها، فإن الخلافات الزوجية في نهاية المطاف تنقسم إلى فئتين لا غير: فهي إما خلافات قابلة للحل، أو خلافات دائمة. ونظرًا لأن الغالبية العظمى من الخلافات تُعد دائمة، فإن طريقة غوتمان تركز بشكل خاص على مساعدة الأزواج في تعلم كيفية التعايش مع هذا النوع من الخلافات، وهذا هو دور الحوار.
“إن الحوار والتفاعل بين الأزواج يتخذ مسارًا واحدًا بمرور الزمن، وحوالي ٦٩٪ من المشكلات بين الطرفين هي مشكلات دائمة لا تُحل أبدًا لأنها ناتجة عن اختلافات جوهرية في الشخصيات، ولكن قد يمكن إدارتها والتعامل معها”.
جون غوتمان John Gottman
» الخلافات الدينية:
وقد يظهر ذلك من خلال الاختلاف في درجة التدين والالتزام بالفرائض والنوافل وغيرها، كأن يكون أحدهما متدينًا أو حريصًا على الفرائض والنوافل، أو محبًا لإخراج الصدقات، بينما يكون الآخر على النقيض تمامًا. وقد يختار رجل امرأةً غير محجّبة للزواج على أمل أن يُقنعها بارتداء الحجاب لاحقًا، غير مدرك أنها لا تفكر أصلاً في هذا الأمر ولا ترغب فيه، وهكذا؛ فيحدث الصدام بعد الزواج بين محاولة الزوج إقناع زوجته بأمر لا ترغب فيه، وصدمة الزوجة التي ظنت أن زوجها قبلها على حالها التي كانت عليها قبل الزواج! والأمر ذاته ينطبق على المرأة التي تعرف قبل الزواج أن الرجل الذي تقدّم لخطبتها لا يُصلي أو لا يحافظ على الصلاة، وحين تناقشه لا ترى بادرةً أو رغبةً في التغيير، ولكنها تتزوجه على أي حال مؤمّلة في قُدرتها على إقناعه وتغييره بعد الزواج!
» الاختلافات الاجتماعية:
من أشهر المشكلات كذلك الاختلاف في المستوى الاجتماعي والطبقي، أو اختلاف العادات، أو المستوى المادي، أو الخلفية الثقافية أو البيئة الأسرية.
ورغم أن الكثير من الزواجات أثبتت نجاحها رغم الهوة الكبيرة في المكانة الاجتماعية بين الأزواج واختلاف المستوى الاقتصادي ومستوى الثراء، فهذا لا ينفي كونه تحديًا كبيرًا وصعبًا، ويحتاج للحوار والنقاش البنّاء بين الزوجين حتى يبنوا حياةً طيبةً معًا بعيدة عن المعايرات والعقد النفسية والمقارنات المجحفة.
ولعل من أهم طرق الحوار لحل هذه المشكلات:
1. الاتفاق على المشتركات من خلال تحديد أرضية مشتركة من العادات المقبولة عند الطرفين، والتنازل عن بعض التفاصيل الثانوية.
2. المرونة والتنازل المتبادل، فليس من الضروري أن يفرض أحد الزوجين عاداته أو نظرته بالكامل، بل يمكن التناوب في اتباع العادات أو تطبيق بعض الأمور العائلية.
3. تحديد حدود واضحة في الأمور العائلية والمجتمعية، دون أن تكون على حساب استقرار الأسرة الصغيرة.
رغم أن الكثير من الزواجات أثبتت نجاحها رغم الهوة الكبيرة في المكانة الاجتماعية بين الأزواج واختلاف المستوى الاقتصادي ومستوى الثراء؛ إلا أنّ هذا لا ينفي كونه تحديًا كبيرًا وصعبًا، ويحتاج للحوار والنقاش البنّاء بين الزوجين حتى يبنوا حياةً طيبةً معًا بعيدة عن المعايرات والعقد النفسية والمقارنات المجحفة.
مناقشة المشكلات الناتجة عن العيش في بيت الأهل (نموذجًا):
وهي من الأمور التي قد تستصغرها بعض النساء قبل الزواج، وقد لا يحرصن على الاستفسار عنها، وقد لا يتطوع الطرف الآخر بالتوضيح الشافي من تلقاء نفسه في معظم الأحيان. فما يحدث بعد الزواج هو أن تعاتب الزوجة زوجها أنه لم يوضح لها حقيقة الأمور، وبالنسبة للزوج فهو يرى الأمور “معلومة بالضرورة”، بالإضافة لكونها معقولة ومقبولة وغير قابلة للنقاش ما دام أن الزوجة قبلت مسألة العيش مع أسرته بادئ ذي بدء. وقد أخبرتني فتاة مرةً أن خطيبها اتفق معها على الإقامة في بيت أسرته بعد الزواج، وقد وافقت على هذا من منطلق أن لهم شقتهم الخاصة بهم، وأسرة زوجها كلها تعيش في البناء نفسه، وما ظنته الفتاة وافترضته -من تلقاء نفسها- أن المتوقع منها هو تناول وجبات الطعام مع أسرة زوجها فحسب، ثم ينطلق كل لشؤونه، ولكن ما حصل بعد الزواج هو أن حماة الفتاة لم تكف عن زيارتهم طوال الوقت سواء كان زوجها موجودًا أم لا! حتى لم يعد للفتاة أي خصوصية، وحين شكت لزوجها أخبرها بأنه قد أعلمها بالأمر قبل الزواج وأنها وافقت عليه، ومن ثم فلا حق لها في الشكوى لأمر كانت على علم مسبق به.
وإذا ما تجاوزنا مشكلة الخصوصية، فمن المشاكل المعروفة الأخرى فيما يتعلق بعيش الزوجة مع أسرة الزوج أو إقامة الحماة في بيت الزوجية هو الخلط بين الواجب والمعروف. وقد عجَّت وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة بشكاوى آلاف الزوجات من خلفيات دينية وثقافية مختلفة جراء العبء الذي يُلقى على عواتقهن من خدمة أهل الزوج سواء الأم أو الأب أو كليهما، والذي يتضمن أحيانًا التمريض والخدمة الدائمة على مدار اليوم بالإضافة لواجبات الزوجية ورعاية الأطفال. وعوضًا عن التقدير والدعم، عادةً ما تُتهم الزوجة بالتقصير في حق أهل الزوج أو الزوج نفسه، لعدم قدرتها على التوفيق بين أمرين لا يعد أحدهما من واجباتها الشرعية أصلاً، وهو خدمة أهل الزوج ورعايتهم.
وليس الغرض هنا تشويه صورة الحياة في بيت الأسرة بعد الزواج ولا تنفير الناس منها، كما لا نقول هنا برأي دون آخر؛ فكل أدرى بما يصلح له، وحرٌّ فيما يختاره من نظامٍ لمعيشته ما دام لم يخالف شرع الله تعالى. وإنما نرى وجوب أن يدرك كلُّ فردٍ تبعات قراره، وأن يعرف ما له وما عليه بالإضافة للحدود التي يجب عليه الوقوف عندها.
كما ننبه بهذا الكلام إلى أهمية الحرص على اختيار الأسرة عند الزواج وليس شريك الحياة فحسب، وعدم الانسياق وراء دراميات المسلسلات والأفلام التي تنادي بأولوية اختيار الشريك وأنه بانصلاح العلاقة بين الزوجين ينصلح كل شيء وتنقشع كل المشاكل، فالواقع والإحصاءات تقول بغير ذلك، حيث أفاد استطلاع نُشر في جريدة الجارديان The Guardian البريطانية -أجراه مجموعة من محامي قانون الأسرة- بأنه ما يقارب من ٢٠٪ من حالات الطلاق هي نتيجة ضغوط من أفراد أسرة الزوج أو الزوجة، مما يجعل مشاكل الأسرة ثاني أكثر أسباب الطلاق شيوعًا بعد الخيانة الزوجية (وهي حوالي ٢٧٪)[2]. وفي دراسة في ماليزيا نُسبت ٣٠٪ من حالات الطلاق إلى تدخل أهل الزوج أو الزوجة[3]. كما ذكرت إحدى الدراسات التي أجريت في السعودية أن ٥٠٪ من المشكلات الزوجية كانت مرتبطة بعلاقة الزوجين مع الحماة، و٣٪ من تلك الحالات انتهت بالطلاق بسبب هذه المشكلات[4].
وهنا يأتي دور الحوار الذي ينبغي أن يرافق مشروع الزواج في كل مراحله، فعند مرحلة الخطبة والتعرف على الشريك لا يترك المجال للمسلَّمات والافتراضات، بل لا بد من الحوار حول أمور كثيرة، ولا بد أن تشمل طبيعة العيش في بيت الأسرة وحدود الواجبات والحقوق بين الزوجين، والوصول إلى صيغ مقنعة للطرفين دون إجحاف أو محاباة، مع ترك مساحة للإحسان والبر الزائد عن الحد الواجب.
فعلى الزوجة أن تسأل وعلى الزوج أن يوضح، وإذا تم الاتفاق على بعض القواعد فلا بد من حمايتها بما لا يخالف الشريعة، وبما لا يضر بمصالح الأسرة أو الوالدين، أما العادات الاجتماعية الزائدة عن حدود الشرع والذوق فلا بد من العمل على التخفف منها والوقوف بوجهها تدريجيًا حتى تزول وتنتهي.
مقترحات لأساليب الحوار الناجحة في العلاقة الزوجية:
في مقال بعنوان “كيف تتكلم أثناء الخلاف الزوجي؟” للدكتور جاسم المطوع[5]، مجموعة من النصائح العملية لتسهيل الحوار وفك الاشتباك وقت الخلاف، ومن أبرزها:
» ضرورة أن يشعر الزوج أو الزوجة أن الطرف الآخر مهم في حياته ويقبله كما هو، وبالتالي سيتعامل مع الخلاف على أنه هو الوضع المؤقت وليست العلاقة الزوجية والتي يود استمرارها من خلال حل الخلافات.
» تجنب رفع الصوت والكلام الجارح، كما يفضل استخدام عبارات من مثل: “أنا أشعر…”، “أنا أفكر…”، بدلاً من “أنت ظلمت”، “أنت أخطأت”، لتخفيف التوتر ووقع العتاب وحدة النقاش.
» الاعتذار حتى لو لم تكن الطرف المخطئ وهي طريقة ذكية لتهدئة الموقف.
» استخدام أمثلة محددة بدل التعميمات، والابتعاد عن إعادة فتح ملفات الماضي أثناء مناقشة المشكلة القائمة حاليًا.
كما وضع الدكتور قواعد واضحة للحوار البنّاء في العلاقات الزوجية مثل:
» الحوار يجب أن يكون بنَّاءً ويفضي إلى نتيجة تحل المشكلة وترضي كلا الطرفين قدر المستطاع، وليس رغبة في انتصار طرف على آخر.
» عدم إشراك طرف ثالث لأن للعلاقة الزوجية خصوصية يفضل عدم مشاركتها سيما مع المقربين.
» إدراك أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
» استخدام نبرة هادئة مع الابتسام وتجنب صيغة الأمر، والبدء بالثوابت والأمور التي يتفق عليها الطرفان.
» تجنّب السخرية، والمقاطعة، والعتاب الحاد أو المهين. وإن تحولت المناقشة إلى شجار فيُنصح بالتوقف عن النقاش ثم العودة للحديث لاحقًا بعد هدوء النفوس وانخفاض حدة النقاش.
وما يفيد في هذا السياق ما أوردته مقالة بعنوان “تحديات التواصل” للكاتب والفيلسوف البريطاني “ألان دو بوتون” Alain de Botton تكلم فيها عن العقبات الشائعة في العلاقات، وقدم جملة من النصائح مثل: توقّع أن يقرأ الزوج أو الزوجة أفكارك، وتجنّب التعبير عما تريد بشكل مباشر، أو افتعال شجار بدلاً من النقاش الهادئ، أو الانعزال والتجهّم عند الشعور بعدم الرضا.
ويذكر “دو بوتون” في مقال آخر بعنوان “تاريخ الجدل” أن الجدل ينشأ غالبًا من محاولات يائسة ليفهمنا الطرف الآخر، لكنها تفشل لأننا نعبر بصورة جارحة بدلاً من توضيح ما نشعر به حقيقة، فنحن نكثر الجدل ونتجنب الحوار الحقيقي المفيد ليس لعدم اهتمامنا بأزواجنا، بل لأن شدّة انفعالنا تطغى على قدرتنا على التواصل البنّاء الذي يسهم في حل المشاكل بدل استفحالها.

أمثلة من تاريخنا تدل على أهمية الحوار وجدواه في حل المشاكل الزوجية:
1. في اختلاف الطبائع ووجهات النظر: (الكاتب المصري أحمد أمين نموذجًا):
روى أحمد أمين في كتابه “حياتي” كيف كان يرى حاجته للخلوة بنفسه لساعات ليقرأ ويكتب دون مقاطعة، ولكن زوجته في البداية لم تكن مقتنعة بأن ينطوي على نفسه ويغيب عنها وعن الأطفال كل هذا الوقت، ورأت أنه بذلك يقصّر في حقها وحق أسرته، وحصل شدّ وجذب بينهما، إلى أن توصلا إلى اتفاق في النهاية وهو أن يُخصِّص أحمد أمين وقتًا محددًا يقضيه وسط كتبه وكتاباته، مقابل ألا يطغى هذا على حقوق البيت والعائلة، حيث كان سبب الخلاف الأساسي بينهما أنه كان يحاول أن يوجد توازنًا بين حياته الفكرية ومسؤولياته الأسرية، بينما حرصت زوجته ألا يتأثر البيت أو العشرة الزوجية بانشغاله بالكتابة وطلب العلم، ونجحا بالحوار في التوصل لحل وسط يرضي الطرفين.
وبالنسبة لاختلافهما في وجهات النظر فيما يتعلق بإدارة شؤون المنزل، فقد أراد أحمد أمين أن يكون له رأي في اختيار الخادمة، باعتبار أن وجودها في البيت يمسّ حياة الأسرة كلها، بيد أن زوجته ارتأت أن هذا شأن يخصُّها هي بالدرجة الأولى، لأنها هي التي تدير البيت وتتعامل مع الخادمة بشكل مباشر وبصورة يومية، فالخلاف كان على من تكون له الكلمة الأخيرة في الاختيار، وانتهى الأمر بأن ترك أحمد أمين القرار لزوجته احترامًا لها، ولأنها الأعرف بما يلزم شؤون البيت.
لربما يرى البعض في الخلافين السابقين بين أحمد أمين وزوجه أن ما حصل هو تنازل أحد الطرفين لصالح الآخر، فقد ارتضت الزوجة في النهاية أن يكون لزوجها وقته المستقل الذي يختلي فيه بنفسه رغم عدم رضاها التام عن هذا الأمر، وفي مسألة الخادمة تنازل أحمد أمين لصالح زوجته احترامًا لها ولرأيها! هذا يعلمنا أن أهمية الحوار أحيانًا تكمن في إنهاء الخلاف والوصول لنقطة توافق أو حل وسط، حتى يتمكن الزوجان من العيش سويًا بسكينة وسلام وبشكل مرضٍ للطرفين قدر الإمكان. أما أن نأمل أن ينتهي كل حوار باجتثاث المشكلة من جذورها، والتخلص من أصولها وفروعها، فهذا أمر من العسير بمكان في كثير من الأحيان.
2. مشكلة الاختلاف الثقافي والاجتماعي (خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز رحمه الله وزوجه فاطمة بنت عبد الملك نموذجًا):
فقد رُوي أنه لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة عزم أن يعيش حياة زهد وتقوى وورع، فأراد أن يضرب المثل بنفسه وبأهل بيته، فخاطب زوجته فاطمة وقال لها: “يا فاطمة، إن أردتِ صحبتي فاطرحي عنكِ حُليّك هذا، واختاري العيش معي على ما ترين، وإن شئتِ أخذتِ متاعك ورجعتِ إلى أهلك.، فأجابت بقولها المشهور الذي خلده التاريخ: “بل أختارك يا أمير المؤمنين، وما كنتُ لأفارقك.؛ فقامت فاطمة بنت عبد الملك ببيع حُليّها ووضعت مالها في بيت مال المسلمين، وشاركت زوجها حياة الزهد التي اختارها. وهذا دليل واقعي وحي على أنه لا يوجد عائق قطعي لعدم نجاح الزواج بين اثنين من ثقافة أو طبقة اجتماعية مختلفة، طالما تحاورا بصراحة بينهما كما فعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله وزوجه، واتفق كلاهما على المعيشة التي يرتضيانها لأنفسهما.
ومع تغيّر الزمان وتبدّل الأحوال وتفاوت معادن الناس، فإنّ الحكمة تقتضي أن يكون الحوار حول تلك القضايا الجوهرية قبل الزواج لا بعده؛ فليس كل الناس مثل فاطمة -رحمها الله- قادر على اتخاذ قرار بهذه الدرجة من الأهمية والتأثر للمحافظة على الأسرة واستقرارها.
وتنطبق القاعدة نفسها أو تقاربها شيئًا ما فيما يتعلق بمسألة العقيدة، فإذا ناقش الطرفان وجهات نظرهما قبل الزواج، ولم يبد أيٌّ منهما رغبة في التراجع، فعلى كل طرف اتخاذ قرار الزواج من عدمه بناء عليه، وعدم المضي قدمًا في الزواج تاركين المسألة معلقة، ودون الاتفاق على آليةٍ للتعامل معها.
على صعيد آخر، فإن هذا لا يعني عدم جدوى الحوار في أمور الدين، ونمط الحياة بعد الزواج، فالأمر في النهاية هو توفيق وهداية من الله سبحانه وتعالى لمن يشاء، وما أكثر مَن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. فبعض الأزواج ينجح في إقناع زوجته بارتداء الحجاب، والكثير من الزوجات يشكرن ذلك لأزواجهن. وبعض المسلمات الجديدات يذكرن أن سبب إسلامهن كان أزواجهن وحرصهم على تطبيق شرائع الإسلام. وكذلك تنجح بعض الزوجات في جعل زوجها يحافظ على الجماعة في وقتها والإكثار من الصدقات. فليس لنا أن نتغاضى عن الأثر الطيب الذي يحدثه الحوار الراقي بين الأزواج، وقدرته على إحداث الفرق والتغيير في مسألة الالتزام بفرائض الله وشعائر الدين وحتى فضائل الأعمال.
3. وضع قواعد للخلافات الأسرية (قصة أبي الدرداء مثالاً):
فالاتفاق على هذه القواعد يساعد الزوجين على التواصل بطريقة محترمة ومنظمة، مما يوفر بيئة آمنة للتعبير عن الآراء والمشاعر، ويبني الثقة بين الطرفين، ويعزز التفاهم ويقلل من سوء الفهم، مثل أخذ استراحة عند الغضب أو تحديد وقت للنقاش، ونحو ذلك.
ومثاله ما ورد عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنه قال لزوجته: “إذا غَضِبتُ فـرَضِّيني، وإذا غَضِبْتِ رَضَّيتُكِ، فإذا لم نكُنْ هكذا ما أسرَعَ ما نفتَرِقُ”[6].
4. مشكلة العلاقة الخاصة وعدم الاهتمام بين الأزواج (قصة زوجة عثمان بن مظعون رضي الله عنه):
عن عروة قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون -خولة بنت حكيم- على عائشة، وهي باذَّة الهيئة، فسألتها: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ فقال: (يا عثمان، إنَّ الرهبانية لم تُكتب علينا، أفما لك فيَّ أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده)[7].
فكان أن استمع عثمان بن مظعون رضي الله عنه للنصيحة وحرص على الموازنة بين العبادة وحقوق الأهل.
وهذا النوع من الحوار الذي دار بين خولة بنت حكيم والسيدة عائشة رضي الله عنهما يعتبر نموذجًا مثاليًا تستدل منه النساء على مَن ينبغي لها استشارتهم في مشاكلها الزوجية، خاصة الحساسة منها. فالسيدة عائشة رضي الله عنها لم تكتفِ بالاستماع فحسب واعتبار كلام صاحبتها في حق زوجها مجرد “فضفضة” والسلام، بل حرصت على إيجاد حل لها بإعلام النبي صلى الله عليه وسلم، والذي لم يكتفِ بمعاتبة سيدنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه فحسب، بل وجَّه الرسالة لعامة المسلمين عسى أن يكون في نسائهم من يعاني من المشكلة نفسها فيتّعظ الأزواج ويقوِّمون من سلوكهم.
وهذه المسألة تقارب إلى حد بعيد مشكلة الحقوق المتعلقة بخدمة أهل الزوج التي طرحناها آنفًا، ذلك أن معرفة الحقوق والواجبات بين الأزواج، ورسم حدود واضحة بينهم وبين علاقتهم بأسرهم لا ريب؛ يساعد على بناء علاقة زوجية سوية وناجحة.
متى يهدد الحوار سلامة العلاقة الزوجية؟
هنا جانب قد يؤدي فيه الحوار إلى فجوة في العلاقة الزوجية وربما تدميرها على المدى البعيد، فرغم نداء الكثيرين بأهمية الشفافية بين الزوجين وأن يكون كل شخص كتابًا مفتوحًا أمام الآخر، إلا أن الدراسات النفسية أكدت أن هناك نوعيات معينة من الحوارات و”الفضفضة” تضر بالعلاقة الزوجية أكثر مما تنفعها. من أبرز هذه التصرفات: التعامل مع الزوجة أو الزوج على أنه طبيب أو معالج نفسي، وتوقع مساعدته في تخطي جميع أو حتى بعض الصدمات النفسية التي مر بها الإنسان. وفي مقال بعنوان “شريك حياتك ليس هو طبيبك النفسي” لـ”جولي نوين” (وهي مدربة معتمدة في العلاقات الزوجية وكاتبة في مجال الصحة النفسية) تقول فيه: “قد يكون لدى الطرف المستمع آراؤه ومشاعره الخاصة التي قد تؤثر على نصائحه، أو قد يشعر بعدم الارتياح في التعبير عن مشاعره الحقيقية لأنه قد يعتبر ذلك خيانة لثقة الطرف الآخر، والأسوأ من ذلك أنه قد يشعر بمرور الوقت بعدم الأهمية والتقدير نتيجة هيمنة مشاكل زوجه على علاقتهما”[8].
ومن أشهر أنواع “الفضفضة” التي لا تعد مفيدة بل ويراها علماء النفس مؤذية للعلاقة الزوجية: ما يسمى بـالفضفضة المبالغ فيها عن الصدمات النفسية Trauma Dumping، وهي تتلخص في أن يقوم الإنسان بحكاية صدمة أو صدمات عاطفية مر بها لزوجه دون مراعاة الوقت المناسب أو استعداده للاستماع إليه، كما أن مناقشة أو حكاية صدمات معينة -كالتعرض للتحرش والاغتصاب- قد تتسبب في تدمير العلاقة أو إحداث شرخ فيها، أكثر منه توطيد العلاقة بين الزوجين، وإن أسهمت في إراحة المتكلم شيئًا ما. والسبب في ذلك أن الغالبية العظمى من الصدمات النفسية -إن لم يكن كلها- حدثت وانتهت، ولا يملك المستمع إلا التعاطف أو الرغبة في الدعم وحل المشكلة، والإشكالية تكمن في أن الزوج قد يعجز عن التعاطف أو التعبير عن رأيه، أو إبداء ردة الفعل المناسبة أو المرضية لزوجته، والعكس صحيح. كما قد يصاب بالاستنزاف العاطفي، وتراوده مشاعر العجز والقلق والضيق والإرهاق النفسي. والأخطر من كل هذا أنه قد يشعر بالعجز تجاه الطرف الآخر لأنه لم يستطع مساعدته آنذاك، أو يتأثر بوقع الموقف وملابسات القصة، وقد تتغير نظرته لزوجته بصورة غير محمودة، والعكس صحيح. لذا ينصح أساتذة علم النفس بتجنب مشاركة هذا النوع من “الفضفضة” حفاظًا على الود والاحترام وصفاء العلاقة بين الأزواج.
الدراسات النفسية أكدت أن هناك نوعيات معينة من الحوارات و”الفضفضة” تضر بالعلاقة الزوجية أكثر مما تنفعها، من أبرزها: التعامل مع الزوجة أو الزوج على أنه طبيب أو معالج نفسي، وتوقع مساعدته في تخطي جميع أو حتى بعض الصدمات النفسية التي مر بها.
وأخيرًا:
فإن الحوار بين الأزواج مهم لوضع القواعد والأسس للتعايش والتفاهم، ولتقريب وجهات النظر والوصول لحلول وسط ومرضية للزوجين قدر المستطاع عند حصول الخلاف. والأهم هو فتح الباب لهما ليعيشا في سكينة ووئام، بعد أن تم الحوار واتُخذ القرار وانتهى الكلام، واتفقا على التسليم بحكمة الله فيما ساقه من أقدار وأحوال، وارتضيا العيش سويًا في سلام.
والقاعدة الذهبية: أن الاختلافات بين الزوجين يمكن أن تتحول إلى ثراء وتكامل إذا أُديرت بالمرونة والاحترام، بدلاً من أن تكون سببًا في الخلافات المستمرة.
أ. تسنيم عبد الرحمن النمر
كاتبة ومترجمة من مصر، مهتمة بقضايا التعليم والأسرة والعلاقات والتطوير الذاتي
[1] هي نهج في العلاج الزواجي يركز على بناء علاقات صحية ومستقرة من خلال فهم وتحسين الصداقة، وإدارة النزاعات، وبناء معنى مشترك في العلاقة، وفي الرابط الآتي نظرة عامة على طريقة ميثود: https://www.verywellmind.com/what-is-the-gottman-method-5191408?utm_source=chatgpt.com .
[2] دراسة بعنوان: الأصهار هم من يتحملون اللوم في حالات الطلاق، In-laws get the blame for divorces theguardian.com/uk/2005/jan/23/anushkaasthana.theobserver
[3] دراسة بعنوان: الحموات وراء حالات الطلاق الهندية في ماليزيا، Mother-in-laws behind Indian divorces in Malaysia، صحيفة هندستان تايمز، مايو 2009م، hindustantimes.com/world/mother-in-laws-behind-indian-divorces-in-malaysia/story-KIXiSXMHddy8A38fqyGiwL.html .
[4] تقرير بعنوان: الحموات وراء 3% من حالات الطلاق، Mothers-in-law behind 3% of divorce cases، موقع عرب نيوز، arabnews.com/node/992636/saudi-arabia .
[5] إعلامي كويتي، ورئيس قناة اقرأ الفضائية، ورائد في المجال التربوي الأسري، ويعتبر من المتخصصين في مجال الأسرة والزواج والتربية والشباب.
[6] روضة العقلاء، لابن حبان، ص (72).
[7] أخرجه أحمد (25893)، باذَّة الهيئة: سيئة الهيئة.
[8] مقالة بعنوان: شريكك ليس معالجك النفسي، Your Partner Is Not Your Therapist، موقع verywellmind، verywellmind.com/your-partner-is-not-your-therapist-7098264 .


