دعوة

كيف نتحاور حين نختلف؟

تُصبح حواراتنا فيما نختلف فيه أكثر رقيًا وأعظم فائدة حين نعدّها ساحات دعوية يستصحب فيها العلم والحكمة والرفق، وحين يكون المراد منها أن يُفهِم كلٌّ من المتحاورين صاحبَه ويَفَهم عنه، لا أن يستميت لينتزع منه التسليم والإذعان، وأن نعلم أن التزامنا بأدب الحوار لا يقل أهمية عن تمكُّننا من موضوع الحوار فيه بالحجة والدليل. وإن أكثر ما يجب التأكيد عليه في الحوارات الخلافية: الإنصاف، ومن صوره أن يُقر المُحاور بخطئه وبصحة رأي محاوره حين يتبيَّن له ذلك، وأن يكون حياديًا في التعبير عن الطرف الذي يمتلك الحق، وأن يجيز لمحاوره من نفسه ما يجيزه لنفسه منه.

الحوار نشاط إنساني لا غنى للبشر عنه، يتحاور الناس في موضوعات شتى ولأغراض متعددة، ولعل أكثر الحوارات «سخونة» و«حساسية» هي تلك التي يمتلك فيها المتحاورون وجهات نظر مختلفة أو مواقف متباينة.

في هذه الحوارات «الخلافية» تبرز الكثير من العيوب، كالتعصب للرأي وتسفيه الرأي الآخر، والاستئثار بالحديث ورفع الصوت، ومناهبة الحديث وكثرة المقاطعة وعدم الإصغاء، والحيدة، والتشتت والمراوغة، والحدة والغضب، واستخدام الألفاظ القاسية والجارحة وغير ذلك، فما أحوجنا إلى إصلاح حواراتنا وتنقيتها من هذه العيوب والآفات!

وكثير من المتحاورين يرى عيوب صاحبه، ولا يرى عيوب نفسه، مع أنه قلما تجد عيبًا من عيوب الحوار إلا ويتحمل وزره كلا الطرفين، أحدهما بدأه والآخر لم يستوعبه بالعقل والحكمة، بل تعامل معه بانفعال وتأزُّم، فزاد الطين بِلة! ومن هنا يجب على كل محاور أن يفتش عن عيوبه ويسعى في إصلاحها، سواء كانت فعلاً أو ردة فعل.

ومما لا شك فيه أن للسلوك عدوى كعدوى المرض تسري بين المتحاورين، فرفع الصوت أو المقاطعة -مثلاً- إذا تكررت من أحد المتحاورين لا تلبث أن تصبح صبغة للحوار كله، وفي المقابل فإن من التزم بحسن الاستماع وحسن اختياره لألفاظه سيجد أثر ذلك في محاوره. وبناء على ذلك فإننا حين نعتني بعلاج عيوبنا في الحوار -فعلاً أو ردة فعل- فإن أثر ذلك يتعدانا إلى محاورينا، ومنه إلى ترشيد عملية الحوار برمتها.

إلا أن تتبع هذه العيوب عيبًا عيبًا وتقديم العلاج لها أمر يطول، ولعل استحضار بعض المعاني الكلية عند الحوار يكون وقاية عن الوقوع في الكثير من عيوب الحوار وآفاته.

وأرجو أن يقدم المقال جملة من القواعد والأفكار واللفتات التي تعين على الرقي بحواراتنا في المسائل الخلافية، وتخفف من عيوبها، وترفع من كفاءتها، وتجعلها أكثر ثمرة وفائدة.

ما هدف الحوار؟

سؤال قد يبدو بديهيًّا، ولكنه يستحق التأمل. ما هدف الحوار في المسائل التي نختلف فيها؟ يعبر البعض عن هدف الحوار بأنه «الوصول إلى الحق»، ويعبر عنه آخرون بـ «تقريب وجهات النظر»، وربما عبر عنه بعض الواثقين بآرائهم بأنه «إقناع الآخرين بالحق الذي عندي»، وقد لا يُعبر عن ذلك صراحة لمحاوره، ولكنه يعتقد ذلك بينه وبين نفسه.

ولا مشاحّة أن الحوارات إنما أريدت لأجل هذه الغايات (الإقناع، الوصول إلى الحق، تقريب وجهات النظر)، لكن ما هو «الهدف» المحدد الذي نستطيع أن نقول معه إن الحوار كان ناجحاً وحقق أهدافه، أو كان فاشلاً ومضيعة للوقت؟

لنتأمل في حوارات الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم مما قصه الله علينا في كتابه الحكيم، حوار نوح وقومه، وهود وعاد، وصالح وثمود، وشعيب وأهل مدين، وإبراهيم وعبدة الكواكب والأصنام، وإبراهيم وأبيه، وإبراهيم والنمرود، وموسى وقوم فرعون، موسى وبني إسرائيل، ومؤمن آل فرعون، وغيرها، وغيرها، كم منها انتهى بالإقناع أو الوصول إلى الحق أو تغيير المواقف والقناعات؟ لا يكاد يكون شيء منها كذلك! فهل كانت حواراتهم سدى لا جدوى منها؛ لأنها لم تحدث تغييراً في القناعات؟

الجواب: كلا. لقد حققت هذه الحوارات هدفاً كبيراً ألا وهو «البيان والإفهام»، وهذا الذي يصلح أن يكون -ويجب أن يكون- الهدف المباشر الذي نتوقعه من الحوار ونسعى إلى تحقيقه.

 إنما جعل الحوار للبيان والإفهام، وقد تحدث القناعة وقد لا تحدث

البيان والإفهام يعني أن أُفهم محاوري ما عندي، وأن أفهم ما عنده، فأفهم مراده ويفهم مرادي، وقد يتبع ذلك أن أُفهمه مآخذي على مراده وأفهم مآخذه على مرادي، وهكذا إلى أن تستبين المواقف لكل منا تجاه صاحبه، فإذا تم ذلك فقد انتهت أغراض الحوار!

إن الهدف المباشر الذي يمكن أن نرجوه من الحوار هو «البلاغ المبين»، أما «القبول» والإذعان وتغيير القناعات فهي غايات وراء ذلك، وتحميلُ الحوار هذه الغايات يحمّله أمراً لا يملك أدواته ومفاتحه، وهو حُكمٌ عليه بالفشل.

إن تغيير القناعات تتضافر عليه عدة عوامل أحدها -بل من أهمها- العلم والبيان، لكنه ليس وحده الذي يحدث التغيير، فهناك جملة من العوامل الأخرى والحسابات المعقدة في النفس والبيئة والمحيط المؤثرة في ذلك.

وحين نتجاوز هدف «الإفهام» إلى هدف «الإقناع» تظهر عيوب كثيرة في الحوار.

لماذا نحتدُّ وترتفع أصواتنا في الحوار؟ لماذا نكرر الحديث الذي قلناه عشرات المرات؟ ولماذا نتَّهم الطرف الآخر بالتعصب أو الحيدة والتهرب؟ ولماذا نفحش عليه بالألفاظ؟

لأننا نرى أن الأمر أصبح واضحاً جلياً، ولكن الطرف الآخر لا يريد أن يقتنع!

إننا حين «نصحح» الهدف من الحوار فإننا في الحقيقة نقيه كثيرًا من العيوب، فلا يكون هناك مجال لأن تظهر أصلاً.

إن «الإفهام» يصلح أن يكون هدفاً مشتركاً للطرفين، فرغم خلافهما حول موضوع الحوار إلا أنهما متفقان على إفهام كل لصاحبه، فيتعاونان على هذا الهدف المشترك فيبدو حوارهم راقياً رشيداً، ويخرجان من الحوار وقد أحس كل منهما أن الحوار حقق هدفه.

أما «الإقناع» فهو هدف تنافسي، يجعل كل طرف حريصًا على أن يجر الآخر إلى موقعه، فتصبح ساحة الحوار أشبه بحلبة صراع، فتظهر كثير من العيوب التي أشرنا إليها، ولا يعد الحوار حينها ناجحاً إلا بالضربة القاضية!

ولا ينبغي أن نظن أننا حين نجعل هدف الحوار الإفهام فقط أننا بذلك نقلل من شأنه، فإن الإفهام مطلب كبير، إذ هو المقدمة والشرط للإقناع، وحتى حين لا يحصل الإقناع بعد ذلك فإن الحوار يعين على تحرير نقاط الاختلاف وتقدير حجمها، وربما كان باعثًا على إعذار الآخر أو التخفيف من حدة الإنكار عليه، وذلك حين نعلم لماذا ذهب إلى ما ذهب إليه مما نختلف معه فيه.

الحوار دعوة:

تكييف الحوار وتوصيفه له أثره في سلوك المتحاورين وظلاله على أجواء الحوار. وحين يكون المرء متشبعًا بفكرته يرى أنها الحق والصواب الذي غاب عن مُحاوره، فما أحراه أن ينظر إلى الحوار أنه الوسيلة الدعوية لإيصال الحق إليه.

كم تسمو حواراتنا حين ننظر لها أنها وسيلة دعوية لتبليغ الحق

ماذا نستفيد من توصيف الحوار على أنه ساحة للدعوة، أو وسيلة لإيصال الصواب الذي نعتقده؟ إننا بذلك نستدعي إلى الحوار جميع أدبيات الدعوة التي تعلمناها، فما أرقى الحوار بعد ذلك!

تعلمنا أن الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وأن الدعوة تكون باللين والرفق {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وأن الدعوة تخاطب القلب والوجدان كما تخاطب العقل {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً} [النساء: 63]، وأنك لا تقابل السيئة بالسيئة، بل تقابلها بالحسنة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، وأنك تحتسب وتصبر من أجل دعوتك {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].

إن النظر إلى الحوار أنه ساحة للدعوة كفيلٌ بأن يقيه كثيرًا من عيوبه وآفاته، ويحسّن نتائجه وثمراته.

الأدب قوة للحوار:

إن التزامنا بأدب الحوار مطلب شرعي وخلق إسلامي قبل كل شيء، فقد أُمرنا بالعدل والإنصاف وألا نعتدي بالقول أو الفعل، وأن نقول التي هي أحسن، وألا نرفع الصوت ولا نسخر ولا نهزأ، إلا أنَّ الأدب قوة للمحاور أيضًا، تضاف إلى قوة حجته ومنطقه.

فإن لم يكن الالتزام بأدب الحوار ديانة، فلا أقل من أن يكون سياسة وحنكة لكسب قلوب الناس.

نخطئ حين نظن أن صواب الفكرة التي نحملها وقوة دليلها ووضوح حجتها كاف لأن تجعل الآخرين يرضخون لها وينزلون عندها. إن الالتزام بأدب الحوار، والرقي في أسلوبه يؤثر في الآخرين مثلما تؤثر الحجة وأقوى. أو إن شئت قل: إن التلبس بعيوب الحوار وإساءة الأدب فيه تفسد الحجة والبرهان كما يفسد الخل العسل {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

الإنصاف:

لقد أمرنا الله بالعدل في أكثر من موضع فقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]، {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: 8]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ويمكن إرجاع عدد غير قليل من عيوب حواراتنا إلى مجانبة العدل والإنصاف، لذلك فإن من أكثر ما ينبغي التواصي به في الحوارات الخلافية الإنصاف. ومن صور ذلك:

أ_ أن تكون لدى المحاور الشجاعة والمروءة أن يعترف بخطئه إذا ظهر له، وأن يقر بصواب محاوره، بدون تلكؤ ولا تلعثم، وإن لم يفعل فقد بطر الحق وغمط حق صاحبه، وهذا من الكبر والعياذ بالله (الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ)[1]. وإن مما يحمل الناس على عدم الاعتراف بخطئهم ظنُّهم أنه ينقص قدرَهم عند الناس، وهذا من وساوس الشيطان، بل إن الرجوع إلى الحق يرفع المرء عند الله وفي أعين الناس. أما عند الله، فلأن هذا من التواضع (وما تَواضعَ أحدٌ للَّه إلا رَفَعهُ اللَّهُ)[2]، وأما عند الناس فيقول الشافعي رحمه الله: «ما أَوردتُ الحق والحجة على أحد فقبلها مني، إلا هِبتُه، واعتقدت مودَّته، ولا كابَرني أحد على الحق، ودَفَعَ الحجة الصحيحة، إلا سقط من عيني، ورفضته»[3].

ليس لرقي الحوار بين المختلفين مثل الإنصاف

والاعتراف الصريح بالخطأ شاقٌّ على النفس، ثقيل عليها كالجبال، ويندر من يفعله، لذلك يلجأ الكثيرون -ممن لم يصلوا إلى حد المكابرة المكشوفة عن التسليم للحق- إلى عبارات أخف على النفس من الإقرار الصريح بالخطأ، كأن يقول: «يحتاج إلى تأمل» و«فيه وجاهة» أو «نعود لها لاحقًا»، أو يلجأ إلى الحَيدة وتغيير الموضوع، وربما ادّعى أنه لم يقصد إلا هذا، وأنه فُهم خطأً، كل هذا ليخرُج من ثقل الإقرار الصريح. وإن كان هذا الموقف ليس من كمال الإنصاف، لكن ينبغي للطرف الآخر إن رأى هذا من صاحبه أن يقبل منه، ولا يُصرَّ على أن يأخذ اعترافًا صريحًا منه بالخطأ، فيرهقه من أمره عسرًا، وليستحضر ما ذكرناه في مطلع المقال أن المقصود من الحوار الإفهام لا الإذعان.

ب_ من حق كل إنسان أن يتمسك بما يرى أنَّه الحق، وأن ينافح عنه، وأن يعتقد أنه الصواب وأن غيره خطأ [4]، إلا أن الإنصاف ألا يعبر الإنسان عن ذلك في كلامه، بل يكون حياديًا في تعبيره عن الطرف الذي يملك الحق، ولو كان اعتقاده غير ذلك.

تأمَّل في قول بعض الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24]، وغني عن القول أنَّ الأنبياء ليس عندهم أدنى شك أنهم على الحق المبين، وأنَّ قومهم في ضلال مبين. جاء في الكشاف: «وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك،… ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب» [5].

من الإنصاف في الحوار اختيار الألفاظ الحيادية في التعبير عن الطرف الذي يملك الحق

ومن ذلك أيضًا قول مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السلام: {وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28]، وهو يعتقد جازماً أن موسى نبي الله وأن كلامه صدق. قال الزمخشري: «‎ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيًا، فضلاً عن أن يتعصب له… وتقديم الكاذب على الصادق أيضًا من هذا القبيل»[6].

ومما يستشهد به في هذا السياق ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية لفظة: (هذا ما قاضَى عليه رسول الله) ونزل عند طلب خصمه: (هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) [7]، فلم يُلزمه بما يعتقده في كتابة وثيقة الصلح، بل كتب ما يتفق عليه الطرفان.

ج_ ومن الإنصاف في مجلس الحوار أن تجيز لمحاورك منك ما تجيزه لنفسك منه، وإن كنت تظن نفسك على الحق وخصمك على الباطل فهو يظن ذلك أيضًا، وليس أحدكما بأحق بهذا الظن من صاحبه!

نقل الذهبي في ترجمته لابن قدامة رحمهما الله جميعًا: «وقال أبو شامة: كان (أي ابن قدامة) إمامًا علمًا في العلم والعمل، صنف كتبًا كثيرة، لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم، ومعرفته بمعاني الأخبار».

قلتُ (والكلام للذَّهبي): «وهو (ابن قدامة) وأمثاله متعجب منكم مع علمكم وذكائكم، كيف قلتم! وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى، ولا عجب في ذلك، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة» [8].

فمن عاملك بمثل ما تعامله به فما ظلمك. فإن أجزت وصفه بوصف لا يحبه، فلتقبل ذلك منه، وإن تعجبت من فعله على وجه الإنكار فاقبل أن يتعجب من فعلك على هذا الوجه، وإن قاطعته فقاطعك، أو رفعت صوتك فرفع صوته، فقد عاملك بالمثل. فإن طالبته ألا ترى منه إلا حسنًا فليكن هذا شأنك معه قبل ذلك، وإلا كان طلبك ظلماً وتطفيفًا وكنت من {ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ٢ وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ٣} [المطففين: 2-3].

 لا تكن في الحوار من المطففين، يستوفون حقهم ويُخسِرون حق محاوريهم

ونختم المقال بهذا النص النفيس للإمام أبي الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي في كتابه «الجدل في الأصول»:

وللجدل شروط وآداب، إن استعملها الخصم وصل إلى بغيته، وإن لم يستعملها كثر غلطه واضطرب أمره.

فمن شروطه: أن لا يتجادل إلا النظيران، ومن لا يكون نظيراً، فإنما هو مسترشد وسائل. ومن ذلك: استواؤهما في الأمن والصحة والسلامة، وأن لا يكون أحدهما محصوراً بخوف أو حشمة أو هيبة، والآخر مبسوطا بأنس واسترسال، وذلك من وجوه:

 أحدها: أن يكون بعضهم ذا عصبية من سلطان أو غيره، أو يكون كثير الشغب ظاهر السّفاه والغضب، محتد الطبع، فينحصر خصمه عن الاستيفاء عليه، واستخراج الأدلة، وبيان موضع الشبهة، وإلحاق الشيء بنظيره.

والمناظرة حيث وضعت فإنها وضعت لاستخراج حكم الله في الحادثة، فاعتبر لها اعتدال الطبع كالقضاء.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَقضي القاضي بين اثنَين وهو غضبانُ)[9]. فإذا كان أحدهما يتقاصر عن البحث ومجتمع عن انفتاح اللسان والقلب، زال شرط نظره وخرج إلى حيز المغالبة والمواثبة.

فأما آدابه التي إذا استعملها الخصم وصل بُغيته، وإن لم يستعملها كثر غلطه واضطرب عليه أمره: تحديد السؤال والجواب، وترك المداخلة، والإمهال إلى أن يأتي الخصم على آخر كلامه، وينتظم آخر معانيه، والإقبال على خصمه والإصغاء إليه دون غيره، وأن لا يخرج من مسألة إلى أخرى حتى يستوفي الكلام في الأولى، واستعمال الحسن الجميل دون التشنيع والتقبيح، وحفظ المقول، لئلا تجري مناكرة لما قيل، أو دعوى ما لم يقل، ولا يغير كلامه بما يحيل المعنى، ولا يلغو في نوبته؛ لأن ذلك يعمي عين البصيرة ويكسر حدة الخاطر»[10].


[1] أخرجه مسلم (91).

[2] أخرجه مسلم (2588).

[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصفهاني (9/117).

[4] وما يروى عن الإمام الشافعي رحمه الله: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، هو في الأمور الاجتهادية التي لا يجزم بصحة رأيه فيها، وليس على إطلاقه.

[5] تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري، عند تفسير الآية 24 من سورة سبأ، (3/581).

[6] المصدر السابق، تفسير الآية 28 من سورة غافر، (4/163).

[7] أخرجه البخاري (2731).

[8] سير أعلام النبلاء للذهبي، ترجمة ابن قدامة رحمه الله، (13/240).

[9] أخرجه ابن ماجه (2316)، وأحمد (20389).

[10] الجدل في الأصول، لأبي الوفا ابن عقيل، ص (15).

X