الحرب الثقافية التي تواجهها أمتنا اليوم متعددة الأدوات والأسلحة، ومن أبرز أدواتها التسميات والمصطلحات التي أصبحت جزءًا من واقعنا الفكري والثقافي، وبالرغم من وجود بون في مضامين هذه المصطلحات بين ثقافتنا وثقافتهم، إلا أن المضامين الغربية سادت في فضاءاتنا الفكرية والإعلامية، وكان لها أثر في التكوين الفكري لشباب الأمة ومثقفيها، وهذا الكتاب يعالج هذه القضية.
التعريف بالكتاب:
يقع الكتاب في مقدّمة وفصل واحد يحرّر مضامين المصطلحات بين الغرب والإسلام، استغرق (٢٢٢) صفحة من القطع المتوسط.
التعريف بالمؤلّف:
الدكتور محمد عمارة، مفكر إسلامي مصري، ومؤلف ومحقّق وعضو مجمّع البحوث الإسلامية بالأزهر، وهيئة كبار علماء الأزهر، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر.
ولد في رجب عام ١٣٥٠ه / ١٩٣١م، مرّ خلال حياته بتحوّلات فكرية نقلته من الاتجاه الماركسي إلى المعسكر الإسلامي، اشتهر بكونه من «الإسلاميين المستقلّين» الذين دافعوا عن رسالة الإسلام وأمّته وقضاياها المعاصرة، وزادت مؤلفاته وأبحاثه على المئتين.
توفي رحمه الله في رجب عام ١٤٤١ه / ٢٠٢٠م.
تمهيد:
ذكر المؤلّف أنّ من العبارات الشائعة على ألسنة المثقفين والعلماء عبارة: (لا مشاحّة في الألفاظ والمصطلحات).
وقال: إنّ هذه العبارة صحيحة، إلا أنّها تحتاج إلى ضبط مفهومها؛ حتى لا يشيع منها الخلط بل والخداع كما هو حادث الآن لدى عديد من دوائر الفكر التي تردّدها دون ضبط وتحديد لما يوحي به ظاهرها من مضمون.
فنحن إذا نظرنا إلى أي مصطلح باعتباره «وعاءً» يوضع فيه «مضمون» من المضامين، وبحسبانه «أداة» تحمل «رسالة أو معنى»؛ فسنجد صلاحية الكثير من المصطلحات لأداء دور «الأوعية» و«الأدوات» على امتداد الحضارات المختلفة، والأنساق الفكرية المتعدّدة، والعقائد والمذهبيات المتميّزة … أمّا إذا نظرنا إلى هذه الألفاظ والمصطلحات من زاوية «المضامين» التي توضع في أوعيتها، ومن حيث الرسائل التي حملتها «الأدوات: المصطلحات» فسنكون بحاجة إلى ضبط معنى هذه العبارة، وتقييد إطلاقها وتحديد نطاق الصلاح والصلاحية التي يشيع عمومها من عموم ما تحمل من ألفاظ.
عند الفحص والتدقيق في المصطلحات نجد أنفسنا أمام «أوعية» عامّة و«أدوات» مشتركة بين الحضارات، وفي ذات الوقت أمام «مضامين» خاصّة و«رسائل» متميّزة، تختلف فيها هذه «الأوعية» و«الأدوات» لدى كلّ حضارة من الحضارات
هنا سنجد أنفسنا -عند الفحص والتدقيق، وفي كثير جدًا من الحالات، وبإزاء العديد من المصطلحات- أمام «أوعية» عامّة و«أدوات» مشتركة بين الحضارات والأنساق الفكرية والعقدية والمذهبية، وفي ذات الوقت أمام «مضامين» خاصّة، و«رسائل» متميّزة، تختلف فيها وتتميّز بها هذه «الأوعية» العامّة و«الأدوات» المشتركة لدى أهل كلّ حضارة من الحضارات المتميّزة، وعند كلّ نسق أو مذهب أو عقيدة من الأنساق الفكرية والمذاهب الاجتماعية والعقائد الدينية، وخاصّة منها تلك التي امتلكت وتمتلك من السمات الخاصّة والقَسَمات المميّزة ما جعلها ويجعلها ذات مذهبية خاصة وطابع خاص.
وليس كضرب الأمثال سبيلٌ لجلاء هذا المعنى، وتأكيد صدق هذا المفهوم.
فمن المصطلحات الشائعة في ميدان «التشريع» القانوني -مثلاً- مصطلح: «الشارع»، يُوصف به من «يشرّع» القانون، فردًا كان أو جماعة؛ فواضع القانون «شارع» .. والمجالس النيابية التي تمثّل سلطان الأمّة في «تشريع» القوانين هي «هيئات تشريعية» «تشرّع» القوانين. «فالشارع» هنا و«مصدر التشريع» و«واضع الشريعة»: هو إنسانٌ، فردًا كان أو هيئةً تشريعيةً. هذا هو حال مصطلح «الشارع» و«التشريع» و«الشريعة» في ميدان «القانون»، فهل حقًّا «لا مشاحة» في هذا المصطلح الشائع، وفيما يحمل «وعاؤه» من «مضمون»؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال لن تكون واحدةً لدى أبناء كلّ الحضارات الإنسانية وفي إطار كلّ الأنساق الفكرية، بل ستكون هناك مشاحّة أكيدة وتامّة في هذا المصطلح ومضمونه، ففي حين لا تؤمن الحضارة الغربية بوجود «شارع» سوى الإنسان؛ انطلاقًا من النظرة المادية التي تنكر وجود الإله، أو التوجّه العلماني الذي يرفض التحكيم الإلهي في شؤون الدولة والاجتماع والعمران؛ فإنّ المسلم الذي يستمدّ عقيدته وأفكاره من الإسلام لا يفهم من مصطلح «شارع» سوى واضع الشريعة، وهو الله سبحانه وتعالى، وأنّ الشرع ليس إبداعًا إنسانيًا كالقانون، وإنّما هو من وضعٍ إلهي نزل به الوحي؛ ومن ثمَّ فإنّ المسلم لا يعطي السلطةَ التشريعية ووصفَ «الشارع» لغير الله سبحانه وتعالى، بخلاف سنّ القوانين التي تُفرّع عن أصول الشريعة؛ فهو من الفقه. فالله هو الشارع، والفقيه هو الإنسان.
ومن الأمثلة الأخرى التي ذكرها المؤلّف: مصطلح «اليسار» ويُقصد به التيار الاجتماعي الدالّ على استخدام الصراع الطبقي أداةً لتسويد طبقة الأُجراء على طبقة المُلّاك؛ تمهيدًا لإلغاء التمايز الطبقي، وإلغاء سائر ألوان الملكية الخاصّة، ثم يأتي مَن يدعو إلى استخدام هذا المصطلح بدعوى أنّه «لا مشاحّة في الاصطلاح»، بل ويدعو إلى أسلمته وأسلمة مضمونه عندما يدعو إلى «اليسار الإسلامي»!
في حين أنّ اليسار في اللغة يعني: اليُسر والغنى، وأنّ للشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي قَسَمات مميزة، لا تنكر التمايز الاجتماعي في الأمّة إلى طبقات متميّزة؛ لكنّها تشترط تأسيس هذا التمايز على الأسباب والعوامل المشروعة، وتدعو إلى إبقاء العلاقات بين الطبقات محكومةً بإطار العدل، وفي حال اختلّ التوازن الاجتماعي فالحلّ ليس في الصراع الطبقي بل «بالدفع الاجتماعي» الذي يُعيد تحريك المواقع الطبقية من درجة الظلم إلى درجة العدل ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٢٥٢] .. فالمشاحّة في هذا المصطلح واقعة في المعنى اللغوي وفي المضمون الاجتماعي أيضًا.
إذا كانت المصطلحات الغربية قد أصبحت جزءًا من واقعنا الفكري والثقافي الداخلي؛ فإنّ تحرير مضامين المصطلحات، واكتشاف مناطق الاتفاق ومناطق التمايز في معاني هذه المصطلحات مهمّة أساسية وأولية بالنسبة لأي حوار فكري حقيقي وجادّ
وإذا كانت المصطلحات الغربية قد أصبحت جزءًا من واقعنا الفكري والثقافي الداخلي؛ نظرًا لنجاحات التغريب في حياتنا الفكرية والثقافية والإعلامية؛ فإنّ تحرير مضامين المصطلحات، واكتشاف مناطق الاتفاق ومناطق التمايز في معاني ومفاهيم هذه المصطلحات -وخصوصًا تلك المصطلحات الأكثر شيوعًا، والأكثر إثارة للجدل بين تيارات الفكر في عصرنا وفي واقعنا- هو مهمّة أساسية وأولية بالنسبة لأي حوار فكري حقيقي وجادّ؛ ينقذ حياتنا الفكرية من خطر الاستقطاب الحادّ، ويُوجد «لغة فكرية واحدة» بين الفرقاء المتحاورين.
تحرير مضامين المصطلحات: شرط الفهم المشترك والحوار:
إنّ أغلب حواراتنا هي «ضحايا» بائسة للفوضى الشائعة في مضامين «المصطلحات»، ولكي يفهمَ كلٌّ منّا الآخر، ولتحديدِ مناطق الاتفاق ومناطق الاختلاف، ولتنظيمِ حوار موضوعي وجاد وبنّاء: علينا أن نبدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات.
وقد حرّر المؤلف في كتابه خمسةً وثلاثين مصطلحًا، هي:
1.العلمانية. 2. الأصولية. 3. المادّية. 4.التنوير. 5.التنصير. 6.الاستخلاف. 7.الشريعة. 8.الحاكميّة. 9.حقوق الإنسان. 10.الحرّية. 11.العدل. 12. التكافل. 13.المساواة. 14.الذمّة. 15.الشورى. 16.الديمقراطيّة. 17.الحزب. 18.الإصلاح. 19.الثورة. 20.الجهاد. 21.العقلانية. 22.الاجتهاد. 23.التجديد. 24.التأويل. 25.الإبداع. 26.الهويّة. 27.الوسطية. 28.الوطنية. 29.الأشعرية. 30.السلفية. 31.أهل الحديث. 32.الشعبية. 33.الغنوصية. 34.الباطنية. 35.ولاية الفقيه.
إنّ أغلب حواراتنا هي «ضحايا» بائسة للفوضى الشائعة في مضامين «المصطلحات»، ولكي يفهمَ كلٌّ منّا الآخر، ولتنظيمِ حوار موضوعي وجاد وبنّاء: علينا أن نبدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات
وسوف نوجز في هذه القراءة الحديثَ عن بعضها.
١- الأصولية:
مصطلح غربي النشأة ويعني تفسير الإنجيل والنصوص الدينية تفسيرًا حرفيًّا لا يدخل فيه التأويل، أمّا في المفهوم العربي والإسلامي فإنّنا لا نجد ذكرًا لهذه النسبة، وإنّما تبلورت في الحضارة الإسلامية علومٌ كأصول الدين وأصول الفقه، وهكذا خلا تراث الإسلام والعربية من مصطلح الأصولية.
ولكن هل وُجد في تيارات الفكر الإسلامي تيارٌ وقف من النصوص موقف الأصوليين الغربيين فقال بالتفسير الحرفي للقرآن والسنة، ورفض كل ألوان المجاز والتأويل لأيّ نصٍّ مهما بدا من تعارضِ ظاهرِه مع براهين العقل؟
إنّ حقيقةَ الجواب على هذا السؤال هي النفي القاطع، فكلّ تيارات الفكر الإسلامي قبلوا بالمجاز والتأويل لطائفة كبيرة من النصوص، ولكن اختلفوا في الاقتصاد أو التوغّل فيه.
فالأصولية في الغرب تعني: «أهل الجمود»، بينما هو في التراث الإسلامي عنوان على: «أهل التجديد والاستدلال والاستنباط».
٢- التنوير:
هو مصطلح أوربي النشأة والمضمون والإيحاءات، ساد في مرحلة تاريخية من مراحل الفكر الأوربي الحديث. وهو يشير إلى: «حركة فلسفية تعتدّ بالعقل والاستقلال بالرأي، وتؤمن بأثر الأخلاق، وتقوم على فكرة التقدّم والتحرّر من السلطة والتقاليد»، كما جاء في تعريف مجمع اللغة العربية. والمقصود بالسلطة والتقاليد: السلطة الدينية الكنسية وتقاليدها التي جمّدت واقع الحياة ونظريات العلوم.
وقد قاد هذا التحرّر غالبَ المفكّرين التنويريين إلى القطيعة مع الموروث الديني ورفض استلهامه أو التزامه أو الانطلاق منه، وبالتالي: رفض فكرة الإله، والنزوع إلى الكفر والإلحاد، وتمجيد العقل وعبادته.
أمّا في المصطلح العربي: فإنّ التنوير هو وقت بزوغ أشعة نور الوحي، فالقرآن والإسلام والرسول ﷺ والحكمة والصلاة نور، والمؤمن مستنير بذلك كله، وله تنويره الإسلامي الخاص.
٣- الاستخلاف:
مصدرٌ معناه اتخاذ الخليفة؛ فالذي يستخلف إنسانًا في أمر ما لا بدّ وأن يحدّد له نطاق استخلافه والمعالم الأساسية التي يوصيه بالتزامها؛ كي تكون إطارًا لحرّيته وهو ينهض بمهام هذا الاستخلاف، فتكون مكانة الخليفة عندئذ وسطًا لا تبلغ مكانة مَن استخلفه علوًّا، ولا تهبط إلى درجة الذي لم يحظَ بالتوكيل والاستخلاف في الانخفاض.
وبمعنى الاستخلاف هذا تتحدد مكانة الإنسان في هذا الوجود، المفوض بعمارة الأرض، الحرّ المختار المكلّف المسؤول؛ فهذه شروطٌ تمكّنه من النهوض بمهامّه، وأيضًا المحكومة حرّيته بضوابط الشريعة الإلهية التي تمثّل معالم وضوابط هذا الاستخلاف.
وعن هذا المعنى للاستخلاف: انحرفت الفلسفات والحضارات المادّية، عندما ألّهت الإنسان كما فعل الرومان بعيسى عليه السلام، أو أنسنت الإله؛ فزعمت حلوله وتجسّده في الإنسان. وهذا الانحراف جعل الإنسان في الحضارة المادّية دونما قيود أو حدود من شريعة السماء.
وعلى النقيض من ذلك: جاءت بعض فلسفات الديانات الوضعية لتنفي عن الإنسان أيّة حرّية أو قدرة أو استطاعة؛ فرأته حقيرًا فانيًا؛ فكان هذا الغلو في تكبيل الإنسان وتهميشه.
وبين هاتين الرؤيتين «المادية والباطنية» تقف فلسفة الاستخلاف الإسلامية؛ فتجعل الإنسانَ في هذا الكون أفضلَ خلق الله، وعبدًا له، وخليفةً لعمران الأرض، محكومةً حرّياته وقدراته ببنود عقد وعهد الاستخلاف «شريعة الله سبحانه».
وآثار هذه الاختلافات جليّة في جميع نواحي الاستخلاف، كسُبل المعرفة الإنسانية، والعلاقة بين الدين والدولة، والثروات والأموال.
٤- الحاكمية:
للأمة الإسلامية شريعة إلهية واحدة، واجبة التحكيم؛ لأنّها حكم الله وحاكميته في هذه الأمة الخاتمة.
لكن هل يعني حكم الله بحاكمية الشريعة الإسلامية الواحدة، انتفاء الحاكمية البشرية في فقه الأحكام والفتاوى؟ أم أنّ وحدة الشريعة قد مثلت الجامع الإلهي في الشريعة الذي يتّسع لحاكميات بشرية استخلفها الله سبحانه لتتعدد أحكامها وفتاواها بتعدد وتنوع المصالح والوقائع والعادات والأعراف، وما يقتضيه هذا التعدد والتنوّع من تعددية في اجتهادات الحكّام (القضاة) والمفتين؟
إن تعدد الحاكميات البشرية في الأحكام واختلاف الاجتهادات الإنسانية في الفتاوى، وذلك في إطار كلّيات وحدود ومبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية الواحدة حقيقة من حقائق الشرع الإسلامي التي لم يختلف عليها أحد من أهل العلم بالإسلام.
ولكن عوامّ المقلدين ينكرون وجود حاكمية بشرية في إطار حاكمية الشريعة الإلهية، وينكرون تعدّدية الحاكميات الإسلامية في إطار الشريعة الواحدة. وقد بدأت شبهات هذا الفريق في الثقافة الإسلامية بصيحة الخوارج في معسكر علي رضي الله عنه إبّان الفتنة: «لا حكم إلّا لله».
إنّ حكم الشريعة -حتى عندما يرد في نصّ قطعي الدلالة والثبوت- فإنّه لا يمنع التعدّدية في فقه النصّ وفهمه، ومن ثَمّ التعدّدية في استنباط الحكم من هذا النص، والتعدّدية في نظام الصياغة لهذا الحكم صياغة قانونية … وذلك فضلاً عن التعدّدية في كيفية تنزيل هذا الحكم -بعد فهمه واستنباطه وصياغته- على الوقائع والحالات، خصوصًا عندما تكون هذه الوقائع مختلفة باختلاف المصالح والعادات والأعراف ومتغيّرات الزمان والمكان. أمّا إذا كان النصّ الشرعي ظنّي الثبوت، أو ظنّي الدلالة، أو ظنّيًا في الثبوت والدلالة معًا، فإنّ اختلاف الأفهام وتعدّد الاجتهادات، وتنوّع الأحكام المستنبطة منه تتسع فيها وأمامها الميادين والآفاق.
وهذه التعدّديّة في الحاكميات البشرية في إطار وحدة الشريعة تتبدّى أكثر ما تتبدّى في السياسة الشرعية التي هي تدابير إسلامية وفقه إسلامي، تحكمها قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد والتي لم ترد فيها حدود ثوابت؛ لخروجها من دائرة الثوابت إلى دائرة المتغيرات، ولخروجها -من باب أولى- عن دائرة أصول الاعتقاد.
تجاوزت الحرية في النظرة الإسلامية نطاق الفرد، إلى النطاق الاجتماعي للأمم والجماعات، ففي التكاليف الإسلامية فروض عينية على الفرد تستلزم حرية هذا الفرد المكلّف، وفروض كفائية تجب على الأمّة والجماعة، وتستلزم حرية اجتماعية للأمّة والجماعة
٥- الحرية:
وهي ضد العبودية، وتعني الإباحة التي تمكّن الإنسان من الفعل المعبر عن إرادته في أي ميدان من ميادين الفعل وبأي لون من ألوان التعبير.
وإفراد الله بالألوهية هي جوهر تحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وهي السبيل إلى تحريره من كلّ أنواع الطواغيت المادية التي تستلب منه الإرادة والحرّية والاختيار.
وقد ارتبطت الحرية -في النظرة الإسلامية- بالمسؤولية. وإذا كان «التكليف» -وهو عنوان المسؤولية في الفقه الإسلامي- فرعًا عن «الحرّية» .. فلقد تجاوزت الحرية في النظرة الإسلامية نطاق الفرد، إلى النطاق الاجتماعي للأمم والجماعات، ففي التكاليف الإسلامية فروض عينية على الفرد تستلزم حرية هذا الفرد المكلّف، وفروض كفائية تجب على الأمّة والجماعة، وتستلزم حرية اجتماعية للأمّة والجماعة.
وقد ظهر الإسلام ونظام الرقّ يمثّل ركيزة من ركائز النظامين الاجتماعي والاقتصادي لعالم ذلك التاريخ، مع كثرة منابعه من حروب عدوانية وقطع طريق وغيرها، فلما قامت دولة الإسلام قطع هذه المنابع التي تمدّ نهر الرقيق بالجديد، ووسع مصباته عندما حث على عتق الأرقاء، وجَعَل العديد من الكفّارات هي تحرير الرقبة.
فالحرية في الإسلام هي حرّية الخليفة الذي وُجِد لعبادة الله وعمارة الأرض، وليست حرّية سيد الكون الذي يتصرّف وفق أهوائه ورغباته، بل هي محكومة بإطار ونطاق وثوابت ومقاصد الشريعة التي هي عقد وعهد الاستخلاف.
٦- المساواة:
ويقصد بها: تشابه المكانة الاجتماعية والحقوقية والمسؤوليات والفرص للناس في المجتمع على النحو الذي تقوم فيه الحالة المتماثلة فيما بينهم.
ولقد شاع الحديث عن المساواة في فكر الحضارة الغربية منذ أن أُعلنت مبادئ حقوق الإنسان، ودخلت المساواة في الكثير من الدساتير والمواثيق الدولية، وفي ميادين متعدّة كالسياسية والاقتصادية والمدنية والاجتماعية، ويجري الحديث عنها في علاقات المواطنين الداخلية، وبين الأمم والدول، وبين الأجناس والشعوب.
وبعض المذاهب والفلسفات تصوّرت إمكانية تحقيق التماثل الكامل والتسوية الحقيقية بين الناس في كلّ الميادين، وبالتحديد في الميادين الاقتصادية والاجتماعية، لكن هذه التصوّرات قد استعصت على الممارسة الواقعية.
ولعلّ أقرب التصوّرات إلى الدقّة والواقعية:
المساواة بين الناس أمام القانون؛ فهي ضرورية وواجبة التطبيق.
والمساواة في تكافؤ الفرص أمام سائر المواطنين وسائر الأمم والقوميات، وسائر الدول، وهي ممكنة وهدف يستحق الجهاد لتحقيقه في الإطار الاجتماعي الدولي على السواء.
أما المساواة فيما بعد الفرص المتكافئة فإنّها التي تعدّ خيالاً وحلمًا يستعصي على التحقيق، ويناقض السنن والقوانين الحاكمة لسير الاجتماع والعمران؛ وذلك لتفاوت القدرات بين الناس، وعند تحقيق المساوة في تكافؤ الفرص؛ فإنّ ذلك لا يثمر بالضرورة المساواة في أنصبة الناس وحظوظهم من هذه الفرص.
إن إسهام كل عضو من الأعضاء في حياة الجسد ليس متماثلاً ولا متساويًا، وحظّ كلّ عضو من رصيد حياة الجسد وحيويته ليس متماثلاً ولا متساويًا؛ لأنّ علاقة كلّ الأعضاء بكلّ الجسد هي علاقة توازن وليست علاقة مساواة، فبالتوازن يصبح كلّ عضو فاعلاً ومنفعلاً ومتفاعلاً مع الآخرين، ولعلّ المساواة المطلقة هي التي قادت المجتمعات التي طمعت في تحقيقها إلى الإخفاق.
٧- الحزب:
وهو كل طائفة جمعهم الاتجاه إلى غرض واحد، سياسيًا كان أو غير سياسي.
وفي الواقع المعاصر: هو التنظيم الذي يجمع جماعة من الأفراد تشترك في تصوّر واحد لبعض المسائل السياسية، وتكوّن رأيًا انتخابيًا واحدًا.
ومصطلح «الحزب» في النظرة الإسلامية ليس مرفوضًا لذاته وبإطلاق، وليس مقبولاً لذاته وبإطلاق؛ لأنّ معيار القبول أو الرفض متعلّق بمضمون المبادئ والأهداف والمقاصد التي قام عليها الحزب.
أما المشروعية الإسلامية للتنظيم والتحزب فهي مرتكزة على الإيمان بمشروعية التعدّد في الآراء والتوجّهات. والتجربة السياسية لدولة الإسلام الأولى قد شهدت من المؤسسات ما يشبه التمايز التنظيمي –ولا نقول الحزبي- على نحو من الأنحاء، كهيئة المهاجرين الأولين التي كانت تنظيمًا له اختصاصات دستورية في الخلافة والدولة وشؤون المجتمع الإسلامي بوصفها هيئة الأمراء. وهيئة النقباء الاثني عشر الذين عقدوا مع رسول الله ﷺ عقد تأسيس الدولة الإسلامية في بيعة العقبة بوصفهم الوزراء.
وفي عصرنا الحديث: وبعد طيّ صفحة الخلافة العثمانية، واكتمال الاحتواء الغربي للعالم الإسلامي، وانتشار التنظيم الحزبي كنمط شائع في حياة العرب المسلمين؛ أصبح من متطلّبات اليقظة الإسلامية للدفاع عن الهوية الإسلامية: اتخاذُ التنظيم والانتظام في الجماعات والأحزاب والجمعيات سبيلاً وأداةً مهمّةً لتحقيق مقاصد البعث الحضاري؛ استئنافًا للنهوض ومواجهة للتحدّيات.
ميادين الثورة كثيرة، فإذا بحثنا عن التغيير الشامل والجذري الذي ينتقل بالإنسان إلى طور جديد أكثر تقدّمًا؛ فسنجد في الاجتهاد ثورة على التقليد، وفي الجهاد ثورة على الاستسلام، وفي التجديد ثورة على الجمود، وفي الإبداع ثورة على المحاكاة
٨- الثورة:
هي التغيير الجذري المفاجئ في الأوضاع السياسية والاجتماعية بوسائل تخرج عن النظام المألوف، ولا تخلو عادة من عُنف. والتعريف الذي اختاره المؤلّف: العلم الذي يوضع في الممارسة والتطبيق، من أجل تغيير نظم ومجتمعات الجَور والضعف والفساد تغييرًا جذريًا شاملاً، والانتقال بها من مرحلة تطويرية معيّنة إلى أخرى أقلّ قيودًا وأكثر حريّة وأبعد في التقدّم.
والثورة في علوم الاجتماع الغربية هي غير «الإصلاح»؛ لأنّ الإصلاح في العلوم الغربية يعني الترقيع والتغيير الجزئي والسطحي، أما في الاصطلاح الإسلامي فإنّ المغايرة بين الثورة والإصلاح غير قائمة، فإنّ الإصلاح هو الآخَر تغيير شامل وجذري وعميق كالثورة تمامًا، والتمايز بينهما في الأدوات التي يتم بها التغيير.
أمّا مشروعية الثورة كسبيل لتغيير نظم الجَور والضعف والفساد: فإنّها قضية اختلف فيها علماء الإسلام، فهم لم يختلفوا في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنْ قام الخلاف بينهم حول استخدام العنف (السيف) في التغير، لا كراهةً للتغير، وإنّما لاختلافهم في الموازنة بين ايجابيات وسلبيات استخدام العنف في التغير.
وميادين الثورة كثيرة، فنحن إذا بحثنا عن التغيير الشامل والجذري الذي ينتقل بالإنسان إلى طور جديد أكثر تقدّمًا؛ فسنجد في الاجتهاد ثورة على التقليد، وفي الجهاد ثورة على الاستسلام، وفي التجديد ثورة على الجمود، وفي الإبداع ثورة على المحاكاة، وفي التقدّم ثورة على الرجعية والاستبداد، وفي العقلانية ثورة على ظاهرية وحرفية النصوصيين.
٩- الإبداع:
إنّ بعض الناس -أحسنوا الظنّ بالإسلام أو أساؤوا- قد انطلقوا إلى الاتفاق على موقف خاطئ من رأي الإسلام في الإبداع؛ استنادًا إلى فهمهم لحديث الرسول ﷺ الذي يقول: (إنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ ﷺ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ محدثةٍ بِدعةٌ، وكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النَّارِ)[1]؛ فظنّوا أنّ الإسلام يحرّم كلّ إبداع، دونما تمييز بين إبداع يخالف الكتاب والسنّة، وبين الإبداع المحمود في الفكر الإنساني والصناعات العمرانية! بل ودون وعي بأنّ اشتمال الكتاب والسنّة على أفضل الحديث والهدي لا يعني نفي الفضل عن جميع ما لم يَرِد فيهما.
إنّ الإبداع -كما يُعرّفه علماء مصطلحات القرآن- هو: إنشاء صنعة جديدة بلا احتذاء واقتداء. وعلماء الاصطلاحات في حضارتنا يميّزون بين البدعة في الدين التي هي ضلالة؛ لكونها مخالفة لما جاء في الكتاب والسنّة، وبين الإبداع والاختراع في الفكر الإنساني والأمور المحمودة، ولم يقل أحد من العلماء بإغلاق أبواب الإبداع فيه؛ فأبواب الإبداع والابتداع كانت وستظل مفتوحة أبدًا.
وإذا كانت عمارة الأرض هي المقاصد العظمى من وراء استخلاف الله للإنسان، فإنّ الإبداع الإنساني في سائر ميادين العمران البشري داخل في السبل والآليات التي لا بدّ منها لتحقيق مقاصد هذا الاستخلاف، شريطة ألّا يخالف هذا الإبداع دينًا ثابتًا في القرآن أو السنّة.
١٠- الوطنية:
هي المشاعر والروابط الفطرية التي تنمو بالاكتساب لتشدّ الإنسان إلى الوطن الذي استوطنه.
والانتماء الأوّل والأكبر والأساس بالنسبة للمسلم هو إلى الإسلام وأمّته وإلى دار الإسلام وحضارته، ولا يكون تخيير المسلم بين الانتماء للإسلام والانتماء لغيره من وطن أو عشيرة وغيرهما إلّا في حالات قيام التعارض أو التناقض أو التضادّ بين الإسلام والانتماءات الأخرى. أمّا إذا اتّسقت دوائر الانتماء في فكرية الإنسان وتكاملت في ممارساته الحياتية؛ فلن يكون هناك تناقض في الفكر والعمل الإسلاميين بين كلّ دوائر الانتماء الفكري للإنسان.
ولأنّ الإسلام منهاج شامل؛ فإنّ إقامته دينًا لا تتأتى إلا في واقعٍ ووطن، وهذا الواقع والوطن لن يكون إسلاميًا إلا إذا أصبح الانتماء الوطني فيه بُعدًا من أبعاد الانتماء الإسلامي العام، ومن هنا تأتي ضرورة الوطن لإقامة «دنيا الإسلام» وعمرانه، وضرورة الدين؛ ليكون الوطن إسلاميًا وتتحقّق إسلامية عمرانه.
إذا كانت عمارة الأرض أهم المقاصد العظمى من وراء استخلاف الله للإنسان، فإنّ الإبداع الإنساني في سائر ميادين العمران البشري داخل في السبل والآليات التي لا بدّ منها لتحقيق مقاصد هذا الاستخلاف، شريطة ألّا يخالف هذا الإبداع دينًا ثابتًا في القرآن أو السنةّ
وفي حين وقفت مذاهب وفلسفات في حدود الوطن عند «حدود العِرق» أو «اللغة» أو «جغرافيا الإقليم» فإنّ الإسلام قد رفض هذه المعايير؛ فالوطن والوطنية -في ظلّ الانتماء الإسلامي- لا يقف عند حدود وطن بعينه ولا يتقيّد بوطنية من الوطنيات دون سواها.
وقد جعل الإسلام الوطنية -التي تحفظ استقلال الوطن- قرين الحياة ومعادلها، كما جعل هذه الوطنية قرين حرّية الدعوة إلى الدين، وجعل الدفاع عن الوطن فريضة جهادية.
والحقّ أنّ كلّ حركات التحرير الوطني الحديثة في عالم الإسلام قد نشأت إسلامية، أو وثيقة الصلة بالإسلام وعقيدة الجهاد فيه؛ فالوطنية في وجدان المسلمين «لم تخرج عن كونها جزءًا من تعاليم الإسلام».
أخيرًا ..
لم تأت هذه القراءة على جميع الكتاب، واكتفت بباقةٍ منتقاةٍ من المصطلحات، يُظنُّ أنها أكثر تداولاً وتأثيرًا من غيرها، إلى جانب القواعدِ والأُسُس التي وضعها المؤلِّف للتعامل مع المصطلحات الغربية التي غزتنا في ثقافتنا وإعلامنا ومناهجنا اليوم، وكيفية التمييز في المضامين التي تحملها بين تراثنا وما يراد من نشر هذه المصطلحات بمفهومها الغربي المعاصر، وللقارئ الكريم أن يستزيد من الكتاب للإحاطة بفكرة المؤلف، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
[1] أخرجه النسائي (١٥٧٨).
أ. غسان أسود
إجازات قرآنية، مدرس في جمعية لتعليم القرآن الكريم.