ساد المسلمون العالم، وعمروه بمخلتف أنواع العمارة، وأقاموا حضارة عظيمة ما يزال العالم يعي آثارها إلى اليوم؛ ثم دار الزمان للحضارة الغربية، التي قيدت الإنسان في (دولة الحداثة) وما بعدها، وسلبته كثيرًا من حقوقه، وهذا المقال يعرض سعي المؤلف إلى عرض رؤية منهجية لتحليل البيئة العمرانية في العصور الإسلامية وتأثيراتها من منظور تاريخي وشرعي.
التعريف بالكتاب:
يقع الكتاب في (519) صفحة من القطع الكبير، في كلّ صفحة عمودان، وقد أكثر فيه من الصور ليُظهر العلاقة بين الإنسان والبيئة التقليدية من خلال القيم الإسلامية، وليوضّح التباين بين البيئة التقليدية والحداثة.
صدر الكتاب عن مؤسسة الناشر الذهبي للنشر والتوزيع.
التعريف بالمؤلف:
د. جميل عبد القادر أكبر، ولد في الطائف (1954م)، حصل على البكالوريوس من جامعة الملك سعود بالرياض (1977) وعلى درجتي الماجستير والدكتوراه (1984م) من معهد ماساتشوستس للتقنية MIT ودرّس بها، ويعمل الآن أستاذًا بجامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية في إسطنبول.
حاز على جائزة الملك فهد لأبحاث العمارة في العالم الإسلامي والتي أعطيت لمرة واحدة (1987)، وكذلك الجائزة الأولى لمنظمة العواصم والمدن الإسلامية لعام (2007)، من كتبه غير كتابه هذا: (قصّ الحق)، و(أزمة البيئة المبنية: حالة المدينة الإسلامية) باللغة الإنجليزية[1].
هدف الكتاب:
يقدم المؤلف إطارًا فكريًا يدمج فيه بين منهج الشريعة الإسلامية وفهم العمران الحديث؛ يسعى فيه إلى عرض رؤية منهجية لتحليل البيئة العمرانية في العصور الإسلامية وتأثيراتها من منظور تاريخي وشرعي، وهو في ذلك يُقدم نقدًا عميقًا للحداثة، مسلطًا الضوء على إفساد المركزية العلاقةَ بين الإنسان والبيئة، ويُعيد الكاتب تقديم عمارة المجتمعات المسلمة بوصفها نظامًا مستدامًا مبنيًا على القيم الشرعية التي تُحقق العدالة الاجتماعية وتوازن الحقوق، ويُشدد على استعادة الهوية العمرانية الإسلامية التي تنبثق من سيادة الأمة الإسلامية وشريعتها، وحاجتها؛ فالشريعة الإسلامية هي حجر الزاوية في إدارة العمران وتجنب الأزمات البيئية والاجتماعية.
يُعيد الكاتب تقديم عمارة المجتمعات المسلمة بوصفها نظامًا مستدامًا مبنيًا على القيم الشرعية التي تُحقق العدالة الاجتماعية وتوازن الحقوق، ويُشدد على استعادة الهوية العمرانية الإسلامية التي تنبثق من سيادة الأمة الإسلامية وشريعتها، وحاجتها؛ فالشريعة الإسلامية هي حجر الزاوية في إدارة العمران وتجنب الأزمات البيئية والاجتماعية.
دوافع الكتابة:
» يعالج الكتاب أزمة البيئة العمرانية الإسلامية عبر نقد الفكر الحداثي واستعراض منهجية الشريعة في التعامل مع العمران.
» ينتقد الكتاب الفلسفات الغربية والحداثة التي يرى أنها أدت إلى سيطرة الأنظمة، وفقدان المجتمعات المسلمة حقوقها وروحها وصدورها عن شريعتها.
» يعرض الكتاب الأثر السلبي للحداثة في تقويض النظام العمراني الإسلامي الذي كان يعتمد على الشريعة.
» يُبرز أن المجتمع الإسلامي التقليدي كان أكثر استدامة لأن أفراده كانوا مشاركين بشكل مباشر في تنظيم بيئتهم.
العلاقة بين الشريعة والعمران:
» الشريعة تُرسي قواعد عمرانية تجمع بين حقوق الأفراد وواجباتهم والمصلحة العامة.
» يعرض الكتاب أمثلة من التاريخ الإسلامي لتوضيح كيفية تنظيم الموارد المشتركة (مثل الماء والأراضي) بما يخدم المجتمع.
» يبرز دور الشريعة في تحقيق التوازن بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، مع تقديم أمثلة تاريخية.
» استعادة هذا النظام تتطلب العودة إلى تطبيق الشريعة بطريقة تجمع بين القيم الأخلاقية وقابلية التطبيق، مثل التلوث والهدر العمراني.
» بإمكان الشريعة الإسلامية تقديم حلول مستدامة للمشكلات العمرانية الحديثة.
أمثلة عملية وتاريخية:
» يقدم المؤلف أمثلة على تطبيقات ناجحة للشريعة الإسلامية في إدارة الموارد العمرانية، مثل حقوق مسيل الماء وتنظيم استخدام الفناء.
» يعرض كيف أن تدخل السلطات الحديثة أدى إلى إضعاف هذه الحقوق وبالتالي تراجع الكفاءة العمرانية.
عرض الكتاب
يحتوي الكتاب[2] على تسعة فصول.
انطلق المصنف في حديثه عن مضمون كتابه من واقع الناس اليوم من وَهَن وتفكك وضعف إلى مواطن عزة الأمة وسيادتها.
حيث يرى أن مفاهيم (الدولة الحديثة) تحجب بمفاهيهما ومكوناتها الصلبة الأمةَ الإسلامية من إنفاذ سيادتها في حقوقها التي وسَّعت الشريعة الإسلامية لهم فيها بتنميط تشكل عمران المسلمين وقولبته في قالب قد لا يناسبهم أو لا يلبي احتياجاتهم على الوجه الذي يريدون.
ويرى أن الحداثة هي سبب الانهيار البيئي، ثم يذهب بالقارئ إلى تاريخ الحداثة وسبب نشوئها، ومساهمات الفلاسفة؛ أمثال: (كانط، وفولتير وروسو)، ثم يخلص إلى أن التنوير كان هو الرغبة في التقدم من خلال حكم الشعوب أنفسها، إلى أن بدأت أمرض الحداثة في التفشي بظهور المؤسسات السلطوية التي تسير المجتمعات من خلال انتشار الفقر وما إلى ذلك من إفرازات الرأسمالية.
ثم ظهر منتقدو الحداثة مثل فوكو الذي يعتقد أن الحداثة نظام مدجج بالسيطرة؛ فهو نظام يخضع الناس لإرادته لأن كل فرد قد يخضع لمراقبته، وصور الحداثة على أنها مؤسسات تسيير المجتمعات من خلال السلطة؛ فالأنوار التي أدت إلى الحريات أفرزت الأغلال في مجتمع الحداثة من خلال المدرسة والعمل والثكنات.
ثم يحاول المصنف أن يدخل القارئ إلى عمق غرض كتابه بأنه: «طرح فكري عن عمارة الأرض في الإسلام؛ ليس مرجعًا تاريخيًا في العمارة أو كتابًا فقهيًا عن الشريعة في العمران، ودراسة تحليلية للقوانين الوضعية»؛ فهو اتخذ من الشريعة منظارًا للعمران.
وذكر أن المتشرعين المعاصرين لم يُوفوا الموضوع حقه، مبينًا أن دراساتهم لا تتفق مع آراء جمهور العلماء (كمسألة إحياء الموات) التي يذهب فيها جمهور الفقهاء إلى جواز إحياء الأرض دون إذن الإمام، لكن ذهب المعاصرون إلى إذن الإمام بناء على قول فريق من أهل العلم، مشيرًا إلى إجازة مجمع الفقه نزع الملكية الفردية للمصلحة العامة، في مخالفة لرأي جمهور العلماء، والمؤلف -الذي سيناقش الإحياء ونزع الملكية بالتفصيل في فصول الكتاب القادمة- يرى أنّ المعاصرين وجدوا أنفسهم في “مأزق تأطير الفقه في الواقع الحداثي” فسايروا المتطلبات الراهنة بآراء لا تتفق مع قول الجمهور «بِلَيِّ أعناق النصوص، وإلا اتهم الإسلام بالتخلف».
وظهور الإشكالات المعاصرة كان باستخدام القوانين الوضعية؛ (القانون المصري مثلاً: اعتبر الأراضي غير المملوكة مثل الأراضي الموات جزءًا من أملاك الدولة، ووضع قيودًا لإحيائها، وهذا أدى إلى ارتفاع سعر الأراضي، ومما ساعد أيضًا على ارتفاع الأسعار زيادة الكثافة السكانية الناتجة عن السياسة المركزية للدولة التي ركزت أكثر الخدمات في المدن الرئيسية مثل الدوائر الحكومية والمعاهد والمصانع وهذه استقطبت السكان من الأرياف إلى تلك المدن وازداد الطلب على الأراضي، وكثرت التعديات، وبالتالي كثرت القوانين للسيطرة على إحياء الأرض، وهكذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وهذا الارتفاع في أسعار الأراضي المصحوب بزيادة الكثافة السكانية أدى إلى زيادة الكثافة البنائية كعلو المباني، مما أحدث خللاً في التركيب العمراني للمدينة urban structure، نتج عنه مثلاً أن شبكات الصرف الصحي لم تعد تحتمل فضلات السكان!)
ومن الأسباب التي ساعدت على إلغاء نظام إحياء الأرض في الدول الإسلامية: الحملة القائلة بأن البيئة العمرانية الناتجة من الإحياء ستكون عشوائية لا محالة، لأن البيئة التقليدية[3] traditional environment في العالم الإسلامي كانت غير منظمة، حيث إن شوارعها غير صالحة لوسائل النقل الحديثة، وبها الكثير من الطرق الملتوية والضيقة ذات الساباطات والطرق غير النافذة، ومبانيها متلاصقة ومتماسكة دونما فراغات بينها!
وبهذا تلقت المدينة التقليدية تشوهًا من المفكرين والمخططين والمؤرخين.
«وبالجملة فقد كان الخراب عمَّ، والدمار طمَّ، وكثير من التلال داخل وسط الأماكن سوى ما في الخارج من التلال الشاهقة في الهواء، الممتدة إلى أمد بعيد؛ فإذا هبت الريح فهي القيامة! ولا ترى إلا غبارًا منبثًا على البيوت، متلفًا للصحة وللعيون…».
وتحدث عن أن القليل من المدن في العصور الأولى هي التي خُططت مثل بغداد والكوفة، لكن ليس كالمفهوم الحديث وفصَّل ذلك في الفصل الخامس.
ومع تركيز المعماريين عند دراسة تاريخ العمارة على المباني المركزية والتاريخية كقصر الحمراء بغرناطة، ومدرسة السلطان صالح نجم الدين بالقاهرة؛ وهي التي أُسست أصالة لتدل على عظمة الحاكم فهي بطبيعة بنائها بنيت لتكون مباني فوق اعتيادية، أما الغالبية العظمى من البيئة العمرانية فتتكون من مباني عادية، والتي بدراستها تُستنبط أُسس العمارة والتخطيط الإسلامي؛ فمن الاستنباطات الخاطئة أن البيئة تنتظر من يصممها من المهندسين، أما البيئة التقليدية فلم تكن تعتمد على تخصص العمارة أو التخطيط.
منشأ خطط المدينة الغربية هو نتاج مفاهيمها ويعمل في إطار منظومتها الفكرية الرأسمالية، وعليه تنفيذ ذلك دون الاكتراث بتأثير ذلك على عموم المجتمع، بل سينفذ ما طلب منه من عمل حتى لو أنفقت أموال ليست في صالح مجتمعه ولا ما يعود عليهم بأفضل نفع، وهذا ما أثَّر على المهندس العربي في بيئتنا.
أما البيئة العمرانية التقليدية فهي نتاج نهائي لعملية تفاعل بين ثوابت (كالشريعة والمناخ) وبين متغيرات كالإمكانات الاقتصادية والصناعية؛ فهنا يجب التركيز على النظم والمبادئ التي اتبعتها تلك الشعوب لإنتاج المباني: (مثل الشفعة، والوراثة، ولا ضرر ولا ضرار..).
ونحن في ذلك لا يمكننا فهم البيئة العمرانية دون الاستعانة بعامل الزمن وبدراسة تكون تلك الشعوب من ثقافات وأعراف أورثتهم ذلك النهج العمراني، وتغير هذه البيئة تغيرًا تدريجيًا حتميًا عبر الزمان.
ثم يبرز المصنف حال المدن المكتملة البناء بأنها: «دائمة الكآبة وبلا حياة في جميع أنحاء العالم» مع محاولة المصممين إدخال الحياة لها.
ثم يوضح أن الشريعة هي من صنعت المدينة الحية التي يشارك جميع السكان في اتخاذ قراراها مع مرور الزمن، وفي تخطيط المدينة.
ثم يلفت إلى قدر النفقات على المدينة المخطط لها، في مقابل حاجات الناس الحقيقية بمنظور الشرع.
الشريعة هي من صنعت المدينة الحية التي يشارك جميع السكان في اتخاذ قراراها مع مرور الزمن، وفي تخطيط المدينة.
الفصل الأول: (المسؤولية)
حركية البيئة تتأثر بمذاهب المجتمعات ideologies وما للفرد من حقوق وما عليه من واجبات، يركز المصنف على أن دراسة العوامل الاجتماعية والسياسية ونحوها لن يثري كثيرًا في فهم البيئة دون التركيز على حركيتها.
المسؤولية بوصفها إطارًا نظريًا
استنتج المصنف إطارًا نظريًا لنماذج المسؤولية لتوضيح العلاقة بين حالة العين والمسؤولية، وهو مكون من شقين:
• شق الحق: الحق هو التمتع بحق الملكية: وهو القدرة على نقل الملكية، وحق السيطرة: وهو القدرة على التصرف دون الاستخدام أو الملك (كناظر الوقف) وحق الاستخدام للعين.
• الشق الثاني من الإطار النظري: هو الفريق؛ لأن أي قرار في البيئة كبيع أو بناء لا بد أن يتخذه فرد أو مجموعة.
وأوضح المصنف ما سماه (النماذج الإذعانية) للعين.
وأن الهدف من استخدام هذه النماذج هو الوصول إلى حالة العين التي تتأثر بالعلاقات المشتركة فيه التي تنبثق من حركة البيئة، فهو في دراسته لذلك ينحي العوامل الأخرى كالمناخية والاقتصادية ونحوها، ودون التعمق في قيم الفرق في العلاقات من معتقدات وعادات.
ثم إن هذه النماذج ترتكز على غرائز الإنسان (نحو: محاولته التملك والسيطرة، وتحسين البيئة حسب إدراكه)؛ فهي أقرب للثبات والتوقع لوجودها في كل زمان ومكان، خلاف الحال في العوامل المتغيرة كالاقتصاد ونحوه.
ومن هذا المنطلق يمكن فهم المسؤولية باعتبارها عاملاً أساسيًا في فهم وتوقع حالات الأعيان، ومع اختلاف هذه الغرائز بين المجتمعات فكل نموذج إذعاني متميز في علاقة الفِرَق المشتركة فيه.
الفصل الثاني: توحيد المسؤولية:
يخلص إلى غرضه من هذا الفصل وهو عرض المبادئ التي ساعدت على انتشار الأعيان في الإذعاني المتحد في البيئة التقليدية.
ثم شرع في الحديث عن (الملكية)؛ فبدأ بالحديث عنها من منظور فقهي؛ وهو أن جمهور الفقهاء يرون أن الملكية تأتي من ثلاثة طرق:
1. الاستيلاء أو الإثبات؛ (إحياء الأرض..).
2. النقل بعد ثبوت الملكية؛ (البيع..).
3. الإبقاء؛ (الوراثة).
ثم خلص إلى أن الثاني والثالث يأتي بعد الأول.
ثم ركز حديثه عن (الملكية)، وأن آراء الفقهاء تؤدي إلى النموذج الإذعاني المتحد؛ ثم تحدث عن قاعدتين أساسيتين لإثبات الملكية: الحاجة، والسيطرة، وملكية العلو، وهل يملك ما تحتها، ثم استنتج القول: بأن الأراضي غير المملوكة (كالصحاري، والموات) ليست ملكًا لأحد، ولا الدولة.
ثم تحدث عن (إحياء الموات) بأن «الاستيلاء على الأراضي كان شائعًا في القرون الأولى للإسلام، حيث أنشئت المدن في المناطق المفتوحة أو التي أسلم أهلها..»، ثم ذكر تعريفها والحكم عليها، والخلاف فيه بين الفقهاء.
ثم دلف إلى أهمية موضوع الإحياء بالنسبة للكتاب، هو السيطرة على الأرض الموات واستخدامها أدت إلى ملكية الأرض للذي استخدمها وسيطر عليها؛ فكانت النموذج الإذعاني المتحد؛ ثم استشهد بأحاديث النبي r وأفعاله؛ كقوله: «العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له» وغيره.
ثم تعرض لبعض مبادئ الإحياء وخلص منها إلى أن الأعراف هي التي تحدد معنى الإحياء.
الفصل الثالث: ضياع المسؤولية
بدأ الفصل بتغير البيئة المعاصرة عن البيئة التقليدية بتغييرين أساسيين:
• الأول: شخصية المالك أو المسيطر رغم وجود صفتها في الماضي إلا أنها تحولت إلى جهة خارجية (كالبلدية بدلاً من المحتسب مع التجار في صفة (المسيطر)، والدولة في الإسكان الحكومي).
• الثاني: تغير مجموعة من العقارات والأعيان من نموذج إذعاني في البيئة التقليدية إلى نموذج إذعاني آخر في الواقع: (كالطرق النافذة وغير النافذة والساحات تبعًا لاجتماع فريق المالك والمسيطر والمستخدم في السكان فكان في الإذعاني المتحد، وانتقلت في الواقع إلى الإذعاني المشتت بعد أن امتلكتها الدولة وسيطرت عليها البلدية، وتحول السكان إلى المستخدم فقط).
وهما -وفقًا لنظر المؤلف- أحد الأسباب الرئيسية في بلوى المسلمين الآن؛ «فقد أحدثا تغييرًا في العلاقات بين الأفراد والمؤسسات والدولة، واختلفت موازيين القوى في المجتمع؛ فأصبح ذو الحق ضعيفًا، والمنافق قويًّا، وضاعت الحقوق، وظهرت المحسوبيات، وأوكل الأمر لغير أهله، وتكدست الثروات لدى طبقات على حساب طبقات أخرى».
ويوضح المؤلف أهمية تتبع ودراسة هذين التأثيرين السابقين وتدخل السلطات تاريخيًا (قيام السلطة بتسيير أمور البيئة من خلال أنظمة كإصدار قانون بمنع التعلية في البنيان أو بهدم المباني لتوسيع شارع، أو تحديد منطقة تجارية بعينها دون غيرها) لتدارك الأخطاء التي أدت إلى انحطاط الأمة.
ثم تحدث عن أثر تنحية الشريعة في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي.
ثم تحدث عن قضية مركزية في هذا الصدد وهي أن أغلب الحكام والدول في خريطة العالم الإسلامي كانت تقيم دعاوى[4] أن الدولة التي سبقتها ابتعدت عن الشريعة وأنها ستعود إليها مهما اختلفت الدول (مصر: حكمها: الأمويون، العباسيون، الطولونيون، والعباسيون مرة أخرى، ثم الإخشيديون، ثم الفاطميون، ثم الأيوبيون، ثم المماليك، ثم العثمانيون)، ودرو العلماء ضمان تطبيق الشريعة الإسلامية في البيئة العمرانية؛ أي: تطبيق ما في الكتب على الواقع.
وكان القاضي قويًا في منصبه، حتى كان أقوى من الحاكم في بعض العصور.
ثم تحدث عن (الدولة العثمانية) وتأثر معظم الدول بها لأنها كانت تحت حكمها، وأثر (مجلة الأحكام العدلية) في ذلك، وما لها من سطوة، وما كانت عليه من المذهب الحنفي الذي يميل لتدخل السلطة، وانقسام المجتمع العثماني إلى طبقتين: العساكر، والرعية، وتحدث عن تملك الأراضي فيها (الأراضي الأميرية)؛ فكانت أكثر أراضي الإمبراطورية من الإذعاني الحيازي وإرهاق العاملين، ثم أحلت الدولة العثمانية نظام (التلزيم): لحاجتها للمال، هم من يستوفون حصة الحكومة من إنتاج المزارعين، وتوكل الحكومة لأعلى سعر فزاد ذلك من إرهاق المزارع، فكان يبيع جزءًا منه خلسة فيقوم الخبراء بتقدير مرتفع جدًا ثم يضطر المزارع لبيع ما لديه لتغطية الضريبة، وقد يلجأ إلى بيع أرضه للنفقة على أهله.
اختلفت موازيين القوى في المجتمع؛ فأصبح ذو الحق ضعيفًا، والمنافق قويًّا، وضاعت الحقوق، وظهرت المحسوبيات، وأوكل الأمر لغير أهله، وتكدست الثروات لدى طبقات على حساب طبقات أخرى.
الفصل الرابع: تواجد الأعيان
قَدَّم هذا الفصل ليكون مقدمة لما بقي من الكتاب، وتتمة للأول في تأثير النماذج الإذعانية على البيئة بالتركيز على الأعيان مجتمعة في البيئة لأن العين لا توجد منفردة، ثم تداخل النماذج الإذعانية لتداخل الأعيان في البيئة، ويأتي تغير الفريق: من ابتعاد الفريق وقربه من العين (سواد العراق: الطريق المشترك بين عدة منازل ملكه الساكنون، وإصدار الدولة قانونًا بامتلاكه)، ومن تغير حجم الفريق (وراثة منزل لعدة أفراد)، فهو يقدم هنا النموذج المستقل بوصفه حالة لا تستدعي تدخل السلطة لسعيهم لتطوير عمران وإيجاد الحلول.
الفصل الخامس: المدن
تحدث فيه عن حركية البيئة، وطرق اتخاذ القرار في نمو وتكون المدن في البيئة التقليدية؛ منطلقًا من (الإحياء) الذي ذكره قبل (الفسطاط مثلاً..)، والمنطلقات التي على أساسها أسس المدن، واختلاف ظروف المدن الإسلامية (بغداد عن غيرها).
وقارن مدن الماضي والحاضر:
• المدن الإسلامية التقليدية بُنيت على أسس الشريعة التي عززت التفاعل الاجتماعي والتنمية المستدامة.
• المدن الحديثة تفقد هويتها بسبب تركيز الموارد في يد السلطات وعدم تفعيل الأطر الشرعية.
الفصل السادس: الحرية والضرر
تحدث المؤلف في هذا الفصل عن حركية تهذيب الحدود الخارجية للأماكن والأعيان والسيطرة عليها، وما كان عليه المجتمع التقليدي، وسعة الشريعة في ذلك وما منحته من حقوق، ومدخلية أصول الفقه في فهم ذلك، وفهم قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» وهو حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما استنبطه الفقهاء من قواعد من هذا الحديث، وأن الضرر هذا في البيئة التقليدية أمر يمكن معرفته وتجاوزه والتعامل معه، خلاف ما عليه الواقع من قرارات في التخطيط وأثرها في الضرر، والفرق بين التعسف والتعدي في تضييق الحق، ثم تحدث عن القياس والاستحسان، ومن قَبِل الاستحسان ومن أنكره من العلماء، ومدى اعتبار مآلات الأفعال، ومفهوم التحايل على الضرر.
الفصل السابع: الأماكن
يتحدث فيه المؤلف عن أماكن البيئة التقليدية وشرح تكونها وتفاعل الناس الذي أنتجها في النموذج الإذعاني المتحد الذي جعل المسؤول هو من يحدد سعة الطريق وضيقه واستخدامه له، تحدث فيه عن الفناء واستخدامهم له وكيف كان مكونًا من مكونات البيئة التقليدية، وآراء الفقهاء فيه وفي حق الملك والسيطرة، ثم تحدث عن الطريق ولينة الطريق، وزحف المباني المجاورة إليها.
وتحدث عن حيازة الطريق وآراء الفقهاء فيه، وملكيته والسيطرة عليه، وعلى علوه، أما الطريق غير النافذ فهذا ليس للناس، بل لمن يسيطر عليه ويستخدمه، وهو في ذلك يعرض لصور ونماذج شتى من مدن بيئية تقليدية.
ثم وضح الوظيفة الحقيقية للمحتسب في مراقبة الأسواق والمكاييل، لا في السيطرة على الطريق باستثناء السوق.
» الأماكن البيئية التقليدية في المدن الإسلامية:
• هذه الأماكن تعكس فلسفة شاملة تُدمج بين العمارة والبيئة والاجتماع.
• تُظهر الصور المحلات التجارية المفتوحة والورش الصغيرة داخل البيوت، مما يدعم التوازن بين العمل والسكن.
• تُبرز الشريعة في هذا السياق أهمية توفير بيئة تحترم التنوع الوظيفي دون الإضرار بالمساكن.
» الأنظمة العمرانية المستمدة من الشريعة:
• تنظيم الأسواق، المساحات العامة، وأماكن العبادة وفقًا لمبادئ العدالة البيئية والاجتماعية.
• تعكس الصور تجانسًا بين ارتفاعات المباني واستخداماتها، مما يعزز الاستدامة.
» التغيرات الحديثة:
• يعرض المؤلف تأثير التمدن الحديث وتراجع القيم البيئية التقليدية، مما أدى إلى تدهور التوازن العمراني.
الفصل الثامن: حجم الفريق وحجم العين
يشرح المؤلف كيف لجأ المسلمون إلى الشريعة لحل النزاعات المتعلقة بالأعيان، مثل تغيير وظيفة منزل أو تعلية بناء.
يعرض المؤلف أهمية هذا الفصل في فهم تركيب المدن الإسلامية وحركية البيئة عبر الزمن.
يذكر أنه من أهم الفصول التي توضح كيف وضعت الشريعة المبادئ التي تؤدي إلى حرية الفرق، وألانت البيئة وجعلتها قابلة للصياغة لكي تبقى العقارات في الإذعاني المتحد عبر تاريخ الأمة، ثم يوضح أهمية الاهتمام بعلاقة حجم الفريق بحجم العين؛ ثم شرح بعض وسائل التمليك: (الصدقة: تمليك العين مجانًا، والهبة، القبول والقبض، هبة المشاع، الخيار، الشفعة..) ويوضح آراء الفقهاء فيها، ثم عرض لقضية (التغيرات الخطية: الخطوط الفاصلة بين الخطط عن مواضعها إلى مواضع أخرى)، وتدوينها؛ فهي توضح علاقة الملاك بعضهم ببعض، وصنيعهم لقراراتهم التي سُلبت منهم في الواقع، وكان الطريق يأخذ هذه الأشكال اللينة ليلائم حاجات الناس وتفاعلاتهم وهذه من أهم ميزات البيئة المستقرة.
الفصل التاسع: مضاعفات تحول المسؤولية
يقدم فيه المؤلف خلاصة كلامه في الكتاب؛ مبينًا أنه سلسلة من الانتقادات، وإيضاح التناقض بين البيئة التقليدية والمعاصرة؛ فسأل سؤالاً: (البيئة وسيلة أم غاية؟)، ثم نقد المفاهيم الحداثية من غائية البيئة.
أما المؤمنون فهم يعلمون أن البيئة وسيلة لبلوغ الآخرة، وسبيل في تحقيق الغاية من وجود الإنسان في الأرض وهي عبادة الله عز وجل؛ وذلك لا يحققه الإسراف في المال، وضياع ثروات الأرض وفقدان المجتمع موارده.
وقد ورثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تتعارض مع مفاهيم الإسراف في العمارة.
ثم عرض المؤلف واقع المسلمين وما هو حالهم في ذلك، وقوانين الدول العربية وتحول النماذج الإذعانية من المتحد إلى الحيازي ثم الترخيصي، وكيف أدى الواقع والرسوم وسيطرة البلديات وتدخلاتها وتدخلات السلطات في اختفاء البناء (الارتدادات)، والتراخيص إلى تحول فقدان معالم البيئة التقليدية وأساسها من أعراف ونحوها.
المؤمنون يعلمون أن البيئة وسيلة لبلوغ الآخرة، وسبيل في تحقيق الغاية من وجود الإنسان في الأرض وهي عبادة الله عز وجل؛ وذلك لا يحققه الإسراف في المال، وضياع ثروات الأرض وفقدان المجتمع موارده.
إسلام عفيفي
باحث في التراث والمخطوطات، ومهتم بعلوم القرآن والتفسير
[1] تعريف موسع له على موقعه: (هنا)
[2] ممن راجع وعرضه: علاء عبد الحميد: (هنا)، وقد قام المؤلف بالرد عليه: (هنا)، وراجعه عبده السمين على موقع (goodreads)، كذلك لصادق السلامي عرض للكتاب. وذكر د. أحمد وجيه أن «هذا الكتاب يفتح في العقل أبوابًا ومدارك لمن تدبّر وفتح الله عليه».
[3] البيئة التقليدية هي مجموع المباني والأماكن بينها التي شيدها المسلمون باتباع مبادئ الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية واستخدام مواد البناء المتوفرة في تلك الفترة دون تدخل السلطة إلا في حالات الخلاف بين الملاك. وقد وضع المصنف في آخر الكتاب كشافًا بالمصطلحات، لكنه تعجل تعريفها لحاجته ليتضح المفهوم في سياق كلامه.
[4] بغض الطرف عن مدى تطبيقهم لها، لكن الحديث عن أصل الدعوى المقبولة مجتمعيًا وسياسيًا.