قراءات

قراءة في كتاب «الماجَرَيَات» للشيخ إبراهيم السكران

يتناول الكتاب مسألة الانشغال بوقائع الأحداث ومجريات الأيام عن الأمور العظام، وضياع الأوقات والأعمار بها، وتأثيرها على طلب العلم والدعوة إلى الله والإصلاح في المجتمع، من خلال نظرات شرعية نفسية اجتماعية، مع ضرب أمثلة من التاريخ الإسلامي، بما يقدم من نماذج حية لكيفية التعامل مع هذه الوقائع والأحداث، وحسن إدارة الوقت واستغلاله

شوال 1441 هـ – يونيو/ حزيران 2020م

نبذة عن المؤلف:

إبراهيم بن عمر السكران التميمي، ولد عام (1396هـ – 1976م)، وتخرج في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، نال درجة الماجستير في السياسة الشرعيّة من المعهد العالي للقضاء التابع للجامعة، وفيما بعد نال درجة الماجستير في القانون التجاري الدولي في جامعة إسكس بمدينة كولشستر في بريطانيا([1])، ولديه عددٌ من المؤلفات والكتابات الدعوية والفكرية.

وصف الكتاب:

يقع الكتاب في (344) صفحة من القطع المتوسط، الطبعة الثانية منه لدار الحضارة للنشر والتوزيع في الرياض عام 1436هـ، 2015م.

عنوانه (الماجَرَيَات):

وتعني: الأحداث والوقائع والأخبار، والكلمة مولَّدة بأسلوب التركيب المزجي، أصلها (ما جَرَى) ثم جمعت بكلمة واحدة عندما اتّسع استخدامها، وأدخلت عليها اللواصق كألف التعريف.

واستخدمها عددٌ من العلماء سابقًا، كابن تيمية وابن القيم رحمهما الله في سياق ماجَرَيات النفس والهَزَل واللعب والأخبار والأحداث التي لا تنفع، كما جاءت في كلام غيرهم من الأدباء والمؤرخين كابن خلدون وابن خِلِّكان والسخاوي بمعنى الأخبار.

محتوى الكتاب:

يقع الكتاب في مقدمة، تلاها مدخل سماه المؤلف (التمييزات الحاكمة)، وثلاثة فصول، كما يأتي:

  • التمييزات الحاكمة: وهي جملة من الضوابط والمرشحات التي تفصل بين الممارسات الصحيحة والخاطئة في التعامل مع الماجريات والأحداث السياسية.
  • الفصل الأول: موقع الماجَرَيات: يحتوي على مفاهيم مهمة في طبيعة التلقي البشري، وتأصيل الماجريات وتأثيرها.
  • الفصل الثاني: الماجَرَيات الشبكية: وتتضمن عددًا من الممارسات والعادات السلبية الحديثة المرتبطة بشبكة الإنترنت، والمؤثرة في تناول الماجريات والانشغال بها.
  • الفصل الثالث: الماجَرَيات السياسية: واختار المؤلف لهذا الفصل خمسة نماذج من الأعلام والمفكرين جعلهم أنموذجًا للفهم الصحيح والمعتدل للعمل السياسي والتعامل مع قضايا الشأن العام.

القراءة في الكتاب:

للانشغال بالشبكات الاجتماعية والماجَرَيات تأثير سلبي على المهام العِلمية والعَمَلية حتى يَفوتَ وقتُ إكمالها، فيضطرُّ صاحبها للتأجيل والتأخير مرةً بعد مرة، كما أنَّ متابعة الوقائع والأحداث والنقاشات تصوغ نمطًا من (التفكير الأفقي)، لا يُبصر معه طالب العلم إلا القشرة الخارجية من المتغيرات، ولا يعرف إلا المنتج النهائي من التصوُّرات، ومع اكتسابه نموًّا في الوعي بالواقع وتطورًا في اللغة السياسية، ومخزونًا من تفاصيل الأحداث يستثمرها في البرهنة أثناء مناقشاته، إلا أنه خسر صبره على الحفظ والتحصيل المعرفي والتربوي والبحث العلمي، فيصبح بعدها سطحي النظر، فكيف نوازن؟!

ليس المطلوب جزّ الشجرة، بل تقليم الغصن الناشز

التمييزات الحاكمة للدراسة:

1-التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع: كثيرٌ ممن اقتنع بضرورة «فقه الواقع» في العلم والإصلاح، تحّول لا شعوريًا إلى الانغماس في دوامة الأحداث والوقائع حتى تجاوز القدر المطلوب، فخرج عن «فقه الواقع» إلى «الغرق في وحل الواقع».

2-التمييز بين المتابعة المُتفرِّجة والمتابعة المُنتِجة: من المفيد متابعةُ الأحداث السياسية والفكرية والاجتماعية بهدف زيادة الإنتاج كمًا وزيادة فعاليته كيفًا، وهذه «متابعة منتجة»، والمشكلة في الغرق في المتابعة لدرجة «المتابعة المتفرِّجة».

3-التمييز بين المتابعة زمن التحصيل والمتابعة زمن العطاء: إنَّ الشابَّ في السنوات الذهبية التي تتميز بالقوة البدنية، والصفاء الفكري، وقلة الأعباء الاجتماعية، والنشاط وفوران الهمّة، ينبغي أن ينكبَّ على التحصيل العلمي، ويطَّلع على المجملات في هوامش وقته، أما زمن العطاء فيمكنه التوسُّعُ في متابعة الأحداث بما يحسِّن إنتاجَه كمًا ونوعًا.

4-التمييز بين توظيف الآلة والارتهان للآلة: كثير ممن اقتحموا الشبكات الحديثة تحولوا من مُنتجِين يوظّفون الآلة، إلى مُتابعين تخرطهم الآلة في ماجَرَياتها، ومن مُنتِجين لأشرفِ ما يكون في هذه الوسائل من العلم والإيمان، إلى مستهلِكين لأدنى ما تُنتِجه هذه الشبكات من المهاترات والشائعات.

5-مواقف واتجاهات المشتغلين بالعلم والدعوة مع السياسة:

-فاتجاه العلمنة ينابذ سلطة الأحكام الشرعية على السياسية.

-واتجاه السلطنة يُخضع السياسة لهيمنة الأحكام الشرعية لكن يحصر حق الحديث عنها في المستبد.

-واتجاه التعميم يُخضع السياسة لهيمنة الأحكام الشرعية لكن يستنهض الجميع للدخول في الاشتغال السياسي، إما صراحة أو بلسان الحال.

-واتجاه التخصيص يُخضع السياسة لهيمنة الأحكام الشرعية كذلك، لكن يضعها في مربّع التخصص المطلوب وغيرُ المتخصِّص يكفيه مُجملاتها، ولا يُلهِب الجميع للتصدّي للبتِّ في مسائلها.

وهذا الاتجاه لا يَعتبر الاشتغالَ السياسي هو المفتاحَ الوحيد للإصلاح، بل يراه خطًّا مُهمًّا ضمن خطوطٍ كثيرة علمية ودعوية، لا يجوز الجور عليها في سياق تفخيم شأنه، ويُعطى وزنَه الطبيعي، لا باعتباره أبًا للإصلاح، ولا باعتباره أجنبيًا دخيلاً عليه، بل باعتباره أحد الأشقّاء الأفاضل في عائلة الإصلاح.

لا شيء يهرش الكدر ويكبس الغم على النفس كشاب كان للتوِّ قد ثنى رجليه على متون العلم أو لبس نظاراته للثقافة الجادة، ثم انتحى يهريق عمره يتتبع المهاترات الفكرية والتيارية ومماحكات القضايا الصغيرة على الشبكة

موقع الماجريات:

الماجريات تستهلك الطاقة الذهنية:

الإنسان يملك كميةً معينةً من وقود التفكير، فينبغي للمرء أن يكون حاذقًا في صرف طاقته الذهنية في المواد المجدية، يقول ابن القيم في كتابه «الفوائد» في بيان أساس هذا المفهوم: «أصلُ الخيرِ والشرِّ من قبل التفكر، فإنَّ الفكرَ مبدأ الإرادة». ثمَّ واصل ابن القيم وسبر وقسَّم مسارات التفكير البشري.

واستعرض بعد ذلك نماذج من الأفكار الشريفة، ونماذجَ أخرى من الأفكار الرديئة فقال: «وبإزاء هذه الأفكار: الأفكارُ الرديئة التي تجولُ في قلوبِ أكثر هذا الخلق …، ومنها الفكر في جُزئيات أحوال الناس، وماجَرَياتهم، ومَداخلهم ومَخارجهم، وتوابعِ ذلك من فكرِ النفوسِ المبطلةِ الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة».

ويرى ابن القيم رحمه الله أن التفكير طاقة تنفد، لذا يجب ألا يتم إحراقها في «الماجريات» وأحوال الناس، بل تستثمر في التركيز على الموضوعات النافعة والأهداف الفاضلة الكبرى، وهذا ليس في حال الاجتماع مع الآخرين فحسب، بل حتى عند خلوة المرء بنفسه.

موقع الماجريات عند أهل الكمالات:

يشير ابن القيم في كتابه «مدارج السالكين» إلى شيء من الحيل النفسية التي تُداهم المؤمن في سيره إلى الله، وهو أنَّه قد يأتيه من يزيّن له الاشتغال بالماجَرَيات والأحداث والأخبار من باب الظّرف والأدب والتلطف للناس، وستر الأحوال الإيمانية وإخفائها عنهم، ويكشف ابن القيم أنَّ هذا (من خدع النفوس وتلبيسها).

كما يحكي أنَّ أهل المقامات العالية في الإيمان، لا يتكلَّفون صرفَ أنفسهم عن الاشتغال بالماجريات والأخبار والأحداث وحكايات الناس، بل يجدون في أنفسهم استثقالا أصلاً، لاشتغال قلوبهم بما هو أجل وأعلى.

ومن دقائق المعالجة الجوزية التنبيه إلى أن فتح الباب للماجَرَيات يحطُّ الهمّة وربما تعسُرُ إعادتها، كما في نصه: «فإنَّه يحطُّ الهمم العالية من أوجها إلى حضيضها، وربما يعزُّ عليه أن يحصل همَّةً أخرى يصعد بها إلى موضعه الذي كان فيه».

بواعث الماجريات:

ينبِّه أبو حامد الغزالي على أنَّ من الدوافع التي تجرُّ الإنسان للخوض في هذه الحكايات والأخبار غير النافعة هو الرغبة في إيناس الجلساء!

ومن الأوصاف السلبية المستعملة في لغتنا العصرية اليوم والتي نَصِفُ بها الماجريات والحكايات، وصفها بأنَّها «كلام فارغ»، وهذا التركيب استعمل –أيضًا– لدى علماء المسلمين فقال ابن الجوزي وهو يتوجع من أحوال بعض المنتسبين للعلم في عصره: «فخرج من يُومأ إليه بعلمٍ أو زهدٍ، رأى عنده البطالين يجري معهم في مسلك الهذيان الذي لا ينفع، وأهون ما عليه تضييع الأوقات في «الحديث الفارغ»، فما يرجع المريد عن ذلك الوطن، إلا وقد اكتسب ظلمة في القلب…».

كما استعمله النووي حيث قال: «وليحذر كلَّ الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإن هذا وقت فكرٍ وذكرٍ يقبُح فيه الغفلة واللهو، والاشتغال «بالحديث الفارغ»، فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهيٌّ عنه في جميع الأحوال، فكيف في هذا الحال؟».

وليحذر كلَّ الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإن هذا وقت فكرٍ وذكرٍ يقبُح فيه الغفلة واللهو، والاشتغال «بالحديث الفارغ »، فإنَّ الكلام بما لا فائدة فيه منهيٌّ عنه في جميع الأحوال، فكيف في هذا الحال؟

الإمام النووي

الماجريات الشبكية:

اضطراب إدمان الإنترنت:

مما يشاهد ويلحظ اليوم، وتعضده الدراسات النفسية حصول نوع من الإدمان لدى مستخدمي شبكة الإنترنت، قريبًا من الحالة التي يصبح فيها آخرون مدمنين على المخدرات والكحول والقمار، والذي يظهر أثره في الإخفاق الدراسي، وتدهور الأداء المهني، بل حتى الانفصال الأسري.

إدمان التواصل الشبكي:

هو إدمان شبكات التواصل الاجتماعية، وغرف الدردشة، وألعاب الفيديو، والقمار الإلكتروني، والمواد الإباحية ونحوها، والانهماك فيها.

التصفح القسري:

من الملاحظ أثناء الأوقات الجادّة المخصصة للمهام، كاجتماعات العمل أو الدروس، تتسلّل أيدي بعض الناس مرارًا إلى هاتفه الذكي، ويفتح شبكات التواصل، فهذا «سلوك قهري»، وهو مختلف عن العادة والإدمان بصفة «القهرية»، فالعادة تظلُّ محكومة بالقدرة على السيطرة على الإرادة، بخلاف الإدمان الذي يتحول إلى سلوك قهري.

إغراء أم مهرب؟

أكَّدت عدَّة دراسات أن الانشغال بالإنترنت كثيرًا ما يكون «آلية هروب نفسي» للفرار من تعقيدات المهام والمطالب العلمية والعملية، كأوقات الاختبارات الدراسية أو أوقات العبادة الجادة في رمضان ونحوها.

التصفح الملثم:

من العلامات التي قد تشير إلى إدمان الإنترنت: محاولة إخفاء أو تمويه كمية الوقت المستغرقة على الشبكة خجلاً من إظهاره للآخرين، أو حتى الانتباه له والاعتراف به أمام النفس.

العمى الزمني:

من الظواهر التي كشفتها الدراسة ما يُسمى بالتواء الزمن أو الثقوب الزمنية، وهو استعارة لظاهرة فلكية افتراضية بحيث يبدو المتصل كأنما يقفز من لحظة زمنية إلى أخرى، ويقصدون بها (فقد الإحساس بالزمن) أثناء الاتصال بالشبكة.

مدمنو البيانات:

تحدَّث كثير من مشاهير المشتغلين بالبحث العلمي عن شهوة أو عقدة الاستقصاء، حيث إن الباحث كلما ظنَّ أنه استوعب منطقة البحث، انفتحت عليه أبواب مساحات أخرى، فيتشعَّب ويتفرَّع، ولا يُسعفه الوقت لدراسة هذه المعلومات المتدفقة المتناسلة، وبذات الوقت يعزُّ عليه أن يختم البحث ويستخلص النتائج وما زالت بعض معطياته مجهولة له، فتخور قواه ويدع البحث ليبدأ رحلة «مشروع بحث جديد» هروبًا من الضغط النفسي!

تسلسل التصفح والنبأ المتدحرج:

عند انفتاح عالم الشبكات الاجتماعية مع طفرة الهواتف الذكية، انتقلنا إلى عناصر جديدة هي «الفورية» و«التفاعلية»، من خلال ما يمكن تسميته (مسلسل الخبر، والتعليق على الخبر، والتعليق على التعليق…)، فالمادة الشبكية منظومة روابط يُفضي بعضها إلى بعض.

لحظة التسلل:

ثمة حالات كثيرة للتسلل الشبكي، ونرصد هنا ثلاث حالات: (حالة ضغط المهام، وحالة الاسترخاء بين المهام، وحالة استفتاح العمل).

ويمكن أن يكون التسلل الشبكي في لحظة أخطر، وذلك في لحظات العبادات والاتصال برب العالمين.

الاستمراء بمواطأة النظراء:

نغفل كثيرًا عن خطورة ما نقع فيه، إذا عمت البلوى به، وكثر السائرون في ذات الطريق، فالنفس البشرية بطبيعتها «قَطَوية»، تستروح بالمشابهة كما قال ابن تيمية: «الناس كأسراب القطا تستروح بالمشابهة على تشبُّه بعضهم ببعض»، فما دام طالب العلم يرى طائفة من المنتسبين للعلم والثقافة والتغيير منخرطين في هذه الشبكات التواصلية، فيخفُّ عليه تأنيب نفسه بذلك.

ما المطلوب؟

المطلوب هو التوازن في معاملة نظم الاتصالات، وإيلاء هذه المشكلة حقها من العناية، وألا تقودنا مشاهدة النظراء إلى التساكت المتبادل وتجاهل المعضلة، وخصوصًا في المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي، ولتكن متابعتنا «متابعة منتجة» ومتناسبة مع القدر المطلوب دون طغيان على المهام الأخرى.

يمكن أن يكون التسلل الشبكي حين تتهدج التسابيح، وينجمع الهمُّ على الإخبات والاستكانة لرب العالمين، ويعكف القلب في محراب التعبُّد، وتتعاقب الواردات الرحمانية، فلا يزال شيطان الخطرات ينزغ وينفث، حتى تندسَّ كفُّ الالتفات تنثر شاشات الفضول، فيتبلبل القلب ويتشعَّث الهم، وتتبعثر الخطرات في خلجان المرادات

الماجريات السياسية:

كما مرّ سابقًا في النقطة الخامسة من التمييزات الحاكمة للدراسة فإنَّ مواقف واتجاهات المشتغلين بالعلم والدعوة مع السياسة أربعة: العَلمنة، السَّلطَنة، التعميم، التخصيص.

والمراد من إيراد هذه الأنماط هو بيان أنَّ النمط الرابع -اتجاه التخصيص- هو النموذج الصحيح في التعاطي مع الماجريات السياسية، وقد ركَّز المؤلف على مناقشة الاتجاه الثالث «اتجاه التعميم» الذي يثير إشكالية «القدر الزائد من الانهماك السياسي» أو «التخمة السياسية» من خلال التجارب التاريخية الجادة للعلماء والمفكرين في هذا العصر، وكيف تعاملوا معها، وكيف يمكن أن نستثمر المادة التاريخية في إنعاش الدافعية المشلولة.

وفيما يأتي عدة عينات تمثل تنوعًا معرفيًا وجغرافيًا وموضوعيًا في زاوية النظر النقدي:

البشير الإبراهيمي:

نشأ الشيخ البشير الإبراهيمي (1306هـ -1385هـ) في جوٍّ علميٍّ مميَّز، فلم يبلغ تسع سنين حتى حفظ القرآن مع العديد من متون وكتب ودواوين النحو والبلاغة والشعر والكتب العلمية.

ثم رحل إلى المدينة المنورة في العشرينات من عمره، وكان خلال مكوثه بالمدينة منكبًا على مطالعة وقراءة الكتب في المكتبات العامة والخاصة، حتى استوعب أغلب كتبها.

أنشأ الإبراهيمي مع علماء بلده «جمعية العلماء الجزائريين» لتنظيم نشاطهم في مقاومة المستعمر الفرنسي، فشرعوا ببناء المدارس في أرجاء البلاد، وأسسوا عدة مجلات علمية لبث خطاب إعلامي إصلاحي في البلاد.

وفيما يخص الماجريات السياسية: فالشيخ يميِّز بين أمرين بالنسبة للمراحل العمرية، فالأول: هو المرحلة العمرية الأولى لطالب العلم حيث يجب تركيز الجهد فيها على البناء العلمي وعدم مزاحمته بمتابعة الماجريات السياسية. والثاني: وجوب التمييز بين المتخصص السياسي وغيره في مستوى كمية الاهتمام بالماجريات السياسية.

ويقول: إنَّ «لصوص العقل» أفتك من «لصوص الأموال»…، وإنَّ «لصوص العقول» يتحكَّمون بأبنائكم في مطارح هجرتهم إلى العلم…، يصدُّونهم عن ذكر الله وعن الصلاة وعن العلم، إلى أحاديث يزوِّقونها لهم…، ويصرفونهم عن كتب العلم ودروس العلم، إلى جرائد حزبيةٍ مملوءةٍ بالكذب والنقائص والمهاترات والسباب وشغلوهم بالسفاسف الحزبية، حتى أصبح المقهى أحبَّ إليهم من الجامع، والجريدةُ أحبَّ إليهم من الكتاب، والمناقشاتُ الحزبية أشهى إليهم من المذكرات العلمية.

وركز الشيخ الإبراهيمي على إعادة تعريف السياسة، وأن الإصلاح السياسي لا يقتصر على الاشتغال المباشر بالجدل حولها، بل إن بث العلم وبناء الأخلاق في المجتمع أهم عوامل الإصلاح السياسي، وهذا يعني طبقًا لرؤية الشيخ البشير أن المشتغلين بالتعليم وتصحيح العقيدة وبث التفسير والفقه والتزكية والوعظ والتربية ونشر الثقافة الجادة …إلخ، ليسوا أجانب عن الإصلاح السياسي، بل هؤلاء في قلب عملية الإصلاح، لأنَّهم يبنون الأمة، وكثير من الأغيار يلوك الجدل الهامشي في الأحداث، ويظن نفسه في «كابينة التأثير» وهو مجرد مراقب متفرج، تعيد الضغوط العولمية صياغة مجتمعه معرفيًا وقيميًا وهو مجرد معلّق لا يساهم في البناء والترميم.

يرى البشير الإبراهيمي أن الإصلاح السياسي لا يقتصر على الاشتغال المباشر بها وبالجدل حولها، بل إن بث العلم وبناء الأخلاق في المجتمع أهم عوامل الإصلاح السياسي، فالمشتغلون بالتعليم وتصحيح العقيدة وبث التفسير والفقه والتزكية والوعظ والتربية ونشر الثقافة الجادة، يدورون في قلب عملية الإصلاح، لأنَّهم يبنون الأمة،

مالك بن نبي:

مفكر جزائري (1323هـ – 1393هـ)، انخرط في نشاط فكريٍّ وسياسيٍّ بين المغتربين العرب والجزائريين في فرنسا، وشارك في تأسيس «جمعية الوحدة المغاربية» تحت إشراف الأمير شكيب أرسلان، وأصبح ممثلاً للجزائر فيها، وفي مارسيليا أشرف على نادي «المؤتمر الجزائري الإسلامي»، وفي عام 1956 أقام بالقاهرة حيث سخَّر نفسه وقلمه لخدمة ثورة التحرير الجزائرية.

نشر كتبه باللغة الفرنسية ومن أهمها كتابه شروط النهضة (1949م) حيث أجمل فيه عامة أفكاره ونظراته ومفاهيمه ومصطلحاته.

أما الموضوعات التي عالجها مالك بن نبي فيمكن القول بأن كلامه كان يدور حول سؤالين رئيسين:

1-كيف نقاوم الاستعمار. 2- كيف ننشئ الحضارة؟

وفيما يخص الماجريات السياسية، يقول مالك بن نبي:

إن «المنطق العملي»، أو الفعالية والعمل، هو معيار تقييم المشاغل السياسية وحركات التغيير في الواقع الذي يرصد وينتقد.

حيث يثمِّن جهود العلماء الإصلاحيين، ويتحدث عن الفعالية الحقيقة على الأرض التي تشارك فيها الأمة في بناء المدارس والمساجد ونحوها، ويسوؤه انشغال الجميع بالخطابات السياسية عن العمل والإنتاج الفعلي على الأرض، وانتقالهم للثرثرة السياسية في المقاهي، ومتابعة الماجريات السياسية.

ومن مقولاته التي تلخص هذه الفكرة: «وأن المجتمع بعد انخراطه في الخطابات السياسية التي تطالب بالحقوق وتهمل الواجبات والانهماك في الجدل حول الانتخابات هي التي ستحل أزمات الواقع وترتقي بالمجتمع وتصنع التقدم والحضارة، ولذلك انتهى أخيرًا إلى تشبيه الاستغراق في المطالبة السياسية بالحقوق بخرافات المتصوفة، وأطلق عليها لقب «الدروشة السياسية»، وأن الدروشة الصوفية تبيع الحُروز والتمائم، والدروشة السياسية تبيع أوراق الانتخابات والأماني الخيالية».

أبو الحسن الندوي:

ولد الشيخ أبو الحسن الندوي (1333ه – 1914م) ونشأ في بيت علم، وتعلم عدة لغات، وعُيِّن مدرسًا في جامعة (دار العلوم – ندوة العلماء)، ومن هنا اكتسب لقبه (الندوي) لانتمائه لندوة العلماء.

ويشتهر الندوي بكتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) والذي جاء تغييرًا لطريقة التفكير السائدة حول خسائر ومعاناة المسلمين أمام التقدم الغربي، ليكون السؤال معكوسًا بصيغة عنوان الكتاب، كما طاف الشيخ بلدان العالم الإسلامي يلتقي الدعاة والمصلحين الإسلاميين، ويتشاور معهم ويتبادل الخبرات حول إصلاح الواقع المسلم، ويلقي المحاضرات والخطب، حتى بات شخصية إسلامية عالمية.

وللشيخ الندوي جهد كبير في التصدي للتأصيل الذي طرحه الشيخ المودودي حول جعل السلطة هي أساس رسالة الإسلام، وأوضح الشيخ الندوي أن هذا التفسير سيفضي لأربعة مآلات، هي:

1-إدانة التاريخ الإسلامي بأنه لم يفهم أساس القرآن.

2-تضخم حضور السياسة والمشروع السياسي والماجريات السياسية في الخطاب الدعوي على حساب بقية جوانب الدين.

3-التزهيد في مقاومة الشركيات التي حاربها الأنبياء.

4-إعادة تأويل الشعائر بأنها وسائل لتحقيق الغايات السياسية الإسلامية.

وهكذا عالج الشيخ الندوي مسألة الاستغراق في الماجريات السياسية من زاوية «التأصيل الشرعي»، وهذه المعالجة لم تصدر من شخصية على هامش الأحداث، بل هو شخصية فاعلة مؤثرة، فضلًا عن كونه أحد النجوم في تاريخ الدعوة المعاصرة، سواءً بالإنتاج في الفكر الحديث، أو بالمشروعات العملية المؤسسة في الهند وخارجها.

عبد الوهاب المسيري:

يُنظر للدكتور عبد الوهاب المسيري (1357ه– 1429هـ) باعتباره «شخصية فكرية مرموقة» وباعتباره «صاحب مشروع فكري»، وأشهر أعماله التي لها حضور واهتمام كبير: (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – موسوعة «إشكالية التحيز» – العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة – وسيرته التي نشرها في كتاب ضخم بعنوان «رحلتي الفكرية»).

ويمكن القول بأن منطقتي العمل في كتابات المسيري «الفكرية» هما: دراسة وتفسير الظاهرة اليهودية معرفيًا، ونقد الحداثة الغربية ومنتجاتها الفكرية.

وفيما يخصُّ الماجريات السياسية، يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أنَّ مشروعه الفكري مشروع «معرفي»، ويرى أنَّ هذا البعد المعرفي يتطلَّب الاجتهاد في التمعُّن والتأمُّل المنظَّم للوصول إلى الكلِّيات والبنى والمنظورات، ويرى أن متابعة الأحداث والماجريات اليومية عبر الإعلام يجرُّه إلى دوامة الحدثية والوقائعية، فيشل قدرته على الإنتاج ويحوله إلى «كاتب حدثي».

وطرح المسيري عدَّة مفاهيم منها مفهوم «الانفصال المؤقت عن الواقع»، ومفهوم «العزلة النسبية»، ومفهوم «الانغلاق النسبي»، حيث يقول:

«كنت في الولايات المتحدة عام 1967م حينما وقعت النكسة، وقد احتفل الإعلام الأمريكي احتفالا هستيريًا بالانتصار الإسرائيلي، ومع هذا فقد بدأت رسالتي للدكتوراه بعد الحرب مباشرة، متجاهلًا الصحف اليومية والتلفزيون والهستيريا الإعلامية، ثم نشبت حرب سنة 1973م وكنت مشغولًا بكتابة موسوعة 1975م، والتصقت زوجتي مثل معظم المصريين بالتلفزيون، واستمررت أنا في عملي ولم أتوقف..».

فبرغم ضخامة هذه الأحداث وانشغال الناس حينها بالمتابعة التفصيلية للإعلام، إلا أنه استمر في جعل علاقته بعالم الماجريات السياسية علاقة مجملة ثانوية ولم ينهمك فيها عن إنجاز مشروعه المعرفي.

فالدرس الذي حرص المسيري على إيصاله هو: أن الإنتاج العلمي الذي يعتني بالكليات والبنى المعرفية قد يحتاج إلى استقلال نسبي عن الانهماك في متابعة الماجريات السياسية والأحداث اليومية، وأنه يكفي الاطلاع على مجملات هذه الأحداث، وأن الإنتاج في هذه الحقول هو من الإصلاح.

د. فريد الأنصاري:

من خلال استعراض سير العلماء والدعاة الذين اعتنوا بإشكالية (منزلة السياسة في الخطاب الدعوي) وما يتفرع عنها من الاشتغال بالماجريات السياسية، يبدو الدكتور فريد الأنصاري من أغزرهم إنتاجًا حول هذه الإشكالية والعناية بتحليلها ودراستها والتأصيل حولها.

وكان نشاط الشيخ الأصولي القرآني د.فريد الأنصاري (1380 – 1430 هـ)، يدور حول عدة مستويات منها:

المحور العلمي الأكاديمي، ومحور الكتابة التزكوية، ومحور تجربة العمل الإسلامي الدعوي الحركي، ومحور الكتابة النقدية التأصيلية في «الفكر الدعوي»، وكان للشيخ كتابات إيمانية بلغة تجديدية، وتجارب غنية في العمل الدعوي الحركي المؤسسي.

التضخم السياسي:

وممّا ركَّز عليه الدكتور فريد خلال تجربته الحركية في العمل الدعوي، أنَّ الشباب انجفل في الاستغراق في الماجريات السياسية على حساب التزكية الإيمانية، وتورَّمت الماجريات عندهم وضمُرت التغذية الإيمانية.

وللدكتور رحمه الله في تأصيل إشكالية العلاقة بين الحقل السياسي والمشروع الدعوي دراسات أخرى مثل: «التضخم السياسي، الأخطاء الستة، الفطرية»، وكان يتحزّن ويلتعج وهو يروي قصة شباب كان يراهم من حوله يذوقون حلاة الإيمان ثم ما زالت بهم الماجَرَيَات السياسية حتى فقدوا الشعور بهويتهم الإسلامية، وحتى تحوّلوا من دعاة يوظفون السياسة لإصلاح المجتمع، إلى مجرد أدوات توظفهم السياسية للتربيت على الغطيط الاجتماعي.

وفي الختام:

فالدوران في تروس الماجَرَيات الفكرية والسياسية يزيح المرء عن الجهود الجادة والمنظمة في المعرفة والإيمان والإصلاح، وينتهي بصاحبه إلى حالة (كثرة الثرثرة وشح العمل)، ويخلق الوعي المزيف بأنْ يتوهم المرء أنّه في كبد مشروعات الإصلاح، بينما هو بعيد كل البعد عن العمل.

وبعد هذه الجولات في الماجريات الشبكية والفكرية والسياسية ستبقى المسألة أولًا وآخرًا مسألة «توازن»، ويجب أن لا نستسلم لحالة الانجراف في دوامة الماجريات بسبب تتابع كثير من الناس على ذلك، ويجب أن تكون هناك نقطة توقف تعاد فيها الحسابات بشكل دقيق، فبسبب هذا الغوص في الماجريات اليومية باتت أنفاس الزمان تغادر فارغة، وجمعية القلب على الله تتبعثر، والكتب المشتراة على حالها منذ آماد، والإنتاج الإصلاحي قد تجمّد، وآل الأمر إلى «كثرة الكلام وقلة العمل» ولا شيء أكثر حزنًا من أن يتوهَّم الماجرياتي أنَّه في قلب عملية التغيير وفقه الواقع وهو مجرَّد مُراقب ومُتفرج لا غير.


[1] موقع المرسال الإلكتروني، موقع أبجد الإلكتروني.

مدوِّن، ومتخصص في صناعة المحتوى والإنتاج الإعلامي.
X