الأمة التي لا تقرأ تاريخها ستظل تكرر أخطاء الماضي، وتدفع ضريبة ذلك من حياتها واستقرارها وأمنها الوجودي. الكتاب الذي بين أيدينا صادم مؤلم، يحكي قصة (الصفوية) في إيران، ويستعرض صفحاتٍ من تاريخها الدموي، ويميط اللثام عن وحشيةٍ وهمجيةٍ قلَّ أن يوجد لها نظير في التاريخ، وهو جدير أن يقرأ لأنّ فيه من العبر قدر ما فيه من الفواجع، وفيه من الحقائق الصادمة قدر ما فيه من الوقائع المؤلمة.
كان قيام الدولة الصفوية في إيران حدثًا مهمًا في تاريخ إيران والمنطقة والعالم؛ فإضافةً إلى دَورها الحاسم في تغيير هوية الشعب الإيراني الدينية والثقافية، واختطاف إيران إلى مسارٍ تاريخيٍ معاكسٍ ومصادمٍ للأمة الإسلامية، شكّل قيامها طوق نجاةٍ لأوروبا التي أوشك العثمانيون أن يسيطروا عليها كلها؛ فكانت إيران الصفوية هي التي حالت بين أوروبا وبين ورطة الهلاك العثمانية كما جاء على لسان سفير أوروبي[1].
ولا زالت الصفوية اليوم -فِكرًا وممارسةً- حاضرةً بقوة، ولا زالت خنجرًا داميًا في خاصرة العالم الإسلامي.
التعريف بالكتاب والمؤلف:
عنوان الكتاب: إيران الصفوية.. كيف صار اﻹيرانيون شيعة صفويين؟
المؤلف: أمير حسن خُنجي، باحث إيراني، حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة طهران، غادر إيران عام ١٩٨٣م، يعمل على مشروع كتابة التاريخ اﻹيراني واﻹسلامي في عصوره المختلفة.
معلومات النشر: الناشر: مكتبة النافذة، القاهرة، مصر، ط١، ٢٠١٠م. ترجمة: د. أحمد حسين بكر. عدد صفحات الكتاب (٤٤٣) صفحة.
نظرة عامة على الكتاب وأهمية موضوعه:
عاشت إيران تسعة قرون تقريبًا تتفيأ ظلال اﻹسلام ومذهب أهل السنّة والجماعة، وظهر منها علماء أفذاذ أسهموا في مسيرة الحضارة اﻹسلامية وخدموا علوم الشريعة في كافّة فروعها، لكنّ مسيرة العطاء والإسهام الحضاري انقطعت؛ نتيجة للانتكاسة المريعة التي حدثت بعد قيام الدولة الصفوية في إيران سنة (905هـ/ 1500م)[2].
وكتاب: “إيران الصفوية.. كيف صار اﻹيرانيون شيعة صفويين؟” لمؤلفه أمير حسن خُنجي، يسلط الضوء على الصفويين (القزلباش) وكيف تمكّنوا من تغيير هوية الشعب الإيراني، وفرض أفكارهم ومعتقداتهم المتطرّفة عليه بالحديد والنار، وبأساليب هي غاية في الوحشيّة والهمجيّة، وتكمن أهمية الكتاب في صدوره عن باحث ينتمي قوميًا ﻹيران ومذهبيًا للتشيع، وبالتالي ﻻ يمكن اتهامه بالتحيّز القومي والمذهبي ضد إيران ومذهبها الديني السائد فيها اليوم.
يقدّم الكتاب عرضًا تفصيليًا موثقًا للجرائم الصفوية بحقّ الإيرانيين الذين كانوا في أغلبيتهم يومذاك مسلمين سنّة، ويتتبّع مسيرة الخراب والتدمير والإبادة والجرائم الوحشية التي اقترفها الصفويون في المدن الإيرانية واحدة تلو الأخرى، حيث لم ينجُ من التوحّش الصفوي غير مدينتين هما: قمّ وكاشان؛ لأنّ سكانهما كانوا شيعة اثني عشرية، وهما المدينتان الوحيدتان اللتان احتفلتا بالصفويين وجلس الأعيان فيهما -وفيهم فقهاء من الاثني عشرية- في مجلس إسماعيل الصفوي يشاركونه كؤوس الخمر فرحًا وابتهاجًا بقتل الإيرانيين واغتصاب أعراضهم وحرق وتدمير مدنهم!
إنّ من يعتقد أنّ الإيرانيين تشيّعوا لأنّهم فرس سيكون عليه مراجعة قناعته هذه بعد قراءته للكتاب؛ لأنّ الحقيقة التي يجلّيها الكتاب هي أنّ الإيرانيين كانوا أكبر ضحيّة للتشيع، وذاقوا من ويلاته وجرائمه ما لم يذقه غيرهم، حدث ذلك حين أقبل غلاة الشيعة التتار (القزلباش) من صحاري وقفار الأناضول تحت الراية الصفوية (يثأرون لدم الحسين من شعب إيران)! وكان الإيرانيون يومها في أغلبيتهم مسلمين سنّة، وقد نكل بهم الصفويون تنكيلاً قلَّ أن يكون له نظير في التاريخ هذا إن وجد له نظير أصلاً! وتحت وطأة ذلك التوحّش والإجرام تم فرض التشيع الاثني عشري على إيران، ولولا ذلك لكان سكان إيران اليوم في أغلبيتهم مسلمين سنّة شأن بقية المسلمين في العالم.
لقد كان القزلباش الصفويون كارثة تفوق التصوّر نزلت بساحة الإيرانيين، وقد أوجز مؤلف الكتاب حجم تلك الكارثة بقوله: (تلقى جسد إيران تلك الضربة التي لم يستطع أن يقيم ظهره من أثرها حتى اليوم).
إنّ من يعتقد أنّ الإيرانيين تشيّعوا لأنّهم فُرس سيكون عليه مراجعة قناعته هذه بعد قراءته للكتاب؛ لأنّ الحقيقة التي يجلّيها الكتاب هي أنّ الإيرانيين كانوا أكبر ضحيّة للتشيع، وذاقوا من ويلاته وجرائمه ما لم يذُقه غيرهم
أبواب الكتاب وفصوله:
جاء الكتاب في أربعة أبواب على النحو اﻵتي:
• الباب اﻷول: اﻷسرة الصفوية وظاهرة القزلباش.
• الباب الثاني: إقامة حكم القزلباش.
• الباب الثالث: تحريضات القزلباش الصفويين في البلاد العثمانية ونتائجها الكارثية.
• الباب الرابع: النتائج الثقافية واﻻجتماعية لظهور القزلباش في إيران.
وفيما يلي قراءة لأهمّ ما جاء في كلٍّ منها:
الباب اﻷول/ اﻷسرة الصفوية وظاهرة القزلباش:
في هذا الباب تتبّع الباحث جذور نشأة الصفويين، والتطوّر الذي طرأ عليهم من جماعة صوفية تنتمي إلى أهل السنّة وتتبع مذهب الإمام الشافعي، إلى جماعة تعتنق اﻷفكار الشيعية المتطرّفة، وتنتهج سبيل الدم والتوحّش لنشر أفكارها وإقامة دولتها.
وقد تضمّن الباب فصلين:
الفصل الأول: اﻷسرة الصفوية.
والفصل الثاني: منشأ القزلباش وعقائدهم.
ويمكن تلخيص أهم ما جاء في الفصلين في النقاط التالية:
1/ التصوف في العهد المغولي:
تحت هذا العنوان أوضح المؤلّف مدى سطوة وانتشار التصوّف في القرن السابع الهجري وهو القرن الذي عاش فيه صفيّ الدين الأردبيلي، صاحب الطريقة الصوفية التي عرفت بالصفوية نسبة إلى اسمه (صفيّ)، واستعرض المؤلف الارتباط الوثيق بين انتشار التصوّف خلال الفترة التي حكم فيها السلاجقة اﻷتراك ومن جاء بعدهم، وبين ظهور الصفويين على مسرح الأحداث.
2/ صفيّ الدين اﻷردبيلي:
ولد صفيّ الدين سنة (650هـ/1252م) في قرية (كلخوران) التابعة لأردبيل، وورث المذهب الشافعي عن أبيه وأجداده، وسلك في طريق التصوف حتى تمكّن سنة (700هـ/1300م) من إقامة زاويته الصوفية في أردبيل، وجمع المريدين حوله، وقد حظيت زاويته برعاية واهتمام الحكام المغول، فأغدقوا عليه العطايا والهبات، حتى وفاته سنة (735هـ/1334م).
3/ أبناء صفيّ الدين:
بعد وفاة صفيّ الدين تولى ابنه صدر الدين -بوصيّة منه- رئاسة الزاوية، وشرع صدر الدين في بناء قبّة عظيمة على قبر أبيه جاعلاً من قبره مزارًا كبيرًا، واستمر أمراء المغول في إغداق العطايا والهبات على الزاوية، لا سيّما الأمير المغولي الشهير تيمورلنك (832هـ/1428م).
وبعد وفاة صدر الدين تولّى ابنه (عليّ) رئاسة الزاوية، وكان الأمير تيمورلنك يعتقد فيه الكرامات؛ فدعم الزاوية بسخاء، وبلغ من دعمه لها أن أوقف أردبيل وما حولها من مزارع وضياع للإنفاق على شؤون الزاوية.
أخطر هبة في التاريخ:
في سنة (802هـ/1399م) قاد تيمورلنك حملة عسكرية على الأناضول (تركيا) وعاد منها بآلاف الأسرى من الشباب التتري، وقدّمهم هبةً للزاوية الصفوية، وكان هؤلاء الشباب التتري هم نواة الجيش الصفوي، والذين عرفوا باسم (القزلباش) وسيأتي معنا سبب هذه التسمية.
توفي عليّ بن صدر الدين سنة (831هـ/1427م) تاركًا زعامة الزاوية من بعده لولده إبراهيم، في ظل استمرار الدعم السخي للزاوية من الأمراء المغول.
نشوب الصراع على الزاوية وبداية التحوّل الخطير:
في سنة (851هـ/1447م) توفي إبراهيم فاندلعت الحرب على رئاسة الزاوية بين ولده الجنيد وعم الجنيد جعفر، وكان العمّ يدّعي وراثة أخيه، والابن يدعي وراثة أبيه، وكلّ منهما يطمع في الحصول على إيرادات الزاوية ومكاسبها، وانحاز (جهانشاه) الذي كان يسمّي نفسه ملك إيران حينها إلى جانب جعفر، وانهزم الجنيد بن إبراهيم وفرّ إلى الأناضول برفقة الموالين له وهم أولئك التتار الأناضولية الذين أهداهم تيمورلنك للزاوية، وتلك كانت بداية التحوّل الخطير الذي كان له ما بعده.
شكَّل غلاة التصوف في منطقة الأناضول وبلاد فارس جسرًا لنقل كثير من المتصوفة أهل السنة إلى المعتقدات الشيعية الباطنية، والتي بدورها تشربت كثيرًا من العقائد المنحرفة من اليهود والنصارى
الجنيد بن إبراهيم الصفوي من التصوّف إلى الغلو الشيعي المفرط:
حين وصل الجنيد بن إبراهيم إلى الأناضول تعرّف على طريقة صوفية شيعية هي الطريقة البكتاشية نسبة الى مؤسسها (حاجي بكتاش ولي)، وهي طريقة استقت عقائدها من أديان وفلسفات شتّى، ومن ذلك أنّها جمعت بين وحدة الوجود عند ابن عربي، وعبادة المسيح عند النصارى، وتأليه عليّ عند غلاة الشيعة، وعبادة الأسلاف عند التتر[3].
وقد تولى رئاسة الفرقة بعد (حاجي بكتاش ولي) عدد من أتباعه كان أخطرهم (بدر الدين) الذي أسقط عن أتباعه فرائض الصلاة والصيام والزكاة والحج، وأباح لهم المحرمات: الخمر والزنا وعمل قوم لوط، وكان الأمر الوحيد الواجب في طريقته هو محبّة (الإمام عليّ) والطاعة المطلقة لشيخ الطريقة، والجهاد لنشر دينه هذا.
وكانت لبدر الدين طموحاته السياسية، فدبّر مؤامرة للانقلاب على السلطة العثمانية، وقاد تمرّدًا مسلّحًا أقام خلاله مذابح للمسلمين (أهل السنّة)، وقد تمكن الجيش العثماني من القضاء على تمرّده بعد خسائر فادحة، وأعدمته الدولة العثمانية شنقًا سنة (823هـ/1420م).
وهذه الأحداث وقعت في الأناضول قبل قدوم الجنيد إليها بسبع وعشرين سنة.
وعندما سمع أتباع الطريقة البكتاشية بقدوم الجنيد ذهبوا إليه للتعرّف عليه وعلى أفكاره، وعرف الجنيد أنّ البكتاشية لا زعيم لهم بعد مقتل شيخهم بدر الدين، فطمعت نفسه في زعامتهم، فشرع في جذبهم واستمالتهم إليه، واستشعرت السلطات العثمانية خطورة هذا الأمر، وتحت ضغوطها رحل الجنيد مع أتباعه، وظلّ يرحل من مكان إلى آخر حتى استقرّ به المقام في الإسكندرون، وكانت منطقة الإسكندرون وجارتها أنطاكية مركزًا تاريخيًا للشيعة الذين تسمّوا بـ (أهل الحق)! وهم الذين يعتقدون بألوهية علي بن أبي طالب، وكان سكان هاتين المدينتين الذين انتقلوا من المسيحية الرومية العابدة للمسيح إلى الإسلام قد فعلوا بالإمام عليّ بعد إسلامهم ما فعلوه بالمسيح، وكانوا يصفون عليًا في ذلك الوقت بالصفات الإلهية التي كانوا يصفون بها المسيح من قبل، واعتقد هؤلاء أنّ في السماء إله هو الله، وفي الأرض إله آخر هو عليّ.
وفي الإسكندرون انسلخ الجنيد عن دين الإسلام انسلاخًا كاملاً، فأسقط عن أتباعه الفرائض الدينية، وأباح لهم المحرمات، وبعبارة موجزة: تحوّل إلى نسخة ثانية من بدر الدين، ثم ادعى أنّه من نسل علي بن أبي طالب ونسب نفسه إلى موسى بن جعفر، وعلى درب بدر الدين بدأ بشنّ الحروب والغزوات على القرى والبلدات الآمنة حتى لقي مصرعه في إحدى المعارك سنة (864هـ/ 1459م).
كانت منطقة الإسكندرون وجارتها أنطاكية مركزًا تاريخيًا للشيعة الغلاة الذين تسمّوا بـ (أهل الحق)! وبعد أن تركوا المسيحية.. فعلوا بعليّ رضي الله عنه ما فعلوه بالمسيح عليه السلام، فوصفوا عليًا بالصفات الإلهية التي كانوا يصفون بها المسيح من قبل، واعتقد هؤلاء أنّ في السماء إلهًا هو الله، وفي الأرض إلهٌ آخر هو عليّ رضي الله عنه.
حيدر بن الجنيد وبكتاشية الأناضول:
حين قُتل الجنيد كان له طفل اسمه حيدر له من العمر عامان، وقد نصبه البكتاشية شيخًا لهم وهو في هذا السن مستندين إلى نظرية الشيعة الاثني عشرية في أنّ الإمام يولد مكتسبًا للإمامة، ومتى مات الإمام السابق فإنّ ابنه يصبح إمامًا وإن كان طفلاً.
وبدعم من أحد الملوك المتحالفين مع البكتاشية ويدعى (أوزون حسن) تم انتزاع رئاسة زاوية صفيّ الدين في أردبيل من (جعفر الصفوي) وتسليمها لحيدر وكان عمره حينذاك تسع سنوات.
أشرف كبار الشيوخ في البكتاشية على تربية حيدر فلقّنوه العقائد الشيعية والباطنية المتطرّفة، إضافة إلى التدريبات العسكرية والقتالية، وكان في أكثر أوقاته منصرفًا إلى صناعة الحراب والسيوف والدروع، وتدريب مريديه على القتال، وتكديس أنواع السلاح، مستفيدًا من الموارد المالية الكبيرة للزاوية.
ودعا حيدر صراحة إلى تأليه علي بن أبي طالب، وأسقط عن أتباعه الواجبات الشرعية من صلاة وصيام وزكاة وحج، وأباح لهم المحرمات.
وفي سنة (884هـ/1479م) أمر حيدر أتباعه ومريديه بلبس زيّ خاصّ موحّد، وهو أن يضعوا على رؤوسهم قلنسوة من اللباد الأحمر باثنتي عشرة طيّة، ترمز إلى الأئمة الاثني عشر، ومنذ ذلك الوقت تلقب أتباعه وغالبيتهم من تتار الأناضول بلقب (قزلباش) والذي يعني أحمر الرأس.
وبدأ حيدر بشنّ حروبه على أذربيجان؛ كون أهل أذربيجان في ذلك الوقت مسلمين (أهل السنّة) “وأعلن لخلفائه في فتوى سرّيّة أنّ أهل السنّة في حكم الكفّار، وأنّ الفقهاء السنّيين أعداء الله، ويخرج من الدين كلّ من يتبعهم أو يقلدهم، ويلحق بالكفار ويجب قتله”.
وتحت عنوان “جهاد الكفار”: أطلق (القزلباش) نحو مدن أهل السنّة، بدءًا من مدينة أردبيل التي عاثوا فيها فسادًا ثم المدن الأخرى مثل شروان وداغستان وأذربيجان.
وفي سنة (893هـ/1488م) قاد بنفسه ستة آلاف قزلباشي وهاجم بهم القرى والمدن السنّية في نواحي (بردع) و(محمود آباد) و(شماخي) وأقام مذابح لسكانها، وقتل الفقهاء والمدرّسين وأئمة المساجد، وأضرم النيران في المساجد والمدارس الدينية.
كان الشيخ حيدر ابن عمة السلطان يعقوب بن أوزون حسن، والتي كانت تشفع لولدها عند السلطان كلما ضجَّ الناس من اعتداءاته وجرائمه، ولم يكن السلطان يعقوب راضيًا عن سلوك القزلباش، وقد استدعى شيخهم حيدر وأخذ عليه التعهدات بالتوقف عن أعمال القتل والتخريب والنهب، ولكن دون جدوى، وبسبب تمادي القزلباش في أعمالهم الإجرامية لم يجد السلطان يعقوب بدًا من حربهم، فوقعت معركة بينه وبينهم سنة (893هـ/1488م) تمكن فيها السلطان يعقوب من هزيمة القزلباش وقتل زعيمهم حيدر؛ ولأن (حيدر) كان قد أسرف في جرائمه بحق أهل أذربيجان، وكان أهل أذربيجان غاضبين من السلطان يعقوب ويحملونه المسؤولية؛ فقد أمر -لإخماد غضبهم وسخطهم عليه- أن يطاف برأس حيدر في شوارع أذربيجان وأن يلقى به بعد ذلك للكلاب.
وأمر السلطان أيضًا بتعطيل الزاوية الصفوية في أردبيل ومصادرة أموالها، فانكمش القزلباش وعادوا إلى قبائلهم في صحاري الأناضول.
عودة القزلباش من جديد:
في سنة (896هـ/1490م) توفي الملك يعقوب، فدخلت البلاد الإيرانية بعد وفاته في صراع محتدم، وحروب طاحنة بين المتنازعين على الملك من أولاده وغيرهم.
وفي خضم الصراع قرّر أحد الأطراف المتصارعين ويدعى (رستم بيك) الاستعانة بالقزلباش فأعاد فتح زاوية أردبيل وأعاد أولاد حيدر إليها.
وما إن سمع القزلباش المشتّتين بين قبائلهم في الأناضول بخبر إعادة فتح زاوية أردبيل وعودة أبناء حيدر إليها حتى توافدوا إليها من جديد، وكان لحيدر ثلاثة أبناء هم: علي وإبراهيم وإسماعيل، وقد قاد عليٌّ القزلباش في مواجهات مع خصوم رستم بيك، وتمكّن من تحقيق بعض الانتصارات، لكنّ القزلباش خرجوا عن السيطرة، فبسطوا “يد الاعتداء في أرواح الناس وأموالهم في أردبيل والقرى المجاورة، وجعلوا الجهاد ضد السنّيين عنوان عملهم، واغتالوا العلماء بأذربيجان بأساليب مختلفة، وأضرموا النيران في الكثير من المساجد والمدارس”؛ الأمر الذي اضطر (رستم بيك) إلى إغلاق الزاوية والأمر بالتحفّظ على أولاد حيدر الثلاثة: علي وإبراهيم وإسماعيل، لكنّ مقاتلي القزلباش تمكّنوا من تخليصهم والهروب بهم، ومن الأمور الغامضة في تاريخ الصفويين اختفاء عليّ الذي يُقال إنّه قتل أثناء محاولة الهروب من ملاحقة جنود رستم بيك، وأيضًا اختفاء إبراهيم من مسرح الأحداث، وبقاء إسماعيل فقط.
الباب الثاني/ إقامة حكم القزلباش:
وتضمن فصلين: الأول: الشاه إسماعيل الصفوي. والفصل الثاني: سيطرة القزلباش على إيران، ويمكن تلخيص ما جاء في الباب في النقاط التالية:
[1] الشاه إسماعيل الصفوي:
يُعدّ إسماعيل بن حيدر بن الجنيد بن إبراهيم بن علي بن صدر الدين بن صفي الدين اﻷردبيلي، المولود في أردبيل سنة (892هـ/1487م) أخطر الشخصيات الصفوية، وأكثرها إجرامًا وفسادًا في الأرض، وهو صاحب الدور الخطير والكبير في تغيير هوية إيران، وصبغها بالصبغة الشيعية.
نشأ إسماعيل على العقائد الشيعية المتطرّفة إلى جانب التنشئة العسكرية على يد المربين البكتاشية من تتار اﻷناضول. وعرف بميله منذ طفولته إلى سفك الدماء وإزهاق أرواح الحيوانات عبثًا، وعلى نهج أبيه وجدّه أسقط عن أتباعه الفرائض الشرعية، وأباح لهم المحرمات، وكان فاسدًا منحلّ الأخلاق مدمنًا على شرب الخمر، مشتهرًا بعمل قوم لوط، حتى إنّ أتباعه يذكرون في سيرته أنّه كان يمارس شذوذه مع العدد الكبير من الغلمان.
لقد كان الدين في مفهوم إسماعيل الصفوي ومريديه القزلباشية يتلخّص في إسقاط الفرائض الشرعية وإباحة المحرمات، وتأليه علي، والبكاء واللطم على الحسين، وسبّ صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وطلب ثأر الحسين من المسلمين (أهل السنّة)! وأطلق إسماعيل الصفوي وأتباعه على دينهم هذا اسم: (المذهب الحق)! وعلى دين الإسلام اسم: (المذهب المنسوخ)!
[2] حروب إسماعيل الصفوي وجرائمه بحقّ المسلمين في إيران:
في أوّل تحرّك عسكري لإسماعيل الصفوي اجتمع له سبعة آلاف مقاتل قزلباشي، غزا بهم مدينة شروان، واحتفل بالنصر بإقامة منارة من جماجم القتلى، ولأنّ الغنائم كانت كبيرة خشي إسماعيل من عودة القزلباش إلى ديارهم في الأناضول، فأمرهم بإلقاء كلّ ما غنموه في النهر متعلّلاً بأنّ الشروانيين سنّيين ومالهم نجس.
ثم سيطر على مدينة باكو (سكانها مسلمون سنّة وتقع على الناحية الغربية من بحر الخزر)، وبعدها تحرّك نحو مدينة تبريز، وقام شخص يدعى (زكريا حجّي) كان ذا سمعة حسنة وله احترام عند أهل تبريز بإقناع قادة وفقهاء المدينة بتسليم المدينة لإسماعيل الصفوي زاعمًا لهم أنّ إسماعيل حفيد رجل صوفي عظيم هو صفي الدين، وأنّه صوفي يحبّ الخير للجميع ولا يضمر شرًا لأحد؛ فسلّم أهل تبريز مدينتهم طواعية للصفويين سنة (907هـ/1501م)، وكان سكان تبريز حينها يزيد عددهم عن مائتي ألف، وكلّهم مسلمون ومذهبهم الفقهي هو المذهب الشافعي.
ولأنّ مدينة تبريز كانت مدينة كبيرة وعامرة، فقد جعل الاستيلاءُ عليها إسماعيلَ الصفوي يشعر بفخامة الإنجاز؛ فلقّب نفسه بلقب شاه إيران، وأصبح من يومها يعرف بالشاه إسماعيل.
وكان العرف أنّه إذا سلّم أهل مدينة مدينتهم طوعًا دون قتال فإنّهم يكونون في أمان من التعرّض لأيّ اعتداء يمسّهم في أرواحهم أو أموالهم أو دينهم، غير أنّ إسماعيل الصفوي لم يعر ذلك اهتمامًا، وقرّر أن يجبر أهل تبريز على الانسلاخ من الإسلام (المذهب المنسوخ) والدخول في دينه (المذهب الحقّ)!
كان اليوم التالي لدخول الصفويين لمدينة تبريز هو يوم الجمعة، “ودخل الشاه إسماعيل المسجد الجامع بتبريز في ذلك اليوم، وأمر بأن يقف قزلباشي بسيف مسلول بين كل رجلين من الجالسين في المسجد، وأن يضربوا على الفور عنق من يظل صامتًا إذا ما صعد هو المنبر، وطلب من الناس أن يتبرؤوا من المذهب المنسوخ، ويلعنوا أبا بكر وعمر وعثمان، وصعد إسماعيل المنبر ووقف عليه، وخاطب جمع الحاضرين في المسجد بدون أية مقدمات قائلاً: “تبرؤوا من السنّيين والعنوا أبا بكر وعمر وعثمان”، وصاح القزلباش الذين كانوا قد وقفوا بين الناس بالسيوف المسلّة بلعنهم، وقالوا: “فليكثر اللعن ولا يقلّ” ولكن الحضور أطلقوا ألسنتهم بالاعتراض، وعلت أصوات الناس بالضجيج، فكرّر الشاه اللعن، وقال بصوت عال: “سيقتل كلّ من لا يقول”.
“وكان يهزّ سيفه بانتظام ويخاطب الناس آمرًا وبلغة نصف تركية ونصف فارسية قائلاً: “العنوا أبا بكر وعمر وعثمان، وتبرّؤوا من أعداء الله والنبي”!
ولما لم يستجب المصلّون لأوامره: أمر القزلباش الواقفين بين الصفوف بضرب أعناق الجميع، وكانت مجزرة مروّعة حوّلت الجامع إلى بركة من الدماء والأشلاء، ولم يستطع أحد النجاة بروحه سالمة من يد القزلباش إلا من أعلن البراءة واللعن فرارًا من القتل.
ومنذ ذلك اليوم أصبحت مدينة تبريز ساحة للقتل الجماعي والحرق والنهب والاعتداء على الأعراض. وتم إلقاء القبض على كلّ الفقهاء والمدرّسين والأئمة والقضاة لإجبارهم على سبّ ولعن أبي بكر وعمر وعثمان وأم المؤمنين عائشة، ومن لم يستجب كان مصيره القتل، فقتل الكثيرون، وأضرمت النيران في منازلهم، وألقي القبض على نسائهم وأولادهم وتعرضوا للاعتداءات الوحشية.
“لقد كانت جماعات القزلباش التتر المسّلحة بالخناجر والفؤوس تسير في شوارع مدينة تبريز وحاراتها وتهتف بشعاراتها وتطلب من الناس أن يخرجوا من البيوت ويتبرؤوا من أبي بكر ورفاقه، وكان الذين لا يخرجون من بيوتهم ولا يتجاوبون مع هتافات القزلباش يتعرّضون لغضبهم ويهلكون على أيديهم، وكان الاعتداء الجنسي على الفتيات والفتيان بتبريز وشقّ بطون النساء الحوامل وإضرام النار في أجساد القتلى أمرًا معتادًا في الأيام التالية، وكان هذا يحدث في كلّ حيّ وناحية أمام أعين الجميع في كل الساعات بالليل والنهار، وقتلت زوجات الرجال الذين لقوا مصرعهم بفؤوس القزلباش وسيوفهم أيضًا، وشقت بطون كثير من النساء الحوامل وأخرجت الأجنّة وألقيت على الأرض”.
ووصل الدور إلى باقي مدن أذربيجان بعد تبريز، واستمرّت أعمال الهدم والتحريق للمساجد والمدارس وقتل الفقهاء والمدرّسين والمؤذنين وأئمة المساجد لمدة عام كامل بلا كلل أو تعب، ونال مدينة أردبيل التي كانت مدينة صفيّ الدين وكان سكانها جميعًا من أهل السنّة نصيبها من الإجرام، “فكان القزلباش وعصابات المتبرّئين يسيرون في شوارع المدينة وحاراتها وفي يدهم الخناجر والسيوف والفؤوس، وكانت البيوت التي لا يخرج أهلها لمشاركة القزلباش في هتافاتهم تحرق بالنار، ويحترق أهل تلك البيوت في النيران أيضًا”.
وفي مقارنة بين التتار والصفويين يقول المؤلف: “ولا يمكن مقارنة ما فعله القزلباش بسكّان مدن أذربیجان خلال عام واحد بجرائم جنكيزخان، فقد كان جنكيز يخرب ويدمّر وكان يقتل، ولكنّه لم يكن له شأن بدين الناس وثقافتهم ونواميسهم، حتى إن الاعتداء الجنسي على النساء والفتيات كانت عقوبته الإعدام عند المغول في «یاسا» جنكيز، ولهذا لم يعتدِ المغول على نواميس النساء والفتيات على الرغم من أنّهم كانوا يقتلون الرجال، ولم يكن المغول يشقّون بطون النساء الحوامل، ولم يخرجوا الجنين من بطن أمّه ليقتلوه، ولكن هؤلاء القزلباش -على الرغم من أنّهم من نسل هؤلاء المغول- لم يرحموا أيّ شيء طبقًا للأمر الذي أصدره إليهم الشاه إسماعيل”.
ومن الأساليب الإجرامية التي سلكها الصفويون:
– امتحان السكّان بشرب الخمر، ومن لا يشرب يُقتل، لأنّ تلك علامة في نظرهم على بقائه على (المذهب المنسوخ)؛ أي على دين الإسلام.
– إجبار الفتيات على امتهان مهنة الدعارة والغلمان على امتهان عمل قوم لوط، وكانوا يضعونهم في أماكن مخصوصة، وكان الزبائن من القزلباش وعصابات البراءة. ومَن يرفض امتهان الدعارة من الفتيات والغلمان كانوا يثبتون جسده بمسامير في جدار أو جذع شجرة ويقومون بسلخ جلده وهو على قيد الحياة على مرأى من الآخرين.
– ولهم غير ذلك طرق وحشية لا يتّسع المقام لذكرها.
وبعد مدن أذربيجان استولى الصفويون على المدن والحواضر الإيرانية: أصفهان، وفارس، وكرمان، وشيراز، وهمدان، وكازورن، وفيروز آباد، وخوار، وسمنان، وفيرزكوه، وطبس، ومشهد، ومرو، وغيرها، ومارسوا أبشع الجرائم في حقّ سكانها الذين كانوا في أغلبيتهم من أهل السنّة وشافعية المذهب.
كان الدين في مفهوم إسماعيل الصفوي ومريديه القزلباشية يتلخّص في إسقاط الفرائض وإباحة المحرمات، وتأليه علي، والبكاء واللطم على الحسين، وسبّ الصحابة رضي الله عنهم، وطلب ثأر الحسين من المسلمين (أهل السنّة)! وأطلق إسماعيل الصفوي وأتباعه على دينهم هذا اسم: (المذهب الحق)! وعلى دين الإسلام اسم: (المذهب المنسوخ)!
الباب الثالث/ تحريضات القزلباش الصفويين في البلاد العثمانية ونتائجها المفجعة:
وفي هذا الباب تناول المؤلف الصراع بين الدولة العثمانية والصفويين، وجاء الباب في فصلين: الفصل الأول: حرب تشالديران وضياع جزء من إيران. والفصل الثاني: اتساع نفوذ العثمانيين في الشرق الأوسط. وذكر المؤلف تفاصيل كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، ولكن يمكن القول إجمالاً: إن السياسة العدائية التي انتهجها الصفويون ضد المسلمين داخل إيران وخارجها قد أدت إلى إضعاف إيران داخليًا، وخلقت العداوة لإيران مع محيطها الإقليمي لا سيما الدولة العثمانية التي حاولت تجنب الصراع مع الصفويين دون جدوى. وكانت إيران هي الخاسر الأكبر جراء تلك السياسة الصفوية التي كان شعارها “الحرب حتى القضاء على أهل السنة في العالم”.
الباب الرابع/ النتائج الثقافية والاجتماعية لظهور القزلباش في إيران:
وتضمّن ثلاثة فصول: الفصل الأول: منظمات القزلباش الصفويين ومؤسساتهم. والفصل الثاني: المؤسسات الدينية الصفوية. والفصل الثالث: عزلة إيران التاريخية.
وقد حوت هذه الفصول مسائل وقضايا وتفصيلات كثيرة، وسنكتفي منها بذكر شيء يسير مما جاء في الفصل الأول حول منظمات القزلباش الصفويين ومؤسّساتهم، ومن تلك المنظمات: (عصابات البراءة)، وقد مرّ معنا ذكرهم وأفعالهم الإجرامية الشنيعة. و(منظمة أكلة لحوم البشر)، وكانت وظيفتهم تمزيق البشر الأحياء والأموات وأكلهم؛ حيث “كانوا يمزّقون أبناء بعض الكبراء ويأكلون لحومهم أمام آبائهم وأمهاتهم بأمر الشاه إسماعيل”.
وكان كثيرًا ما يُمسك أحد كبراء إيران عن طريق جماعات البراءة ويطلب منه التبرؤ من (المذهب المنسوخ) فإن لم يستجب يسلّم إلى أكلة لحوم البشر، “وكان أكل لحوم البشر يتم وفقًا لترتيب يبدأ بتمزيقهم أذن الإنسان بأسنانهم، وكانوا يمضغونها ثم يقتلعون أنفه بأسنانهم ويمضغونها، ثم يمزّقون في المرحلة التالية لحم ذراعيه، وبعدها لحم فخذيه بأسنانهم ويأكلونها، وكان هذا العذاب يستمر حتى يلقى الرجل حتفه. وكان الأشخاص الذين لم تكن لهم القدرة على المقاومة تحت هذا العذاب يقبلون التوبة والبراءة في اللحظة الأولى من اقتلاع آذانهم بالأسنان”.
وكانت أصعب الأيام على الإيرانيين العشر الأولى من محرم التي يحيي فيها الصفويون ذكرى استشهاد الحسين، فقد كانت تلك المناسبة فرصة للصفويين للتنكيل بالأسر الإيرانية التي كانوا يشكّون في بقائها على دينها، فكانوا يهجمون على تلك الأسر و”يشقون بطن كلّ امرأة تصل إليها أيديهم من الأُسر السنّية، وكانوا يمزّقون الرجال إربًا إربًا، وكانوا يضربون الأطفال بالأرض فتنشق أجسامهم. إنّ المصائب التي كان شعب إيران يراها في العشر الأوائل من شهر محرم -خاصة يوم عاشوراء- أكثر من المصائب التي كانوا يرونها على يد القزلباش والمتبرئين طوال العام”.
وختامًا:
فالكتاب حافل بالقضايا التاريخية والفكرية والاجتماعية والسياسية، ونظرًا لحجمه الكبير، فقد حاولنا أن نقدم قراءةً له تُجيب عن السؤال الذي عنون به المؤلف الكتاب: “كيف صار الإيرانيون شيعة صفويين؟” ولعلّ هذه القراءة تكون حافزًا للعودة إلى الكتاب ومطالعته بتمعّن، وهو قمين بذلك.
د. أمين نعمان الصلاحي
أستاذ مادة العقيدة والأديان والفرق في المعهد العالي للمعلمين بمحافظة تعز – اليمن
[1] ينظر: إيران الصفوية.. كيف صار اﻹيرانيون شيعة صفويين، لأمير حسن خُنجي، مقدمة المترجم، ص (6).
[2]ينظر: إيران في ظل العصور السنية والشيعية، للدكتور عبد النعيم حسنين، ص (69 – 74).
[3] للتوسع ينظر: تاريخ التصوف في الدولة العثمانية.. الطريقة البكتاشية نموذجًا، لممدوح غالب أحمد بري، ص (35-36، 44، 83-95).