غادر المسلمون ديارهم وأهليهم في مكة، إلا ضعفاء ومتثاقلين. وتظاهر بعض مشركي مكة بالإسلام، فعرف الصحابة نفاقهم بقرائن أفعالهم، إلا أنَّ الأمر اشتبه على بعض المسلمين، فجاء القرآن موضحًا حاسمًا معاتبًا: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}[1].
هذا المنافق مركوس مرتكس في الكفر، مراوغ بلسانه، مردود إلى الشرك فعائد إليه أسوأ ما كان؛ جرّاء خداعه المؤمنين وافترائه على رب العالمين، فلا رجاء فيه، ولا يجوز الاشتباه في أمره. وهذا لا يعني فتح الحرب مع جميع المنافقين؛ فليسوا درجة واحدة.
فمنهم {الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، دخلوا مع معاهديكم بترك القتال، فصار لهم عهد مثلهم. وفئة ثانية {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}، لم تسمح نفوسهم بقتالكم احترامًا لكم، ولا بقتال قومهم الكافرين، فكفاكم الله شأنهم، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}.
أما ثالث الفئات فإنما تركوا قتالكم خوفًا لا احترامًا، {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}. فأمر بقتالهم لكونهم معتدين ظالمين تاركين للمسالمة، فكيف إذا ناصبونا العداء وقاتلونا وقتلونا في بلدان عديدة!
عدل تام لا سبيل له على المسالمين من المنافقين، وحزم كامل يردع منهم المعتدين، التأم به أمر المؤمنين في المنافقين، فالتزموه وجسّدوه يوم حرب المرتدين.
في يومنا هذا ابتلي المسلمون باشتباه رأي بعضهم في قوم فاجرين، يمضون في خططهم الخمسينية، ويفرغون حقدهم المجوسي، متلحفين بعقيدة يسمونها شيعية، يتلخص حالهم في معالم ثلاثة:
أولها: اعتزازهم بغير هوية الأمة، واختيارهم اعتقادًا مختلفًا في الرب المعبود، والنبي المرسل، والقرآن المنزل، والدين المصطفى، والصحابة الكرام، حتى طفحت مروياتهم بالكفر والشرك في كتبهم.
ثانيها: حقدهم الأعمى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإعلان حربهم عليها، وقتلهم أهل الإسلام بالتعاون مع أهل الأوثان، وسعيهم في الأرض فسادًا بصناعة الفتن، حتى صار خوارج اليوم أحيانًا جزءًا من شرورهم، وانفتحت شهيتهم لتدمير عواصم المسلمين ومدنهم واحتلالها، واستعراض قوتهم واعترافهم أنه ما كان للصليبيين أن يقدروا على احتلال بعض البلدان وتدميرها إلا بمساعدتهم لهم.
ثالثها: نفاقهم ومكرهم وشدة مراوغتهم، ونكوصهم المتكرر عن التزامات الوفاق واتفاقات الوحدة الذي تكررت به شهادة علماء المسلمين، وإخفاء تحالفاتهم العدوانية، وتمسحهم بالقضية الفلسطينية، رغم كيدهم للحرمين وتهديدهم بلادها.
قد مضت على الفتنة بالرافضة المجرمين عقود، فما هدأ التطبيل لهم إلا بمقتل وتهجير الملايين في العراق وسوريا واليمن، ثم تفور الفتنة اليوم جذعة، يحلو فيها لبعضهم لمز أهل السنة بخذلان الطوفان، وتجيير المناصرة لذلك الطغيان، وتفسير تصريحات مرشد القوم بعيدًا عن المجازر والدماء وأنين المهجّرين. {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
قد كان المسلمون فئتين في أمر هؤلاء عقودًا اتسمت بالحرب الباردة من طرف واحد، وبينما القوم ماضون في تصدير ثورتهم حتى جاءتهم فرصة الثورات فانتهبوا الحصة الأكبر. أعقبتها الثورة المضادّة التي خنقت غزة، ودفعت بها أكثر اضطرارًا نحو أولئك المخادعين، بينما هم يدارون مصالحهم، ولا يكسرون (قواعد الصراع)، مهدرين دماء قادة الجهاد المغدور بهم في ديارهم.
ثم يأتيك التشنيع على الحذِر بتهمة التطبيع والتصهين، ورمي الشعوب بجريمة حكامها في ذلك، في مغالطة جائرة جالبة للأسى، غافلة عن ضرورة الاعتبار دون انتظار مثل مصير من اكتوى بتلك النار المجوسية، التي نعوذ بالله أن تتمدد نارها فيصيح الناس: ويل للعرب.
فما بالك لو بقينا فيهم فئتين، وقد انفتحت أبواب الحرب منذ الطوفان، واشتد تدافع الأمم! لتجدنّ أول النجاة حينها وحدة الموقف تجاه المجرمين، {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
د. خير الله طالب
[1] الآيات في المقال كلها في سورة النساء: [88-91].