حضارة وفكر

فرّق تسُد!

مما يدعو للتأمل: بقاء الطاغية على سدة الحكم سنين طويلة، بالرغم من تضرر جميع أفراد الشعب منه ومن ظلمه، والسرّ في ذلك يكمن في سياسة يتبعها الطغاة منذ القدم، وهي سياسة “فرِّق تسُد”، فما هي هذه السياسة؟ وهل لها جوانب إيجابية؟ وكيف ينفذها الطغاة؟ وماذا ينبغي على الأحرار تجاهها؟ هذه المقالة تسلط الضوء على هذه المعاني.

لم يُذكر جبار من الجبارة في القرآن الكريم ولم تُفصَّل أحوالُه كما فُصّلت قصة فرعون؛ فهو الذي طغى وتجبر، وناله الزهو والإعجاب بالملك الذي حصل له حتى ادعى الألوهية فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. ولـمّا داخَله شعورٌ بالخطر يقترب من عرشه وسلطانه بسبب وجود بني إسرائيل في أرض مصر، وكان يدرك أنّه لا يستطيع اقتلاعهم وهم جماعةٌ ضخمة لا يقدّسونه ولا يسلّمون له بدعوى الألوهية؛ استبدّ بهم، وسخّرهم في أقسى الأعمال وأشدّها مشقّة، وأذاقهم ألوان الذل والعذاب، ثم ارتقى في سلّم الإجرام، فأمر بقتل ذكورهم ساعة يُولدون، واستبقاء إناثهم؛ ليضمن انحسار عدد الرجال فيهم وتناقص قوّتهم عبر الزمن، مع الإمعان في إذلالهم بالنكال المستمرّ والعذاب الذي لا ينقطع.

ولما جاءته دعوة الحق حاربها بكل الوسائل؛ فجمع السحرة وهدد، وقتل ومثّل، وكال التهم والافتراءات، ولم توقظه الآيات، ولا البلاءات التي تتابعت عليهم.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أنسب من فرعون ليشبه أبا جهل به في طغيانه وتجبره وكيده للحق وصده عن النور المبين، فقال فيه: (هذا فرعون أمتي)[1]، وهذا التشبيه النبويّ يفتح لنا بابًا فسيحًا للتأمل فيما حكاه الله عز وجل عن فرعون في كتابه، وما رواه رسوله صلى الله عليه وسلم من أخباره؛ فليس ذِكرُ تلك القصص للتسلية، بل ليتبصّر المؤمن بسنن الظلم والعلوّ في الأرض.

الطغيان طبعٌ إذا تمكن من القلب استوى في أهلِه، وسننُ المستبدين تتشابه وإن افترقت الأجيال، وطرائق الظلمة تتكرّر وإن تنوّعت الصور

وما يدعو للتدبر والتفكر أن ذِكرَ فرعون في القرآن الكريم والتفصيل في أحوال طغيانه وعلوه إنما هو بسبب تأثيره العظيم في بني إسرائيل، وبنو إسرائيل أمة سابقة للأمة المحمدية، تشكل بتجاربها ومفاصل تاريخها مجالاً خصبًا للاعتبار وفهم السنن الإلهية وأحوال الرسالات لنا نحن المسلمين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعُنَّ سَنن من كان قبلكم شِبرًا شِبرًا وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله؛ اليهود والنصارى؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن؟!)[2].

وهذا الحديث يضع أيدينا على سنّة ماضية في الأمم حين يعتريها الضعف: وهي تقليد مَن سبقها في طرائق الانحراف ومسالك الغواية، حتى كأن الزمان يعيد نفسه بصورة أخرى، وليس هذا الاتباع مقتصرًا على العوام في عاداتهم ومظاهر حياتهم، بل يمتدّ إلى سلوك الأقوياء والولاة والجبابرة، فيتشبّه الطغاة بالطغاة، ويقتفي الظلمة أثر الظالمين، سواء أكان ذلك من بني إسرائيل أو من غيرهم ممن أخبر الله عنهم وكرر ذكرهم في كتابه.

فالطغيان طبعٌ إذا تمكن من القلب استوى في أهلِه، وسننُ المستبدين تتشابه وإن افترقت الأجيال، وطرائق الظلمة تتكرر وإن تنوّعت الصور، وبالرغم من كون فرعون ليس من بني إسرائيل، إلا أن تأثيره عظيم عليهم وعلى أخلاقهم، والعبرة تكمن هنا.

أسلوب فرعوني خبيث:

ذكر الله تعالى أسلوبًا اتبعه فرعون في تسلطه وحكمه وسيطرته على سكان مصر، فقال جل شأنه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4]؛ أي: فرقهم طوائف متفرقة، يتصرف فيهم بشهوته، وينفذ فيهم ما أراد من قهره وسطوته[3].

فمنهم من يدنيه ويستخدمه، ومنهم من يقهره ويستضعفه، ومنهم من يسجنه أو يقتله؛ حتى لا يبقى بينهم رابطٌ يجمعهم، ولا ميزانٌ يستوون عنده، ولا مقصدٌ يتفقون عليه.

وهذا الأسلوب الفرعوني في تفتيت وحدة الشعب لا يصدر إلا عن طغيانٍ ممزوجٍ بدهاء، وعن سطوةٍ تستبطن الخبث والمكر؛ إذ إن تقسيم الناس في المناصب يورث بينهم الاستعلاء؛ فيتنافرون، وتقسيمهم في الأموال يزرع الحسد؛ فيتباغضون، وتقسيمهم في القرب والجاه يثير الريبة والخوف؛ فيضعف تلاحمهم، وتقسيمهم في العقوبات سجنًا وتعذيبًا يجعل بعضهم يفرّ من بعض؛ فتتمزّق قلوبهم.

فهو منهجٌ يضرب في عمق الاجتماع الإنساني، وينخر في صلب الألفة والاتحاد، حتى إذا استحكم تفرُّقُ القلوب استحالَ عليهم التحرر أو النهوض؛ إذ غدت عاجزة عن الاجتماع على كلمةٍ واحدة.

ولا يبقى بعد ذلك ما يجمعهم إلا خدمةُ المستبدّ والتشيّعُ له، بينما تمتلئُ نفوسهم -فيما بينهم- بالاستعلاء والحسد والخوف، وكل ما يبدّد الروابط ويُضعف العزائم ويمزّق البنيان.

منهج “فرق تسد” يضرب في عمق الاجتماع الإنساني، وينخر في صلب الألفة والاتحاد، حتى إذا استحكم تفرُّقُ القلوب استحالَ عليهم التحرر أو النهوض؛ إذ غدت عاجزة عن الاجتماع على كلمةٍ واحدة

قال الطاهر بن عاشور في تفسير الآية: “جعل أهل بلاد القبط فرقًا ذات نزاعاتٍ تتشيَّعُ كلُّ فرقةٍ إليه وتعادي الفرقة الأخرى؛ ليتم له ضربُ بعضِهم ببعض. وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تآلُبَهم عليه كما يقال: (فرِّق تحكُم)، وهي سياسةٌ لا تليقُ إلا بالمكر بالضدِّ والعدوِّ، ولا تليقُ بسياسة ولي أمر الأمةِ الواحدة”[4].

ويتّبع الطغاة في هذا الفعل ما يعرف بسياسة (فرِّق تسُد)، وهو مصطلح سياسي عسكري اقتصادي، والأصل اللاتيني له: “divide et impera” ويعني تفريق قوة الخصم الكبيرة إلى أقسام متفرقة لتصبح أقل قوة وهي غير متحدة مع بعضها البعض مما يسهل التعامل معها، كذلك يتطرق المصطلح للقوى المتفرقة التي لم يسبق أن اتحدت والتي يراد منعها من الاتحاد وتشكيل قوة كبيرة يصعب التعامل معها.

وسياسة “فرّق تسد” ليست سياسة جديدة، بل هي قديمة قدم السياسة نفسها حيث طبقها السومريون والمصريون واليونانيون القدماء لتفكيك قوة أعدائهم وتحييد هذه القوة من خلال توجيهها واحدة ضد الأخرى. ويبدو أن سياسة “فرّق تسد” تأتي بعد مرحلة “فرّق تغزو”؛ لأن استعباد شعبٍ ما والاستيلاء على أرضه وثرواته يتطلب أولاً إنهاك قواه العسكرية والاقتصادية لغرض تسهيل العملية وتقليص تكاليفها، وهذا يتم عادة من خلال إثارة الفتنة الطائفية والتحريض على العنصرية ونشر روح الانتقام بين الطوائف والطبقات المكونة لهذا الشعب، وإشعال حروب داخلية وخارجية تنتهي بإنهاك قوى كافة الأطراف[5].

وهذه السياسة إذا استخدمت في الحروب لهزيمة الأعداء، فهي محمودة في هذا الاتجاه؛ فالحرب خدعة، والإيقاع بين الأعداء المتحالفين يسهم في الانتصار عليهم.

وفي السيرة: أتى نعيم بن مسعود رضي الله عنه -وهو من غطفان- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإنّ الحرب خدعة).

فقام نعيم رضي الله عنه بعمل عظيم، وهو الإيقاع بين يهود بني قريظة من جهة، وقريش وغطفان من جهة أخرى، في تفاصيل معروفة في كتب السيرة[6].

غير أنّ الطاغية لا يعرف صداقةً تُصان ولا ولاءً يُحفظ؛ فهو ينظر إلى الشعب بعين العداوة نفسها التي ينظر بها إلى خصومه، ولهذا يلوذ بسياسة التفريق؛ فيزرع الشقاق بين أبناء بلده، ويؤجّج الفتن داخل بيته الداخلي بدل أن يوجّه جهده نحو أعدائه الخارجيين، وهكذا تنقلب الحيلة المحمودة إلى حيلة مذمومة، وينصرف السهم الذي ينبغي أن يُرمى به الخصم إلى صدر الشعب نفسه.

ومع ذلك، فثمة حقيقة لا ينبغي إغفالها: وهي أنّ الشعب الحرّ هو خصم المستبدّ وعدوه الأول؛ لأنه وحده القادر على كشف زيفه وإسقاط سلطانه؛ فلا غرابة إذن أن يعُدّ الطاغيةُ شعبَه ألدَّ أعدائه، وأن يرى في يقظتهم خطرًا على عرشه لا يقلّ عن خطر الجيوش المتربّصة به.

وما يهدف إليه الطاغية أو المستبد ليس الفتن التي تخرج عن السيطرة، وتحول البلاد إلى فوضى عارمة، بل التفريق الذي يحابي طائفة على أخرى، ويميز فئات على غيرهم، وتحميل بعض الفئات مشكلات تقصير الدولة في أمور الناس ومصالحهم.

الشعب الحرّ هو خصم المستبدّ وعدوه الأول؛ لأنه وحده القادر على كشف زيفه وإسقاط سلطانه؛ فلا غرابة إذن أن يعُدّ الطاغيةُ شعبَه ألدَّ أعدائه، وأن يرى في يقظتهم خطرًا على عرشه لا يقلّ عن خطر الجيوش المتربّصة به

الاستعمار أستاذ الطغيان المعاصر:

لئن كان فرعون نموذجًا تاريخيًا في الطغيان، فالتاريخ المعاصر لم يشهد أسوأ من حركات الاستعمار الأوروبية في زرع الفتنة وبث الفرقة، وتسليط الطغاة على البلاد ورقاب العباد، ولعل ما نشهده في بلاد المسلمين من الطغيان والاستبداد إنما هو غيض من فيضهم، ونزر من بحرهم.

ومن ذلك ما فعله البلجيكيون في رواندا التي ينحدر فيها السكان من قبيلتين عاشتا متجاورتين قرونًا طويلة، ولم يشعروا بفرق يذكر بينهم في اللغة والشكل واللون والثقافة والعادات، وعندما وصل المستعمرون البلجيكيون في عام 1916م، أصدروا بطاقات هوية تصنّف الناس وفقًا لعرقهم.

واعتبر البلجيكيون التوتسي -الذين كانوا أقل عددًا- متفوّقين على الهوتو، وعلى مدى السنوات العشرين التالية تمتعوا بوظائف وفرص تعليمية أفضل، ثم تراكم الاستياء وسط الهوتو تدريجيًا، وبلغ ذروته في سلسلة من أعمال الشغب في عام 1959م، حيث قُتل حينها أكثر من 20 ألف من التوتسي.

وهذا هو موضع الشاهد؛ فالشعب الذي كان متعايشًا لا يفرق بين أبناء القبيلتين في الوظائف والعمل والزيجات والجوار، تحول إلى استقطاب قبَلي شديد، تطور مع الوقت حتى انتهى إلى واحدة من أسوأ المذابح التي حصلت في القرن العشرين، حيث قتل خلال 100 يوم ما يقرب من مليون شخص بكل الأدوات والأسلحة، بدءًا من المناجل والهراوات وانتهاءً بتفجير الكنائس التي لجأ إليها الهاربون من جحيم القتل، حتى قتل الجار جاره والصديق صديقه، أمام مرأى من العالم ومسمع.

أما بريطانيا فهي أستاذة إشعال الفتن في العالم المعاصر، فهي جزء أصيل من أسباب أي فتنة بين دولتين متجاورتين في العالم اليوم، فبسببها صار المصري غير السوداني، والأردني مختلفًا عن الفلسطيني، وبسببها حصل الاحتلال الصهيوني، وهي حاضرة في مشكلات كشمير بين الهند وباكستان، وهونغ كونغ مع الصين، وفي قبرص بين اليونانيين والأتراك، والقائمة تطول.

لكن ثمة نوع آخر من الفتنة مارسه المستعمر البريطاني في الدول التي احتلها، تتمثل في التحريض الديني والطائفي، فبعد الثورة التي قام بها الهنود (مسلمين وهندوس) عام 1857م ضد الاحتلال، عمد البريطانيون إلى خلق فجوة بين المسلمين والهندوس، وذلك بتمييز الهندوس على المسلمين في الوظائف والأعمال الاقتصادية، فضلاً عن التجنيد الكبير في صفوف القوات المسلحة من أتباع الديانة السيخية.

غير أن أخطر ما وقع في تلك المرحلة أنّ الاستعمار البريطاني كان له دور في ظهور حركتين جديدتين هما: الديانة الأحمدية القاديانية[7]، وطائفة القرآنيين[8]؛ ليحدث مزيدًا من التفتيت وتعميق الشقاق داخل المجتمع المسلم.

ومن فتن البريطانيين ما عثر عليه أحد طلبة الدكتوراه خلال بحثه في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية في لندن، حيث وقف على مذكرة سرية تعود إلى عام 1906م، والمذكرة مرسلة من الممثلية البريطانية في بغداد إبان الحكم العثماني للعراق، ذُكر فيها أن معركة طائفية نشبت بين تجار سوق الشورجة في بغداد خلال أيام عاشوراء، وكان سبب المعركة هو إلقاء شخص مجهول سمكة الـ«جرّي»، في زير الماء المخصص لشرب الماء لزوار يوم عاشوراء، وهي من الأسماك المحرم أكلها عند الشيعة، فاتهم على أثرها التجار الشيعة زملاءهم السنة بهذه الفعلة.

الصادم في المذكرة أن فيها اعترافًا بأن البعثة البريطانية في بغداد هي التي كلّفت أحد خدمها الهنود بوضع سمكة الـ«جرّي» في زير الماء تحت جنح الظلام، بهدف إشعال الفتنة الطائفية بين التجار الشيعة والسنة، وطبعًا نجحت خطتهم الخبيثة، وأدت إلى مقتل وجرح عشرات العراقيين[9].

بريطانيا هي أستاذة إشعال الفتن في العالم المعاصر، فهي جزء أصيل من أسباب أي فتنة بين دولتين متجاورتين في العالم اليوم، فبسببها صار المصري غير السوداني، والأردني مختلفًا عن الفلسطيني، وبسببها حصل الاحتلال الصهيوني، وهي حاضرة في مشكلات كشمير بين الهند وباكستان، وفي قبرص بين اليونانيين والأتراك، والقائمة تطول.

الوشاية أهم وسائل التفرقة:

وللطغاة في إحكام هذا اللون من التفريق وسائلُ كثيرة، مثل: تمييزِ فئةٍ على أخرى في الوظائف والامتيازات، وإشعال العصبيات الطائفية والعرقية، وتحميل بعض الطبقات تبعات فشل الدولة، وإشاعة الخوف على الأرزاق، وتعميم ثقافة الشكّ والارتياب.

ولعلّ أخطرها وأشهرها: تقريبُ بعض أفراد الشعب ليكونوا عيونًا على الباقين: يتسمّعون، ويتحسّسون، ويراقبون، ثم يرفعون ما أدركته آذانهم وما التقطته أعينهم إلى الحاكم، ولهذه الوشاية جهاز خاص يسمى في بعض البلدان: المباحث، وفي أخرى: المخابرات.

فإذا شاع في الناس أنّ بين ظهرانيهم من يندسّ بينهم من بني جلدتهم، يتجسّس على حركاتهم وسكناتهم، ويقيّد ما يسمع ويرى، ثم يدفع به إلى صاحب السلطان؛ انهارت جسور الثقة، وفشا التربّص، واستحكم الخوف، وتبدّلت الألفة وحشةً، وانقلب الأمن قلقًا.

وصارت الهمسات نفسها ترتعد في صدور أهلها، وقد انعكس ذلك في الأدب والشعر، قال الشاعر:

حتى صدى الهمسات غشّاه الوهَن .. لا تنطقوا إنَّ الجدار له أُذن[10]

وقال آخر[11]:

دخلت بيتي خلسة من أعين الكلابْ

أغلقت خلفي البابْ..

نزلت للسردابْ..

أغلقت خلفي البابْ..

دخلتُ في الدوﻻبْ

أغلقتُ خلفي البابْ..

همستُ همسًا خافتًا: (فليسقط اﻷذنابْ)..

وَشَت بيَ اﻷبواب!

دام اعتقالي سنةً.. بتهمة اﻹرهاب!

ومن الوسائل الحديثة في هذا الباب: نشر ثقافة التبليغ والوشاية في ثوبٍ عصريّ؛ عبر مراكز خُصِّصت لذلك، أو تطبيقات إلكترونية، أو أرقامٍ تُتاح للناس لرفع البلاغات والشكاوى؛ فيسهّل الطاغيةُ طريق الوشاية لكل فرد، ويرفع شعارات برّاقة من قبيل: كلنا واحد، ونحمي وطننا بأيدينا، بل قد يضع المكافآت والجوائز لمن يُبلّغ ويسعى في الوشاية، ويُغري الناس بستر أسماء المبلّغين وإخفاء هوياتهم بحجّة حمايتهم.

وهذا كلّه -وإن ظهر في صورة حماية الوطن وخدمة المجتمع- لا يثمر إلا مزيدًا من التمزّق والتنازع، ويزرع الخوف والذعر في النفوس، ويعزّز الأنانية والأثرة، حتى يصبح كلُّ فردٍ خصمًا لأخيه، لا يجمعهما إلا سلطان مستبدّ يتقوّى بفرقتهم، ويستطيل بخوفهم، ويستبدّ بولائهم المشوب بالرهبة والشك.

إذا شاع في الناس أنّ بين ظهرانيهم من يندسّ بينهم من بني جلدتهم، يتجسّس على حركاتهم وسكناتهم، ويقيّد ما يسمع ويرى، ثم يدفع به إلى صاحب السلطان؛ انهارت جسور الثقة، وفشا التربّص، واستحكم الخوف، وتبدّلت الألفة وحشةً، وانقلب الأمن قلقًا

الانسياق إلى الوشاية:

مع كثير من الغفلة وانخفاض الوعي، ينساق كثيرٌ من الناس إلى هذا الأسلوب بشيء من التدرُّج، حتى يصبح الواحد منهم -وهو لا يشعر- جزءًا من البناء الذي يشيده الطاغية، وقد تكون النية الحسنة هي الدافع لهم، فيظنون أنهم مأجورون على ما يفعلون، أو أنهم يسعون في خيرٍ وصلاح، بل إنّ كثيرًا منهم لا يقدم على الوشاية إلا وهو يظن أنّ قصده شريف، وأنّ نيته الصادقة كافية في صحة ما يفعل.

ويُلبِّس الشيطان عليهم هذا المسلك في ثيابٍ جميلة؛ فيصوّره تارةً تعاونًا على البر والتقوى، وتارةً حرصًا على وحدة الوطن، وأخرى حمايةً من “المفسدين” وقطعًا لشرورهم، ولكنّهم يفسدون من حيث لا يشعرون.

وهذا كله إذا افترضنا في الوشاة المنساقين حُسنَ النية وسلامة المقصد، لكن حال الشعوب الخانعة للطغاة أنها تفقد مع الوقت سلامة المقصد، فيشرع الناس في الاستفادة من سياسات الطغاة في التفريق والوشاية، لا لشيء إلا لجلب مصلحة عابرة، سواء كانت فتاتًا من مال، أو تقربًا من مسؤول، أو خوفًا على رغد العيش، وقد يتطور الأمر فيَصِلُ استخدام هذه الوسائل الطغيانية إلى المكايدات والمماحكات اليومية، فتصبح وسائل للنيل والانتقام بعد أي خلاف أو شجار! وما أكثر من غُيب في السجون وأودع في غياهبها بسبب وشايات أصلها خلاف بين أطفال، أو شجار بين جيران.

وشايةٌ ووشاية:

وقد يقول قائل: هل جميع سياسات وأعمال الدول في مجال جمع المعلومات هو من باب الوشاية الطغيانية التي تؤدي إلى تفريق الشعوب وإضعافها؟ أم يمكن التفريق فيها بين حالة وحالة؟ وللإجابة عن هذا السؤال نحتاج للنظر في مقاصد الطغاة من جمع المعلومات وتشجيع الناس على الوشاية والإيقاع ببعضهم، وهي تتلخص في تثبيتهم على عروشهم، وحماية استبدادهم، ومنع أي أخطار تؤدي إلى زوالهم.

والوشاية المذمومة التي نقصدها هي تلك الوشايات التي تعين الظالم في ظلمه، والطاغية في طغيانه، كالإبلاغ عمن انتقد شيئًا يخص الحاكم أو السلطة، أو تكلم في مظلمة تعرض لها، أو نال من شخص الحاكم بما يقال في المجالس والبيوت، ومنها كذلك ملاحقة الناس في أفكارهم وآرائهم التي لم يعلنوها ولم تصل إلى حد الفعل المضر بالمجتمع.

وفي المقابل: لا شك أن من أعمال المباحث والمخابرات ما يحمي الدولة من اختراق الأعداء، وما يحمي الناس من أهل الإجرام والعصابات التي تعتدي على الأنفس والأموال والأعراض، ومثلها أعمال الدراسات ومراكز المعلومات التي تستخدمها الدول في بناء سياساتها وخططها وتحتاج لأجلها معلومات وبيانات واسعة، فالدول لا يمكن قيامها بدون تحسس الأخطار والمؤامرات التي تحاك لها، وكثير من ذلك يدخل في قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

أما الشكوى والتظلم فهو حق مشروع لا يُسلب ولا يُلغى، ويدخل فيه رفع الشكاوى إلى المسؤولين، مما يُسهم في حفظ الأمن وتتبّع الجرائم الحقيقية كالاعتداءات والجنايات والسرقات، والتحرش والتنمر والابتزاز، وكذلك الإبلاغ عمن يُعرف أنه جاسوسٌ لجهات معادية.

ومما لا يدخل في الوشاية المذمومة: الشكوى على المسؤول المفرّط في الأمانة، ممن يهدر المال العام، ويعطل معاملات الناس؛ فالمسؤول الذي لا يراقبه المراجعون والمستفيدون قد يستبد ويمنع الناس حقوقهم.

تُخلِّف سياساتُ الطغاة آثاراً تتجاوز إحكام السيطرة، إذ تفتك بالبنية الاجتماعية، فتنشر أخلاق العبيد، وتُشيع النفاق والتملّق، وتُورِث الناسَ روحَ الاستبداد، وتُخمِدُ فكرَ الشباب وإبداعهم، وتؤدي إلى تراجع مؤسسات الدولة في التعليم والاقتصاد وسائر المخرجات

حصاد الشوك:

لهذه السياسيات التي يتبعها الطغاة في جعل الشعب فئات مختلفة ثم التفريق بينهم تأثيراتٌ سلبيةٌ كبيرة، تتجاوز حدَّ سيطرة الطاغية، وإلجاء الناس إلى منطقة الإكراه والخوف، إلى آفات عميقة تلامس التكوين المجتمعي، منها: التخلق بأخلاق العبيد، والتصبغ بالنفاق والرياء والتملق، وانتشار سمة الطغيان والاستبداد لدى عامة الناس، وخمول الفكر وكسل الجوارح وتراجع الإبداع والتفكير السليم لدى الشباب وانحصاره في دائرة الخروج بأقل الخسائر، فضلاً عن التأثير في مجالات أخرى مثل: تراجع مستوى ومخرجات مؤسسات الدولة كالتعليم والاقتصاد وغيرهما.

وسأركز على أثرين اثنين لهما علاقة مباشرة بموضوع المقالة (فرق تسد):

1. طغيان الأنا وتغليب المصلحة الآنية:

فالمستبد الظالم الذي فرق الناس وجعلهم شيعًا لا يصفو له الجو إلا بتخويف الناس على أرزاقهم وقلقهم على أبنائهم، ومع كثرة القلق والخوف تطغى الأنانية، وتصبح غاية المرء أن ينجو ولو غرق الناس كلهم، فيقلّ العطاء والبذل، ويكثر الشحّ والبخل، ويغيب الإيثار، وهذه الأمراض لها تأثيرها المباشر على صحة المجتمع ونهوضه، لأن المجد منوط بالبذل في سبيل المجموع، والتخلص من أسر العمل لأجل المنفعة الخاصة.

والإسلام في أول أمره نهض على أيدي المهاجرين الذين {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8]، فبذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل نصرة دين الله، وعلى أيدي الأنصار الذين {لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فتخلصوا من شح أنفسهم، وقاسموا من هاجر إليهم أموالهم وديارهم، فقام سوق الدين ونهضت الأمة وازدهرت وحطمت أعتى الممالك، ولا نهوض للمسلمين إلا بمثل هذه الصفات.

2. انعدامُ الثقة وسوءُ الظن والعداوةُ بين الناس:

الاستبداد يتغذى على العداوة بين الناس، ويجعلهم يعيشون في قلق وخوف دائمَين؛ يغرس بينهم بذورَ الشقاق، ويُدخلهم في دوائر قلقٍ لا تنتهي وخوفٍ لا يهدأ. يفرّق المجتمع شيعاً متنافرة، ويرفع فئةً ويخفض أخرى في الوظائف والامتيازات، ويبعث النعرات والعنصريات من مرقدها، ويؤجّج العصبيات الطائفية والعرقية، ويلقي على بعض الطبقات وِزرَ عجزه وفشله، ويشيع فيهم الخوف على أقواتهم، وينشر ثقافة الشك والارتياب حتى تُصبح مزاجًا عامًا.

وحين يستحكم ذلك، تُطوى صفحات الثقة بين الناس، ويُقصى التوادّ ويصعد سوء الظن، وتُذبح القيم على مذبح المادة والمنفعة. ثم لا تسأل بعد ذلك عن كساد التجارة، وفساد الشراكات، واستفحال الأنانية والنفعية.

وإذا رأى الناس الظلم والمحاباة وتكديس الثروة في أيدي ثلة من أعوان المستبد، تغيب عنهم القناعة والرضا، فيحقدون على الأغنياء؛ لأنه ارتبط في أذهانهم أن الثراء مرادف للفساد ونتيجة له، بل يؤول في النهاية إلى كراهية الوطن ويفقدون الانتماء والإيجابية.

ومع الاستبداد يظهر علماء السلطان وما أكثرهم، الذين يخلعون مسؤوليتهم الدينية على أعتاب القصور، ويُفصّلون الفتاوى للحاكم بِليّ أعناق النصوص، ومما ينتج عن ذلك: شيوع منطق التعميم لدى الجماهير، فيغدو في أذهانهم أن كل عالم أو داعية يتقاضى راتبه من الدولة إنما هو مأجور ومرتزق وبائع للدين بالدنيا[12].

من أعظم ما يجابه به الطغاة: اتباع الهدي القرآني في التربية، في تحريره للنفوس من الأوهام والمخاوف، وتعليقها بالله تعالى بصفاته العظيمة الكاملة، ومن كان هذا هديه فسيكون حرًا لا يخاف من الطغاة، ولا تستهويه عطاياهم الفانية

وفي الختام:

وبعد هذه الجولة في ثنايا هذا الأسلوب الذي يتبعه الطغاة في السيطرة على شعوبهم، لا بد من وضع معالم وإرشادات لمواجهته، للوقاية من أسبابه، ولمعالجة آثاره، وأهمها:

* اتباع الهدي القرآني في التربية، في تحريره للنفوس من الأوهام والمخاوف، وتعليقها بالله تعالى بصفاته العظيمة الكاملة، فقدرة الله غلبت كل شيء، وعلمه أحاط بكل شيء، وملكه عم كل شيء، ورحمته وسعت كل شيء، وهو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، وهو على كل شيء قدير، ومن كان هذا هديه فسيكون حرًا لا يخاف من الطغاة، ولا تستهويه عطاياهم الفانية.

* رفع الوعي المجتمعي بمخاطر الانسياق خلف الطغاة، وأساليبهم، وبث معاني الاحتساب والجهر بكلمة الحق، والاستعداد للبذل والتضحية في سبيل الحرية والكرامة والعدالة ونيل الحقوق، بالحكمة والتعقل الضامنَين عدم جر البلاد إلى ما لا تحمد عقباه.

* الحرصُ على التآلف والاجتماع ووحدة الكلمة، وهو من أعظم ما جاءت به الشريعة؛ إذ نهت عن التفرّق والاختلاف، ودعت إلى صيانة الأواصر واليقظة لكل ما يُضعفها أو يُفكّكها، فكلما كان المؤمنون كالجسد الواحد أكثر التحامًا وأقوى اتصالاً، كانوا أقدر على جلب المصالح ودرء المفاسد، وتمكّنوا من مواجهة الطغيان والاستبداد، والسير في إقامة شريعة الله سبحانه على الوجه الذي أمر به.

وهذه المعالم حري بها أن تكون نبراسًا يستضاء به في التربية والتعليم والتوجيه، في برامج المصلحين والمربين وأهل العلم والدعوة والكتابة والإعلام، صونًا للأمة وحماية لها من أساليب الطغاة وخططهم.


أ. محمود درمش

كاتب مهتم بقضايا الفكر والتربية


[1] أخرجه الإمام أحمد في المسند (3825)، (4247) وغيره بألفاظ متعددة.

[2] أخرجه البخاري (7320) ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري.

[3] تفسير السعدي، ص (611).

[4] التحرير والتنوير (20/67).

[5] ويكيبيديا، مادة: فرق تسد.

[6] سيرة ابن هشام (2/229).

[7] على يد ميرزا غلام أحمد القادياني (1835-1908م)، الذي ينفي كون النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وادعى أنه المهدي وألغى تشريع الجهاد وحرم الخروج على الإنجليز!

[8] على يد أحمد خان (1817-1898م)، الذي حمل المسلمين خطيئة تعرضهم للاحتلال البريطاني، فألزم نفسه بالابتعاد عن تحريض الناس، والرمي بهم عُرضةً للبطش الإنجليزي الوحشي، وفسر القرآن بالرأي المحض، ووضع شروطًا تعجيزية لقبول الحديث مما جعله ينكر أغلب الأحاديث.

[9] مقالة (فن إثارة الفتن)، للكاتب طلال عبد الكريم العرب، موقع صحيفة القبس، 6 أغسطس 2017م، https://www.alqabas.com/article/423355-فن-إثارة-الفتن/.

[10] بيت من قصيدة: أرملة الشهيد، للشاعر هاشم الرفاعي.

[11] تنسب إلى أحمد مطر.

[12] مستفاد بتصرف من مقالة (الاستبداد وصناعة التخلف)، لإحسان الفقيه، موقع القدس العربي، 10 يونيو 2018م، https://www.alquds.co.uk/%EF%BB%BFالاستبداد-وصناعة-التخلف/.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *