عامٌ مضى على تلك اللحظات التي تغيّر فيها وجه الشام، لكن وهجها ما يزال يتردد في الذاكرة كأنها البارحة. ساعة فريدة توقفت فيها القلوب بين خوفٍ ورجاء، ثم انفجرت الأرض تكبيرًا حين انكشف الليل عن فجر التحرير. لم يكن الفتح مجرد خبرٍ عابر، بل منعطفًا هزّ تاريخ سوريا والأمة كلها، وفتح أبواب الأسئلة على المستقبل ومسؤولياته الثقيلة. وهذا المقال محاولة للعودة إلى تلك اللحظة الفاصلة، لنقرأ فيها سنن الله الجارية، ونستبين معالم الطريق، ونتهيأ لما يتطلّبه البناء من عمل وإعداد.
عام مضى.. لكن ليس كسائر الأعوام.
ومتى عَرَفتْ سوريا قبله طعم الأمن أو معنى السلام؟!
سلامٌ يا نسيمَ الشامِ طَلْقُ *** وفتحٌ لاحَ فجرًا يا دمَشْقُ
عُقودُ الذُّلِّ والطغيانِ وَلّت *** وشمسٌ أشرقت فالأُفْقُ بَرْقُ
وما ضاعَت دماءٌ في ثراها *** فوعدُ اللهِ للأحرارِ حقُّ
مَضى عامٌ؛ فكَمْ للّهِ حَمْدٌ *** وكَم للمَجْدِ صُنَّاعٌ وسَبْقُ
فَشمّر فِي البناءِ وسُدَّ ثَغرًا *** لنرفَعَ رايةً ويدومَ خَفْقُ
في مثل هذه الأيام قبل عامٍ مضى بتمامه وكماله، كنّا نحبس الأنفاس ونحن نعدّ الدقائق والساعات، كانت دموع الفرح تنهمر مع كلّ شبرٍ يُحرَّر، وكانت أصوات التكبير تشقُّ عنان السماء مع كلّ فتحٍ يمنّ الله به على عباده المجاهدين.
حلب تتحرر، الأخضر يتمدّد، درعا تنتفض، جبهة حماة تشتعل… وعدّاد المدن والبلدات والقرى التي تنضمّ إلى راية الحرية واللون الأخضر لا يتوقف، حتى بات يتغير في الأيام الأخيرة كلّ ساعة.
الفاتحون على أبواب حماة، والحمويّات يزغردن لاستقبال المجاهدين، والروسي يقصف جسر الرستن في محاولة يائسة لكبح هدير طوفان الفاتحين، حمص تلتحق بركب التحرير، والجرذان تفرّ أمام وطءِ أقدام المجاهدين.
لحظات عصيبة ممزوجة بأملٍ عظيم، في ليلة لم يكد ينام فيها أحد، ولم يغمض فيها جفن.
ترقّب وأمل…
دير عطية، النبك، القطيفة، الغوطة، الكسوة، أسوار دمشق جنوبًا وشمالاً… نعم، لقد وصلها الفاتحون.
السفّاح يفرّ، ودمشق تتحرر.
ثمَّتَ صرخةٌ تشقُّ صمت السحر: “الأسد سقط يا جماعة… سوريا تحررت!”.
وهناك… حيث الألم والظلام..
أجسادٌ أنهكها العذاب ولم ترَ النور منذ سنين..
أطفالٌ حيارى ولدوا في مسالخ الأسد، لم ترَ أعينُهم سوى جدران الصمت وعذاباتها الرهيبة.
نساءٌ حَرائر..
شبابٌ في عمر الزهور..
رجالٌ احدودبت ظهورهم وذابت أجسادهم تحت وقع السياط وهول العذاب..
تُفتَّح لهم أبواب السجون وتُكسر القيود.
أصوات قعقعة البنادق تتعالى وهي تكسر الأقفال وتحطم الأغلال.
ما الذي يجري؟
ما الذي يحدث؟ يتساءلون بين وجل وذهول..
فتأتيهم البشرى كأنها أضغاث أحلام: “اطلعوا… اطلعوا… الأسد سقط!”..
فتختلط دموع التحرير وكسر القيود بصيحات التكبير والحمد والتهليل.
دموع في الميادين، ودموع في الزنازين، ودموع في الشوارع، ودموع خلف الشاشات… دموعُ فرحٍ تكاد تسيل بها الطرقات في أصقاع الأرض كلها.
جباهٌ تخرّ لله ساجدة، لا تعرف بأيّ عبارات الحمد تلهج.
ساعاتٌ لم يعشها السوريّ الحرّ وحده، بل عاشها كلّ مسلمٍ حرٍّ في مشارق الأرض ومغاربها، بل كلّ صاحب ضمير؛ عاشها الشجر والحجر والدوابّ والجماد..
كلٌّ يسبّح بحمد الله ويلعن الطاغية.
لقد جاء الفتح العظيم من عند الله بعد عقودٍ من القهر والطغيان، حتى بلغت القلوب الحناجر، وبلغ اليأسُ بكثيرٍ من الناس منتهاه.
لم يكن الثمن رخيصًا… كان باهظًا بقدر ما تجذّر ذلك الطاغوت؛ فكان اقتلاعُه أشقَّ من اقتلاع جبلٍ من مكانه.
دماءٌ وأشلاء، معتقلون ومعتقلات، صرخاتٌ وأوجاع، قتلٌ وإعدامات خلف القضبان، مقابر جماعية، تهجيرٌ وتشريد، غرقٌ في البحار، ضنْكٌ في الخيام والأوحال، براميلُ وقصفٌ ودمار.
لحظات النصر لم يعشها السوريّ الحرّ وحده، بل عاشها كلّ مسلمٍ حرٍّ في مشارق الأرض ومغاربها، بل كلّ صاحب ضمير؛ عاشها الشجر والحجر والدوابّ والجماد..
وفي مقابل ذلك… جهادٌ وصبر، ورباطٌ وعزائم، هتافاتٌ ومليونياتٌ ملأت الساحاتِ تحت زخّات الرصاص وتهديدات الشبيحة.
شهداءُ ومضحّون، شبابٌ باعوا حياتهم لله، خنساواتٌ ومجاهدات، قادةٌ وميدانيون، أطباءٌ لا يعرفون النوم، إعلاميون بلا حصانة، فرقُ إنقاذٍ بلا حماية، عمالقةٌ عبّدوا لنا الطريق بتضحياتهم ودمائهم.
عشرات، بل مئات آلاف الشرفاء… بل ملايينُ شاركوا في صناعة النصر، فما نكصوا ولا تراجعوا.
سنواتٌ عجاف مرّت على سوريا كأقسى ما مرّ على أمّةٍ من البلاء… كان فيها التمحيص والامتحان، والبذل والإعداد والجهاد، والصبر والرباط والاحتساب، رغم تكالب الأعداء واستماتتهم في تعويم الطاغية.
ومع ذلك… لم يتراجع أهل الحق، ولم تخدعهم الوعود والعروض، فالهدف كان واضحًا مهما غلا الثمن: لا بديل عن إسقاط النظام.
عصابةٌ تسلّطت على رقاب الناس، سمَّوها زورًا حكومة و”نظامًا”، وما هي إلا شرذمةٌ جمعت أحقرَ البشر بأخَسّ الطباع وأرذل الخلال، واجتمع فيها من اللؤم والطغيان ما لم تسمع بمثله الأمم.
ساندها من بني جلدتنا أراذلُ سفَلَة، وخوَنةٌ وُضعاء، باعوا دينهم بدنيا غيرهم، ورضي أحدهم أن يكون للطاغية حذاءً، فيحمل للغدر والخيانة لواءً.
فكان الناس على ثلاثة أصناف:
ظالمٌ لنفسه، ومقتصدٌ، وسابقٌ بالخيرات بإذن الله.
نالَ الشّرف من لحق بالركب وضرب بسهمٍ في اقتلاع الطاغية، وباء بالخزي والعار من كان شاهدَ زورٍ وسهمَ سوءٍ في كنانة الطغيان.
الفتح ليس خاتمة الطريق، بل بدايةٌ لمرحلةٍ جديدةٍ، لها استحقاقاتها وفروضها
واليوم.. وبعد مضي عامٍ على ملحمة الفتح وبيارق النصر، على لحظاتٍ أعادت للبلاد روحها، وللعباد كرامتها، لا بدّ من وقفات نراجع فيها مسيرتنا، بعد أن انتقلنا من مرحلة الابتلاء بالاستضعاف إلى الابتلاء بالاستخلاف…
فالفتح ليس خاتمة الطريق، بل بدايةٌ لمرحلةٍ جديدةٍ، لها استحقاقاتها وفروضها.
وإذا كان العام الأول من الفتح قد حمل إلينا دموعَ الفرح وذكرياتِ التضحية والبطولة، فإن العام الثاني يطرق أبوابنا بسؤال يقرَع القلوب:
ماذا فعلنا لنصون هذا الفتح ونحفظ مكتسباته ونحقق شروط التمكين؟
هذه وقفات سريعة، نجمعُ فيها بين جيَشانِ العاطفة والوعيِ بالواجبات، لتكونَ معالمَ طريقٍ لنا تُبَصّرنا بمواطن القوة والإيجابيات فنعزّزها، ومواطن القصور والخلل فنرمّمها ونتجاوزها، ولتكون ذكرى الفتحِ محطةَ مراجعةٍ جادّة في مسيرة البناء والتمكين.
1- شكر المنعم.. أولُ دروس الفتح وبوابةُ التمكين:
فالفتح محضُ فضل من الله، جاء بعدَ أثمانٍ باهظة، وأنفاسٍ محبوسة، وقلوبٍ طالما انتظرت الخلاص.
فهل قابلناه بما يليق به من الشكر والامتنان، ونسبةِ الفضل فيه للواحد المنّان؟
وهل ما تزال القلوب تلهج بالحمدِ والثناء، متذكّرةً كيف بدّل الله حالنا من الضرّاء إلى السرّاء؟
أم كانت لحظاتِ فرحٍ عابرة… عشناها كطيفٍ جميل، ثم اعتدنا النعمة فنسيناها في زحمة الأيام؟
بل تجاوز بعضُ الناسِ ليقول جاحدًا النعمة: “ما الذي تغيّر”؟!
في حين أنّه قد تنفّس الحجرُ والشّجر… ووُلدت البلاد من جديد!
هل ترجمنا الحمدَ عملاً يضعُنا على طريق التمكين؟
أم اكتفينا بأن نكون على منصّة المراقبين، وحَوْلنا من يصنعُ المجد ويُكمل المسير!
2- العمل الصالح.. طاعةٌ وقُربةٌ وإخلاصٌ وإنابة:
فالفتح الذي جاء من عند الله لا يُصان إلا بما أمر الله، إيمانٌ وعملٌ صالح، وتجديدُ العهدِ مع الله بالطاعة والتوبة والإخلاص، ومراعاةٌ لحدود الشرعِ على صعيد الفرد والمجتمع والمسؤول، حتى تستوي السفينةُ وترسوَ على شاطئ التمكين.
ولنسألْ أنفسنا:
هل نحن اليوم أقربُ إلى الله مما كنا قبل الفتح؟
وهل ترجمنا الشكر إلى عملٍ يُرضي الله، لتدومَ نعمة الأمن والحرية؟
أم قسَت القلوب ووقَعْنا في الغفلة والجحود والعصيان؟
3- من فرحةِ النّصر إلى مشروعٍ حضاري.. بناءُ الإنسان ثم البنيان:
فالنصر الذي يَصنعُ المستقبل، ويعيد سوريا إلى مكانها الرياديّ، هو الذي يتحوّلُ وهجُه إلى مشروعِ بناء؛ بناء الإنسان القادر على حمل الأمانة قبل بناء العمران.
نحتاجُ أن ننتقلَ من هديرِ الجبهاتِ إلى هدير المعامل والمدارس والجامعات والمؤسسات، وأن تتحوّلَ طاقاتُ الثورة إلى طاقاتِ إنتاج، وأن نعملَ على تأسيس اقتصادٍ مقاومٍ منتج، يستثمر الخبرات ويُوظّفُ الطاقات، ويتخلّص من التبعيَّة والعيش على المقايضاتِ أو المساعدات.
فالشرذمة الآفلة قالت: “الأسد أو نحرقُ البلد”، وكانت مشروعَ تدميرٍ وإفساد، وآن لنا بعد زوالها أن نعبُرَ إلى مشاريع البناء والإصلاح.
فهل بدأنا فعلاً مشروعَنا الحضاري؟
أم ما تزال بهجةُ النصر في حيّز الشعور أكثر منها في حيز العمل والنهضة والبناء؟
النصر الذي يَصنعُ المستقبل، ويعيد سوريا إلى مكانها الرياديّ، هو الذي يتحوّلُ وهجُه إلى مشروعِ بناء؛ بناء الإنسان القادر على حمل الأمانة قبل بناء العمران
4- لزومُ الثغور وسدُّ الفُرَج.. مسؤوليةٌ فرديةٌ وجماعية:
فالأوطان لا تُبنى بالمتفرجين، ومسؤوليةُ البناء تقع على عاتقِ كُلٍّ منا، فردًا كان أو مؤسسةً أو مجتمعًا أو دولةً ومسؤولين، كلٌّ بحسب موقعه وما أقامَه الله فيه من الأمانة والحِمل والمسؤولية. وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (كلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعِيّته)،
كلٌّ مطالبٌ بأن يسُدّ ثغره..
الأمير في إمارته، والوزير في وزارته، والمسؤول في موقعه، والمعلم في مدرسته، والعامل في ورشته، والإعلامي في ميدانه، والأب في أسرته، والطالب في دراسته…
فليَسألْ كلٌّ منّا نفسه بعد عامٍ كامل:
ما هي الثغور التي أقِفُ عليها؟
وأين موقِعي في خريطة بناء الأوطان؟
ما اللَّبنَةُ التي وضعتُها في هذا البناء؟
هل لزمتُ ثغري، أم اكتفيتُ بالترقُّب والنقد واللومِ دون عملٍ أو إصلاح؟
5- مراجعة المسيرة.. وشجاعة الاعتراف بالخلل والقصور:
لا يَسْلمُ عاملٌ من خطأ، ولا يَسلَمُ عَملٌ من خلل، والتمكين لا يناله مَن لا يُحسنون المراجعةَ والاعترافَ بالأخطاءِ لتصويبها، وبالقصورِ لتداركه، ولا يصلُ إليه مَن لا يمتلكون الشجاعة في قبول النصح وتقبّل النقد.
ونحن أحوج في مرحلة البناء أن نُكثر من المراجعة، وأن نكرّر السؤال:
ما الإنجازاتُ والقراراتُ الصحيحة التي وُفِّقنا إليها؟
وما مواضع القصور التي يجب أن نتداركها؟
وما الأخطاء التي وقعنا بها لنصحّحها؟
وهل نمتلك الشجاعة لنقول: هنا وقع الخلل.. وهنا يجب الإصلاح؟!
6- النُّصحُ والاحتساب.. صِمَام الأمان في رحلة التمكين:
فبالنصحِ تُصَحَّحُ الأخطاء، ويُتداركُ الخلل، وتُحفَظ مسيرة البناء، وتُحمى سفينةَ المجتمع من الغرق.
ولا غنى لراعٍ ولا لرعيّة عن النُّصح وقبول النّصيحة، وبقدْر ما يكونُ الاحتسابُ والأمرُ بالمعروفِ والنّهيُ عن المنكرِ حيًّا في المجتمع، بضوابطه وآدابه، بقدْرِ ما يُهدى أفرادُه ومسؤولوه للرشاد، فيحقّقوا خيريّة الأمة ويسلكوا سبيل التمكين.
7- وحدةُ الصفّ.. فريضةُ البناء ودرعُ النصر:
إنّ العدوّ المتربّص الذي لم ينجح في هزيمتنا عسكريًّا، لن يألوَ جهدًا في تمزيق صفّنا الداخلي وتفريقِ كلمتنا لنفشلَ وتذهب ريحُنا.
وإن وحدة الصف هي الدّرع الذي نحمي به هذا النصر من التمزّق والاضمحلال.
فبناءُ أيّ مجتمع إنما يكون باجتماع الكلمة، ووحدة الصف، ونبذِ الفرقة والخلاف.
ونحن أحوج ما نكون بعد سنوات الثورة وعنائها لتضميد الجراح، وبناء جسور الثقة، وإغلاق أبواب التنازع والخلاف، ورفضِ مشاريع التمزيق مهما تلوّنت، وتجنُّبِ التعصّب المقيت، لنبني وطنًا يسوده الحبُّ والتكاتف والإخاء، ولا تُفَرِّقنا عادياتُ الأيام ونزَعَاتُ الأهواءِ بعد أن استشعرنا الأمنَ والأمان، وكُنّا قد عِشنا بُرهة من دهرنا يُجمّعنا الهمّ والهدف، ويفدي أحدُنا أخاه ونحن تحت القصف والعدوان.
فهلّا وقفةٌ صادقةٌ نحاسب فيها أنفسنا، ونُعَبّد فيها جسور المحبّة والإخاء، لنكون يدًا واحدةً في مشروع النهضة والبناء؟!
8- إقامة العدل.. محاسبةُ المجرمين وتسكينُ قلوب الثكالى:
فالعدل هو الروح التي تتنفّس بها الأوطان، وهو أوّل الطريقِ لبناء بلدٍ ينعَمُ فيه المرءُ بالحرّية وتُصان فيه كرامة الإنسان.
وهل قامت الثورة إلا رفضًا للجَور والظلم؟
لا يكتمل الفتح إذن إلا بتحقُّقِ العدالة، ومحاكمةِ المجرمين، ولا يهنأ بالُ ثكلى وأرملةٍ ويتيمٍ ومشرّدٍ ومكلوم إلا بتحقيق العدالة الانتقالية، ومُحاسبة المجرمين والقِصاص العادل منهم، وألّا يرى مكلومٌ غريمَه حُرًّا طليقًا، فضلاً عن أن يكون ذا منصبٍ أو في موقع مسؤولية.
العدل هو الروح التي تتنفّس بها الأوطان، وهو أوّل الطريقِ لبناء بلدٍ ينعَمُ فيه المرءُ بالحرّية وتُصان فيه كرامة الإنسان
9- بناءُ مؤسساتِ الحُكم الراشد.. بالقوة والأمانة لا بالمحاباة والولاءات:
فمرحلة البناء تستلزم: الرؤيةَ الثاقبة، والقيادةَ الراشدة، وبناءَ المؤسساتِ المتخصصة، وترسيخَ العمل المؤسسي المتّصِف بالانضباط والإتقان والمسؤولية، وتعزيزَ أنظمته ومواكبةَ تطوّره.
وينبغي أن تبنى المؤسساتُ على معيارين لا ثالث لهما: القوّة والأمانة، وألّا نسمح لعهد الظُّلم أن يتسلّل عبر أبواب الفوضى أو المحاباة أو ضعفِ الكفاءة، أو أن يكون في مفاصل الدولة ومؤسساتها فلولُ النظام البائد وأربابُ الفساد الآفل.
10- الحذرُ من التآكلِ بعد النصر.. وإبقاءُ قصة الفتح حيَّةً في الوجدان:
فمرحلة ما بعد النصر، وإن كانت مرحلة بناءٍ ونهوض، إلا أن روح الثَّورة يجب أن تبقى حيّةً وجَذوتُها متوقِّدة، ليست ثورةَ التمرّد على النظام والقضاء على الطغيان التي انتهت وآتت أُكُلَها ونعيشُ اليوم ذكرى انتصارِها ونعمةَ الفتحِ بعدها، وإنما ثورةُ ربطِ الأجيالِ بذاكرةِ الفتح وقصّة الثورة، لتبقى العيونُ مفتوحةً على الشام، فلا يُزوَّر تاريخ، ولا يُختطَفُ نصرٌ، ولا تُمحَى جريمة لم يُقتصَّ من مرتكبها، ولا يرتفعُ في سوريا الجديدة رأسٌ لمجرم ولا لقاتلٍ سفّاح.
الفتحُ عهدٌ جديد أنعم الله به علينا بعد طول بلاء، ولا يدومُ إلا بطهارةِ القلوب واجتماعِ الكلمة وصِدق السّعي
وخلاصة القول:
إننا معنيون جميعًا بالمحافظة على مكتسباتِ النصر، والمساهمةِ في بناء دولة القانون والعدلِ والمؤسسات، التي يكونُ رائدُها وسبيلُها تحقيقَ رضى الله ونصرةَ شريعته وإعلاءَ كلمته.
فالفتحُ عهدٌ جديد أنعم الله به علينا بعد طول بلاء، ولا يدومُ إلا بطهارةِ القلوب واجتماعِ الكلمة وصِدق السّعي.
ونحن أحوجُ ما نكونُ إلى تجديد العهدِ مع الله، والتّواضُعِ له، ونِسبةِ الفضل لهُ وحده، والأخذِ بالأسبابِ حتى يُمكّنَ لنا في الأرض بعد إذ نجّانا من القوم الظالمين، ويحقِّق لنا وعده بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
أ. حسان الجاجة
مدير جمعية تاج لتعليم القرآن الكريم، داعية ومربي


