الافتتاحية

ظاهرة التخوين والإسقاط .. المشكلة والعلاج

ظاهرة التخوين والإسقاط .. المشكلة والعلاج - مجلة رواء

يُلاحِظ المتابع للكثير من القضايا العامة اليوم توسُّع ظاهرة التشكيك والتخوين، وكثرة النيل من مختلف الشخصيات التي تتصدر العمل في الشأن العام؛ سياسية كانت أو شرعية أو ثقافية أو تربوية، فبمجرد أن يصدر خطأ أو شبهة خطأ من إحدى الشخصيات، تنهال عليه سيوف التقريع والتخوين وقد يصل الأمر إلى الطعن في النيات والمقاصد القلبية.

والأنكى من ذلك أن تبدأ حملات التخوين والشتائم بمجرد تسنُّم شخصيةٍ ما لمنصب من المناصب، وقبل أن يظهر منه أي موقف أو خطأ، وكأن المنتقد المجرِّح قد نظر في الغيب فعلم الخيانة من سريرة هذا الشخص أو أنه سيخون الأمانة!

ولا يخفى على ذي لبٍّ ما لهذا السلوك من خطر على المجتمع ورجالاته، فمن ذا الذي يسلم من الخطأ؟ ومن ذا الذي يمكنه إرضاء جميع الناس؟

إن التخوين المقصود يختلف بلا شك عن النقد الموضوعي الهادف، والاحتساب الشرعي الواجب، فالتخوين يطعن في النيات ابتداء، ويفتري على الشخص بما لم يفعل، وبما ليس فيه، بينما يركز النقد على الخطأ عند وقوعه، والطريقة المناسبة لتقويمه، والسبل المثلى لتفاديه في المرات القادمة، والاحتساب يضيف إلى ذلك التخويف بالله والتذكير بالحساب في الآخرة.

التخوين يختلف عن النقد الموضوعي والاحتساب الشرعي، فهو يطعن في النيات ابتداء، ويفتري على الشخص بما لم يفعل وبما ليس فيه، بينما يركز النقد على الخطأ عند وقوعه، وسبل تفاديه، وطرق تقويمه، والاحتساب يضيف إلى ذلك التخوين بالله وبالآخرة

مكانة السمعة والعِرض في الإسلام:

من أهمّ مقاصد الشريعة حفظ عرض المسلم وسمعته وشرفه من أن يُلطّخ أو يُمَسّ بغير حقّ، حتى لا تُنتهك خصوصيته، ولا يُعتدى عليه، ولا يُوصف بما ليس فيه، فكان الحفاظ على العرض من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها وعدم إهدارها.

وعِرض الإنسان وسمعته هي من أهمّ ما يملكه الشخص في حياته الدنيا، ويستمرّ معه بعد موته؛ فيكون الثناء عليه والشهادة له بالخير أو الشرّ بما عُرف عنه واشتهر، فقد مُرَّ بجنازةٍ على رسولِ الله ﷺ فأثنوا عليها خيرًا فقال: (وجبت)، ثم مرت جنازة أخرى فذموها، فقال: (وجبت)، فلما سألوه عن قوله: (وجبت) للأولى والثانية، قال: (هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)[1].

وقال ﷺ: (يُوشِكُ أن تعرفوا أهلَ الجنةِ من أهلِ النارِ)، قالوا: بم ذاك يا رسولَ اللهِ؟ قال: (بالثناءِ الحسنِ والثناءِ السيِّئِ، أنتم شهداءُ اللهِ بعضُكم على بعضٍ)[2].

لذا ورد في دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤]، قال ابن عباس: «يعني الثناء الحسن»[3]، يعني ثناء الناس عليه، والترحم، وذكره بالخير دائمًا.

وسائل وإرشادات سَنَّها الإسلام لحماية الأعراض:

حرص الإسلام أشدّ الحرص على حماية عرض المسلم وسمعته، وسنَّ لذلك جملة من الإجراءات والتوجيهات، من أهمها:

  • تحريم الإضرار بها أو مسّها دون حق، قال ﷺ في حجة الوداع: (أيها الناس… إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.. ألا بلغت.. اللهم فاشهد)[4].
  • الأمر بحفظ اللسان ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨].
  • النهي عن تتبع عورات الناس: (لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم، فإنه مَن اتَّبَعَ عوراتِهم يتَّبِع الله عورته، ومَن يَتَّبِع اللهُ عَوْرَتَه، يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه)[5].
  • تحريم الغيبة والنميمة، وجعل الافتراء على المسلم بما ليس فيه من أشدّ أنواع الغيبة، قالوا: «يا رسولَ اللهِ، ما الغِيبةُ؟» قال: (ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَهُ)، قيل: «أفرأيْتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟» قال: (إن كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه، وإن لم يكنْ فيه ما تقولُ فقد بهَتَّه)[6].
  • ترتيب أشد العقوبات على انتهاك عرض المسلم وقذفه بما هو بريء منه، وجعل ذلك من الكبائر المستحقة للعقاب الشديد في الدنيا، والعذاب في الآخرة: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: ٤].
  • توعُّد من يشيع الفاحشة بالعذاب الأليم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: ١٩].
  • إيقاع العقوبة الشديدة بمن يتّهم مسلمًا بما ليس فيه: (ومن رمى مسلمًا بشيء يريد شَيْنَهُ به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)[7].

التحرز من عرض المسلم علامة الإيمان:

من علامات إيمان المرء لَجْمُ النفس عن الخوض في أعراض الناس، والتعفّف عنها امتثالاً لأمر الله تعالى ورسوله ﷺ، وقد ورد هذا المعنى في كلام الصحابة والسلف وأهل العلم

فقد كان عمر رضي الله عنه يقول: «لا يُعجبَنَّكم من الرجل طنطنته – يعني: صلاته – ولكن مَن أدَّى الأمانة، وكفَّ عن أعراض الناس فهو الرجل»[8].

وعن عبدالله بن عون رحمه الله قال: «أحبُّ لكم معشر إخواني ثلاثًا: هذا القرآن تتلونه آناء الليل والنهار، ولزوم الجماعة، والكفَّ عن أعراض المسلمين»[9].

 وقال محمد بن سيرين رحمه الله: «كنا نُحَدَّثُ أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس»[10].

وقال بعضهم: «أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة فحَسْب، ولكن في الكفِّ عن أعراض الناس»[11].

وقال ابن القيم رحمه الله: «ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفُّظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنى، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم… وغير ذلك، ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدِّين والزهد والعبادة، وهو يتكلَّم بالكلمات من سخط الله -لا يُلقي لها بالاً- ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعدَ مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحشِ والظلم، ولسانه يَفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!»[12].

أمّا الخوض في أعراض الناس بالغيبة والنميمة والانتقاص، ومحاولة إيجاد المبررات الشرعية والاجتماعية لهذا الخوض؛ فهو دليل على نقص الإيمان ومرض القلب، واستيلاء الشهوة، وسيطرة الشبهة، وربما كان وراء ذلك أسباب أخرى جديرة بالبحث والبيان.

من أسباب انتشار ظاهرة التخوين وجود حالة حقيقية من الفساد عانت منها الشعوب الإسلامية منذ عقود، ولم تكن تقبل في مؤسسات الدولة والمجتمع إلا من هو على شاكلتها في الفساد، وبسببها ترسّخ في عقول ونفوس الشعوب تعميم الوصف بالفساد وخيانة الأمانة

أسباب ظاهرة التخوين والإسقاط:

لسائل أن يقول: إن كانت الأدلة واضحة وصريحة على تحريم الطعن في الآخرين والاستطالة في أعراضهم، فلماذا نلحظ ظاهرة التخوين والمسارعة بالاتهام والسعي لإسقاط العديد من الشخصيات والمنظمات بأدنى شبهة ودون دليل؟ سواء في مجتمعاتنا العربية بشكل عام، أم في واقع ثورتنا السورية بشكل خاص.

إنّ المتأمل في الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة يجدها ذات جذور وخلفيات متنوّعة، منها:

1. وجود حالة حقيقية من الفساد عانت منها الشعوب في البلاد الإسلامية منذ عقود، وفي مختلف مؤسسات الحكم، وتجلى هذا الفساد في سائر مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والإعلامية، وغيرها، ومارستها مختلف شخصيات الأنظمة ورُتبها ابتداء من رأسها حتى أصغر فرد فيها؛ فاكتوت الشعوب بنارها وعاشت أسوأ مراحل التخلف في تاريخها، وتسلّطت عليها الشخصيات الفاسدة بشتى أنواع الفساد والإجرام، ولم تعد تقبل في مؤسسات الدولة والمجتمع إلا من هو على شاكلتها في هذا الفساد.

وبسبب المعاناة والمعايشة الطويلة لهذا الفساد، فقد ترسّخ في عقول ونفوس الشعوب تعميم الوصف بالفساد وخيانة الأمانة والاتهام بالعمالة أو السرقة لكلّ من يتولى مسؤولية أو مكانة في مؤسسة، أو برز في المجتمع، خاصة مع عدم وجود منهجية واضحة تُعرّف معنى الفساد وتحدد معاييره، فأصبحت هذه الألفاظ صفات سائلة يتم إطلاقها جزافًا دون قيود[13].

2. ومن الأسباب أيضًا: الحالة الأمنية الترهيبية التي عاشتها المجتمعات الإسلامية، حيث شجّعت الأنظمة الناس على الوقيعة ببعضهم من خلال نقل الأخبار والإبلاغ عن الآخرين وكتابة التقارير، وما نتج عن ذلك من سيطرة حال الخوف والشك في الآخر، إضافة إلى إفساد العلاقات الاجتماعية على كافّة الأصعدة، فقد أصبح المجتمع يعيش حالة من فقدان الثقة بين أفراده، وصار كل فرد ينظر للآخرين نظرة شك واتهام[14].

3. وقد نتج عمّا سبق أمر آخر في منتهى الخطورة، ألا وهو انتشار «الشخصية الشكّاكة» التي تسيء الظنّ بكلّ أحد، وتتبنى تفكيرًا غير منطقي يجعل من هذا الشخص مرتابًا شكّاكًا في الآخرين طيلة الوقت، ويفسر تصرفاتهم أسوأ تفسير لتتوافق مع تصوراته وافتراضاته المسبقة، مما يكسبه صفات الكراهية، والضغينة، والتي قد تتطور إلى الحسد والحقد، وقد تتجه إلى العنف ومحاولة الإيذاء ولو باللفظ. وقد تتطور هذه الشخصية إلى حدّ فقدان الثقة بالآخرين، وتبني التفسير التآمري لكلّ تصرف!

من أسباب هذه الظاهرة الحالة الأمنية الترهيبية التي عاشتها المجتمعات الإسلامية، حيث شجّعت الأنظمة الناس على الوقيعة ببعضهم من خلال نقل الأخبار والإبلاغ عن الآخرين وكتابة التقارير، وما نتج عن ذلك من سيطرة حال الخوف والشك في الآخر

4. الحالة النفسية المندفعة بعد ثورات الربيع العربي، وما رافقها من جهود الأنظمة الاستخباراتية لإفشال الثورات والانقلاب عليها واختراقها بأنواع العملاء والمدسوسين من مدّعي الوطنية والتديّن والجهاد؛ فصار لدى بعض المجتمعات حساسية شديدة تجاه كلّ من لا يوافقها في مواقفها، لدرجة اتهامه بالخيانة والعمالة، ومواجهته بعنف وشدّة تماثل الخشية منه على الثورة ومنجزاتها. ومع حالات «الهياج» الجماهيري كثيرًا ما تضيع الحقيقة وسط الركام.

5. وجود حالات فساد حقيقية وملموسة في أوساط شخصيات أو مؤسسات عاملة في المجتمع محسوبة على المعارضة أو الثورة، تستقوي بالمنصب لتحقيق أغراضها، وتستخدم موارد الشعب في ترفيه نفسها، ومع غياب المنهجية، ووجود النفسية المندفعة السابق ذكرهما؛ يصل الأمر إلى تعميم الحكم بالفساد والخيانة عند أدنى شبهة، أو لمجرد التحليل والتفسير!

6. ساهم في تأجيج هذه الحالة: كثرة الأخبار وتنوّعها، وتناقلها دون تثبّت أو تروٍّ أو تمحيص، وما يرافق نقلها من اجتزاء يخفي جزءًا من الحقيقة، أو زيادة يكون مصدرها تحليل ناقل الخبر وتفسيره وفق رؤيته أو هواه؛ مما يخفي جزءًا من الحقيقة أو يشوهها؛ لتصبح تهمة خالصة جاهزة.

7. ولا شكّ أنّ ضعف الإيمان، والاستهانة بالغيبة والنميمة، وعدم التورع عنها، يسهّل هذه الظاهرة، ويكسر الحواجز الدينية والأخلاقية التي يفترض أن تمنعها أو تحدّ منها أو تجعلها -على أقل تقدير- محل نقد الآخرين واستيائهم، لا ترحيبهم وتأييدهم.

من نتائج ظاهرة التخوين فقدان ثقة الناس ببعضهم وانتشار العداوات والتباغض، وتهيُّب الصادقين والمخلصين من التصدي للمسؤوليات العامة، فلا أحد يرغب في التعرض لسهام التخوين ورماح التجريح

علاج ظاهرة التخوين والإسقاط:

انتشار ظاهرة التخوين والإسقاط له أثر سيء ومدمر على المجتمع، وعلى الأفراد، يؤدّي إلى إفقاد ثقة الناس ببعضهم، وانتشار العداوات والتباغض، وتفكّك المجتمع. كما يؤدِّي إلى تهيُّب الصادقين والمخلصين من التصدِّي للمسؤوليات العامة، فلا أحد يرغب في التعرُّض لسهام التخوين ورماح التجريح، وهذا بدوره له أضراره التي لا تخفى، ولذلك ينبغي علاج هذه الظاهرة والعمل على استئصالها، ومن أهمّ العلاجات ما يلي:

1. التوعية بأسباب هذه الظاهرة ومحاولة علاجها علاجًا جذريًا لا ظاهريًا، ولا سيما تلك الأسباب التي تعود إلى الحقبة السابقة، والتي ترسّخت في المجتمعات خلال عقود من الزمان.

2. العلاج النفسي والروحي للخلل الحاصل في الشخصية والأخلاق، فمن صفات المسلم مراقبة نفسه وعلاج ما فيها من خلل وأخطاء، واستدراك نقصها، وتكميل أخلاقها، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٧-١٠].

وقد قال الشاعر:

والنفس كالطفل إن تُهْمِلْهُ شَبَّ على *** حُبّ الرضــاع وإن تَفْطِمْه يَنْفَطِـمِ

وجاهد النفس والشيطان واعصهما *** وإن هـما مَحَّـضَاكَ النصح فاتـَّهِمِ

ومن هنا يبدأ التغيير الحقيقي والعلاج الأصلي، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].

3. تجنب الحكم على الآخرين بالظن والشبهة، والتمهّل قبل إطلاق الأحكام، والتثبت من صحة الأخبار المنقولة ودقتها، والعمل بالقاعدة النبوية في الاستفسار (ما حملك على ما صنعت؟).

4. إحسان الظن بالآخرين وحمل كلامهم وتصرفاتهم على أحسن محمل، وخاصة من كان منهم معروفًا بالمكانة والسمعة الطيبة، وشهد له الناس وأهل الفضل بالخير، وزكوه، ولا يعني حسن الظن بترك الحيطة والحذر والتحرز، وخاصة عند ظهور بوادرها.

ويلحق به تجنب سوء الظن وتقديمه والبحث عن التفسيرات السلبية، وهذه حرمها الإسلام وشدد عليها صيانة للعرض والسمعة، حيث يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢]، فالإسلام يهدف إلى إقامة المجتمع على صفاء النفوس وتبادل الثقة، لا على الريب والشكوك والتهم والظنون، والأصل في الناس أنهم أبرياء، ووساوس الظن لا يصح أن تُعرِّض ساحة البريء للاتهام.

5. عدم وضع النفس موضع التهمة، والعمل على توضيح ما يمكن أن يكون موضع تهمة، رحم الله امرأ جب المغيبة عن نفسه، فهذا نبي الله ﷺ يعتكف وتأتيه أم المؤمنين زوجه صفية رضي الله عنها تزوره، فمر صحابيان فأسرعا، فقال لهما: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي)، فقالا: «سبحان الله يا رسول الله!» قال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا)، أو قال: (شيئًا)[15]. قال النووي عند هذا الحديث: «باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليًا بامرأة وكانت زوجة أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به».

6. التوسط والاعتدال في الحكم على الرجال ونقد المخالف، واستخدام قواعد الإنصاف الشرعية المعتبرة في الحكم على الآخرين، والتي من أهمّها:

  • أنّ الحكم على الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، مع مراعاة تقوى الله والوَرَع، وتقديم حسن الظنّ بالمسلمين.
  • أنّ الحكم لا يصحّ إلا بعد تحقق الشروط كالتثبّت، وانتفاء الموانع كالجهل والإكراه.
  • عدم الحكم بمآلات الأفعال ولوازم الأقوال[16].

هذه ليست دعوة لقبول ظلم الطغاة وفساد المتسلقين وخيانة العملاء، أو السير بين الناس بالغفلة والثقة بمن ليس أهلاً لذلك، لكنه تحذير من إطلاق التهم وإهدار أعراض الناس بالتجريح والبهتان، وإبقاء شيء من الثقة والتعقل أمام من يتحمل المسؤوليات ويتصدى للمهمات الجسيمة

وفي الختام:

المرء مؤاخذٌ بما يقول وما يكتب، وربَّ كلمةٍ لا يلقي لها بالاً تكون سببًا في سفك دم مسلم، أو تسليط الناس عليه وهو بريء، وقد تورد صاحبها المهالك، والتجريح والاتهام الباطل يدخل في أبواب كثيرة من الشر بدءًا من سوء الظن، ومرورًا بالبهتان والافتراء والكذب، وانتهاء بنشر البغضاء والتدابر في المجتمع المسلم.

وهذه ليست دعوةً لقبول ظلم الطغاة وفساد المتسلقين وخيانة العملاء، أو السير بين الناس بالغفلة والدروشة والثقة بمن ليس أهلاً لذلك، لكنه تحذير من إطلاق التهم على عواهنها، وإهدار أعراض الناس وهتكها بالتجريح والبهتان، وإبقاء شيء من الثقة والتعقل أمام من يتحمل المسؤوليات ويتصدى للمهمات الجسيمة.

وإذا تحاشى الفضلاء والنبلاء من الناس تولي المسؤوليات العظيمة صيانة لأعراضهم من النهش والهرش، فمن الذي سيتصدر لها إلا المتسلِّقون والانتهازيون؟ وحينها سيصدُق علينا قول الشاعر:

فـينا مَعـاشِرُ لم يَبْنُوا لقـومِهمُ *** وإنْ بَنى قومُهُمْ ما أَفْسَدوا عادُوا

لا يَرْشُدونَ ولن يَرْعَوا لِمُرْشِدِهمْ *** فالغَيُّ منهُمْ مـعًا والجَهْلُ ميعادُ

والبـيتُ لا يُـبْتَنَى إلا لـهُ عَـمَـدٌ *** ولا عِـمـادَ إذا لــمْ تُرْسَ أَوْتـادُ

لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ *** ولا سَراةَ إذا جُـهَّالُـهُـمْ سـادُوا

تُلفَى الأمورُ بأهل الرُّشْدِ ما صَلَحَتْ *** فـإِنْ تَـوَلَّوْا فبـالأَشْرارِ تَنْـقـادُ


[1] أخرجه البخاري (١٣٦٧) ومسلم (٩٤٩).

[2] أخرجه ابن ماجه (٤٢٢١).

[3] تفسير ابن كثير (٥/٢١٠).

[4] أخرجه البخاري (١٧٣٩) ومسلم (١٦٧٩).

[5] أخرجه الترمذي (٤٨٨٠).

[6] أخرجه مسلم (٢٥٨٩).

[7] أخرجه أبو داود (٤٨٨٣)، يريد شَينَه: أي عَيبَه.

[8] الزهد، لابن المبارك (٦٩٥).

[9] حلية الأولياء (٣/٤١).

[10] الصمت، لابن أبي الدنيا (١٣٨).

[11] ذم الغيبة والنميمة، لابن أبي الدنيا (٥٥).

[12] الداء والدواء، ص (١٥٩).

[13] ينظر: التقرير التحليلي «الإسقاط والتخوين عند السوريين؛ حالة عابرة أم ظاهرة؟ قراءة اجتماعية نفسية في الأسباب»، مركز الحوار السوري، منشور في موقع المركز بتاريخ ٣٠ مارس ٢٠٢٢م.

[14] المرجع السابق.

[15] أخرجه البخاري (٣٢٨١) ومسلم (٢١٧٥) واللفظ له.

[16] من كتاب: الإحكام في قواعد الحكم على الأنام، للدكتور محمد يسري إبراهيم.

X