دعوة

ضوابط منهجيّة وتربوية حول التعاطي مع الخلاف واحتوائه

ضوابط منهجيّة وتربوية حول التعاطي مع الخلاف واحتوائه

خلق الله الناس مُختلفين، وهذا جزءٌ من ابتلائهم، والناس إزاء هذا الاختلاف على طرفي نقيض، فريق يريد إلغاء الاختلاف أو المخالفين، وفريق يدعو إلى تجاهل الخلاف والامتناع عن الحديث فيه، ويدعو إلى تقبُّل جميع وجهات النظر بصوابها وخطئها، والمسألة وسطٌ بين طرفين، وللتعامل مع الخلاف قواعد وضوابط لا بد من إعمالها حتى تستقيم الأمور ويستبين الحق.

من المتقرّر أنّ الاختلاف سنةٌ ربّانية من سُنن الله تعالى في خلقه، وقد رسم أهل العلم ضوابط منهجيّة وقواعد علميّة تشكّل بمجموعها الخطوط الرئيسة في تكوين المنهج الصحيح لفقه الائتلاف، والطريق القويم في توجيه الخلاف واحتوائه والتعامل معه بإيجابيّة، عبر تأسيس قواعده وتأصيل ضوابطه؛ ليرتكز عليها مَن أراد للسفينة أن تُكمل مسيرتها، وللأمّة أن تعلو بأخلاقها، وللمسلمين أن يوحّدوا صفوفهم، لينجوا من هلكة التفرّق، وفشل التنازع، ولُجَج بحار الخصومة وغمرتها.

الضابط الأول: الرجوع إلى الكتاب والسنّة عند الاختلاف:

إنّ وحدة المرجعية الشرعية عند حدوث الاختلاف والتنازع له دور محوري وأساسي في احتواء الخلاف ورفعه، والتعاطي معه بشكلٍ إيجابي، ومِن هذا المنطلق أمر الله تعالى عباده المؤمنين بلزوم الرجوع إلى الوحيين عند وُقوع التنازع؛ قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: ٥٩].

قال ابن القيم: «قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ نكرةٌ في سياق الشرطِ، تَعُمُّ كلَّ ما تنازعَ فيه المؤمنون مِن مسائل الدين دقهِ وجلِّهِ، جَلِيِّهِ وخَفِيِّهِ، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيانُ حُكمِ ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيًا لم يأمُر بالرَّدِّ إليه؛ إذ مِن الممتنعِ أن يأمرَ تعالى بِالردِّ عند النزاع إلى مَن لا يوجدُ عنده فصلُ النزاع»[1].

وحدة المرجعية الشرعية عند حدوث الاختلاف والتنازع له دور محوري وأساسي في احتواء الخلاف ورفعه، والتعاطي معه بشكلٍ إيجابي، ومِن هذا المنطلق أمر الله تعالى عباده المؤمنين بلزوم الرجوع إلى الوحيين عند وقوع التنازع

ولزوم الاتِّباع هنا مِن مقتضى التسليم التامِّ لأمر الله تعالى، وأمر رسوله ﷺ، وهنا يبرز دورُ تعظيم نصوص الوحيين عند أطراف الخلاف، فالنزول إلى حكم الله ورسوله مِن لوازم العبودية التامّة لله تعالى، وثمرته هو الفلاح والفوز، كما وعد الله ذلك في محكم كتابه فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٥١ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: ٥١-٥٢].

وثمّةَ ضابطٌ آخر له اعتباراته العلمية، ودلالاتُه الواقعية في حسم مادة الخلاف ورفعه، وهو أن يكون الاستدلال بنصوص الوحيين وُفق فهم الأولين مِن القرون المفضّلة.

وترجيح جانب فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لنصوص الوحيين لكونهم أعلمَ الناسِ بسنّة رسول الله ﷺ، وبما أخبر به عن معنى مُراد الله تعالى، وهذه الحقيقة الشرعية أكّد عليها ابن عباس رضي الله عنه عندما ناظر الخوارج فقال: «جئتُ أُحدّثكم عن أصحابِ رسول الله ﷺ، عليهم نزل الوحي، وهم أعلمُ بتأويله»[2].

وفي تأييد هذ المعنى يقول الشاطبي: «يجب على كلِّ ناظرٍ في الدّليل الشرعي مراعاةُ ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصّواب، وأقومُ في العلم والعمل»[3].

الضابط الثاني: تفعيل دائرة المتفق عليه والإسهام في بناء الأرضية المشتركة:

مِن الحقائق العلميّة أنّ دائرة المتّفق عليه بين المنتسبين للسنّة والجماعة أوسع مِن دائرة المختلف فيه، سواء في الجوانب المنهجية والسلوكية، أو في القضايا التعبّدية والفقهية، وإدراكُ مثل هذه الحقائق يحتّم على المربّين وطلبة العلم أنْ يوسّعوا مِن دائرة الخطاب الإسلامي، ويركّزوا على الجوانب المشتركة، لبناء مرحلةٍ مِن التعاون فيما بينهم تحقيقًا لمصالح الأمّة، وأنْ يتفهّموا أنّ دائرة القواعد الكلّية والمتّفق عليه ذات قطاع عريض في مجال الشريعة وتطبيقاتها العملية في الحياة.

ولعلّ المتأمّل في المشهد الثقافي يلحظ كَدَرًا ثقافيًّا، وصراعًا فكريًّا، وهدرًا لطاقات مثمرة، وضياعًا لكثير مِن المسلّمات، وإهمالاً للعديد مِن القطعيات لعلّ مِن مسبباته تفعيل دائرة المختلف عليه، وتعطيل أو تهميش جانب المتّفق عليه.

إنّ على العاملين في الحقل الإسلامي أن يسيروا في ركاب المشتركات، ورحاب المتّفق عليه، إسهامًا منهم في وحدة الصفّ، وإحياء المشتركات الوفاقية، ويتأكّد ذلك إبّان المحن التي تعصف بالأمّة المسلمة، والتي يجب عليها أن تترفّع فيها عن الخلافات، وتسعى إلى رأب الصدع، ورصّ الصفوف، وحشد الطاقات.

إن لم ندرك في مرحلتنا الحالية الحرجة أهميةَ تفعيل دائرة المتّفق عليها، فمتى سندرك ذلك؟ ويجب أن نوقن أننا لن نربح معركةً نحن جنودها وضحاياها في آن واحد

ونحسب أنّ الخطاب الإسلامي وبالرغم مِن المحن والأزمات التي تعصف بالأمّة لا يزال في كثيرٍ مِن مخرجاته يصدر مِن منطلقات ذات أطرٍ ضيّقة، وقد آن لذلكم الخطاب أن يجدّد من لهجته، إذ إنّ تفعيل المشتركات في الواقع العملي لا يعدو كونَه إِجراءً شكليًّا، وتصوّرًا تنظيريًّا.

ولن نُفْرِطَ في التفاؤل فليس ثمّةّ ما يدعو إلى ذلك في ظل الأُطر الفكرية التي أفرزها الواقع الإسلامي المرير، في مُرَكّبٍ صعبٍ، ومزيجٍ متجانسٍ مِن التعصّب والديكتاتورية الفكرية.

وإنّ أنموذج الديكتاتوريات الذي مارسته بعض الحواضن التربوية في كثيرٍ مِن أنماطها التربوية تحول اليوم دون مدّ الجسور مع الآخر، بل وتُسهم في التقوقع الفكري، وبناء الحواجز، فكيف لجيلٍ تربّى على ذلك أن يُدرك مفهوم بناء أرضية مشتركة مع الغير؟

ولعلّنا ومِن خلال نظرتنا إلى الخلافات بين الكيانات المعتدلة على الساحة الإسلامية نلمس أنّ هناك فجوة منهجية، وجفوة أخوية، وإن لم ندرك في مرحلتنا الحالية الحرجة أهميةَ تفعيل دائرة المتّفق عليها، فمتى سندرك ذلك؟ ويجب أن نوقن أننا لن نربح معركةً نحن جنودها وضحاياها في آن واحد.

الضابط الثالث: التماس العذر للمخالف المجتهد وعدم التثريب عليه:

إنّ التماس العذر للمخالف المجتهد يورث في القلوب محبة ًوتآلفًا، وفي النّفوس رحمةً وطمأنينة، وهذا بابٌ من أبواب حسن ظنّ المسلم بأخيه المسلم.

فعن سعيد بن المسيب، قال: «كتب إليَّ بعضُ إخواني مِن أصحاب رسول الله ﷺ: أنْ ضعْ أمرَ أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبُك، ولا تظنّن بكلمةٍ خرجت مِن امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد له في الخير محملاً.،..»[4].

وعن أبي قِلابة قال: «إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تَجِدُ عليه فيه فاطلب له العذر بجهدك، فإن أعياك فقل: لعلَّ عنده أمرًا لم يبلغه علمي»[5].

ولازِمُ ذلك أن لا يُحمَل قولُ مَن اجتهد وأخطأ مِن أهل العلم والفضل على تعمّد المخالفة للصواب، بل يُلتمس له العذر؛ كأن لم يبلغه الحديث، أو لم يصحّ لديه سنده، وغير ذلك مما ذكره أهل العلم في مواضعه، وهذه الأعذار الملتمسة تحفظ المودّة والإخاء، وهذا ما فعلته أم المؤمنين عائشة ~ في الخلاف بينها وبين ابن عمر في مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، فعن عمرة بنت عبد الرحمن: أنّها سمعت عائشة، وذُكر لها أنّ عبدالله بن عمر يقول: «إنّ الميت ليُعذّب ببكاء الحي»، فقالت عائشةُ: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنّه لم يكذب، ولكنّه نسي أو أخطأ، إنّما مرّ رسولُ الله ﷺ على يهوديةٍ يُبكى عليها فقال: (إنّهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها)»[6].

ولا ريب أنّ المرء كلما كان أوسع علمًا كان أعذر للناس، وهذا مُشاهَدٌ في تجارب وممارسات علماء الإسلام، وموقفهم مِن مخالفيهم، فمن يتأمّل كلامهم في مؤلّفاتهم وسجالاتهم يجد أنّهم أسّسوا لمنهجٍ علمي وتربوي رصين في الإنصاف والتعامل مع المخالفين.

ولعلّنا نسوق أحد النماذج اللطيفة في اعتذار الإمام الذهبي رحمه الله للأسود بن يزيد عندما ترجم له، ونَقَل عن الحَكَمِ: أنّه كان يصومُ الدهرَ، قال الذهبي: «هذا صحيحٌ عنه»، ثمّ قال معتذرًا له: «وكأنه لم يبلغهُ النهيُ عن ذلك، أو تأوَّل»[7].

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: «ما برح المستفتون يستفتون فيُحلُّ هذا ويحرّم هذا، فلا يرى المحرِّمُ أنّ المحلِّل هَلَكَ لتحليله، ولا يرى المحلِّلُ أنَّ المحرِّم هَلَكَ لتحريمه»[8].

وفي المقابل تجد مَن قَلّت بضاعته ونقص عقله: سريعَ المؤاخذة، ضيّقَ الأفق، متعجِّلاً في إطلاق التهم، ولذلك قيل: «العالم متردِّد، والجاهل متأكّد».

كلَّما كان المرء أوسعَ علمًا كان أعذرَ للناس، وهذا مُشاهَدٌ في تجارب ومُمارسات علماء الإسلام، وموقفهم مِن مخالفيهم، فمن يتأمّل كلامهم في مؤلّفاتهم وسجالاتهم يجد أنّهم أسّسوا لمنهجٍ علمي وتربوي رصين في الإنصاف والتعامل مع المخالفين

الضابط الرابع: توفر الأهلية والكفاءة العلمية فيمن يتولّى مناقشة المسائل الخلافية:

إنّ دخول مَن تنقصهم الملَكَة العلميّة والتأصيل الشرعي في ساحات النقاش، وولوجهم في مسائل الخلاف، وإقحام أقلامهم في القضايا الخلافية المصيرية للأمّة، يُذكي بدوره جذوة الخلاف، ويساهم في تأجيجه وإعادة إنتاجه؛ فكثيرٌ مِن حالات تفريق الصفّ المسلم والتراشق الفكري يقف وراءها مَن ليس له قدرة علمية أو شرعية تؤهّله للنقاش العلمي أو الخلاف محلّ النظر، ولذلك حددّ القرآن الكريم المرجعية الشرعية في الخلاف، فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩].

وقال تعالى في وصف أهل النفاق وضعاف الإيمان: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣].

وفي هذه الآيات يقرّر تعالى مرجعية التحدّث بقضايا المسلمين والشؤون العامّة المتّصلة بهم إلى أهل العلم «فبَيَّنَ أن ما يَنظُرُ فيه أُولو الأمرِ هو المسائلُ العامةُ كمسائل الأمن والخوف، وأن العامّةَ لا ينبغي لها الخَوضُ في ذلك، بل عليها أن تَرُدَّهُ إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وأن مِن هؤلاءِ مَن يتولى أمرَ استنباطِهِ وإقناع الآخرين به»[9].

وهذا التنصيص القرآني على وحدة المرجعية أثناء النزاعات وفي قضايا الشأن العام يؤكّد دور أهل العلم والفضل والرئاسة في إدارة دَفّة الخلاف ومسائل النزاع، فلا يليق بهم موقف الحياد السلبي؛ إذ الأنظار تتّجه إليهم إبّان حدّة الاختلاف ليأخذوا موقعهم الطبيعي مِن إدارة الأزمات بالحكمة والإنصاف والرفق، ويرتقوا بالخلافات مِن الأساليب الهجومية إلى طرق أهل العلم والحكمة في التروّي، وإثبات الحقائق، وبث روح الألفة والمودّة، لذا يقرّر الإمام القرطبي هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣]، فيقول: «وليس لغير العلماء معرفة كيفية الردّ إلى الكتاب والسنة»[10].

وهذا يؤكّد الدور المنوط بمراكز الدراسات العلمية والبحثية، والمتخصّصة في الشأن العلمي والدعوي، وعِظَم الأمانة العلمية الملقاة على كاهلها، لا سيما وقد بَرَزت على الساحة في المقابل مراكز بحثية مشبوهة في أدوارها وأطروحاتها؛ تصدّرت المشهد الثقافي في القضايا المصيرية للأمّة.

وحالُ هؤلاء القوم مِن المتربّصين بالإسلام ودعاته ينطبق عليه ما وصف به علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدَ الذي ظهروا وقت الفتنة حيث قال له: «لقد كانت الجماعةُ فكنتَ فيها خاملاً، فلما ظهرت الفتنة نجمتَ فيها نجوم قَرن الماعز»[11]!.

مسؤولية إدارة دفة الخلاف تقع على عاتق أهل العلم، ولا يليق بهم موقف الحياد السلبي؛ إذ الأنظار تتجّه إليهم إباّن حدّة الاختلاف ليأخذوا موقعهم الطبيعي مِن إدارة الأزمات بالحكمة والإنصاف والرفق، وإثبات الحقائق، وبث روح الألفة والمودّة

الضابط الخامس: تجنّب أسلوب الاستفزاز، ومحاولة احتواء المخالف بتسكين الثائرة.

يَعمدُ بعض المثقّفين إلى محاولة إظهار ما يرونه مِن الحق، وإقامة الأدلّة والبراهين عليه، والردّ على المخالفين وتفنيد حججهم، لكن بطريقة تتدنّى فيها لغة الحوار والنقاش، ويرتفع فيها أسلوب الاستفزاز والاستعلاء، وتسفيه آراء الآخرين، وإسقاط اجتهادات المخالفين، والهمز واللمز تصريحًا أو تلميحًا لأئمة المخالفين وأشياخهم، ظنًّا منهم أنّهم يحسنون صنعًا، وما علموا أنّ «الحقّ يُصرع إذا عُمد إلى إظهاره بالسُّباب والشتائم»[12].

فسلوك منهج الاستخفاف بالمخالف، وارتفاع نبرة التحدّي ينتج عنه ردودُ أفعالٍ غير محمودةٍ مِن معاندة ومكابرة وتعصّبٍ لدى الطرف الآخر؛ لأنّ «الطعن في مساقِ الترجيحِ يُبَيِّنُ[13] العنادَ مِن أهل المَذهَبِ المطعونِ عليه، ويزيد في دواعي التمادي والإصرارِ على ما هم عليه؛ لأن الذي غُضَّ من جانبِه مع اعتقادِهِ خِلافَ ذلك حقيقٌ بأن يتعصّبَ لما هو عليه ويُظهرَ محاسنَه؛ فلا يكونُ لِلتَّرْجِيحِ الـمَسُوقِ هذا الـمَساقَ فائدة زائدَةٌ على الإغراء بالتزامِ المَذهب وإن كان مَرْجُوحًا؛ فكأنّ الترجيحَ لم يحصل»[14].

إن طُرقَ الاستفزاز التي يسلكها بعض المثقّفين تأخذ أطيافًا متنوّعة مِن مناحي المشهد الثقافي والحياة العلمية، فمن عنوانٍ لكتاب تقرأ بين حروفه الاستفزاز النفسي والاستعلاء العلمي، وبين مقالٍ يرسّخ التعصّب والحزبية المقيتة، وبين مناظرات ونقاشات جدلية عقيمة ذات نبراتٍ هجومية، عبر سلاح رفع الصوت وحِدّة اللهجة، في تحدٍّ صارخٍ للمخالف وإيغارٍ لصدره؛ مما يضع المخالفَ في حالةٍ نفسية تحمله على الدفاع عن نفسه، وتدفعه إلى تبرير موقفه، وكثيرًا ما تمنعه مِن قبول الحق؛ مهما سمع من الحجج والأدلّة والبراهين، وهذه من القضايا الـمُسَلّمة لدى العقلاء وأهل الفطنة؛ إذ إنّ «أَكثَر الجهالاتِ إِنما رسختْ في قلوبِ العوامِّ بتعصُّبِ جماعةٍ من جُهّالِ أهل الحقّ، أظهرُوا الحقّ في مَعْرِضِ التّحدّي والإِدلاءِ، ونظروا إلى ضُعفاء الخُصوم بِعينِ التّحقِيرِ والإزراء، فثارت مِن بواطنِهِم دَواعِي الـمُعاندةِ والـمُخالفةِ، ورَسَخَتْ في قلوبِهم الاعتقاداتُ الباطلةُ، وعَسُرَ على العلماء المتلطّفين مَحْوُهَا مع ظُهُورِ فسادها»[15].

قال الشاطبي معلّقًا على مقولة الغزالي، ومقرّرًا بذلك قاعدةً ذهبيةً في التّعامل مع الخلاف واحتوائه: «هذا ما قال، وهو الحقُّ الذي تَشْهَدُ له العَوائِدُ الجاريَةُ، فالواجبُ تَسْكينُ الثّائِرةِ ما قُدِرَ على ذلك»[16].

إنّ عدم بلوغ مرحلة النضوج الفكري لدى بعض المثقّفين أوجب إخفاقًا علميًّا وعمليًّا في إدارة بعض ملفّات الخلاف الشائكة مِن خلال ممارسة تأجيج الصراعات الثقافية عبر أطروحات عقيمة، ومناقشات تتّسم بضيق الأفق وشخصنة المواقف، وتغليب المصالح الضيّقة على مصلحة وحدة الصفّ، واجتماع الكلمة.

والمأمولُ مِن أهل الحكمة أن يمارسوا دورهم وواجبهم تجاه القضايا الخلافية ذات المنحنى الجدلي بسلوك منهج (تسكين الثائرة) في التعاطي مع الخلافات عبر المسارات التالية:

المسار الأول: تحييد مَن قَصُرَ نظرُه في العلوم الشرعية، وتقديم مَن جلّ قدره، وعلت مكانته، ورجح عقله، وعركته التجارب.

المسار الثاني: التخفيف مِن التواصل السلبي مع مَن ينتهج أسلوب الاستفزاز، والترفّع عن مناقشته، والسعي إلى عدم استثارته، فمن يجيدون الاستفزاز الفكري كَثُرَ سوادهم، وعلى المسلم أن يتعاطى معهم بموجب التوجيهات الربانية: ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الروم: ٦٠]، وبالإعراض عنهم: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وعدم الاكتراث بهم: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: ٦٣].

بل إنّ رجاحةَ عقل المسلم وفطنته تجعله لا ينقاد إلى ساحاتٍ جدليةٍ لا تتميّز بإطارٍ علمي وثقافيٍ واضح، فليس كلُّ مَن غرّد أو كتب يجب الرد عليه:

وما كلُّ برقٍ لاحَ لي يستفزُّني *** ولا كلُّ مَن في الأرضِ أرضاه مُنْعِما

كم مِن سِهام البنان تحوّلت في بعض الخلافات إلى سنانٍ يَرمِي بها المختلفون بعضهم تحت مظلّة الخلاف الفكري والفقهي، بعيدًا عن الإنصاف والعدل، متناسين أنّ المناظرةَ والمحاجَّةَ لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف

الضابط السادس: الإنصاف والعدل مع المخالفين:

الإنصاف خُلقٌ عزيز، وحِليةٌ لازمةٌ، وهو مِن الأخلاق الفاضلة التي دعا إليها القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨].

قال الزيلعي: «وما تحلَّى طالبُ العلم بأحسَنَ مِن الإنصاف، وترك التعصّب»[17].

«واللهُ تعالى يحبُّ الإنصاف، بل هو أفضل حليةٍ تحلَّى بها الرجل، خصوصًا مَن نَصَّبَ نفسه حكمًا بين الأقوالِ والمذاهبِ، وقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: ١٥]، فوَرثةُ الرسولِ مَنْصِبُهم العدلُ بين الطوائفِ، وألا يميلَ أحدُهم مع قريبِه وذوي مذهبِه وطائفتِه ومتبوعِه، بل يكون الحقُّ مطلوبَه، يسيرُ بسيره، وينزلُ بنزوله، يدينُ دين العدل والإنصاف، ويُحكّمُ الحجة…»[18].

ومِن المنهج القرآني في تأصيل مبدأ الإنصاف: التحذير مِن أن تكون العداوة سببًا لمجانبة العدل، قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: ٨].

وعلى هذا سار أهل السنّة والجماعة، وصار هذا شعارًا لهم، فهم أهلُ الإنصاف والرحمة والعدل، حتى مع مَن ظَلَمَهم وجَار عليهم.

فكم مِن سِهام البنان تحوّلت في بعض الخلافات إلى سنانٍ يَرمِي بها المختلفون بعضهم تحت مظلّة الخلاف الفكري والفقهي، بعيدًا عن الإنصاف والعدل، ولعلهم تناسوا أنّ «المناظرةُ والمحاجَّةُ لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف»[19].

إنّ ممارسة مبدأ الإنصاف في حلّ النزاعات والخلافات يشوبه بعض الشوائب العملية عند التطبيق، وتتمثّلُ في أمرين:

الأول: البَون الشاسع في مبدأ الإنصاف بين النظرية والتطبيق، فالتنظير وتقعيد القواعد ووضع الأسس أمر يسير، لكنّ الإشكاليات تظهر عند التطبيق العملي حيث تحذو كثير مِن النفوس إلى ممارساتٍ تتّسم بالجَور والعدوان مع إخوانهم، في قضايا لا تعدو أن تكون ذات منحىً اجتهادي.

وهذا ما جعل الإمام مالكًا رحمه الله يقول: «ما في زماننا شيءٌ أقلّ مِن الإنصاف!»[20].

قال الشاعر:

ولمْ تزَلْ قلّةُ الإنصافِ قاطبةً *** بيْن الرجالِ وإنْ كانُوا ذوِي رَحِم

الثاني: إلباس عدم إنصاف الآخرين لباس الشريعة والدين، وهذا ما لبّسه الشيطان على بعض طلبة العلم، وهو ما قرّره ابن رجب حيث قال: «ولما كثر اختلافُ الناس في مسائل الدين، وكثر تفرّقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكلٌّ منهم يُظهر أنّه يُبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا، وقد لا يكون معذورًا، بل يكون متّبعًا لهواه، مقصّرًا في البحث عن معرفة ما يُبغض عليه،…»[21].

وقد نبّه إلى هذه المسألة أيضًا ابن الجوزي فقال: «ومِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدحُ بعضهم في بعض طلبًا للتشفّي، ويُخرجون ذلك مخرجَ الجرح والتعديل الذي استعمله قدماءُ هذه الأمّة للذبّ عن الشرع، واللهُ أعلم بالمقاصد»[22].

فإسقاط بعضهم للمؤسسات العلمية، والكيانات الشرعية، إنّما يتمّ عبر رؤى تتخذ مِن المنهجية الدينية ستارًا أو واجهةً لضمان الحاضنة الشعبية، فتتكسّر على عتباتها نظريات الإنصاف والعدل.

إنّنا نفتقد الإنصاف في رؤيتنا لكثير مِن الأحداث التي لا تنسجم مع توجّهاتنا ونمط تفكيرنا، ونفتقده في تقويم الأشخاص ومناهجهم، وفي دراساتنا ونقدنا لمخالفينا؛ في منظورٍ سلبيٍ للتعايش مع إخوة الدين بدعوى احتكار الحقّ وإسقاط الآخرين، وقد قال ابن سيرين: «ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيتَ، وتكتم خيره»[23].

وحالنا كما حكاه الشاعر:

أصُمُّ عن الأمر الذي لا أُريدهُ *** وأسمعُ خلقَ الله حين أشاءُ

واقعُ الحال يتطلّب تربية النشء المسلم على سلامة الصدور، وتأصيل مفهوم الأخوّة الإسلامية، والدُّربة على النقاشات الهادئة والهادفة، والتأكيد على أنّ تباين الآراء واختلاف العقول لا يُفسد أواصِر الأخُوّةِ وروابط الألفة والمحبّة، ضمن الضوابط الشرعية

الضابط السابع: بقاء أَواصر الأخُوَّة وروابط الألفة بين المختلفين[24]:

إنّ الاختلاف والتباين في الآراء لا يُسَوِّغُ للمختلفين قطعَ روابط الألفة والمودّة، بما يخالف مقتضى الأخوّة الإسلامية، والمحبّة الإيمانية، ولا يجيز لهم أن تتحوّل الخلافات فيما بينهم إلى فرقة وتدابر وتنافر، والأمر كما قيل: (في الرأي تضطغن العقول، وليس تضطغن الصدور)، ومِن المقرّر لدى أهل السنّة: أن مُتَعَلَّق الولاء والبراء: الإيمان والاتّباع والعمل الصالح، وليس مجرّد المخالفة أو الردّ والمجادلة[25].

وهذا المفهوم أدركه الصحابة الكرام نظريًّا، وطبّقوه عمليًا، فقد اختلفوا «وكانوا مع هذا أهلَ مودّة وتناصح، وأخوّةُ الإسلام فيما بينهم قائمة»[26].

قال يونس الصدفي: «ما رأيت أعقلَ مِن الشافعي، ناظرتُهُ يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يَسْتَقيمُ أن نكون إخوانًا وإن لم نتّفق في مسألة؟!»[27].

وواقعُ الحال يتطلّب مِن المربّين تربية النشء المسلم على وحدة القلوب، وسلامة الصدور، وتأصيل مفهوم الأخوّة الإسلامية، والدُّربة على النقاشات الهادئة والهادفة، والتأكيد على أنّ تباين الآراء واختلاف العقول لا يُفسد أواصِر الأُخوّةِ وروابط الألفة والمحبّة، ضمن الضوابط الشرعية في ذلك.

«نعم لا بأس أن تُنتقد الأقوال، وتُضعّف بالبرهان، ويُوضَّح كلّ خطأ ينجم عنها، ولكنّ الذي يجب التوقّي منه هو: أن يتشاحن قادةُ العقول ويتطاحنوا ويتباغضوا لما لا يصحّ أن يكون سببًا معقولاً، وأن يَثِبَ كلٌ على مُخالفِه وَثْبةَ الغادر المنتقم، فيودّ أن ينكّل به، أو يمزّقه شرّ ممزّق، فيقتفي أثرَهم مقلّدُهم، فتصبح الأمّةُ أعداءً متشاكسة، وأحزابًا متنافرة، بشؤم التّعصّب الذّميم، الذي لم يتمكّن مِن أمّة إلّا وذهب بها مذهب التّفرّق والانحطاط، وأضعَفَ قُواها، وأحاق بها الخطوب والأرزاء، فمِن الواجب العملُ على ملاشاة الشحناء والشقاق، والقيام بالتحابّ والاتفاق»[28].


[1] إعلام الموقعين (١/٣٩).

[2] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (١٨٦٧٨) واللفظ له، والنسائي في الكبرى (٨٥٢٢)، والطبراني في الكبير (١٠٥٩٨)، وغيرهم.

[3] الموافقات (٣/٢٨٩).

[4] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٧٩٩٢).

[5] أخرجه أبو نعيم في الحلية (٢/٢٨٥)، والبيهقي في الشعب (٧٩٨٣).

[6] أخرجه البخاري بنحوه (١٢٨٩)، ومسلم (٩٣٢) واللفظ له. وقد حمل أهل العلم أحاديث تعذيب الميت ببكاء أهله على مَن كان البكاء والنَّوح والعويل على الميت من عادته أو أوصى أهله بذلك، وليس لمجرّد البكاء عند المصيبة؛ فالنبي r بكى عند الموت. وقد ظنّت عائشة ~ أنّ ابن عمر أخطأ لأنّها سمعت حديثًا آخر من النبي r في اليهودية التي مرّ بقبرها، وفهمت منه أنّ أهلها يبكون لفقدها في حين أنّها تُعذَّب بأعمالها.

[7] سير أعلام النبلاء (٤/٥٢).

[8] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (١٦٩١).

[9] تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا (٥/١٥٦).

[10] تفسير القرطبي (٥/٢٢٥).

[11] سير أعلام النبلاء، للذهبي (١/١١٩-١٢٠).

[12] قواعد التحديث، للقاسمي، ص (٢٩).

[13] أي: يثيره.

[14] الموافقات، للشاطبي (٥/٢٨٧).

[15] الاقتصاد في الاعتقاد، للغزالي، ص (١٥).

[16] الاعتصام، للشاطبي (٢/٧٣٢).

[17] نصب الراية (١/٣٥٥).

[18] إعلام الموقعين، لابن القيم (٣/٧٨).

[19] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٤/١٠٩).

[20] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (١/٥٣١).

[21] جامع العلوم والحكم، لابن رجب (٢/٢٦٧).

[22] تلبيس إبليس، لابن الجوزي، ص (١٠٥).

[23] البداية والنهاية، لابن كثير (٩/٢٧٥).

[24] المقصود هنا: الأخوة ضمن دائرة الخلاف بين أهل السنة والجماعة وفي الخلاف السائغ.

[25] فقه الرد على المخالف، للدكتور خالد السبت، ص (١٦٢) بتصرف يسير.

[26] الاعتصام، للشاطبي (٢/٧٣٤).

[27] سير أعلام النبلاء، للذهبي (١٠/١٦).

[28] تاريخ الجهمية والمعتزلة، لجمال الدين القاسمي، ص (٩٧).


أ. عاصم الحايك

باحث شرعي

X