تأصيل

ركائز وقواعد الطب الوقائي في الإسلام

أجسادنا أمانة بين أيدينا، جعلها الله وعاءً لأرواحنا، نستعين بصحتها على طاعته وعبادته، ونستثمرها في عمارة الأرض وطلب الرزق، وهذه الأمانة تتطلب منا الحفاظ على صحتها وتقويتها والعناية بها، وهذه جملة من القواعد والتعليمات الإسلامية التي تصب في ذلك، وكما قالوا قديمًا: درهم وقاية خير من قنطار علاج.

جاء الإسلام نظامًا متكاملاً يحقِّق مصالح الإنسان في الدنيا والآخرة، فلم يترك الله خيرًا لعباده إلا أمرهم به، ولا ضررًا بهم إلا نهاهم عنه، ومن ذلك وصية النبي ﷺ: (إن لجسدك عليك حقًا)[1].

وندرك أهمية هذه الوصية عندما نعلم أن العقل السليم في الجسم السليم، وأنَّ البدن المُعافى أقدر على القيام بمهام الدين، فكان حفظ النفس البشرية جسديًا ونفسيًا من أهم مقاصد الشريعة، وجاءت به الكثير من نصوص القرآن والسنة.

الطبُّ ليس علاجًا فحسب:

عند ذكر الطب ينصرف الذهن في الغالب إلى العلاج بعد وقوع المرض، لكن للطب فرعًا يُعنى بالوقاية من الأمراض قبل حصولها.

«إنَّ قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة. وقد ذكر الله سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة (الصوم والحج والوضوء)، فقال في آية الصوم: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر…

وقال في آية الحج: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] فأباح للمريض الذي به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغًا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها…

وأما الحمية فقال تعالى في آية الوضوء: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [النساء: ٤٣] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية من كل مؤذ من داخل أو خارج. فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده»[2].

عند ذكر الطب ينصرف الذهن في الغالب إلى العلاج بعد وقوع المرض، لكن للطب فرعًا يعنى بالوقاية من الأمراض قبل حصولها؛ لذا كان حفظ النفس البشرية جسديًا ونفسيًا من أهم مقاصد الشريعة، وجاءت به الكثير من نصوص القرآن والسنة

ركائز الطب الوقائي في الإسلام:

ورد في نصوص الكتاب والسنة ركائز وقواعد لما بات يُعرف بالطب الوقائي الذي هو فرع مهم من الطب النبوي، ويمكن إجمالها في التالي[3]:

الركيزة الأولى – حفظ الصحة:

دعا الإسلام إلى الاهتمام بالقوة البدنية والنفسية وأثنى القرآن على أصحابها، فقال تعالى على لسان ابنة الرجل الصالح في مدين تصف موسى عليه السلام: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: ٢٦]، وأثنى على طالوت فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: ٢٤٧]، كما أثنى النبي ﷺ على المؤمن القوي فقال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)[4]، وما هذا الثناء إلا لاعتناء أصحاب هذه القوة باستخدامها في وجوه الخير وإعانة المظلومين.

ومن أهم قواعد ومبادئ حفظ الصحة العامة:

  1. تناول قدر الحاجة من الطعام الطيب المفيد لتأمين ما يلزم البدن من الموارد لتعزيز بُنيته العظمية والعضلية والعصبية وأنسجته الحيوية قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨]، وقال أيضًا: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: ٣١]، وأكد على تناول الطيبات لصحة الجسد وسلامته، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢]، ونهى عن تناول الخبيث الضارِّ فقال: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
  2. التشجيع على إعداد القوة وما يتطلَّبه من اللياقة البدنية، فقد حثَّ الإسلام على الجهاد وإعداد لوازمه فقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وحثَّ على الزيادة على العبادات المفروضة من صلاة وصوم بأداء النوافل، وما فيها من فوائد طبية وجسمية لا تخفى، فقد أشارت الأبحاث الطبية إلى أهمية الصيام في حفظ الصحة ووقايتها من الأمراض.

كما حثَّ على الحركة والعمل في البكور (اللهم بارك لأمتي في بكورها)[5] مع ما في البكور من فوائد جسمية ونفسية كثيرة، وشجَّع على المبارزة والمصارعة وركوب الخيل والسباحة والرمي والسباق بأنواعه، ففي الحديث: (صارع رسولُ الله ﷺ ركانةَ وصرعه)[7] وفي حديث آخر: (ألا إنَّ القوة الرمي)[7]، وقال أيضًا: (لا سبَق إلا في خُفٍّ أو حافر أو نصل)[8]، وفي ذلك فوائدُ صحية ونفسية كثيرة.

كما كره الإسلام الكسل، والسمنة الناشئة عن كثرة الأكل أو قلّة الحركة، وأوصى ﷺ بالقيلولة -وهي النوم ظهرًا قبل الزوال أو بعده- لما فيها من إعادة النشاط والقوة للجسم لباقي اليوم فقال ﷺ: (قيلوا فإن الشيطان لا يقيل)[9].

  • منع المشقَّة المؤدِّية لضعف الجسم وتلفه، فشُرعت الرُّخَص تخفيفًا عن المسلم ودفعًا لهذه المشقَّة، كرخصة إباحة الفطر للمريض والمسافر، فقال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤]، بل أوجب الشرع الفطر على الحائض والنفساء لضعف جسديهما. ومن الرخص إباحةُ الصلاة قاعدًا للعاجز عن القيام.

حرص الإسلام على صحة الإنسان النفسية والعقلية، فشرع ما يحافظ عليها من الخرافات والأوهام، والسحر والشعوذة، وأرشد إلى كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله فإنه خير معين للنفس واطمئنانها، وشجع على امتلاك مهارات القوة البدنية كالسباحة وغيرها

  • اهتمَّ الإسلام بالصحّة النفسية والعقلية، فشرع تشريعاتٍ عديدةً لسلامتها ومنع اضطرابها؛ فدعا إلى الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به حماية للعقل من الخرافات والأوهام، وأمر بالإيمان بالقضاء والقدر، والصبر على الأقدار، واعتنى ببناء النفس البشرية بناءً قويًا لا تهزُّه المصائب والابتلاءات فأرشد القرآن إلى كثرة ذكر الله وتلاوة القرآن ليكون حصنًا للنفس يعطيها القوّةَ والثبات، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨]، فيَذهبُ القلق والاكتئاب وتحُلُّ السكينة والطمأنينة، وقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ٩٧ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٩٧-٩٨]، وأرشد تعالى إلى التسبيح والصلاة تحصينًا للنفس من ضيق الصدر. فكان من دعاء النبي ﷺ لربه: (أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي)[10].

كما أرشد إلى كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله فإنه خير معين للنفس واطمئنانها. ومن المعلوم في الطب علاقة الصحة النفسية بالجسمية، فالعوارض النفسية كالقلق والاكتئاب والوسوسة تتسبَّب في عدد لا بأس به من الأمراض العضوية. ومما لا شكَّ فيه أنَّ مما يدفع عن المسلم شرَّ الأمراض النفسية والعضوية ذات المنشأ النفسي هو التزامه بما سبق.

الركيزة الثانية – التداوي بالحمية من المؤذي:

من أهم مبادئ الحمية من المؤذي في الشريعة:

1. نظام الطهارة: حيث أعطاه الإسلام أولوية عظمى فقال النبي ﷺ: (الطُّهور شطر الإيمان)[11]، ولو تأملنا نظام الطهارة في الإسلام لوجدنا أنه يشمل على أسس من أهمِّها:

  • إزالة الخبث والنجاسات من الثياب والبدن وسائر الأماكن، سواء بالماء أو ما يقوم مقامه من تراب أو ورق أو مناديل.
  • غسل أعضاء الوضوء بالماء يوميًا عدَّة مرّات.
  • تعميم البدن بالغُسل والتأكيد على غَسل الشعر والجلد في مواضع كثيرة وبشكل متكرر.
  • اشتراط الماء الطاهر المطهِّر لإزالة النجاسة ورفع الحدثين الأكبر والأصغر.
  • الأمر باجتناب النجاسات والأوساخ سواء كانت من الإنسان نفسه أو من غيره، كالبول والبراز والدم والقيح والصديد والقيء ولعاب الكلب والخنزير.

ولو قارنَّا ذلك كُلَّه مع أنظمة النظافة الحديثة لوجدنا أنَّ نظام الطهارة في التشريع الإسلامي أوسعُ وأشملُ وأيسرُ استعمالاً وأقلُّ كلفة.

ومن الطهارة في الإسلام تشريع المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الوضوء والغسل ومسح الأذنين للوصول إلى ما لا يصل إليه التنظيف الخارجيُّ المعتاد، والاهتمام بالسواك، وما أدراك ما السواك؟ (مطهرة للفم مرضاة للرب)[12]، فصحَّة الفم مفتاحٌ لصحة البدن، ونظافة الفم والأنف من أهم أسباب الوقاية من مختلف الأمراض.

ومن توابع الاهتمام بالنظافة العامة: الأمر بنظافة البيوت والأفنية قال ﷺ: (إنَّ الله طيّبٌ يحبُّ الطيب، نظيفٌ يحب النظافة، كريمٌ يحب الكرم، جوادٌ يحب الجود، فنظِّفوا أفنيتكم)[13]، والأمر بنظافة الطرق، قال ﷺ: (وتميط الأذى عن الطريق صدقة)[14]، وهذا أبو موسى الأشعري لما قدم البصرة قال لأهلها: «إن أمير المؤمنين بعثني إليكم لأعلمكم سنتكم، وإنظافكم طُرقكم»[15].

ومن نظام الطهارة في الإسلام أمره ﷺ بخصال الفطرة، فقال: (عشرٌ من الفطرة: قصُّ الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء)[16] وقال الراوي: ونسيتُ العاشرة إلا أن تكون المضمضة.

2. منع تلويث مصادر المياه بالنجاسات والأقذار، أو استعمال المصادر الملوثة: إذ هي منشأ كثير من الأمراض والأوبئة، قال ﷺ: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم)[17]، كما نهى الإسلام عن التطهر بالماء النجس أو الشرب منه. كما نهى النبي ﷺ عن البول في المُستحَمِّ خشية وسواس الطهارة فقال: (لا يبولن أحدكم في مُستحَمِّه فإن عامة الوسواس منه)[18].

3. الوقاية من الأمراض المعدية ومنع أسباب العدوى: فأمر الإسلام بالقضاء على أهمِّ نواقلها من الحشرات والقوارض وغيرها، قال ﷺ: (خمس فواسق يُقتَلن في الحِلِّ والحرم: الفأرة والعقرب والغراب والحديا والكلب العَقور)[19].

أعطى الإسلام نظام الطهارة أولوية عظمى، ولو تأملناه لوجدنا أنه يشتمل على تفاصيل وقواعد كثيرة، وعند مقارنته مع أنظمة النظافة الحديثة سنجد أنَّ نظام الطهارة في التشريع الإسلامي أوسعُ وأشملُ وأيسرُ استعمالاً وأقلُّ كلفة

ومن أعجب الأمثلة: ما شرعه الإسلام في التعامل مع الكلب، قال النبي ﷺ: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)[20] فقد كشف العلم الحديث وجود الأمراض في لعاب الكلب وأنها تنتقل إلى الإنسان عبر اللعاب، وأن عضَّة الكلب تنقله فتُسبِّب داء الكلَب المُميت، كما اكتُشف أنَّ التراب قاتل لهذا الفيروس وقاتلٌ للديدان وبُيوضها الموجودة في لُعاب الكلب.

كما حرص الإسلام على الحماية من الأمراض المعدية فأطلق مبدأ الحجر الصحي، وهذا جليٌّ في قول النبي ﷺ: (لا يورِد مُمرض على مُصح)[21] وقوله: (فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد)[22] وقوله: (إذا سمعتم بالطاعون بأرضٍ فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا منها)[23] والطبُّ الحديث يؤكِّد أن مبدأ الحجر الصحي هو أقوى وسيلة لمحاصرة الأوبئة والقضاء عليها.

4. الحمية الغذائية وعلى رأسها النهيُ عن الإسراف في الطعام والشراب، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: ٣١]، وقال ﷺ: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنٍ، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفَسه)[24]، وهذا المبدأ أصلٌ عظيم في الحماية من أمراض الجهاز الهضمي المتنوعة، وتجنُّب الخمول وترهُّل الجسم.

كما حرَّم الإسلام بعض الأطعمة والأشربة المؤذية لبدن الإنسان وصحته النفسية والعقلية فقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: ٣]. فالميتة سريعة التعفُّن كثيرة السموم، والدم مرتعُ الجراثيم ومخزن السموم، أما ما يُسبِّبه تناول لحم الخنزير من أمراض مختلفة فقد أثبته العلم الحديث، فضلاً عما تورثه هذه المطعومات -وبخاصة لحم الخنزير- من طبائع نفسية خبيثة عند آكلها.

وحرَّم الإسلام شُرب المسكرات والمخدِّرات والمفتِّرات فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠] فالخمر فيها إيذاء صارخ للعقل وأعضاء الجسد النبيلة: الدماغ والقلب والكبد والكليتين، فتحريمه حمايةٌ للعقل والنفس. وحرَّم الميسر لأضراره النفسية والاجتماعية والاقتصادية.

حرَّم الإسلام بعض الأطعمة والأشربة المؤذية لبدن الإنسان وصحته النفسية والعقلية؛ فالميتة سريعة التعفُّن، والدم مرتعُ الجراثيم ومخزن السموم، أما ما يُسبِّبه تناول الخنزير من أمراض مختلفة فقد أثبته العلم الحديث، فضلاً عما تورثه هذه المطعومات من طبائع نفسية خبيثة عند آكلها

كما أرشد النبي ﷺ إلى التصبُّح بالتمر وقايةً من السُّمِّ والسحر، فقال: (من تصبَّح كلَّ يومٍ سبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سمٌ ولا سحر)[25]، وأرشد إلى الإثمد وقايةً للعين فقال: (خير ما اكتحلتم به الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر)[26]، وأشار تعالى إلى العسل وما فيه من شفاء فقال: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: ٦٩] وروي في الحديث: (من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء)[27].

6. الوقاية من الحوادث المنزلية والكوارث البيئية: ومن أمثلة ذلك تحذير النبي ﷺ : (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)[28]، ومن ذلك قوله ﷺ: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكُفُّوا صبيانكم فإنَّ الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعةٌ من الليل فحُلُّوهم، فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكوا قُرَبكم واذكروا اسم الله، وخمِّروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئًا، وأطفئوا مصابيحكم)[29] وكل ذلك حفظًا من دخول الهوامِّ والمؤذيات إلى البيت أو حدوث الحرائق أو نزول الأوبئة على الأطعمة والأشربة.

ومن الوقاية من الحوادث البيئية: نهي النبي ﷺ: (لا يبولنَّ أحدكم في جُحر)[30]؛ خشية وجود الهوام المؤذية، ونهيه عن نزول المسافر ليلاً للنوم والاستراحة على جوانب الطرق فقال: (إياكم والتعريس على جواد الطريق، والصلاة عليها، فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة عليها فإنها من الملاعن)[31].

7. الأمر بالالتزام بالآداب الإسلامية كآداب التسمية عند دخول المنزل منعًا لدخول الشياطين وحماية لأهل البيت منها، قال ﷺ: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء)[32].

وعند الطعام والشراب كفًا ليد الشيطان عن الطعام، قال ﷺ: (إنَّ الشيطان يستحلُّ الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه)[33].

والتسمية عند خلع الملابس ودخول الخلاء، قال ﷺ: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)[34].

ومن الآداب عدم أكل الطعام حارًّا خشية الأذى فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (لا يُؤكل طعامٌ حتى يذهب بخاره)[35]. وحفظًا للطعام والشراب من التلوث، ففي الحديث أن رسول الله ﷺ: (نهى أن يتنفس في الإناء)[36] وفي رواية زيادةُ: (أو ينفخ فيه)[37] خشية وقوع الرذاذ أو التلوُّث بما يضر.

ومثلها آداب النوم التي تحمي المسلم من آفاتٍ ومشاكلَ صحية،ٍ كأن ينام المسلم على وضوء، وعلى شقِّه الأيمن، وأن يتلو الأوراد الخاصة بالنوم، قال النبي ﷺ: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوَّضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبةً ورهبةً إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)[38]، وذلك ليؤمِّن راحة النفس وراحة الجسد أثناء النوم. ومن ذلك النهي عن النوم على البطن، قال أبو ذرٍّ الغفاري: مرَّ بي النبي ﷺ وأنا مضطجع على بطني فركضني برجله، وقال: (يا جندب إنما هي ضجعة أهل النار)[39]، ومنها النهي عن النوم على سطحٍ غيرِ محجور عليه خشية تعريض النفس للأذى والهلاك فقال ﷺ: (من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة)[40].

8. الحفاظ على الصحة الجنسية بالأمر بالزواج لتفريغ الشهوة وقضائها، قال ﷺ: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)[41].

وأرشد إلى حماية الفرد والمجتمع من آفات الانحلال الخلقي وما فيها من أمراض جسمية ونفسية خطيرة، فحرم الزنا والشذوذ الجنسي كاللواط، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢]، وقال ﷺ: (لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلنوا بها إلا فشا فيهم الطّاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا قبلَهم)[42].

كما حرَّم الإسلام الجماع أيام الحيض والنفاس مراعاةً للحالة النفسية للمرأة، وقطعًا لسريان الأمراض الجنسية قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] وكل هذا حفاظًا على الفطرة الإنسانية السليمة.

يحرص الإسلام على بناء المجتمع الصحي، ويربط أنظمة هذا البناء بدين أبنائه وتعاليمه لتكون ملزمة للمسلم، بل جعل الإسلام الأخذ بالأسباب مع تفويض الأمر لله من الأصول المقررة شرعًا

الركيزة الثالثة – إخراج المواد التي يضر حبسها:

قال ابن القيم رحمه الله: «والأشياء التي يؤذي انحباسُها ومُدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا تبيَّغ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش»[43].

فمن أهم ما أرشد إليه الإسلام لاستفراغ المواد الفاسدة: الحجامة التي قال فيها رسول الله ﷺ: (ما مررت ليلة أُسري بي بملأ إلا قالوا: يا محمد مُرْ أمَّتك بالحجامة)[44]، وقال: (إنَّ أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري)[45]، وروى ابن عباس رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله احتجم وهو محرم من أذى كان برأسه)[46]. والحجامة هي استخراج الدم الفاسد عند هيجانه ووفرته فيتولَّد دمٌ جديدٌ غزير بالكريَّات البيض المناعية لقتل ما يغزو جسم الإنسان من الخلايا السرطانية وغيرها. وروى ابن عباس رضي الله عنه: (أنَّ النبي ﷺ احتجم وهو مُحِرمٌ من أكلةٍ أكلها من شاة مسمومة سمَّتها امرأةٌ من أهل خيبر)[47].

كما شرع الإسلام الزواج لاستفراغ المني وتسكين هيجان الشهوة، فحرّض على إجابة الزوجة لزوجها إذا دعاها ليكون ذلك أدعى لدوام المودَّة بينهما، ونبَّه على هذا الجانب الحساس من العلاقة الزوجية لكونه مفتاحًا لكثير من الأمور ومسكنًا لغيره من المشكلات، قال ﷺ: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)[48].

وقد أرشد الشرعُ إذا شعر المسلم بالحاجة إلى إخراج مادَّةٍ ضارّة تحتبس في جسمه أن يُخرجها، فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة إذا كان صاحبها حاقنًا أو حاقبًا أو حازقًا أي حابسًا بوله أو برازه أو ريحه فقال: (لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان)[49] والأخبثان البول والبراز. قال ابن مفلح: «قال الأطباء: حبس الريح إذا أراد الخروج يُورث الحصر وظلمة العين ووجع الفؤاد والرأس، وحبس البول يورث جميع هذه الأشياء مع الحصاة، وحبس البراز يورث ذلك كله»[50].

وأخيرًا ..

فإنّنا ندرك من كل هذه التشريعات الربانية أن الإسلام يحرص على بناء المجتمع الصحي، ويربط أنظمة هذا البناء بدين أبنائه وتعاليمه لتكون ملزمة للمسلم، بل جعل الإسلام الأخذ بالأسباب مع تفويض الأمر لله من الأصول المقررة شرعًا.


[1] أخرجه البخاري (١٩٧٥)، ومسلم (١١٥٩).

[2] زاد المعاد، ص (٥٨٩-٥٩٠).

[3] لا شك أن المقصد الشرعي الأول مما سيأتي من مسائل وأحكام هو التعبد لله تعالى، وإنما أنزلت الشرائع وبعثت الأنبياء لذلك، وأن الامتثال لهذه التشريعات مطلوب شرعًا سواء أدركت الحكمة من تشريعه أم لا، وسواء ظهرت فوائده الدنيوية أم لا، وأن ما يحصل من مصالح وفوائد دنيوية فهو تبع لذلك ومحصلة لاحقة، دون التزهيد أو التقليل منها.

[4] أخرجه مسلم (٢٦٦٤).

[5] أخرجه أبو داود (٢٦٠٦) والترمذي (١٢١٢).

[6] أخرجه أبو داود (٤٠٧٨) والترمذي (١٧٨٤).

[7] أخرجه مسلم (١٩١٧).

[8] أخرجه أبو داود (٢٥٧٤) والترمذي (١٧٠٠).

[9] أخرجه الطبراني في الأوسط (٢٨).

[10] أخرجه أحمد (٣٧١٢) وابن حبان (٩٧٢).

[11] أخرجه مسلم (٢٢٣).

[12] أخرجه النسائي (٥) وابن خزيمة (١٣٥) وعلقه البخاري في باب سواك الرطب واليابس للصائم.

[13] أخرجه الترمذي (٢٧٩٩) وقال: غريب. ولكن له شاهد حسن عند الطبراني في الأوسط (٤٠٥٧) بلفظ: (طهروا أفنيتكم فإن اليهود لا تطهر أفنيتها).

[14] أخرجه البخاري (٢٩٨٩) ومسلم (١٠٠٩).

[15] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٢٥٩٢٣).

[16] أخرجه مسلم (٢٦١). والبراجم هي مفاصل الأصابع وعقدها، وانتقاص الماء التطهر بالماء بعد قضاء الحاجة، والاستحداد حلق العانة، والختان هام جدًا لمنع تجمع القذر والميكروبات تحت القلفة وما يسببه من أمراض.

[17] أخرجه البخاري (٢٣٩) ومسلم (٢٨١).

[18] أخرجه أحمد (٢٠٥٦٩) وأبو داود (٢٧) والترمذي (٢١) والنسائي (٣٦) وابن ماجه (٣٠٤).

[19] أخرجه البخاري (٣٣١٤) ومسلم (١١٩٨) واللفظ له.

[20] أخرجه مسلم (٢٧٩).

[21] أخرجه البخاري (٥٧٧١) ومسلم (٢٢٢١).

[22] أخرجه البخاري (٥٧٠٧).

[23] أخرجه البخاري (٥٧٢٨) ومسلم (٢٢١٨).

[24] أخرجه أحمد (١٧١٨٦) والترمذي (٢٣٨٠) وابن ماجه (٣٣٤٩).

[25] أخرجه البخاري (٥٤٤٥) ومسلم (٢٠٤٧).

[26] أخرجه الترمذي (٢٠٤٨) وابن ماجه (٣٤٩٥).

[27] ضعيف أخرجه ابن ماجه (٣٤٥٠).

[28] أخرجه البخاري (٦٢٩٣) ومسلم (٢٠١٥).

[29] أخرجه البخاري (٥٦٢٣) ومسلم (٢٠١٢).

[30] صحيح أخرجه أحمد (٢٠٧٧٥) وأبو داود (٢٩) والنسائي (٣٤).

[31] أخرجه ابن ماجه (٣٢٩) وحسنه ابن حجر.

[32] أخرجه مسلم (٢٠١٨).

[33] أخرجه مسلم (٢٠١٧).

[34] أخرجه الترمذي (٦٠٦).

[35] أخرجه الطبراني في الكبير (١٧٢) والبيهقي في الكبرى (١٤٦٣١).

[36] أخرجه البخاري (١٥٣) ومسلم (٢٦٧).

[37] صحيح أخرجه أبو داود (٣٧٢٨) والترمذي (١٩٥٠).

[38] أخرجه البخاري (٢٤٧) ومسلم (٢٧١٠).

[39] أخرجه أحمد (١٥٥٤٥) وابن ماجه (٣٧٢٤).

[40] أخرجه أبو داود (٥٠٤١) والبخاري في الأدب المفرد (١١٩٢).

[41] أخرجه البخاري (١٩٠٥) ومسلم (١٩٠٠).

[42] أخرجه ابن ماجه (٤٠١٩).

[43] زاد المعاد، ص (٥٨٩).

[44] حسن أخرجه أحمد (٣٣١٦) والترمذي (٢٠٥٢) وابن ماجه (٣٤٧٩) واللفظ له.

[45] أخرجه البخاري (٥٦٩٦) ومسلم (١٥٧٧).

[46] أخرجه البخاري (٥٧٠٠) واللفظ لابن حبان (٣٩٥٠).

[47] أخرجه أحمد (٣٥٤٧).

[48] أخرجه البخاري (٣٢٣٧) ومسلم (١٤٣٦).

[49] أخرجه مسلم (٥٦٠) وأبو داود (٨٩)، وعند ابن ماجه (٦١٧): (نهى أن يصلي الرجل وهو حاقن).

[50] الآداب الشرعية والمنح المرعية، لابن مفلح (٢/٣٨٥).


د. مأمون القادري

طبيب، وحاصل على دبلوم دراسات عليا في الحديث والتفسير.

X