لأهل العلم مكانة خاصة في شريعتنا الإسلامية؛ فهم ورثة الأنبياء المؤتمنون على دين الناس، وقد أُخذ عليهم الميثاق ليُبينُنَّه ولا يكتمونه، وهم ضمانةٌ من ضمانات استقرار المجتمع المسلم؛ بما وُكل إليهم من واجبِ الصدع بالحق وجهادِ البيان، وأَطرِ السلطان على الحقِّ ومنعِهِ من الظلم، وأداءِ الرسالة التي عُهدت إليهم إلى يوم الدين.
مقدمة:
لا يماري أحد في أهمية العلم ومركزيته في دفع عجلة تجديد الدين وحياة الأمة، إذ لا يخفى على ذي لبٍّ سلطة العلماء وصدارتهم في التوجيه والتعليم والتزكية؛ «فمَجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العُبّاد وأعلى درجةً من الزهّاد، حياتُهم غنيمة وموتُهم مصيبة، يذكّرون الغافلَ ويعلّمون الجاهلَ، لا يُتوقع لهم بائقة ولا يُخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصّرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على مَن خالف بقولهم محجاج … من أطاعهم رَشَدَ، ومن عصاهم عَنَدَ»[1]، فبهدايتهم تنصلح أحوال العباد وترشد عمارة البلاد، ما داموا يسدّون الثغرات ويتولّون بالحكمة والأناة الإجابةَ السديدةَ على مختلف النوازل وعويص المشكلات، وهم في ذلك وَرَثَةُ الرسل والأنبياء في تربية الأمة وسياستها.
وإنّنا ونحن ننظر إلى واقع أمتنا وما آلت إليه من نكسات وويلات نتيجة عقليات ونفسيات تتصدر المشهد اليوم، وقد فقدت ميزان الرشد وامتطت هلكة التبعيض والتسرّع، وباتت تفتي في الشأن العام بلا علم رصين ولا رويّة ولا تبصّر، نرى ضرورة بيان أوصاف العلماء الربانيين المؤهّلين لحمل رسالة الإسلام حملاً يليق بمقامها، ويوفي الأمة الخيرية حقها.
فضيلة العلم في الإسلام وشرف العلماء:
لا يُعرف دينٌ كالإسلام ولا كتابٌ كالقرآن حفل بالعلم وأشاد بالعلماء، وجعل طلبه فريضة عينية، ورفع منازل أهله، وأعلى مِن شأن وظيفة تعليمه، وشغل به رسلَه وأنبياءَه وأولياءَه، بل إنّ الله سبحانه وتعالى قد تفضّل على عباده بتعليمهم، فقال: ﴿ الرَّحْمَنُ ١ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ٢ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ٣ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: ١-٤]، وفضل مخلوقاته بعضهم على بعض بالعلم، ومنه تفضيله نبيه آدم عليه السلام على ملائكته بالعلم الذي علمه قال جل جلاله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٣١ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣١-٣٢].
إن من أعظم الآيات دلالة على شرف العلم ومنزلة العلماء ما ورد في سورة آل عمران؛ قال جل جلاله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨]، يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: «فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنّى بالملائكة، وثلّث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفًا وفضلاً وجلاءً ونبلاً»[2]. «وقوله تعالى: ﴿وأولوا العلم﴾ خصوصيةٌ عظيمة للعلماء في هذا المقام، وبيان لفضل أهل العلم ومكانة العلماء»[3].
لا يعد في ديوان العلماء إلا مَن حمله علمُه على الوفاء بتبعاتِ هذا العلم، وزكاة ما أخذ منه قيامًا برسالة العلم وشرف الانتساب إلى أهله العاملين به، تحمّلاً وتعليمًا وتخلّقًا وتبليغًا ودعوةً
وقد وقف العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله مع الآية مليًّا، وقلّب فيها النظر، فاستخرج منها عشر درر نافعات في بيان شرف العلماء وعظيم مكانتهم وهي:
- الأولى: استشهادهم دون غيرهم من البشر.
- الثانية: اقتران شهادتهم بشهادته.
- الثالثة: اقترانها بشهادة ملائكته.
- الرابعة: أنّ في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإنّ الله لا يستشهد من خلقه إلا العُدول، ومنه الأثر المعروف عن النبي ﷺ: (يحمل هذا العلم من كلّ خلف عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المُبطِلين وتأويلَ الجاهلين)[4].
- الخامسة: أنّه وصفهم بكونهم أولي العلم، وهذا يدل على اختصاصهم به، وأنهم أهله وأصحابه ليس بمستعار لهم.
- السادسة: أنّه سبحانه استشهد بنفسه وهو أجلُّ شاهد، ثم بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء من عباده، ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفًا.
- السابعة: أنّه استشهد بهم على أجلّ مشهود به وأعظمه وأكبره، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والعظيمُ القدْر إنّما يستشهد على الأمر العظيم أكابرَ الخلق وساداتهم.
- الثامنة: أنّه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين، فهُم بمنزلة أدلّته وآياته وبراهينه الدالّة على توحيده.
- التاسعة: أنّه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة الصادرة منه ومن ملائكته ومنهم، ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته، وهذا يدلّ على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته، فكأنّه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على ألسنتهم، وأنطقهم بهذه الشهادة، فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة وإنطاقًا وتعليمًا، وهم الشاهدون بها له إقرارًا واعترافًا وتصديقًا وإيمانًا.
- العاشرة: أنّه سبحانه جعلهم مؤيدين لحقّه عند عباده بهذه الشهادة، فإذا أدّوها فقد أدوا الحق المشهود به فثبت الحق المشهود به، فوجب على الخلق الإقرار به، وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وكل مَنْ ناله الهدى بشهادتهم وأقرّ بهذا الحقّ بسبب شهادتهم، فلهم من الأجر مثل أجره، وهذا فضل عظيم لا يدري قدْرَه إلا الله، وكذلك كلّ من شهد بها عن شهادتهم، فلهم من الأجر مثل أجره أيضًا»[5].
وهذا العلم الذي بانت مكانته، وجمل في الخلق طلابه وأهله، هو وسيلة عظمى واجبة التحصيل لمقصد أجل وأسمى، وهو: التعبد لله جل جلاله؛ قال الإمام المقاصدي الشاطبي رحمه الله: «روح العلم هو العمل… وذكر مالك أنّه بلغه عن القاسم بن محمد قال: أدركت الناس وما يعجبهم القول، وإنّما يعجبهم العمل، والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى»[6].
والقول الفصل أنّه لا يعد في ديوان العلماء إلا مَن حمله علمه على الوفاء بتبعات علمه، وزكاة ما أخذ منه قيامًا برسالة العلم وشرف الانتساب إلى أهله العاملين به، تحمّلاً وتعليمًا وتخلّقًا وتبليغًا ودعوةً.
العلماء في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنصّ الكتاب
رسالية العلماء:
إنّ العالم الذي ثبت في الشريعة فضلُه، وتضافرت النصوص على رفعة مكانته وسموّ مقامه، إنّما هو العالم الوارث الذي جاءت الإشارة إليه في قوله ﷺ: (وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنّما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر)[7].
إنّهم العلماء الذين «يخلفُون الأنبياء على منهاجهم وطريقهم من نصيحتهم للأمة، وإرشادهم الضال، وتعليمهم الجاهل، ونصرهم المظلوم، وأخذهم على يد الظالم، وأمرهم بالمعروف وفعله، ونهيهم عن المنکر وترکه، والدعوة إلى الله بالحكمة للمستجيبين، والموعظة الحسنة للمعرضين والغافلين، والجدال بالتي هي أحسن للمعاندين المعارضين»[8]. وهم العلماء الرساليون الذين يوقّعون عن الله عز وجل وعن رسوله ﷺ، وهم «من دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، والذين خُصّوا باستنباط الأحكام وعُنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنصّ الكتاب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩]»[9]. وهم المشار إليهم في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: ٧٩]، يقول ابن العربي رحمه الله: «في قوله تعالى (ربانيين) وهو منسوب إلى الرب، .. وهو ها هنا عبارة عن الذي يربّي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنّه يقتدي بالربّ سبحانه وتعالى في تيسير الأمور المجملة في العبد على مقدار بدنه من غذاء وبلاء»[10]. فعلمه باعث له على العمل «الذي لا يخلّي صاحبه جاريًا مع هواه کیفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعًا أو کرهًا»[11].
والعالِمية: «صفة كسبية في معرفة أحكام الشريعة، أصولها وفروعها، يكون المتحقق بها إمامًا في الدين تعليمًا وتزكية»[12]. وقد تتبع الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله وصية الإمام الباجي لولديه المتعلّقة بالعلم وطلبه والتماس الإمامة فيه، فأرجع ماهية العالِـمية إلى ثلاثة أركان:
- الملكة الفقهية: وهي «غاية مراحل الطلب، وزبدة مسيرة العلم، هي الصفة الكسبية التي يكون بها العالم فقيهًا في أحکام الشريعة أصولها وفروعها، وإنما هي: خبرة منهجية في معالجة النصوص الشرعية فهمًا واستنباطًا، وتحقیق مناطاتها تنزيلاً»[13]. فالعالم الحقّ مَن «يتحقّق بالمعاني الشرعية منزّلة على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصدّه التبحّر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر. فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر. ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخَّص له على ما يليق في أفعال المكلفين،… وهذه الرتبة لا خلاف في صحّة الاجتهاد من صاحبها»[14].
- الربانية الإيمانية: وهي مقاربة الكمال في مسلك التخلّق بأخلاق القرآن، والتحقّق من صفتي التقوى والورع، من أجل تحصيل العلم بالله والتعرف إليه تعالی. ولا يكون له ذلك إلا بما حصل من مكاسب الأعمال، وبما ترقّى في مدارج التزكية الإيمانية، ومجاهدة النفس عبر منازل التعبّد ومراتب الإخلاص حتى يخرج خروجًا كليًّا عن داعية هواه، ويكون عبدًا خالصًا لله، والخلوص الكامل لله هو تمام العلم بالله»[15].
- القيادة التربوية والاجتماعية: وهي وظيفة العالم الإصلاحية، وحق العلم المتعلّق بذمته، وهي الانتصاب لتربية الخلق بما آتاه الله من علم وصلاح في نفسه، وبما اكتسبه في طريق ذلك من بصيرة قلبية وخبرة دعوية وصناعة تربوية .. يراعي المناسبات الزمانية والمكانية والحالية في تنزیل الأحكام الشرعية والتوجيهات الدينية؛ ممّا يؤهله للإمامة العلمية والقيادة التربوية، قديرًا على توجيه المجتمع بعلمه وخلقه واستيعاب سائر الناس»[16].
الرسالية في فعل العلماء مسؤولية هادفة أساسها العلم ولُحمتها الأخلاق ومحرّك رحاها الاهتمام المبصر بمشكلات الأمّة، والوقوف الواعي على أهم الثغرات فيها، والترسيخ العميق لهويتها، وتقوية كينونتها، بما يدفع عنها غائلة الجهل والظلم والخضوع
من مهام العالم الرسالي:
إنّ الرسالية في فعل العلماء مسؤولية هادفة أساسها العلم ولُحمتها الأخلاق ومحرّك رحاها الاهتمام المبصر بمشكلات الأمّة، والوقوف الواعي على أهم الثغرات فيها، والترسيخ العميق لهويتها، وتقوية كينونتها، بما يدفع عنها غائلة الجهل والظلم والخضوع.
لذلك كان من أجلّ مهام العلماء الرساليين:
- بيان الحقّ والنهوض بتبليغه مع ما يستدعيه ذلك من البلاغ المبين، القائم على الرفق والحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والتماس العذر للمخالف، والتعامل بنفسية الداعي المشفق، والطبيب المداوي، لا القاضي الحاكم الذي يبحث عن الثغرات، إذ المعنى الحسن لا ينفذ إلى القلوب إلّا إذا حُمل في وعاء حسن جميل يغري بالإقبال؛ «فالذي يحاول خدمة الرسالة الإسلامية دون أن يكون محيطًا بأدب العربية في شتى أعصارها إنّما يحاول عبثًا، وأنّى لرجل محروم من حاسّة البلاغة أن يخدم دينًا كتابُه معجرةٌ بيانيةٌ، ورسولُه إمامُ الحكمةِ وفصل الخطاب!!»[17].
علمًا أنّ بيان الحقّ والصدع به زمن الفتنة وأمام السلطان الجائر له تبعات لا يتحمّلها إلّا العلماء الذين باعوا أنفسهم لله، يجهرون بالحقّ ولا يخافون فيه لومة لائم، لا تغريهم مفاتن الدنيا، ولا توقفهم مكايد المتهافتين من عوام الناس وخواصهم، نصب أعينهم المنزلة العظيمة التي بشّر بها رسول الله ﷺ: (سَيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله)[18].
فلا يُحسب في ديوان العلماء الرساليين مَن شغله علمه عن عمله، وشذّ عمله عن خُلُقه، ولا يكون عالمًا رساليًا حتى يكون حاله ناطقًا عنه، وقد لبس الصدق للحق، وتزيَّا بحسن الخلق للخلق، وقد أوصى الخطيب البغدادي العلماء بقوله: «فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشًا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما دمت مقصّرًا في العمل، ولكن اجمع بينهما وإنْ قلّ نصيبك منهما، وما شيء أضعف مِن عالمٍ ترك الناسُ علمَه لفسادِ طريقته، وجاهلٍ أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته»[19].
2. تجديد معالم الدين وسياسة الناس بمنهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فالعالم الرسالي مهموم بما يلم بأمته من مشكلات، وما يطرأ بواقعها من انحرافات، فهو يسعى إلى إحياء معالم الدين، وتجديد معاني رسالة سيد المرسلين، يشارك في تجديد الفكر، وترشيد الشأن العام، يفرغ جهده في التماس الأجوبة السديدة الشرعية المناسبة لاحتياجات الواقع، يوائم بين فقه الواجب وفقه الواقع، وبين توجيهات الوحيين ومقاصدهما، ومعطيات العلم وهداياته في الأنفس والآفاق، فهو لا يستغني عن الجمع بين الكونين والنظر الحصيف في الآيتين، الآية المتلوة في الكتاب، والآية المجلوة في الكون المنظور.
والأمّة اليوم بحاجة إلى علماء يقودونها -ولاسيما في هذا الوقت الذي كثر فيه الاختلاف والاضطراب- يجمعون كلمتها ويوحّدون صفها، ويبنون أخوّتها الإيمانية، ويربّونها على التضامن والتآزر والاعتصام بحبل الله، «وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي تتم به مصالح الدنيا والدين والسلامة من الاختلاف»[20]، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: ١٠١].
3. السعي الحثيث إلى توريث علم النبوة للأجيال، وفاءً بعهد التبليغ ومهمّة التحصين للأمة من الفتن، حتى يستمر العطاء ويتجدّد جيلاً بعد جيل، ويتحقّق الوعد الحق: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)[21]. يقول الإمام النووي رحمه الله: «وهذا إخبار منه ﷺ بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأنّ الله تعالى يوفق له في كل عصر خَلَفًا من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف وما بعده فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كلّ عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهذا من أعلام النبوة، ولا يضر مع هذا كون بعض الفساق يعرف شيئًا من العلم، فإنّ الحديث إنّما هو إخبار بأنّ العدول يحملونه، لا أنّ غيرهم لا يعرف شيئًا منه، والله أعلم»[22].
ويبقى نجاح العالم الرسالي مرهونًا بسلامة قصده وحسن طويته، ودوام جدّه، وعلوّ همّته، ومصاحبته الصادقة للعلم والعمل والخلق، جامعًا بين المدارسة والممارسة، وقائلاً بالحقّ لا يخشى في الله لومة لائم، «فأولئك الأقلّون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع عن حججه، حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعونها في قلوب أشباههم»[23].
نجاح العالم الرسالي مرهونٌ بسلامة قصده وحُسن طويته، ودوام جدّه، وعلوّ همّته، ومُصاحبته الصادقة للعلم والعمل والخلق، جامعًا بين المدارسة والممارسة، وقائلاً بالحقّ لا يخشى في الله لومة لائم
خاتمة:
لا يسع أمّة اقرأ وأمّة الكتاب إلّا العودة الصادقة إلى حاضنة العلم ورسالته السامية الباقية، كما يؤكّد ذلك العالم المغربي المقاصدي أحمد الريسوني بقوله: «فإذا لم تكن -فعلاً- خاصيتُنا علمية، ولم تكن رسالتُنا علمية، ولم تكن نهضتُنا علمية، ولم تكن حضارتُنا علمية، فقد حِدْنا عن الطريق الصحيح. فلا بدَّ إذًا مما ليس منه بُد، وهو اتخاذ العلم والعمل العلمي إمامًا، واتخاذ الكتاب إمامًا، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ [هود: ١٧].
فسنّة الله إنزال الكتب، وسنة الأنبياء تبليغ الكتب وإمامة الناس بالكتب، ووظيفة العلماء والمفكرين ترسيخ الإمامة والقيادة للكتاب الإمام، ثم ترسيخ ثقافة الكتاب، وإمامة الكتاب، والعلم بصفة عامة.
وظيفة العلماء والمفكرين إنتاج الكتب القيادية الهادفة لمختلف الأزمنة والأجيال بحسب المشكلات والحاجات والإمكانات القائمة في كل زمان»[24].
إنّ أمّتنا الإسلامية اليوم تُحارَب بقسوة شديدة ومكر خبيث في مراحل التربية، وساحات القضاء، ومجال الأسرة والمرأة، واللسان العربي، فضلاً عن حرب الكفاءات، وتسلّط الاستبداد السياسي، والغزو الفكري، مما يدعو إلى الزيادة في فري المشكلات، وتعميق المطارحة في تعرف الأولويات، والتماس الحلول المبنية على فقه المقاصد ومراعاة المآلات، وخلوص الغاية ضمن عمل اجتهادي اجتماعي، يجمع بين علماء الشريعة الأصلاء المخلصين، وأهل التخصصات المحسنين، «على أنّه لا بد من إبعاد العقول الملتاثة عن علم الكتاب والسنّة، ولا بد من تنقية منابعنا الثقافية حتى تروج أقوال الأئمة العباقرة، وأهل الذكر، وتستخفي أقوال المعلولين، وأذناب السلطان، وأشباه العوام»[25].
إنّ أمانة الوراثة عن النبي ﷺ في عمقها الرسالي، ومادتها العلمية، ورحمها الربانية، قد جمعت وظائف البعثة المحمدية الثلاث، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢].
[1] أخلاق العلماء، للآجري، ص (٦-٧).
[2] إحياء علوم الدين، للغزالي (١/٤-٥).
[3] التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون، للدكتور مأمون حموش (٢/٢٨).
[4] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٢٠٩١١) والطبراني في مسند الشاميين (٥٩٩) بإسنادٍ مُرسَل.
[5] تنقيح الإفادة المنتقى من مفتاح دار السعادة، لسليم الهلالي، ص (٥١-٥٢).
[6] تنقيح الإفادة المنتقى من مفتاح دار السعادة، لسليم الهلالي، ص (٧٥).
[7] أخرجه أبو داود (٣٦٤١) والترمذي (٢٦٨٢).
[8] تنقيح الإفادة، ص (٨٨).
[9] إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية (١/٨).
[10] أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، (١/٣٦٥).
[11] الموافقات، للشاطبي (١/٣٦).
[12] مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية، للدكتور فريد الأنصاري، ص (٦٢).
[13] المرجع نفسه، ص (٦٣).
[14] الموافقات، للشاطبي (٤/١٣١-١٣٢).
[15] مفهوم العالمية، فريد الأنصاري، ص (٦٥-٦٦).
[16] المرجع نفسه، ص (٧٥-٧٦).
[17] مع الله، لمحمد الغزالي، ص (١٨٠).
[18] أخرجه الحاكم (٤٨٨٤).
[19] اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، ص (١٤).
[20] تفسير القرطبي (٤/١٠٥).
[21] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٢٠٩١١) والطبراني في مسند الشاميين (٥٩٩) بإسنادٍ مُرسَل.
[22] تهذيب الأسماء واللغات، للإمام النووي، (١/١٧).
[23] تنقيح الإفادة، ص (١٢٩).
[24] أبحاث في الميدان، د.أحمد الريسوني، ص (١٣٨-١٣٩).
[25] علل وأدوية، لمحمد الغزالي، ص (٢٥٥).
أ. مؤمن لخضر
إجازة في الدراسات الإسلامية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، مدرس وواعظ، ومهتم بالقضايا التربوية والفكرية.
1 تعليق
التعليقات مغلقة