تزكية

ربَّ خشيةٍ أثمرت قائدًا ربانيًا

للعمل الصالح بركةُ لا يدركها إلا ذوو الحجى والألباب، والإخلاص لله تعالى يفعل الأعاجيب، فيرفع أقوامًا فوق ما يظنُّ الناس، ويتقدَّم آخرون بما وقر في قلوبهم من الإيمان والخشية على بعض المكثرين من العبادات والأعمال، وفي هذا المقال مثالٌ على موقفٍ متجرِّدٍ لله من فتاةٍ صادقةٍ كانت ثمرتُهُ بزوغ قائد من قادة الإسلام العظماء

المتأمِّل في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله التي كانت شامة في جبين الأمة، وأنموذجًا يقتدى به، يُدرك أنَّها ما كانت لتقوم هكذا عفوًا بلا تدبيرٍ ولطفٍ ورعايةٍ خاصةٍ من اللطيف الخبير.

فتعال لنتأمَّل كيف هيَّأ الله لتلك البذرة العمرية سببًا، ثم سقاها ورعاها بأسباب أخرى متضافرة حتى استوت على سوقها، ثم مكَّن لها على أعلى مستوى.

فكيف كانت البذرة؟ وما هي الأسباب التي اجتمعت لها؟

مراقبة الله في السر:

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعسُّ كعادته في طرقات المدينة ومعه مولاه أسلم، فلمّا أعيا واتَّكأ على جدارٍ، سمع حوارًا بين امرأتين تطلب فيه الأمّ من ابنتها أن تخلط الحليب بالماء ليكثر حجمه فيباع بربحٍ أكثر، فأبت البنت، وأخبرت أمَّها أنَّ أمير المؤمنين عمر قد نهى عن هذا الفعل! فقالت الأم: «يا بنيَّة، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنَّك بموضعٍ لا يراك عُمر ولا مُنادي عمر!»

فقالت الصبية لأمِّها: «يا أمَّتاه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء»، وعمر يسمع كل ذلك[1].

فلَفَتَ جوابُ هذه الفتاة الصالحة انتباهَ الفاروق عمر، وهو الأريب النبيه.

الحرص على الأولاد والنصح لهم:

الفاروق رجلٌ يقظ، لا يحمل همَّ نفسه فحسب، بل يفكِّر في أولاده ومجتمعه وأمَّته؛ فقد بقي موقف هذه البنت في ذهنه، وطلب من خادمه أن يعلِّم الباب ويعرفه، ثم أمَرَهُ في الصباح أن يسأل عن أهل هذا البيت؛ من هم؟ وما حال الأسرة؟ وما وضع البنت؟

وبعد أن عرف وضعهم، جَمَع أولاده وحكى لهم عمَّا علم من أمر هذه البنت، وسألهم: «هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أُزوِّجه؟ فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي، فزوِّجني، فبعث إلى الجارية فزوَّجها من عاصم، فولدت لعاصمٍ بنتًا وولدت البنت عمر بن عبد العزيز»[2].

فلم يكن ينتظر أولاده حتى يُفكِّروا في الزواج ليبحث عن زوجةٍ لهم، بل يتحرَّى بنفسه لهم من تخاف الله وتتَّقيه.

الفاروق رجلٌ يقظ، لا يحمل همَّ نفسه فحسب، بل يفكِّر في أولاده ومجتمعه وأمَّته؛ ولم يكن ينتظر أولادَه حتى يُفكِّروا في الزواج ليبحث لهم عن زوجةٍ، بل كان يتحرَّى بنفسه لهم من تخاف الله وتتَّقيه

اختيار ذات الدين:

لقد هيأ الله لعمر بن عبد العزيز أبًا صالحًا من أسرة حَسَب ونَسَب، فعبد العزيز بن مروان بن الحكم، كان من خِيار أُمراء بني أمية، شجاعًا كريمًا، وبقي أميرًا لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقَيِّمِه: «اجمع لي أربعمائة دينار من طيِّب مالي؛ فإني أريد أن أتزوَّج إلى أهل بيت لهم صلاح»[3]، فتزوج ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

وكان بإمكانه أن يطوف البلاد المترامية الأطراف شرقًا وغربًا، وينتخب لنفسه ذوات الجمال والدلال، لكنه آثر الاختيار من البيت العمري المعروف بتربيته الربَّانية.

تربية صالحة:

ترك عبد العزيز بن مروان ابنه عمر في المدينة عند أخواله آل عمر بن الخطاب فنشأ بينهم وترَّبى على أخلاقهم، واختار له أبوه صالحَ بن كيسان مربيًا فتولّى تأديبه، وكان يُلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحَدَثَ يومًا أن تأخَّر عمرُ عن الصلاة مع الجماعة، فقال له صالح بن كيسان: «ما يشغلك؟»، قال: «كانت مرجّلتي (مسرِّحة شعري) تسكِّن شعري»، فقال: «بلغ منك حبُّك تسكينَ شعرك أن تُؤثِره على الصلاة؟»، فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلِّمه حتى حلق رأسه[4]. ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالحَ بن كيسان عن ابنه فقال: «ما خبرت أحدًا، اللهُ أعظمُ في صدره من هذا الغلام»[5]. ونشأ بين أصحاب النبي ﷺ وكبار التابعين نشأة أدبٍ وعلمٍ ودين.

مشورة صادقة وموقف مشهود:

لما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة، قرَّب ابن عمِّه عمر بن عبد العزيز، وكان يُعجَب برأيه ومشورته، بل أخذ بكثير منها خصوصًا في عزل الولاة الظالمين، وكان عمرُ يعظُهُ ويذكره بالآخرة في كل مناسبة، حتى كان له أثر بالغ في نفس سليمان.

ولما أحسَّ سليمان لمرضه بقرب منيَّته، أراد الوصية من بعده لابنه، واستشار في ذلك التابعيَّ الجليل رجاء بن حيوة، فثناه عن عزمه، وأشار عليه بعمر بن عبد العزيز، فأعجبه ذلك، وأخذ بهذه المشورة، وقال قولته: «والله لأعقدن عقدًا ليس للشيطان فيه نصيب»[6]، وجمع أمراء بني أمية وأخذ عليهم العهد أن يُبايعوه، وهكذا تمَّ الأمر وسعدت الدنيا بخلافةِ عدلٍ ذكَّرت الناس بعدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

جعل الله سبحانه وتعالى لكل شيءٍ سببًا، ورتب النتائج العظيمة على الأسباب الصالحة، فكان اجتماع الأسباب الصالحة في حالة عمر بن عبد العزيز واضحًا جليًا

تأمَّل كيف أخرج الله عمر رضي الله عنه من بيته في جوف الليل ليعسَّ المدينة، ثم قدّر أن أصابه الإعياء ليتكّئ على جدار ذلك البيت في ذات اللحظة التي تنطق فيها تلك البنت الصالحة كلماتها التي خلّدها التاريخ، ثم يُلهمه أن يزوِّجها لابنه عاصم ويدعو له بما دعا

حكمة الله تعالى وعلمه الواسع:

جعل الله سبحانه وتعالى لكل شيءٍ سببًا، ورتب النتائج العظيمة على الأسباب الصالحة، فكان اجتماع الأسباب الصالحة في حالة عمر بن عبد العزيز واضحًا جليًا، ابتدأ من تقوى البنت الهلالية التي سمعها عمر تحاور أمَّها في جوف الليل، وانتهى بخلافةٍ كانت نموذجًا فذًا يقتدى به إلى يوم القيامة.

ولعل الله تعالى أراد إكرام الفاروق عمر فقدَّر له رؤيا يراها؛ فإنَّ مما تواترت فيه الأخبار: ما كان من رؤيا عمر التي كان يبشِّر بها المؤمنين، وتناقلت الأجيال تلك الرؤيا مترقبة تحققها في هذه الأمة.

قال عبد الله بن عبد الحكم: «واستيقظ عمر من نومه فمسح النوم عن وجهه وفرك عينيه وهو يقول: من هذا الذي من ولد عمر يسمى عمر يسير بسيرة عمر؟، يردِّدُها مرات».

وقال: «وأخبرني الليث بن سعد أنه كان يقال: الفراسة فراسة العزيز في يوسف النبي عليه السلام حين قال: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: ٥٤]، وفراسة عمر بن الخطاب في الهلالية حين قال لولده تزوجها والله ليوشكن أن تأتي بفارس يسود العرب، فأتت بعمر بن عبد العزيز»[7].

درس بليغ:

تأمَّل كيف أخرج الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بيته في جوف الليل ليعسَّ المدينة، ثم قدّر أن أصابه الإعياء ليتّكئ على جدار ذلك البيت في ذات اللحظة التي تنطق فيها تلك البنت الصالحة كلماتها التي خلّدها التاريخ، وتقع في أذن عمر مقالتها، ثم يُلهمه أن يزوجها لابنه عاصم ويدعو له بما دعا، ثم تكون تلك الرؤيا الصالحة التي تتناقلها الأجيال، حتى يسَّر لتلك الأسرة الصالحة عبد العزيز بن مروان وليَّ عهد الخلافة الأموية ليتزوَّج من ابنتهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فيكون منهما ذلك الفتى الأشجّ، وهيَّأ له تربيةً خاصةً في مدينة رسول الله ﷺ، ليكون وزير الخليفة سليمان بن عبد الملك رحمه الله، ويتربع بعدها على كرسي الحكم وتتحقَّق فيه رؤيا عمر رضي الله عنه فيسير بسيرته، وصدق الله إذ قال على لسان يوسف عليه السلام: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: ١٠٠]، قال السعدي: «يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهُها …»[9].

وربَّ خشيةٍ أثمرت قائدًا ربانيًا.


د. عمر النشيواتي

طبيب، وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه.


[1] تاريخ دمشق (٧٠/٢٥٣).

[2] المرجع السابق نفسه.

[3] الطبقات الكبرى (٧/٣٢٥).

[4] المعرفة والتاريخ (١/٥٦٨).

[5] البداية والنهاية (١٢/٦٧٨).

[6] سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه، لابن عبد الحكم، ص (٢٤).

[7] المرجع السابق نفسه.

[8] تفسير السعدي، ص (٤٠٥).

X