الورقة الأخيرة

ذات الشوكة

حين أفلتت قافلة قريش من المسلمين، واستنفر المشركون للقتال، ولم يكن المسلمون مستعدِّين، تمنَّى فريقٌ منهم الظفر بالقافلة وتجنب القتال، كما قال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}، {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فسمع منهم ما أحب، وكان النصر في بدر يوم الفرقان الذي أراده الله سبحانه.

كذلك بدأت ثورة الشام شعبية سلمية، لكن الله تعالى أراد أمرًا آخر، وكان في ذلك آلام جسام، ما عرف الناس قيمتها إلا بعد التحرير، فماذا عما قبل النصر من مكاسب للجهاد والهجرة؟

تظهر أولى المكتسبات في تحرر النفوس من الخوف وخروج الوهن منها (حب الدنيا وكراهية الموت). فحينما تُفرض المواجهة على الشعوب، فإن المواجهة وكثرة التعرض للمخاوف تبدد الخوف من القلوب، فتسكن بالطمأنينة لكثرة ما ترى من حوادث السلامة في ظروف العطب المحتم. وهذا ما سرده أعداد لا تحصى ممن تعرضوا للمخاطر فخرجوا سالمين، فصار الإقدام سمتهم والشجاعة صفتهم. وما ترك قوم الجهاد إلا من الوهن، وما زادوا بترك الجهاد إلا وهنًا.

يتمثل المكتسب الثاني في التلاحم المجتمعي عند البأس، وهذا مشهود في الحياة معهود عند الناس، فإنهم إذا عدموا البأس تجاه عدوهم، صار بأسهم بينهم، فتمزقوا، ولا يجمعهم مثل مداهمة عدوهم لهم. وقد شهدت الشام صنوفًا من التلاحم الشعبي والدعوي وغيره.

بينما يتجسد المكتسب الثالث في ولادة الفرص النادرة من رحم الشدائد القاسية، ولا يدرك ذلك إلا تامّ الرضى الموعود بأن يرضيه الله تعالى. وأكبر تلك الفرص تمثلت في حرية أعقبت التهجير، فـأتاحت فرصة نادرة للتعلم والإعداد والعمل. كما كان من الفرص الكبيرة: تنقية الجهاد بانكشاف الغلو، وسقوط المشروع الباطني بأجنحته الداخلية والخارجية، وزوال بنية الطغيان.

والثمرة الجامعة لتلك المكتسبات أن الجهاد مراجعة للدين، وإقبال على رب العالمين، الذي به يستنزل العون والغوث والسكينة، وتسخر به جنود الله لعباده المقاتلين في سبيله صفًا، وإلا فإنه (إذا ‌تبايعتم ‌بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)[1]. فالركون إلى الدنيا مانع من الجهاد، والركون إلى الذين ظلموا مبطل لثمراته.

لكن أهل الشام اليوم يرجون ازدهار البلاد ورغد العيش، ولا يدرون ماذا خبأ الله لهم من نعيم الدنيا، أو نعيم الآخرة بالجهاد مجددًا، فإن كانت الأولى كانت فرصة للبناء والإصلاح، وإن كانت الأخرى فإن بركات الجهاد أعظم، ولا نتمنى لقاء العدو.

وهنا تتباين طرائق المجاهدين والقاعدين من جديد، كما تباينت في الجهاد السابق ما بين مجاهد وقاعد، وبين مهاجر ومرابط، وبين معلن موقفه أو مبطنه، والله أعلم بالصادقين، و{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، فكم من مقاتل فُتن عن الجهاد فأقبل على الدنيا، وكم من قاعد اعتبر بحال أهله المجاهدين فاستدرك، فصار كأنس بن النضر لما فاتته بدر، فعزم على أن يري الله من نفسه خيرًا، فقاتل في أُحد مقدامًا حتى تمزق جسده، فما عرفه إلا أخته ببنانه، وتذكر به المسلمون قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

الفضلاء يعرفون الفضل لغيرهم، فلا يستوي عندهم طالب العير مع ناشد النفير، ولا صاحب القافلة والغنيمة مع محبّ الشهادة، ملتزمين ميزان الرحمن: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}، مستحضرين وصية الحبيب: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق)، واثقين بالوعد الكريم: (مَن سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)، آملين عند العجز بكرامة: (من خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا)[2].

يعلمون أيضًا أن الرباط على (العمل في سبيل الله) قد يشق على النفوس أكثر من (القتال في سبيل الله)، فيرابطون في ثغور العلم المجاهد، والجهاد المتعلم، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويعلمون أنَّ الجهاد دعوة، والشهادة اصطفاء، وأنَّ المجتمع حاضن، والقادة العلماء، وأنَّ النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأنَّ مع العسر يسرًا.

وهكذا تتكامل نفرة الجهاد مع نفرة العلم، وصولاً إلى طوفان الأمة القادم لا محالة، وإن كره الكارهون ذات الشوكة، وخيرٌ لهم تحضير النفوس لو كانوا يعلمون.


د. خير الله طالب


[1] أخرجه أبو داود (3462).

[2] الحديث الأول أخرجه مسلم (1910) والثاني أخرجه مسلم (1909)، والثالث أخرج مسلم (1895).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *