دعوة

دعاة على أبواب جهنم: توصيف ومآلات

على كاهل الدعاة إلى الله مسؤولية عظيمة في الأخذ بأيدي الناس إلى مراد الله منهم بالحكمة والموعظة الحسنة وعلى بصيرة وهدى، خصوصًا في هذا الزمان الذي كثر فيه الداعون إلى أصناف الضلالة وأنواعها، مدججين بالأسباب المادية والأدوات العصرية، يُلقون من يُجيبهم إلى ضلالهم في غضب الله وسخطه.

مدخل:

في هذه المرحلة الصعبة التي تمرُّ بها الأمة المسلمة، كم نحن بحاجةٍ إلى الرجوع لنصوص الوحي وتفعيل دورها من جديد في تصحيح مسارِ الأمة، وإعطائها الرؤية الواضحة في جميع نواحي الحياة، مما يجعلها على بصيرةٍ من أمرها، فتجتمع حول غاياتٍ نبيلةٍ تبعث في حياة الناس روح التفاؤل، وتحفِّزها نحو العمل لإيجاد البديل الثقافي والحضاري لظلمات التيه التي سارت فيها البشرية.

ولتحقيق المشروع الإصلاحيِّ الذي يحقق للأمة الهداية، ويحفظ لها ذاتيتها، ويعمِّق فيها الشعور بالوسطية والمسؤولية تجاه البشرية، جاء التوجيه الإلهي: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٨].

وإنَّ أولى ما تتحقَّق به الهداية اتِّباع محمد ﷺ؛ الصادق الأمين، والناصح العطوف، والرحمة المهداة.

تحذيرات نبوية من أعلام الضلالة:

تحوي هدايات السنة النبوية الشريفة ما يعصم المجتمع من خطر المرجعية الأهوائية المضلِّلة، ففي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعد ذلك الشرِّ من خير؟ قال: (نعم، وفيه دَخَنٌ). قلت: وما دَخَنُه؟ قال: (قومٌ يَهدون بغير هديي، تعرف منهم وتُنكر). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: (نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). قلت: يا رسول الله، صِفهم لنا؟ قال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم). قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام. قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)[1].

فقد أشار النبي ﷺ في هذا الحديث إلى عاملٍ من أهم عوامل انحراف المجتمعات، ألا وهم دعاة الضلال الذين وصفهم بأنهم دعاةٌ على أبواب جهنم، كما أنَّ من أهم عوامل سلامة المجتمعات من الانحراف العقدي والتشتت الفكري: الوقوف في وجه دعاة الضلال أولئك.

وقوله ﷺ: (دعاةٌ على أبواب جهنم) أي يدعون الناس إلى العمل بما يولج فيها. وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على جَورٍ وباطلٍ، وعلى خلاف سنته عليه الصلاة والسلام. ولأنهم على ضلال، فلم يقل فيهم: تعرف منهم وتنكر، كما قال في الأوَّلين.

وقوف أهل الحق في وجه دعاة الضلال من أهم عوامل سلامة المجتمعات من الانحراف العقدي والتشتت الفكري

أصناف دعاة الضلالة:

لعلَّ من أوائل المعنيين بهذا التعبير علماء السوء والمنافقون ومن يلبِّسون على الناس دينهم، فهم محسوبون من أمة الإسلام، بقرينة القيد المذكور في الحديث: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!). وجِلدة الشيء: ظاهره، وهي في الأصل غشاء البدن.

قال: (هُم من جِلدَتنا)؛ يعني: من أبناء جنسنا، ومن قومنا وملَّتنا. (ويتكلمون بألسنتنا) أي: بلغتنا؛ يعني: لا نقدرُ أن نعرفَهُم بصورِهم بل بسِيَرِهم، هم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن مخالفون لنا، دعاة للشهوات مثيرون للشبهات.

  • فأما الفئة الأولى: فهم الذين يدعون الناسَ إلى الجنة بأقوالهم، ولكن أفعالهم تأبى ذلك حيث تناقض ما يقولون ويُنظِّرون!

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: «علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأفعالهم! فكلَّما قالت أفواههم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم. فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له. فهم في الصورة أدِلّاء؛ وفي الحقيقة قطَّاع الطرق»[2].

دعاة يعلنون الحرب على الإسلام باسم الإسلام، ويهدمون أركان وأصول وثوابت الدين باسم الدين! يصورون فسادهم وضلالهم في قالب الإصلاح! ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١].

قال ابـن كثيـر في تفسير قـوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤]: «والمقصود: التحذير من علماء السوء، وعُبَّاد الضلال. كما قال سفيان بن عيينة: مَن فسد من علمائنا كان فيه شبَهٌ من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبَهٌ من النصارى»[3].

فعلماء السوء طائفة تَعلَم الحق لكنها تلبسه بالباطل، ليتوافق مع أهواء السلاطين وسياساتهم المبدِّلة للدين، ليتوصلوا بذلك إلى حطام الدنيا، من مال، أو منصب، أو جاه، أو رئاسة، أو ليحفظوا ما هم فيه من متاع زائل.

قال عبد الله بن المبارك:

وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ *** وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها

لكل طاغية أبواق تنعق بما تعلم وبما لا تعلم، تشارك في عملية التضليل الفكري والإعلامي، تتهجَّم على ثوابت الدين باسم التسامح والوسطية؛ كل همّهم أن يصلوا بالمسلمين إلى حالةٍ من الإفلاس في عالم القِيَم

  • وأما الفة الثانية: فهم أبواق الطواغيت، فإنَّ لكل طاغية أبواق تنعق بما تعلم وبما لا تعلم، يشاركون في عملية التضليل الفكري والإعلامي، هم أيضًا دعاة على أبواب جهنّم. يقول تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ١٠٩ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠٩- ١١٠].

ويستحيل عند من عاش في أروقة الظلمة ودهاليز الشهوات، أن يحصل من كلامه الهدى، فما عندهم إلا لحم جمل غثٌّ على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى.

يعزفون على جراح المستضعفين من هذه الأمَّة تحت عباءة الوطنية؛ ويتهجَّمون على ثوابت الدين باسم التسامح والوسطية؛ وكان همُّ هؤلاء أن يصلوا بالمسلمين الذين هم بالأصل من أبناء جلدتهم، إلى حالةٍ من الإفلاس في عالم القِيَم. شُغلهُم الشاغل التمرُّد على الثوابت، وهذا التمرُّد هو المقدَّس الأكبر لدى الحداثيين[4].

وكأن هؤلاء يبحثون عن الشهرة، إلى جانب بثِّ سمومهم. فما نال العديدون جوائز كبيرة، وشهرة عالمية، إلا لأنهم طعنوا في ثوابت الإسلام!

يمارسون الطعن في الثوابت، متأثرين بأساتذتهم من المستشرقين، أو المستغربين الجدد. تحت مسميَّات مزركشة، وعناوين مزيفة، من مثل التنوير والحداثة والتجديد!

  • وأما الفئة الثالثة: فهم الذين يرون في النموذج الغربي مثالاً يحتذى، فحاولوا محاكاة العلمانية الأوروبية التي نظرت للدين على أنه يعيق حركة التقدم والنهوض، فسعوا إلى تنحية الشريعة الإسلامية والطعن فيها وفي أحكامها باسم التجديد أو التحديث، فتارة ينادون باستبعاد الشريعة عن حكم الدولة والمجتمع، إلا نصوصًا مجمَّدة في بعض الدساتير، أو قوانين مؤطرة بالأحوال الشخصية! وتارةً تجدهم مستعدين لاستيراد ترَّهات الغربيين وباطلهم وزيفهم في التعليم والإعلام لمسخ الأجيال الشابة، واستنساخ النظام الاقتصادي الغربي القائم على الربا.

«هؤلاء الدعاة اليوم، الذين يدعون إلى أنواع من الباطل كالقومية العربية، والاشتراكية والرأسمالية الغاشمة. وإلى الخلاعة والحرية المطلقة وأنواع الفساد. كلهم دعاة على أبواب جهنم، سواء علموا أم لم يعلموا. من أجابهم إلى باطلهم قذفوه في جهنم. ولا شك أن هذا الحديث الجليل من أعلام النبوة، ودلائل صحة رسالة محمد ﷺ؛ حيث أخبر بالواقع قبل وقوعه، فوقع كما أخبر»[5].

هؤلاء اليوم، مهما تباينت أسماؤهم، أو اختلفت أساليبهم، أو تناءت ديارهم، فهم متفقون على فصل الأمة عن موروثها الحضاري، ويلبسون عليها دينها. هم بامتياز دعاة على أبواب جهنم.

المنافقون يطعنون في الدين، ويتلونون في كل ثوب، يظهرون في الليل حتى يضربوا ضربتهم، وينشطون في مواقع سوداء من تاريخ الأمة، ويصطادون في الماء العكر، وكلما شعروا بضعف الأمة أو ضعف الدعوة إلى الله؛ نشطوا من مواقعهم ومراصدهم بالمكر والكيد والحرب الإعلامية

  • وأما الفئة الرابعة: فهم المنافقون: الذين يطعنون في الدين، ويتلونون في كل ثوب! إنهم خفافيش الدجى في كل زمان ومكان، يظهرون في الليل حتى يضربوا ضربتهم. قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠].

ينشط هؤلاء في مواقع سوداء من تاريخ الأمة، ويصطادون في الماء العكر، وكلما شعروا بضعف الأمة أو ضعف الدعوة إلى الله، نشط هؤلاء من مواقعهم ومراصدهم وأحيانًا من مسجد ضرارهم؛ بالمكر والكيد والحرب الإعلامية.

لكن أبناء الفئة المؤمنة لا يكترثون لأهل النفاق ويحقِّرون من شأنهم؛ لأنهم يعرفون مصيرهم ومآلهم مهما عظم البلاء بهم في الدنيا، قال تعالى: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٣]، خسروا الدنيا وخسروا الآخرة. خسروا قومهم فكانوا سدَنة للطغاة وأعداء للإسلام، وخسروا الآخرة وأصبحوا حطبًا لجهنم. هذا مآل من يقف ضدَّ دين الله، داعية على باب من أبواب جهنم، من أجل تجارة خاسرة، مارسوها بسبب ما نشؤوا عليه من النفاق.

وفي هذا العصر رأى المسلمون والعالم أجمع مصير الذين تعاملوا مع المحتل والعدو الخارجي، استُهلكوا كسلعة من السلع، ثم رُموا دون أي اعتبار، وهو تجسيدٌ حيٌّ للصورة التي أشارت إليها آية سورة المائدة.

ثوابت الإسلام في مرمى دعاة الضلالة:

وجّه دعاة الضلالة سهامهم مرارًا نحو السنَّة النبوية، المصدر الثاني للتشريع، من خلال الطعن بعدد من رواة الأحاديث، والتشكيك في العديد من مدوناتها، والطعن في المنظومة الأخلاقية التي فيها حصانة للمجتمع من التردي في مستنقع الرذيلة، من خلال التشكيك بفرضية الحجاب، ودعاوى بخس الإسلام لحقوق المرأة! والهجوم على التراث الإسلامي عمومًا، وتحميله جميع مآسي المسلمين وتخلفهم، وجعلوا من أدواتهم الدعوة إلى قراءةٍ عصريةٍ للإسلام، ودعوا صراحةً إلى إلغاء فريضة الجهاد وإلغاء حدِّ الردَّة.

ويقود هؤلاء حراكًا قويًا ملحوظًا، يهدف إلى نسف الإسلام من جذوره، ومن برامجه اختزال الدين في معنى إنسانيٍّ صِرفٍ، وكأنه لم يكن كذلك! ومن أوضح صور هذا الحراك النشط: الدعوة إلى ديانة جديدة تحت مسمَّى الديانة الإبراهيمية، يزينها ثوب قشيب خادع! نعتوه بالتسامح بين الأديان.

لا يرضى هؤلاء من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنهم. ولا يطيقون أن يكون له وجود خارج عن وجودهم. ونسوا أو تناسوا أن الإسلام دين الله، أُنزل ليبقى إلى آخر الزمن، والأمَّة المسلمة هي أمَّة منجبة منتجة. إنَّها كنانة الله التي لا تنفد سهامها، ولا تخطىء مراميها.

إن ولع هذه الفئة بالهدم للقيم أصبح شنشنة معروفة. وحسبنا أنَّ نعتَهم في القرآن قد جاء جليًّا واضحًا، في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ [البقرة: ٢٠٤].

البشرية اليوم بحاجة إلى دعاةٍ يقودون الناس إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، دعاة رُشدٍ وإصلاح من أصحاب الأيادي المتوضئة النظيفة، الذين يعتمدون الإسلام منهج حياتهم؛ ويفهمون أنَّ المسؤولية الملقاة على عاتقهم هي إزاحة الغبار والأباطيل والشبهات عن درب المسلمين

لماذا على أبواب جهنم؟

هؤلاء الدعاة إنما جعلوا على أبواب جهنم باعتبار مآل دعوتهم، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠]. وقيل: هو كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٤]. فكأنهم كائنون على أبواب جهنم، داعين الناس إلى الدخول في ضيافتهم، أو لأن المباشِر بسبب شيء كأنه واقع به داخل فيه.

كم قطـع هؤلاء على السالـكين إلى الله طرقَ الهدى، وسلكـوا بهم سبلَ الـردى!! قـال تعـالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ٤١ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ [القصص: ٤١-٤٢].

الحق أبلج:

من الضرورة بمكان، لآحاد الأمة ومجاميعها، تلمُّس هدي النبيِّ ﷺ الثابت. يتزامن هذا المطلب مع حاجة البشرية اليوم إلى دعاة رشدٍ وإصلاحٍ، يقودون الناس إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، من أصحاب الأيادي المتوضئة النظيفة، الذين اعتمدوا الإسلام منهج حياتهم؛ فهموه فهمًا صحيحًا، وفهموا أنَّ المسؤولية الملقاة على عاتقهم هي إزاحة الغبار والأباطيل والشبهات عن قطرة الماء الصافية، وعن الجوهرة اللامعة، اللتين هَمَّ طائرٌ أن يلتقطهما، فحاورته كل واحدةٍ منهما قائلةً: «أريد أن أبقى حرّةً أرى الشمس، دعني أسبح في الملكوت، دعني أذكر ربي»؛ فلم يأبه لقولهما؛ والتقطهما ومضى! وما علم أن القطرة من الماء سواءٌ كانت في سحابةٍ أم على ورقة شجرٍ أم امتزجت بشوائب من الطين، فجوهرها واحدٌ لا يتغيَّر. كما أن الجوهرة سواءٌ كانت في نيزكها قبل سقوطه أم في وسط دخانٍ أم على رأس فتاة حسناء أم جلست متربعةً على قطعة مخملٍ، فجوهرها واحدٌ أيضًا لا يتغيَّر. فليعلم المرجفون تهافت شبهة باطلهم، أمام قيَم الحق التي تتبختر اتضاحًا، وليعدلوا عن شبهاتهم التي طالما تتضاءل افتضاحًا، والتي أطفأت ريحُها سِراج عقولهم؛ فلأن يكون الواحد من دعاة الإسلام جنديًا في صفوف الحقِّ، خيرٌ له من أن يكون قائدًا في صفوف الباطل.

وختامًا:

تجدر الإشارة إلى أن قريشًا عندما رأت أن قناة المسلمين قوية لا تلين لغامزٍ، ورأى الصحابة رضوان الله عليهم موقف الأعداء بجموعهم منه فداه أبي وأمي، إذ لم يتخلَّ عن مقومات الدعوة إلى الله وعن مستلزماتها، أخذ المسلمون يستلهمون منه أهمَّ معالم الثبات؛ فلم يتعجبوا بعد ذلك من سهام المخالفين، حين تُسدَّد إليهم عن قوس واحدة.

ومسلمو اليوم حلقةٌ ضمن سلسلةٍ طويلةٍ، لا يأبهون لمحاولات يائسة وبائسة من أعداء الإسلام، وممن يدورون في فلكهم من أبناء جلدتنا. فهم في سبيل الله ماضون، وبحبل مولاهم مستمسكون، وعلى طريق الحق ثابتون، بعزيمة إيمانية لا تلين، وبرصيدٍ ثابتٍ مقترنٍ بقوةٍ معنويةٍ وثقافيةٍ.


[1] أخرجه البخاري (٣٦٠٦)، ومسلم (١٨٤٧).

[2] الفوائد، لابن القيم، ص (٦١).

[3] تفسير ابن كثير، (٤/ ١٣٨).

[4] تشكَّلت الحداثة في عالمنا العربيِّ، بعد أن نمت وترعرعت في الغرب، ولم تتشكل على جذرٍ حداثيٍّ خاصٍّ بنا. وأصبح دعاة العصرنة كما قال ألبرت حوراني: «قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتلَّ المواقع واحدًا تلو الآخر». يراجع في هذا الشأن كتاب: تناقضات الحداثة في مصر، لمؤلفه أحمد زايد.

[5] نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع، لابن باز، ص (٢٦).


أ. موفق شيخ إبراهيم

رئيس مجلس إدارة وقف الإمام الشاطبيِّ للقرآن الكريم وعلومه، كاتب ومؤلف في قضايا التراث والمعاصرة.


لتحميل المقال اضغط [هنا]

X