مع استيلاء الأسد على مقاليد السلطة في سورية بداية السبعينات، بدأ التدخل الإيراني الذي عمد إلى تغيير هوية المجتمع، وربطه بالمشروع الإيراني الفارسي الكبير، لكن هذا التدخل تسارعت وتيرته مع وصول الوريث القاصر للسلطة، وافتضحت مخططاته لدى اندلاع الثورة السورية، فما هي معالم هذا المخطط؟ وما هي استراتيجيته المتبعة؟
مقدمة
لم تسعد سورية بعد جلاء الفرنسيين طويلاً؛ حتى أوقعها الانقلابيون في أيدي حزب البعث، ويد حافظ الأسد الذي اقتحم المشهدَ السوري واغتصب السلطة بطائفته لعقود تالية، ثم أورثَها ابنه من بعده. ومع كثرة جرائم آل الأسد في سورية فإن الارتباط بالمشروع الإيراني ثم التبعية له من أكبر جرائمهم.
وقد بَنَتْ إيران ثورتها مع الخميني على مزاعم قيادة العالم الإسلامي وضرورة تصدير ثورتهم إلى سائر الدول، واختراق المجتمعات الإسلامية خاصة لنشر فكرها وتحقيق تبعيتها لمشروع «الوليّ الفقيه». وكانت سورية في قلب أهداف إيران لتصدير ثورتها إليها عبر نشر التشيّع فيها، وقدّم لها آل الأسد منذ السبعينات تسهيلات كبيرة؛ فانطلقت إيران بدوافع دينية وفكرية واقتصادية وسياسية لتحقيق ذلك، ثم ضاعفت جهودها وسرّعت خطواتها للتغلغل في سورية بعد الثورة، فغامرت بضخّ الأموال والأفراد لحفظ ما كانت أنجزته من قبل ولترسيخ احتلالها لسورية[1].
ولعله يسبق إلى الذهن عند الحديث عن الاحتلال الإيراني لسورية: ميليشياتُها العسكرية، أو صفقاتُها وعقودُها الاقتصاديةُ طويلةُ الأجل، لكنَّ جهود إيران في سورية أكبر وأبعد أثرًا من ذلك؛ فإيران تعي تمامًا أن رايتَها الفارسية في الشام لا تُرفع بالحِراب والرماح وحدَها لأنها ستُقاوم، وقد هلكَ لها قادة كثيرون على أرضها، لذا لجأت لأدوات قوتها الناعمة[2]، وجدَّدت حربها القديمة لتغيير وجه الشام العربيّ الإسلاميّ السنّيّ الأصيل، لترسمه بملامح شيعية فارسية غريبة عن تاريخه وأصله، ليتحقق لها ربط سورية بعجلتها ومشروعها.
يستعرض هذا المقال جهود إيران لتغيير هوية سورية الدينية والثقافية والديموغرافية؛ لتحقيق هدفها بعيد المدى في ربطها بمشروعها الفارسي التوسّعي، من خلال بناء هوية تقبل إيران وعقيدتها وفكرها. ولابد لنا لكسر مشروع إيران من فضح ممارساته وأدواته في ذلك، ثم تأكيد ما يلزم لمقاومة المشروع الإيراني وللمحافظة على وجه سورية الأصيل.
كان انقلاب الأسد واغتصابه السلطة منذ السبعينيات أكبر انتصار لإيران حيث فتحَ لها أبواب الشام للتغلغل فيها وتغيير هويتها الدينية والفكرية؛ فبدأت بمراكز لتعليم اللغة الفارسية، وتطورت مع افتتاح المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، التي غدت أشبه بغُدّة سرطانية في قلب الشام تُدير منها إيران كل أنشطتها الاحتلالية
حرب إيران الناعمة على الشام قديمة … لكنها مستمرة:
ليس صحيحًا أن التدخل الإيراني في سورية حديث مع بدء الثورة ودخول الميليشيات العسكرية الموالية لها إلى جانب قوات الأسد لقتل السوريين وتدمير المدن؛ فما قاله المعمَّم المقرَّب من مرشد الثورة الإيرانية: «إنْ فقدْنَا سوريا فلا يمكننا أن نحافظ على طهران»[3] يوقفنا عند أهمية الشام لإيران، وعند خطورة مشروعها فيها لإكمال حُلمها الفارسي بالهلال الشيعي من طهران حتى المياه الدافئة في المتوسط على الساحل السوري[4].
وكان لإيران بانقلاب الأسد واغتصابه السلطة منذ السبعينيات أكبر انتصار فتحَ لها أبواب الشام للتغلغل فيها ثقافيًا لتغيير هويتها الدينية والفكرية[5]؛ فبدأت بمراكز لتعليم اللغة الفارسية، وتطورت مع افتتاح المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، التي غدت أشبه بغُدّة سرطانية في قلب الشام تُدير منها إيران كل أنشطتها الاحتلالية؛ ابتداءً بنشر التشيّع لعقودٍ كما سيأتي، حتى تجنيد المقاتلين والتدخل العسكري إلى جانب الأسد مع قيام الثورة السورية[6].
ولابد من التأكيد أن هاجس تغيير وجه سورية الديني والثقافي لم يغب عن الإيرانيين حتى في ذروة حربها ضد السوريين بعد انطلاق الثورة؛ ويؤكد ذلك ما قاله حسن نصر الله في تعليقه على الخطة الإيرانية في سورية؛ وقد قُدمت إليه للمراجعة والتقييم: «بشار الأسد وحزب البعث الحاكم في سورية غارقون في المستنقع حتى أعناقهم، ولم يبقَ شيء حتى يغرقوا بالكامل. في مثل هذه الظروف تريدون أن تقوموا بعمل ثقافي؟! وتفتحون لهم صفوفًا وتعلّمونهم؟! وتحدّثونهم عن الأمور المعنوية؟! المجال الآن ليس مناسبًا للعمل الثقافي أصلاً؛ فهم يغرقون»[7]. فواضحٌ من كلام نصر الله أن الخطة الإيرانية كانت تتضمن مع الأعمال العسكرية أنشطة ثقافية، وهذه الأنشطة هي التي تريد إيران بها إنتاج الوجه الجديد لسورية.
التشيّع الذي تضع إيران إمكانياتها كلها لنشره هو «التشيّع الفارسي»؛ فهو يجمع مع عناصر المذهب دخائل كثيرة يمتزج فيها الانتماء الديني مع الانتماء القومي والتعصب للحضارة الفارسية
تغيير الهوية الدينية:
لم تكن نسبة الشيعة في سورية تزيد عن (٠.٤٪) حتى منتصف القرن العشرين[8]؛ لكنّ جهود إيران لتغيير الهوية الدينية بدأت مع عهد حافظ الأسد في نشر التشيّع، ثم تضاعفت في عهد بشار الأسد بنحو ٣٩ ضعفًا عمّا كانت عليه قبل ١٩٧٠م[9]. وبالتوازي مع نشرها التشيّع مضت إيران أشواطًا في احتلال مساجد أهل السنّة وتدميرها أو تغيير معالمها[10]، وفي بعث مقامات دينية شيعية لا يثبت أكثرها تاريخيًا، حتى بلغت مشاهد آل البيت في سورية نحو خمسين، نصفها في دمشق وحدها[11]، مع رفع الأذان الشيعي في عدة مناطق بالقوة ومعاقبة مَن يعارض ذلك[12].
ولابد من ملاحظة أن التشييع الإيراني لم يستهدف السنّة وحدَهم في سورية؛ فقد استهدفت إيران بالتشييع أبناء الأقليات من النصيريين (العلويين) والإسماعيليين، وكذلك من الدروز مؤخرًا في الجنوب[13]؛ ما يعني تغييرًا كبيرًا في الهوية الدينية لسورية في المستقبل، لتحقيق التفوّق للشيعة الموالين لإيران على حساب كل الطوائف الأخرى فضلاً عن الأكثرية السنّيّة؛ فالأيديولوجية المذهبية المتعصبة التي تنطلق منها إيران في سياستها الخارجية نحو سورية –وغيرها من الدول– تُشعل المنطقة كلها بالحروب الطائفية، وتسحق الأقليات قبل الأكثريات[14].
والأمر الأهم في ذلك أن التشيّع الذي تضع إيران إمكانياتها كلها لنشره إنما هو «التشيّع الفارسي»[15]؛ فهو تشيّع سياسي[16] يجمع مع عناصر المذهب دخائل كثيرة يمتزج فيها الانتماء الديني مع الانتماء القومي والتعصب للحضارة الفارسية، واكتملت خصائص هذا «التشيُّع الفارسيّ» بما فرضَه الخميني من مبدأ «ولاية الفقيه» الذي هو جزء أساس في هوية إيران اليوم. وهنا مكمن خطورة نشر التشيّع في سورية، وهذا هو جوهر المشكلة الشيعية اليوم؛ لأن التشيّع السياسي الفارسي يخلق لدى المؤمنين بولاية الولي الفقيه ازدواجيةً في الهوية ما بين دولهم التي ينتمون إليها وإيران حيث مرجعيتُهم المذهبية العليا، ما يجعل المواطنين الشيعة في مختلف البلدان مرتبطين بالقيادة الإيرانية أكثر من ارتباطهم ببلدهم، وهذا ما بدأ يتحقق لإيران في سورية على نحو ما تحقق لها من قبل في لبنان وفي العراق[17].
اتخذت إيران خطوات عدة لإضعاف التعليم الديني السّنّي عبر خطة محكمة ارتكزت على محورَين أحدهما: إضعاف التعليم الشرعي السّنّي، والآخر: تقوية المؤسسات التعليمية الشيعية مع اعتراف وزارة التربية بها
التعليم الديني الإيراني:
أدركت إيران طبيعة المجتمع السوري المتدين، وعراقة المؤسسة الدينية السنّيّة التي لم يستطع الأسد الأب -مع جبروته- تدميرها، وعملَ على استيعابها للالتفاف عليها لصالحه؛ فاتخذت إيران خطوات عدة لإضعاف التعليم الديني السّنّي عبر خطة محكمة بإشراف واحد من أهم رجال مشروع إيران (هشام بختيار)، الذي وظّف فيها حَمَلَة المشروع الإيراني الديني في الشام كعبد الله نظام، وارتكزت على محورَين أحدهما: إضعاف التعليم الشرعي السّنّي، والآخر: تقوية المؤسسات التعليمية الشيعية مع اعتراف وزارة التربية بها[18].
ولتقوية التعليم الديني الشيعي وفق نموذج «ولي الفقيه» افتتحت إيران الحوزات الدينية مع نشرها التشيّع، وجعلتْها خارج رقابة الدولة فتعمل بترخيص أمني وليس قانوني لتكون تابعة في كافة شؤونها لإيران[19].
ثم تجاوزت تعليم الحوزات، وافتتحت فروعًا لجامعاتها الدينية بناءً على اتفاقيات مع نظام الأسد[20]؛ مع ضرورة التنبّه إلى أن مراكز الدين الشيعي هذه ليست مراكز تعليمية مجردة، وهذا ما يكشفه مؤسِّس أول حوزة علمية في سورية حسن مهدي الشيرازي، فهو يعدّ تأسيس الحوزة في سورية «جبرًا للتاريخ الأموي والتاريخ الماضي، ولإحياء ذكرى أهل البيت عليهم السلام في عاصمة الأمويين أعداء أهل البيت» وفق تعبيره[21]. ليتأكد أكثر هدف إيران من نشر التشيّع لتشويه وجه الشام الأموي العريق.
السيطرة على التعليم العام:
يُعدّ التعليم واحدًا من أهم عناصر تكوين الهوية؛ لذا لم تقف إيران عند حدود التعليم الديني، بل سعت بكل قوة لاختراق قطاع التعليم العام في سورية والسيطرة عليه. ومن ذلك: تكثيف جهودها في تعليم اللغة الفارسية على امتداد الخارطة السورية، ودورات تعليم الفارسية في تزايد حاليًا لأنها تكون مجانية، مع مساعدات مالية وإغاثية لمن يحضرها، في ظل صعوبة الوضع المعيشي في مناطق النظام[22]. لتُتوّج إيران جهودها لتغيير لسان أهل سورية في محاولاتها فرض الفارسية لغة ثانية في التعليم الوطني[23]، وذلك ضمن مساعيها لإنشاء مدارس وفرض مناهج تعليمية إيرانية؛ ولا تخفى خطورة هذه المناهج وما تغرسه من سموم فكرية في عقول المتشيّعين والخاضعين لمشروعها[24]، على نحو ما تفعل للطلبة الذين توفدهم للدراسة في إيران ليكونوا ناطقين بلسانها حاملين لمشروعها في الشام بعد عودتهم، وأعدادهم بالآلاف سنويًا[25].
وذلك يعني وضع إيران يدها على مفاصل العملية التعليمية كلها لإعادة تشكيلها وفق رؤيتها ومشروعها، وهذا في غاية الخطورة؛ لأنها بالتعليم المشوَّه لصالح مشروعها تُعيد تصنيع عقول الطلبة السوريين ليكونوا ناطقين باسمها؛ ولاؤهم لمرشدها، وإن لزم الأمر نزلوا جنودًا في صفوف ميليشياتها العسكرية.
وإضافة إلى ذلك كله تجتهد إيران أكثر في السيطرة على أطفال سورية وغسيل أدمغتهم في معسكرات الكشّافة؛ إذ تضمّ هذه المعسكرات مع الأطفال السوريين أطفالاً من جنسيات إيرانية ولبنانية وأفغانية وغيرها، ويخضع الأطفال فيها مع التدريبات العسكرية لأنشطة وطقوس شيعية مذهبية، وجعلوا شعارهم فيها «وأطيعوا»؛ في دلالة لإطاعة الولي الفقيه[26].
سلّطت إيران على الشام والمنطقة العربية منذ عقود أكثر من ٥٠ قناة فضائية لنشر التشيّع وإعادة تشكيل فكر مجتمعي؛ حتى تمحو من ذاكرة السوريين خطورة مشروع إيران الفارسي التوسّعي، وتمهّد لقَبولها في مجتمعهم دولةً صديقةً معاديةً للإمبريالية والصهيونية كما تزعم
إعادة إنتاج الفكر المجتمعي:
من أسس الخديعة الإيرانية للمجتمعات الإسلامية: تصديرها ثورتَها المشؤومة على أنها لتحرير «المستضعفين» من استبداد الحكّام الظالمين، وبهذه الخديعة رفعت ربيبَها «حزب الله اللبناني» عاليًا في عيون عموم العرب والمسلمين لسنوات، قبل أن تفضحه ثورة الشام المباركة؛ لكنّ إيران نجحت حقًا في العبث بقناعات الناس وأفكارهم، وكذلك بدينهم وعقيدتهم لسنوات عبر حزب الله وقناته «المنار» بشكل خاص؛ فبالإعلام يتم «تصنيع الإجماع»[27]، بمعنى جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس، وذلك عن طريق استخدام وسائل دعائية.
وانطلاقًا من توجيهات كبيرهم الخميني في قوله: «لا نهاية لتأثير وسائل الإعلام، وإن إصابتها كالقذيفة تمامًا؛ فاستخدِمْها لتحقق أهدافك»[28] سلّطت إيران على الشام والمنطقة العربية منذ عقود أكثر من ٥٠ قناة فضائية على عدة أقمار[29] لنشر التشيّع والعبث بأفكار الناس وإعادة تشكيل فكر مجتمعي؛ حتى تمحو من ذاكرة السوريين خطورة مشروع إيران الفارسي التوسّعي، وتمهّد لقَبولها في مجتمعنا دولةً صديقةً معاديةً للإمبريالية والصهيونية كما تزعم. ولترسيخ صورة بطولية لإيران وأدواتها كحزب الله والأسد: استعملت كذلك سلاح الدراما؛ كونها –بخلاف الأخبار– مادة حميمية بشخصياتها وموضوعاتها، وهي حامل مهم للثقافة والأفكار، لذا يكون تأثيرها أكبر في الشعوب[30]؛ فعلى نحو ما عملته من مسلسلات تاريخية تشوه الحقائق وتزيّف التاريخ، تعمل إيران بعد الثورة بقوة كبيرة على دبلجة مسلسلات وأفلام إيرانية باللهجة السورية المحكية[31]، وعلى إنتاج أفلام عن مشاركة إيران الميدانية في أحداث الثورة السورية تقلب على الناس الحقائق وتُظهرها بلَبوس مُنقِذ الشام من الإرهابيين[32]، مع تصوير كبار قادتها الهالكين في الشام أبطالاً عظامًا تنشر مآثرهم وتخلّد ذكراهم في المدن السورية[33].
وبهذا تُنتج إيران في سورية مجتمعًا بعيدًا عن تاريخه الصحيح وأصالته ومغيَّبًا إعلاميًا عن قضايا أمته؛ إذ لا تصله إلا الصورة التي تريد إيران أن يحملها ويقتنع بها.
وجه ثقافي وعمراني فارسي للشام:
مع حضور التاريخ في الممارسات الإيرانية لتغيير وجه الشام كما سبق في كلام الشيرازي، واستثمارًا لخطواتها الكبيرة في التغيير الديني والسيطرة على التعليم: تعمل إيران على إخراج وجه ثقافي وعمراني جديد ترسمه لسورية يكون بملامح فارسية؛ فاللطميات والمسيرات المذهبية غريبة حتى عن الشيعة السوريين الذين كانوا يحرّمونها[34]، وكذلك الفعاليات الثقافية التي تقوم المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق بتنفيذها تُظهر ذلك الوجه؛ فهي بين تقديسٍ للخميني وزعماء إيران وحزب الله، إلى تشويهٍ للتاريخ بدعوى إعادة القراءة والفهم، إلى احتفالاتٍ بالأعياد الفارسية والمناسبات الشيعية والإيرانية الرسمية[35]. مع تأجيج النفوس بأحقاد طائفية وثقافة دخيلة تنزع السوريين من محيطهم العربي والإسلامي السنّيّ وتربطهم بمشروع الوليّ الفقيه الإيراني.
وأما على الصعيد العمراني فمع ما ذُكر عن احتلال إيران للمقامات وإشادتها الحسينيات والحوزات الدينية وجعلها تابعة لإيران بشكل مباشر؛ تكثّف من جهودها في تملّك العقارات وعقد الاتفاقيات مع نظام الأسد لإعادة الإعمار من خلال شركات إيرانية، لاسيما في المناطق التي هُجّر منها أهلها كالغوطة الشرقية وحمص[36]؛ وإيران في كل ما تبنيه من مقامات وحوزات وأضرحة إنما تعمره وفق النموذج الفارسي لا غير، حتى لَيشعر الناظر إليها كأنها قطعة هاربة من أرض فارس، في تأكيدٍ إيراني على ربط هذه المنطقة وأهلها بمشروعها الفارسي[37]؛ لأن لهذا الأمر دلالته الرمزية والنفسية للشيعة وأهل المنطقة عامة وعلاقتهم بإيران[38].
كانت إيران صاحبة الكلمة الأولى في عمليات التهجير القسري التي تمت في سورية؛ لأنها تخدم مشروعها للتغيير، فهي عمليات «تطهير» ممنهج ضد الغالبية السّنّيّة، ثم عملت على استقدام عوائل عراقية ولبنانية وأفغانية شيعية موالية لها وتوطينها في مناطق المهجَّرين قسريًا
التغيير الديموغرافي …. وهوية «سورية» للبيع:
ولأن كل ما سبق –وهي نماذج فحسب مما تفعله إيران– لا يحقق لها كسر الغالبية السنّيّة في سورية، ولأنها تُسابق الزمن خشية تغيّر المعادلة الدولية لصالح توافُق يقضي بإخراجها من سورية؛ لم تقف إيران عند التغيير الهادئ ثقافيًا وإعلاميًا ومجتمعيًا وإن مضت فيه بقوة قصوى، بل سعت لتعجيل خطواتها وحرق المراحل –والناس في ألمٍ وغفلة وانشغال– نحو تركيب الوجه المشؤوم الذي تريده للشام من خلال عمليات تغيير ديموغرافي ممنهجة[39].
وأول ذلك عمليات تهجير أهالي المناطق الثائرة ضد الأسد؛ فكانت إيران صاحبة الكلمة الأولى في عمليات التهجير القسري التي تمت في سورية؛ لأنها تخدم مشروعها للتغيير، فهي عمليات «تطهير» ممنهج ضد الغالبية السّنّيّة[40]، ثم لتحقيق التغيير لصالحها أكثر: عملت إيران على استقدام عوائل عراقية ولبنانية وأفغانية شيعية موالية لها وتوطينها في مناطق المهجَّرين قسريًا، كما فعلت في مناطق الغوطتَين حول دمشق وفي حمص بعد تدميرها السجلات العقارية والمدنية فيها[41].
ثم أخذت في تجنيس عناصر ميليشياتها العسكرية والوافدين من عرب لبنانيين وعراقيين ومن أفغان وباكستانيين وإيرانيين؛ حتى صارت الجنسية السورية مع الاستقرار في بلد التاريخ والخير والجمال مما تُمنِّي به إيران العناصر الذين تجنّدهم للقتال في صفوف ميليشياتها في سورية، لتجعل منهم متبوعين بعدما جاءت بهم مرتزقة تابعين[42].
أخيرًا.. قبل أن يفوتنا القطار ونبكي دمشق كما بكينا بغداد:
لعلّ ما سبق يؤكد مساعي إيران القوية لاستبدال وجهٍ شيعيٍّ فارسيٍّ للشام بوجهها الإسلاميّ السنّيّ الأصيل، ولم تكن مساعيها وليدة الثورة؛ لكنها بعد ٢٠١١ ضاعفت جهودها على مختلف الأصعدة بقواها الناعمة والصلبة لتحقيق حلمها في الهلال الشيعي واحتلال عاصمة الأمويين دمشق ورفع رايتها المجوسية فيها.
والواقعية تفرض علينا الاعتراف بأن إيران قطعت أشواطًا في تغييرها وجه سورية، وإن كان انكشاف مشروعها بداية لسقوطه؛ غير أن من الواقعية كذلك عدم المجازفة بالأحلام والأماني، فما دفعتْه إيران من فواتير بشرية ومادية يؤكد جدّيّتها في تغيير وجه الشام. ولا شك أن أول ما يعين على كسر يد إيران عن وجه الشام الأصيل استمرار الثورة وتجديدها في النفوس، وإن كانت إيران على باطلها واحتلالها تعمل على شتى الأصعدة لا تفتر؛ فلا نكون دون إصرارها ونحن على الحق، فإيران لم تترك وسيلة دينية أو إعلامية أو تعليمية إلا سلكتْها؛ فضلاً عن أدواتها العسكرية الصلبة.
وكذلك نحن مطالبون بحفظ بلدنا وصون عقول أبنائنا وتاريخنا بكل الوسائل؛ فلابد من حفظ الثورة وتجديد دمائها لطرد إيران وكسر ميليشياتها وأدواتها الصلبة، مع فضح المشروع الإيراني ورصد أدواته الناعمة وكشفها. وللتعليم في ذلك الصدارة؛ فلابد أن نحفظ للتعليم استقلاليته ووطنيته بما يحفظ هويتنا ويعزّز تماسكنا، مع تأكيد أركان الهوية في النفوس بكل الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية.
وأهل السّنّة في سورية ليسوا وحدَهم المتضررين من مشروع إيران فلا بدّ من تكاتف الجميع في مواجهته، وتنسيق الجهود للخروج بمقترحات عملية بروح جماعية.
كما لا بُد من استنفار الأحرار في المنطقة للذود عن الشام؛ فمطامع إيران الفارسية لا تقف عند الحدود السورية.
لا بد من استنفار الأحرار في المنطقة للذود عن الشام؛ فمطامع إيران الفارسية لا تقف عند الحدود السورية
[1] وقد صدرَ كتاب: «الاحتلال الإيراني لسورية الممارسات وسبل المواجهة»، للمهندس مطيع البطين في إسطنبول عام ٢٠٢٠.
[2] صدرت عن مركز الحوار السوري دراسة مفصلة في أربعة إصدارات بعنوان: التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا أدواته ومخاطره وسبل مواجهته؛ فلتُنظر.
[3] النخبة السياسية الإيرانية وسوريا … مسارات متوازية نحو الهدف ذاته، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، العدد الأول، شباط ٢٠١٤، ص (٨).
[4] يُنظر: الاحتلال الإيراني لسورية: مطيع البُطين، ص (٢٦).
[5] لا يُنكر أن حافظ الأسد أبقى مسافة أمان له مع محيطه العربي نفاقًا وقوميةً كما كان يروّج؛ بخلاف انسياق بشار بعد استلامه الحكم تمامًا مع السياسة الإيرانية وفتحه الأبواب كافة لإيران للتغلغل في الشام على مختلف الأصعدة. يُنظر: الروابط الدينية بين إيران وسوريا، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، (٦/٢٠١٣)، وقصة العلاقات السورية الإيرانية، عبد الجليل المرهون، الجزيرة نت.
[6] تمثّل المستشاريات الثقافية لإيران مراكز خارجية لإدارة التغلغل الثقافي، وأسست إيران أكثر من ٦٠٠ مركز ثقافي إيراني في مختلف دول العالم. يُنظر: المستشاريات الثقافية الإيرانية … القوة الناعمة لأخطبوط التشيع، معتزّ بالله محمد، موقع الراصد.
[7] رسائل الأسماك، ما تقوله مذكرات الجنرال همداني: الوصاية الإيرانية على سورية، د. فاطمة الصمادي، مجلة سياسات عربية، العدد٢٢، أيلول ٢٠١٦، ص (١٤١).
[8] البعث الشيعي في سورية (١٩١٩ – ٢٠٠٧)، المعهد الدولي للدراسات السورية، ٢٠٠٩، ص (٢٦).
[9] تصاعد المد الإيراني في العالم العربي، للسيد أبو داود، ص (٣٤٣).
[10] الاحتلال الإيراني لسورية، لمطيع البطين، ص (١٨).
[11] يُنظر: المقامات الشيعية الرئيسة في سوريا، عمر إسكندر، مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية، ٢٤/٤/٢٠١٣.
[12] النظام يفرض الأذان الشيعي بدير الزور السورية بالتعاون مع مجموعات تابعة لإيران، وكالة الأناضول، ١٩/١١/٢٠١٨.
[13] التشيع في سورية ليس خرافة، لخالد السنداوي، ص (٣٦).
[14] المعضلة الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية: حين تتصادم سياسات الهوية مع الاستراتيجية، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، ٣٠/١١/٢٠١٦.
[15] يُنظر: التشيّع العربي والتشيع الفارسي دور الفرس التاريخي في انحراف التشيع، لنبيل الحيدري.
[16] للاستزادة في التشيع السياسي الإيراني في سورية ومخاطره يُنظر أيضًا: الاحتلال الإيراني لسورية، لمطيع البطين، ص (٢٤).
[17] يُنظر: المشكلة الشيعية، لأسامة شحادة، ص (٤٢).
[18] تُنظر تفاصيل الخطة في: البعث الشيعي في سورية، ص (١٥٦).
[19] محددات الوجود الإيراني في سورية، مركز حرمون، آذار ٢٠١٨، ص (١٦).
[20] الاحتلال الإيراني لسورية، لمطيع البطين، ص (١٢٨).
[21] البعث الشيعي في سورية، ص (٣٥).
[22] الفارسية تتغلغل بين الفقراء في مناطق النظام … والروسية في المدارس الرسمية، جريدة الشرق الأوسط، ٢٩/٩/٢٠١٧.
[23] ماذا يخفي إدراج اللغتَين الروسية والفارسية في المناهج السورية؟ الجزيرة نت، ٢١/٢/٢٠٢٠.
[24] يُنظر مثلاً: الشعوبية في مناهج الحوزة الدينية وأدبيات القيادة الإيرانية، لصباح الموسوي، ص (٦٨).
[25] ذكر الباحث في الشأن الإيراني الدكتور نبيل العتّوم أن المجلس الأعلى الإيراني بقيادة خامنئي وضع خطة طموحة لاستقطاب ٢٠ ألف طالب سوري للدراسة في إيران. هل هناك احتلال ثقافي إيراني لسوريا؟ برنامج مؤشر الحدث، تلفزيون سوريا، ٥/١٢/٢٠١٨.
[26] كشّافة إيران … معسكرات لتجنيد أطفال سوريا، تحقيقات، أنا برس، ٢٨/٢/٢٠٢٠.
[27] السيطرة على الإعلام الإنجازات الهائلة للبروباجندا، لناعوم تشومسكي، ص (٩).
[28] حزب الله تحت المجهر رؤية شمولية مغايرة للعلاقة مع إيران وإسرائيل، لعلي حسين باكير، ص (٣٦).
[29] الفضائيات الشيعية التبشيرية دراسة وصفية مع تحليل محتوى قناة الكوثر الإيرانية، مركز التنوير للدراسات الإنسانية، مصر، ٢٠١٠.
[30] يُدرس تأثير الدراما والتلفزيون ووسائل الاتصال عامة وفق عدة نظريات، وفيه دراسات نظرية وميدانية كثيرة، يُنظر مثلاً: مبادئ علم الاتصال ونظريات التأثير، لمحمود حسن إسماعيل.
[31] المشروع الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية، مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية، ص (٢٣٢).
[32] المشروع الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية، ص (٢٣٢).
[33] حرب إيرانية ناعمة في سوريا بدايتها فيلم بتوقيت الشام، عنب بلدي، ٩/٢/٢٠١٨.
[34] التشيع في سورية ليس خرافة، لخالد السنداوي، ص (٢٨).
[35] يُنظر تفصيلها في الإصدار الثاني من سلسلة «التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا» الصادرة عن مركز الحوار السوري. وفي الاحتلال الإيراني لسورية، البطين: ص (٦٩).
[36] حمص نموذجًا للتغيير الديموغرافي في سورية: لعنة التدخل الإيراني تلاحق حتى العلويين، السورية نت، ٩/١/٢٠١٦.
[37] شاه إيران كان قلقًا من عروبة دمشق …وثورة المستضعفين تحالفت مع البعث العلماني وليس الإخوان، القدس العربي، يناير ٢٠١٦.
[38] البعث الشيعي في سورية، ص (٨٨).
[39] يُقصد بالتغيير الديموغرافي: التغيير النوعي الإثني أو الديني أو المذهبي للسكان في منطقة ما. وللاستزادة في عمليات التغيير الديموغرافي في سوريا وجهود إيران فيها يُنظر: سورية المفيدة والتغيير الديموغرافي في سوريا، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ٣/٥/٢٠١٧. والاحتلال الإيراني لسورية، ص (١٣٤).
[40] يُنظر: التهجير في سورية: تصنيفه – آلياته – أهداف الأطراف الفاعلة فيه، المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية، ١٢/١٠/٢٠١٨.
[41] محددات الوجود الإيراني في سورية، ص (٢٧).
[42] يُنظر: ماذا تعرف عن ملف تجنيس الإيرانيين والتغيير الديمغرافي في سوريا؟، عبد القادر موسى، حرية برس، مارس ٢٠٢٠.
د. ياسين جمول
دكتوراه في الدراسات الإسلامية والأدب العربي، معيد في جامعة حمص سابقًا، باحث ومدقق في التراث.
1 تعليق
التعليقات مغلقة