الجهاد في الإسلام وسيلة لمنع الفتنة، سواءً كان المقصود بها: الكفر والشرك، أو فتنة المسلمين عن دِينهم. ويُبرز هذا المقال كيف أدى ترك الجهاد إلى تسلُّط الكافرين وفرض أنظمتهم وثقافاتهم على المسلمين، مما أوقعهم في مشكلاتٍ اقتصاديةٍ، واجتماعيةٍ مؤكِّدًا أنَّ الجهاد ليس مجرَّد ردٍّ للعُدوانٍ، بل هو ضمانةٌ لحرية الدِّين وصيانة العقيدة، داعيًا للحفاظ على هذا الأصل الشرعي؛ وإن لم يكن ممكنًا تطبيقه حاليًا.
بيّن الله تعالى في موضعين من كتابه العزيز الغاية الكبرى من الجهاد، جهاد الطلب، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
فما هي الفتنة التي يمنع منها الجهاد، أو التي تزول بالجهاد؟
تواطأت أقوال المفسرين على معنيين للفتنة الواردة في هاتين الآيتين:
المعنى الأول: الكفر أو الشرك، والمعنى الثاني: فتنة الناس عن دينهم.
أما في المعنى الأول:
فيقول ابن كثير: “ثم أمر تعالى بقتال الكفار {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك. قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسدي، وزيد بن أسلم”[1].
وأما في المعنى الثاني:
فقال ابن جريج: “أي: لا يُفتنَ مُؤمنٌ عن دينِه”[2].
“وقال محمد بن إسحاق: بلغني عن الزهري، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}: حتى لا يفتن مسلم عن دينه”[3].
عن نافعٍ أن رجلاً أتى ابنَ عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر عامًا وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قد علمتَ ما رَغَّبَ الله فيه! قال: “يا ابن أخي، بُني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلاة الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت”. قال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}… إلى أمر الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؟ قال: “فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن في دينه: إما قتلوه، وإما يعذبوه، حتى كَثر الإسلام، فلم تكن فتنة”[4].
وبينَ المعنيين ارتباطٌ ظاهر، فحين تكون القوة والصولة للكفار والمشركين، فإنّهم يفتِنون المؤمنين ويؤذونهم.
“قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين”[5].
وجاء في التفسير الميسر “وقاتلوا -أيها المؤمنون- المشركين حتى لا يكون شِرْكٌ وصدٌّ عن سبيل الله؛ ولا يُعْبَدَ إلا الله وحده لا شريك له؛ فيرتفع البلاء عن عباد الله في الأرض”[6].
“واستمروا- أيها المؤمنون- في قتال المشركين المعتدين، حتى لا تكون فتنة للمسلمين عن دينهم ولا شرك بالله”[7].
وجاء في التفسير الوسيط عند آية البقرة: “حتى تزول صولة الشرك، وحتى تعيشوا أحرارًا في مباشرة تعاليم دينكم، دون أن يجرؤَ أحد على محاولة فتنتكم في عقيدتكم أو عبادتكم”[8]، وعند آية الأنفال: “والمراد من الفتنة: الشرك وما يتبعه من أذى المشركين للمسلمين واضطهادهم وتعذيبهم، والمعنى: قاتلوا أولئك المشركين حتى تزيلوا الشرك، وحتى تكسروا شوكتهم ولا يستطيعوا أن يفتنوا طائفة من أهل الدين الحق”[9].
والشواهد على هذا في التاريخ وفي عصرنا هذا كثيرة متكررة.
ذلك أنّ الظلم والبطش والبغي طباع أصيلة في البشر، ما لم تهذّبها الأديان السماوية الحقّة غير المحرّفة، ومن هنا قالت الملائكة لما أخبرها الله أنّه جاعل في الأرض بشرًا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]. وقد عبر المتنبي عن هذا الطبع الجبلي في البشر:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
كيف تكون فتنة المسلمين عن دينهم بظهور الشرك وأهله؟
أول ما يتبادر إلى الذهن: الفتنة بالقتل، أو التعذيب، أو منع المسلمين من ممارسة شعائرهم. وهذه لا شك صور بشعة من الفتنة، وقد قرأنا عنها في التاريخ الإسلامي في حالات الضعف والوهن وترك الجهاد، قرأنا عنها في بغداد وفي الأندلس، ورأيناها في عصرنا الحاضر في بقاع كثيرة في الأرض في روسيا والبوسنة والفلبين والهند والصين وميانمار وتركيا إلى عهد قريب.
إلا أنّ الفتنة لا تقف عند هذه الصور. إنّ علو الكافرين في الأرض حمَلهم على فرض أنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وزبالة أفكارهم على المسلمين وغيرهم من المستضعفين دولاً وشعوبًا، أو جعلها أمرًا واقعًا يصعب التنزّه منه، وفي هذه الأنظمة الكثير مما يصادم الإسلام ويحادّه، فلا يكاد يسلم أحد من الفتنة في دينه.
هذا ما يسميه سيد قطب رحمه الله الفتنة بقوة الوضع، فيقول:
“وغاية القتال هي ضمانة ألا يُفتن الناس عن دين الله، وألا يُصرفوا عنه بالقوّة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام، وتسلّط عليهم فيه المغريات والمضلّلات والمفسدات”[10]، فتسليط المغريات والمضللات والمفسدات على بلاد المسلمين بقوّة الوضع الذي يعيشه الكفار فتنةٌ وأيُّ فتنة.
وهذه الفتنة لا تقف عند المسلمين، بل تمتدّ إلى البشرية جمعاء.
قال أبو الأعلى المودودي في كتاب: الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، مجلّيًا هذه الفتنة بنظرٍ ثاقب:
” وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية، لا يخفى عليه أنّ المسألة -التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها- إنّما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومَن بيده زمام أمرها. وذلك كما تشاهد في القطار أنّه لا يجري إلّا إلى الجهة التي يوجّهه إليها سائقه، وأنّه لا بدّ للركاب أن يسافروا -طوعًا أو كرهًا- إلى تلك الجهة نفسها. فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلّا إلى جهة يوجّهه إليها مَن بأيديهم زمام أمر تلك المدنية. ومن الظاهر البيّن أنّ الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طرًّا، ولهم الهيمنة كلّ الهيمنة على أزمّة الأمر، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية، وتتعلّق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبّونها، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية، وإنشاء النظام الجماعي، وتحديد القيم الخلقية. فإذا كان هؤلاء الزعماء والقوّاد ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه.. فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم. وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها، وأقلّ ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنّها لا تربو، إن لم تمحق وتنقرض آثارها. وأمّا إذا كانت هذه السلطة -سلطة الزعامة والقيادة والإمامة- بأيدي رجال انحرفوا عن الله ورسوله، واتّبعوا الشهوات، وانغمسوا في الفجور والطغيان؛ فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضّه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء، ويدبّ دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمّتها، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها”[11].
وبعد أن يذكّر بالغايات الكبرى التي جاء بها الإسلام، يقول: “وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقّق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال، ولا يكون من أمر أتباع الدين الحقّ وأنصاره إلّا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم، يذكرون الله قابعين في زواياهم، منقطعين عن الدنيا وشؤونها، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات!”[12].
“وغاية القتال هي ضمانة ألا يُفتن الناس عن دين الله، وألا يُصرفوا عنه بالقوّة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام، وتسلّط عليهم فيه المغريات والمضلّلات والمفسدات”
سيد قطب رحمه الله
ولو ذهبنا نتتبّع الفتن التي نعالجها ونتلوث بها بسبب تسلط الأنظمة الكافرة وغزوها بثقافتها لمجتمعات المسلمين لطال المقال، فإننا نعيش هذه الفتن كلّ يوم، وتحيط بنا من كلّ جانب، لكن نشأتنا عليها واعتيادنا لها يجعلنا لا نميّزها أحيانًا، كالذي يعيش في المكان العفن، يتأذى من رائحته في أول الأمر ثم يعتاده فلا يشعر به.
ولكن نمثّل لها بثلاثة مجالات:
الأول: المعاملات المالية:
الربا من الموبقات المهلكات، تشمئز قلوب المؤمنين من مجرّد ذكره بعد أن آذن اللهُ المتعاملين به بحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن منا اليوم كأفراد لم يتلوث به؟ أمّا على مستوى المؤسسات والشركات فلا يكاد يمكنها العمل إلا بعقود ربوية. وهذه البطاقات الائتمانية الربوية جعلوها الطريقة الوحيدة لإجراء بعض المعاملات المالية وشراء بعض السلع والمنافع؛ فإما أن تأخذ بها، وإما أن تُحرم هذه المعاملات والمنافع.
وقل مثل ذلك في التأمين التجاري، على الصحّة والعربات والممتلكات، الذي صار مفروضًا على الأفراد والمؤسسات، ولو حاولت التملّص منه أو الاحتيال عليه عُدّ فعلك جريمة تعاقبك عليها قوانين الدولة.
لقد أصبح الربا والتأمين صُلب النظام الاقتصادي العالمي، وعلى الجميع أن يتعامل بهما طوعًا أو كرهًا.
وغاية ما يفعله علماؤنا واقتصاديّونا أن يجدوا لنا المخارج والحِيَل الشرعية للتكيّف مع النظام الاقتصادي العالمي، ليخفّفوا من وقع الفتنة. وكان اللائق بهذه الأمة -بمقتضى خيريّتها وتميّزها بمنهج ربّها- أن تكون هي مَن يقدّم نموذجها وحلولها السماوية للناس، وأن تكون متبوعًا لا تابعًا وقائدًا لا مقودًا، لكنّ الضعيف لا يُسمع له.
الثاني: قضايا المرأة والأسرة:
وهذا مثال آخر صارخ لمجال تسعى الدول الغربية الكافرة لفرض قيمها المنحطّة على باقي شعوب الأرض، وتفعل ذلك من خلال صياغة مواثيق واتفاقيات دولية، تطالب الحكومات بالتوقيع عليها، ثم تمارس شتّى أنواع الضغوط لحملها على الالتزام بها وتغيير قوانينها المحلّية لتتوافق معها.
وحتى نتصوّر حجم الفتنة التي تتلظّى بنارها مجتمعات المسلمين حين تطبيق هذه الاتفاقيات -وكثير منها للأسف طبقت أو في طريقها إلى التطبيق- لنستعرض بعض بنود اتفاقية سيداو[13]:
- عدم تجريم الزنا ما دام رضائيًا. والمضحك المبكي أنّهم حدّدوا السن القانونية لاستقلال الفتاة بقرار ممارسة العلاقات الجنسية بـ 15 سنة، بينما لا يحقّ لها أن تتزوّج دون 18 سنة!
- إباحة الدعارة وحمايتها قانونيًا ومجتمعيًا من خلال اعتبارها نوعًا من أنواع «العمل».
- إباحة الشذوذ الجنسي، والدعوة إلى اعتبار الشواذ أسوياء غير مرضى، وإلغاء القوانين التي تجرّمهم وتعاقبهم[14].
- وصف القوانين الوطنية التي تقرّ بوجود فوارق بين الجنسين بأنّها أحكام تشريعية مناهضة لحقوق الإنسان.
- العمل على المساواة التامّة بين الرجال والنساء وفي جميع المجالات، وإحداث تغيير جذري في الأدوار الفطرية لكلٍّ من الرجل والمرأة داخل الأسرة.
- دفع المرأة للعمل في الوظائف غير التقليدية وفي المجالات التي يشغلها الرجال عادة لتعزيز بناء العلاقة بينهما على الندّية، ولتحقيق الاستقواء والاستقلال الاقتصادي للمرأة؛ وبالتالي استغنائها عن الرجل، وتحكّمها في كلّ قراراتها الحياتية.
- إلغاءُ مبدأ (الولي) في الزواج، وإعطاء المرأة الحرية الكاملة في العلاقات والسكن.
- إلغاء (القوامة) على المرأة من خلال إلغاء مقوّماتها مِنْ: طاعة الزوجة لزوجها، واستئذانه للخروج أو السفر، والالتزام بمسكن الزوجية، واختراع مصطلح «الاغتصاب الزوجي»!
- العمل على تحقيق «استقواء الطفل» وتمرّده على والديه، ورفض أي قيود أو ضوابط يفرضها دين أو مجتمع أو عُرف، من خلال: منع أي شكل من أشكال تأديب الأطفال، ومنع التدخّل في خصوصياتهم، ومنح الدولة حقّ انتزاع الطفل من أسرته وتوفير أسرة بديلة عند أدنى مخالفة[15].
حين صدرت هذه الاتفاقية كنا نتناقلها للتندر، وإظهار الانحطاط الذي وصلت إليه “الحضارات” الأخرى، واعتقدنا أنّ المجتمعات الإسلامية بعيدة كلّ البعد عن أن تصل إلى هذا الحضيض، ولكن الآن وبعد أقل من نصف قرن رأينا كيف أنّ كثيرًا من هذه البنود طبقت، أو في طريقها إلى التطبيق، حتى في أكثر بلدان المسلمين تديّنًا ومحافظة. واليوم صار الاختلاط بين الجنسين على مقاعد الدراسة وفي مكاتب العمل أمرًا مألوفًا. وأصبح أن يكون للمدير سكرتيرة تدير أعماله هو الأصل، وصور أخرى من المنكرات التي لا يجادل في شرورها إلا منكوس الفطرة ومطموس البصيرة.
فبأيّ حقّ تُسلّط هذه الفتنة على الملايين من الشباب المسلمين والنساء المسلمات، ولا يجد أولياء الأمور بدًّا من أن يرسلوا أبناءهم وبناتهم إلى المدارس والجامعات المختلطة، أو يحرموهم من التعليم (وحتى هذا ليس حقًا له إن أراده)؟
الدنيا في التصوُّر الإسلامي لا قيمة لها في ذاتها، وإنَّما قيمتها في استثمارها وإعمارها لإقامة الدين وللعمل للآخرة. ومن هنا ذمَّت النصوص الشرعية أن يتمحَّض همُّ المسلم للدنيا
الثالث: نمط الحياة المغرق في المادية:
الأمثلة أعلاه هي لفتنٍ واضحة ومباشرة في مصادمتها لأحكام الشريعة، إلا أنّ هناك ما لا يقل عنها خطورة وشرًا، وهي الفتن المصادمة لمقاصد الشريعة ومفاهيمها الكبرى، فيُفسد انتشارها “صبغة” المجتمعات المسلمة.
إنّ الدنيا -في التصوّر الإسلامي- لا قيمة لها في ذاتها، وإنّما قيمتها في استثمارها وإعمارها لإقامة الدين وللعمل للآخرة. ومن هنا ذمّت النصوص الشرعية أن يتمحّض همّ المسلم للدنيا، وتكون منتهى إرادته. (ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)[16]، (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)[17]، (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه)[18].
أمّا الكفار فإنّهم لا همّ لهم إلا همّ الدنيا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، ولا يريدون إلا الحياة الدنيا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
والحضارة الكافرة تقوم فلسفتها على ذلك بشكل مغرق، وقد ترتّب على ذلك حياة مادية قاتلة، تقوم على إشباع الشهوات وإمتاع الغرائز، وتضرب بالقيم والأخلاق عرض الحائط إن كانت ستفوت شيئًا منها، وتغوص في أنواع الترفيه والملهيات بلا رقيب ولا حسيب من دين أو خلق أو مروءة، وتنفق عليها الأموال الطائلة، وتتوسّع في الاستهلاك في أمور تافهة، بل قد أقامت صناعات ضخمة عليها.
ولـمّا كانت الغلبة لهم، والمغلوب مفتون بتقليد الغالب، يرضخ لقيمه، ويسعى للتماهي مع حضارته، ولـمّا كانت الناس على دين ملوكها، وهم ملوك الأرض اليوم فعليًّا؛ فقد سرت لوثة المادّية في مجتمعاتنا، واتبعناهم حذو القذّة بالقذّة، ودخلنا جُحر الضب الذي دخلوه، واستمتعنا بخلاقنا كما استمتعوا بخلاقهم، ولا تكاد تجد فروقًا ذات بال بين مجتمعاتهم ومجتمعاتنا، فألعابهم ألعابنا، وترفيههم ترفيهنا، وأسواقهم أسواقنا، وأزياؤهم أزياؤنا.
مَن الملوم؟
هل نلوم الغرب على ما وصلنا إليه؟ الجواب:
هناك فتن فرضها علينا الكفار بالقوّة الخشنة، وإن كنا نلوم أنفسنا أنّه لولا ضعفنا لما استقوى علينا، إلّا أنّ ضعف الضحية لا يعفي الظالم من الجريمة.
وهناك فتن فرضها علينا بقوّة وضعه فما مثله ومثلنا فيها إلا كمثل الشيطان مع البشر: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22].
ونحن هنا لا يعنينا أن نقرّر مَن الملوم، بل لا شكّ أنّنا نحن الملومون {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، لكن يعنينا أن نتلمّس طريق الخلاص.
إنّ تسلّط الغرب الكافر مبدأ أكثر الشرور: إمّا بفرضها بالقوة، وإما بصنع وكلاء له تحكَّم في مصائرهم فصاروا {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]، وإما مكرًا وكيدًا، وإما تقليدًا مِن المغلوب للغالب. وحتى حين قامت بعض الشعوب المظلومة والمقهورة لتصحيح أوضاعها؛ تدخّل الغرب الكافر بصورة سافرة أو مقنّعة ليحول دون ذلك، إلا فيما يحفظ مصالحه.
وستبقى هذه الشرور ما بقي الكافر قويًّا باغيًا متسلّطًا عاليًا في الأرض، ولا سبيل لإنهاء هذه الشرور إلا بإخضاعه، حتى لا يكون له سلطة، وحتى يكون الدين كلّه لله، ولا سبيل إلى دفع هذه الفتن إلا بالجهاد.
هناك فتن فرضها علينا الكفار بالقوّة الخشنة، وإن كنا نلوم أنفسنا أنّه لولا ضعفنا لما استقوى علينا، إلّا أنّ ضعف الضحية لا يعفي الظالم من الجريمة. وهناك فتن فرضها علينا بقوّة وضعه فما مثله ومثلنا فيها إلا كمثل الشيطان مع البشر: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}
فإن قيل: ما فائدة هذا الكلام، ونحن في أشدّ أحوال الضعف عن تطبيقه؟
فالجواب: العجز يُسقط العمل، لكنّه لا يُسقط الاعتقاد.
فعندنا مشكلة أخطر من مشكلة الضعف عن الجهاد! إنّ مشكلتنا قبل ذلك فيمن يرى أنّ جهاد الطلب ولّى زمنه، ويريدون شطبه من الأحكام الشرعية، ويعدّون جهاد الطلب من الأحكام التي تتغير بتغير الزمان وأحواله، وأنّ الحال العالمية في الوقت الذي نزل فيه القرآن كانت تتطلبه، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية وقيام هيئة الأمم المتحدة صار الاستقرار والسلام العالمي هو السائد بين الدول! فجهاد الطلب كان مطلوبًا من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرب العالمية الثانية، ثم انتهت الحاجة إليه!
هؤلاء لم يروا في الجهاد إلا ردّ العدوان العسكري، ولم يروا فيه ردّ الفتنة، وغابت عنهم الغاية الكبرى من تشريعه، وهم بقولهم هذا يساهمون في أن تكون فتنة، والله يريد ألّا تكون فتنة!
ألا يرون ببصرهم وبصيرتهم كيف تموج الفتن في الأرض كلها بسبب الذين يريدون علوًّا في الأرض وفسادًا؟ بل أقول: لعلّه لم يأت زمن سابق يشهد للحكمة التامّة والحجّة البالغة من تشريع جهاد الطلب مثل زماننا هذا!
وإن كان دافعهم إلى مثل هذا القول أنْ كبُر عليهم مشاهد القتل والتدمير التي في الحروب، فليتذكروا قول ربهم {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].
إنّ الغرض من الجهاد ليس تقتيل البشر، ولا أن يُكره الناس على دخول الإسلام، ولكن ألّا تبقى سلطة كافرة متمكّنة على شيء من الأرض؛ لأنّها إن بقيت فستفتن الناس، وستفسد في الأرض، وتهلك الحرث والنسل.
يقول السعدي رحمه الله:
“ليس المقصود به (أي القتال) سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن {يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} تعالى، فيظهر دين الله على سائر الأديان، ويُدفع كلّ ما يعارضه من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود فلا قتل ولا قتال”[19].
وليس المقصود من هذا الكلام أن نطالب الناس الآن بجهاد الطلب، فإنّ لهذا الأمر عدّته، وقرون من الضعف والهوان لا تعالَج بمجرّد الدعوة إلى الجهاد، وإنّ من أسباب بقاء هذا الدين وبقاء أهله، أنّ مطالبَهُ منوطةٌ بالاستطاعة، فهو دين واقعي، والله يعلم أنّه ستمرّ بالمسلمين حالات تمكين وحالات ضعف، وحالات عزّة وحالات ذلّ، وحالات ظهور وحالات ضمور، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
ولذلك شَرَعَ لأحوال الاستضعاف أحكامًا استثنائية، ووضعَ جملة من القواعد الكلّية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، “الضرورات تبيح المحظورات”، وهذا كلّه على صعيد العمل، أمّا على صعيد الاعتقاد، فلا رخصة.
العجز يُسقط العمل، لكنّه لا يُسقط الاعتقاد
وإنّما أردنا من هذا المقال أن نجلّي بعض ما علمناه من حكمة الله في تشريع الجهاد، والتي تقصر عنها علوم البشر، وألّا تمسّ الثوابت والقطعيات مهما بدت لنا بعيدة المنال، فواجبنا أن نحفظ أصول الدين وصبغته الإلهية، ونبلّغها جيلاً بعد جيل دون تحريف ولا تبديل، عسى الله أن يقيّض جيلاً قادمًا يعيد للدين سلطته وللأمّة مجدها.
معن عبد القادر
أكاديمي وكاتب في قضايا التربية والحوار والفكر
[1] تفسير ابن كثير (1/525).
[2] تفسير الطبري (11/ 179).
[3] تفسير ابن كثير (4/56).
[4] أخرجه البخاري (4515).
[5] تفسير القرطبي (2/354).
[6] التفسير الميسر، ص (181).
[7] المرجع السابق، ص (30).
[8] التفسير الوسيط، للطنطاوي (6/97).
[9] المرجع السابق (1/412).
[10] في ظلال القرآن، لسيد قطب (1/190).
[11] الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، لأبي الأعلى المودودي، ص (8-9).
[12] المرجع السابق، ص (13).
[13] اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وهي معاهدة دولية اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979، وتصفها على أنها وثيقة الحقوق الدولية للنساء.
[14] بل تطور الأمر مؤخّرًا إلى فرض قوانين شاذّة مبتذلة لأجلهم، إذ أكدت صحيفة «تيليغراف» أنّه تمّ توجيه مصوّري الأشعة في بريطانيا لسؤال كلّ مريض بغضّ النظر عن جنسه، عمّا إذا كان حاملاً قبل إجراء التصوير بالأشعة السينية https://www.aljarida.com/article/71428
[15] يراجع مقال: قراءة في كتاب: المواثيق الدولية وأثرها في هدم الأسرة، للدكتورة كاميليا حلمي محمد، مجلة رواء العدد (11).
[16] أخرجه الترمذي (2377).
[17] أخرجه البخاري (6416).
[18] أخرجه ابن ماجه (4105).
[19] تفسير السعدي، ص (89).