قضايا معاصرة

تحديات الإعلام الإسلامي البديل ومقومات رسوخه

في زمنٍ يتسارع فيه السباق الإعلامي وتزدحم فضاءاته بالأخبار والروايات المتدفقة والمتباينة، يبرز الإعلام الإسلامي البديل بوصفه صوتًا صادقًا للأمة، يسعى إلى كسر احتكار الكلمة وتقديم روايته الأصيلة للعالم. يتناول هذا المقال فُرَص هذا الإعلام في عصر الثورة الرقمية، وما يمتلكه من أدوات انتشار وتنوّع وتأثير، كما يستعرض التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهه، ويؤكّد على أن ترسيخ حضوره لا يتحقق إلا بمنظومة واسعة من القيم والمقومات التي تصنع إعلامًا راشدًا مؤثرًا؛ ليغدو قوةً فاعلة تبني الوعي وتدافع عن القيم وتبلّغ رسالة الإسلام بجدارة.

لم تكن الوسائل الإعلامية بمختلف ألوانها على مر الأزمان مجرد أصوات تتردد أو حروف تُسطّر أو صور تُوزع وتُنشر، بل كانت على الدوام وعاء الفكر، ومرآة الهوية، وميدان الصراع بين الحق والباطل، وساحة العرض الكبرى التي تتجلى فيها الأمم بفضائلها أو تتوارى خلف نقائصها.

وفي عصرنا هذا، الذي تتلاطم فيه أمواج الإعلام كبحر هائج، باتت هذه الساحة أوسع من أي وقت مضى، وأشد تعقيدًا وأعمق أثرًا، لقد تحول الإعلام من مجرد ناقل للخبر إلى صانع للوعي، ومهندس للتصورات، وقوة جبارة قادرة على تشكيل قناعات الملايين، ورسم صورة الحضارات في أذهان الأجيال.

لعقود مديدة ظلت مفاتيح هذه القوة حكرًا على قلة أمسكت بزمام وسائل الإعلام التقليدية، من صحف وإذاعات وقنوات فضائية، هذه المؤسسات التي تحركها في كثير من الأحيان رؤوس أموال ضخمة وأجندات سياسية وفكرية محددة، قدمت للعالم روايتها الخاصة عن كل شيء، ولم يكن العالم الإسلامي وقضاياه بمنأى عن ذلك؛ بل لعله كان في قلب العاصفة، حيث قُدمت عنه روايات في غالبها إما مبتورة تقتطع من سياقها، أو مشوهة تتعمد الإساءة، أو سطحية لا تغوص في أعماق واقعه وقيمه وحقيقة رسالته.

لكن سنة الله تعالى في كونه الفسيح تأبى أن يدوم الحال على ما هو عليه؛ فمع بزوغ فجر الثورة الرقمية وانفجار شبكة الإنترنت وما تبعها من منصات تواصل اجتماعي أضحت جزءًا من نسيج حياتنا اليومي؛ اهتزت أسس المشهد الإعلامي التي طالما بني عليها، تحطمت أسوار الاحتكار، ولم تعد الكلمة حبيسة الاستوديوهات الفخمة أو المطابع العملاقة، فأصبح بإمكان كل فرد يحمل في جيبه هاتفًا ذكيًا متصلاً بالشبكة أن يكون منبرًا قائمًا بذاته، وناشرًا لرسالته، وصوتًا يصل إلى أقاصي الأرض في طرفة عين، بتكلفة تكاد لا تذكر. مِن رحم هذا التحول العميق ولدت ظاهرة “الإعلام البديل”؛ إعلام الأفراد والجماعات الصغيرة، الذي ينبع من عموم القاعدة المجتمعية لا من القمة، ويتخذ من الفضاء الرقمي ميدانًا له.

وفي قلب هذا السياق بزغ نجم “الإعلام الإسلامي البديل”، كضرورة حتمية ومسؤولية تاريخية، فكان حتمًا أن يوجد ليقدم رواية الأمة عن نفسها، بصوت أبنائها، وليكون شاهدًا على قيمها، ومدافعًا عن قضاياها، وحصنًا في وجه الشبهات والأباطيل، وسفيرًا لرسالة الإسلام الخالدة في عالم متعطش للحق والعدل. يحمل هذا الإعلام في طياته إمكانيات هائلة تبشر بفتح جديد، ولكنه في الوقت ذاته يواجه تحديات جسام، وعقبات كؤود، بعضها ينبع من داخله، وبعضها يأتيه من خارجه، والتغلب عليها لا يكون بمجرد الحماس العابر، بل يتطلب وعيًا عميقًا، ومنهجية راشدة، واجتهادًا دؤوبًا.

فلماذا يجب أن يتوفر الإعلام الإسلامي البديل؟ وما هي آفاق الأمل التي يفتحها هذا الإعلام الوليد؟ وما هي العقبات التي تعترض مسيرته؟ وأهم من ذلك: ما هي المعالم والمقومات التي تضمن له النجاح والرسوخ، ليكون صوتًا مؤثرًا فاعلاً في زمن الضجيج وصراع الروايات؟

أولاً- بيانات قيّمة لتأطير الثورة الرقمية:

تشير أحدث تقارير الإعلام الرقمي العالمية إلى أن أكثر من خمسة مليارات شخص باتوا مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي على مستوى العالم في منتصف العقد الحالي[1]، بما يعادل أكثر من ثلثي سكان العالم، وأن متوسط الوقت اليومي الذي يقضيه المستخدم على المنصات يتجاوز الساعتين يوميًا[2]؛ ما يوضّح حجم الفرصة المتاحة للوصول والتأثير عبر القنوات الرقمية، ويفسّر لماذا تصير أصواتٌ بديلة قادرة على محاكاة أو تحدّي خطاب الإعلام الكبير في زمن قياسي.

بزغ نجم الإعلام الإسلامي البديل بوصفه ضرورة حتمية ومسؤولية تاريخية؛ ليقدّم رواية الأمة بصوت أبنائها، ويدافع عن قيمها وقضاياها. يحمل هذا الإعلام إمكانات تبشّر بفتح جديد، لكنه يُواجِه تحدّيات داخلية وخارجية لا تُتجاوز بالحماس، بل بالوعي والمنهجية والاجتهاد.

ثانيًا- لماذا الإعلام الإسلامي البديل مهم الآن؟

إلى جانب الانتشار الرقمي العام، يتقاطع هذا الواقع مع نموّ سكاني إسلامي ملحوظ في العالم؛ فقد نما عدد المسلمين دوليًا بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، وهو ما يجعل الجمهور الإسلامي رقمًا ديموغرافيًا لا يمكن تجاهله عند رسم أي استراتيجية إعلامية عالمية. هذا التزايد السكاني يقوّي مبرر وجود إعلام بديل متقن ومؤسسيّ يعبّر عن هموم هذه الشريحة الكبيرة ويخاطبها بلغة العصر مع الثبات على المرجعية، ولا يكون ذلك على كاهل المؤسسات فقط، بل والأفراد كذلك؛ فكل مسلم يتحرى الحق والصدق يجب أن يسعى جاهدًا لنشر كلمة الحق والمعلومة الصحيحة قدر وسعه وطاقته.

ثالثًا- مقومات النهضة الإعلامية الجديدة:

لقد منحت التقنية الحديثة بما أتاحته من وسائل إعلامية جديدة للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية ولعموم المسلمين أدوات لم تكن في حسبان الأجيال السابقة، وفتحت أمامهم آفاقًا رحبة لإيصال صوتهم، ومن أبرز هذه الإمكانيات:

1. كسر أغلال الاحتكار الإعلامي: لقد كانت الرواية عن الإسلام والمسلمين لعقود طويلة أسيرة لمؤسسات إعلامية كبرى، لا ترى في الإسلام إلا ما يوافق هواها أو يخدم مصالحها. أما اليوم فقد تحررت الكلمة، وأصبح بإمكان كل صوت إسلامي صادق أن يشق طريقه إلى آذان الملايين وقلوبهم مباشرة، دون وصاية أو فلترة، مقدمًا الصورة من زواياها الكاملة لا من الزاوية التي يختارها الآخرون. كما أن الأمر ليس على إطلاقه؛ فالكثير من منصات التواصل الاجتماعي (والتي هي مملوكة لشركات أجنبية من الأساس) أصبحت تفرض رقابة صارمة على كل ما يرتبط بالإسلام وتضعه تحت تصنيف الإرهاب، فأصبح الصراع الإعلامي بمثابة حربٍ حقيقية على تلك المنصات.

وعلى الرغم من ذلك أصبح من اليسير حاليًا التعامل مع الكثير من تلك المنصات واستخدامها في نشر الصوت والمبادئ الإسلامية، فهناك العديد من الأمثلة على إمكانية الانتشار والنشر الواسع من خلالها، منها:

» أنشأت (أستراليا) منذ منتصف العقد الماضي شبكة إنتاج رقمي وصلت مقاطعها لملايين المشاهدات وابتكرت حملات تمويل جماعي مثل حملة «Dollar a Day» كنموذج تمويلٍ امتدّ مردوده إلى نطاق واسع من المشاهدات والدعم المحلي والعالمي[3].

»هناك العديد من القنوات الرقميّة مثل MercifulServant)) على منصة يوتيوب، كمثالٍ على قدرة المحتوى القصير والمؤثر على الوصول العالمي والتفاعل الجماهيري بسرعة[4].

2. عالمية الخطاب وسعة الانتشار: لا يعترف الفضاء الرقمي بسدود الجغرافيا ولا بقيود السياسة؛ فالمقال العميق، والمقطع المرئي المؤثر، والكلمة الصادقة، تستطيع أن تطوي المسافات في لحظات، وتصل إلى مسلم في أقصى الشرق، وباحث عن الحقيقة في قلب الغرب. هذه العالمية تضع على عاتق الإعلام الإسلامي مسؤولية مخاطبة البشرية جمعاء، بما يتناسب مع عالمية رسالة الإسلام ذاتها.

3. اقتصاديات الكلمة الجديدة: كانت تكاليف إنشاء قناة تلفزيونية أو صحيفة واسعة الانتشار عقبة كأْداء أمام أي مشروع إعلامي إسلامي جاد. أما اليوم فإن إنتاج المحتوى الرقمي ونشره قد أصبح في متناول اليد، فمثلاً: وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت دارجة بكثرة في العالم العربي والإسلامي توفر الكثير من تلك المنصات الإعلامية سهلة الاستخدام وواسعة الانتشار؛ مما أتاح للمبادرات الفردية والمؤسسات الصغيرة أن تزهر وتؤتي أكلها، وأن تنافس بأثرها وقوة محتواها، لا بضخامة ميزانيتها.

4. التفاعل الحي وبناء جسور الثقة: على عكس الإعلام التقليدي الذي يسير في اتجاه واحد، من المرسل إلى المستقبل؛ تتميز المنصات الرقمية بطبيعتها التفاعلية، فهذا الحوار المباشر عبر التعليقات والنقاشات والردود يتيح بناء علاقة حية مع الجمهور، وفهم احتياجاته، والإجابة على تساؤلاته، وتبديد شبهاته، وتكييف الخطاب ليلامس واقعه وهمومه، مما يعزز الثقة والمصداقية.

5. فسيفساء المحتوى وتعدد القوالب: لم يعد الإعلام مقتصرًا على المقال المكتوب أو الخبر المقروء؛ فالفضاء الرقمي يتيح تقديم الرسالة في قوالب شتى: من الفيديو القصير والمؤثر، إلى المقاطع الصوتية والبودكاست الصوتي العميق، إلى الرسوم البيانية التوضيحية (الإنفوجرافيك)، إلى البث المباشر التفاعلي، هذا التنوع يفتح أبوابًا للوصول إلى شرائح مختلفة من الجمهور كلٌّ حسب ما يميل إليه ويؤثر فيه، كما يخاطب هذا التنوع رغبات مختلفة عند شرائح متعددة من الناس ويلبي احتياجاتهم اليومية؛ فأصبح انتشار الخبر أسرع صادقًا كان أم كاذبًا.

أصبح بإمكان الصوت الإسلامي الصادق أن يبلغ الملايين مباشرة، مقدّمًا الصورة الكاملة دون وصاية أو تحريف، غير أن الطريق محفوف بعقبات الداخل ومكائد الخارج، من ضعف المحتوى، والتسرّع في نقل الأخبار، وتشتّت الجهود، وغلبة العاطفة على الحكمة، إلى سياسات المنصات وخوارزمياتها المتحيزة، وحملات التشويه الممنهجة.

رابعًا- عقبات الطريق بين تحديات الداخل ومكائد الخارج:

رغم هذه الآفاق الواعدة فإن المسيرة محفوفة بالمخاطر؛ فالإعلام الإسلامي البديل يواجه تحديات بنيوية عميقة -داخلية وخارجية- تقف حائلاً دون تحقيق كامل إمكاناته، وتستدعي وقفة تأمل ومراجعة.

1. تحديات الداخل:

» ضعف المحتوى والمهنية أحيانًا: إن الغيرة على الدين والحماس للدعوة -على أهميتهما- لا يغنيان عن وجوب توافر الإتقان والمهنية؛ فالكثير من المحتوى الإعلامي الذي قد يتم تداوله -رغم صدق نوايا أصحابه- يعاني من ضعف في الجودة الفنية (التصوير، المونتاج، الإخراج)، وسطحية في الطرح الفكري، وركاكة في اللغة والأسلوب، وهذا لا يسيء إلى الرسالة فحسب، بل يزهد فيها الجمهور الذي اعتاد على مستويات عالية من الجودة في المنصات الأخرى، إن تقديم رسالة عظيمة في قالب رديء هو ظلم لهذه الرسالة.

» أزمة المصداقية والتثبت: في خضم سرعة تدفق المعلومات يقع الكثيرون في فخ نشر الأخبار دون تمحيص، وتداول الشائعات دون تحقق، وتقديم الآراء الشخصية على أنها حقائق مسلّمة؛ وهذا يتنافى مع المبدأ القرآني الأصيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، إن المصداقية هي رأس مال الإعلامي، ومتى ما فُقدت انهار كل شيء.

» تشتت الجهود وغياب الرؤية الجامعة: يغلب على الكثير من الجهود الإعلامية طابع رد الفعل اللحظي، والانشغال بالمعارك الصغيرة، دون الانطلاق من رؤية استراتيجية متكاملة: تحدد الأولويات المرتبطة بالأمة وليس بالفرد أو الجماعة الصغيرة، وتوزع الأدوار، وتوحد الجهود نحو الأهداف الكبرى. هذا التشتت يبعثر الطاقات، ويؤدي أحيانًا إلى تضارب الخطابات، ويجعل الإعلام الإسلامي كجزر منعزلة بدلاً من أن يكون جسدًا واحدًا متماسكًا، وعلى الرغم من أن هذا الحال يعتبر طبيعيًا في البداية، وكان هذا هو النمط الطاغي في العديد من المجتمعات، ولكن هنا تأخر في الإعلام الإسلامي البديل عن التوجه لتصحيح البوصلة.

» غلبة العاطفة على الحكمة: لا شك أن العاطفة الصادقة محرك قوي، ولكن حين تطغى على العقل والتحليل الموضوعي فإنها قد تقود إلى خطاب متشنج، ولغة انفعالية، ومنهج يعتمد على الصراخ لا الإقناع، وعلى الاتهام لا البرهان. وهذا النوع من الخطاب قد يلهب حماس الأتباع، ولكنه في الغالب ينفر الباحثين عن الحقيقة، ويغلق أبواب الحوار مع الآخر، وهو ما يخالف المنهج الرباني في الدعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

» ضياع الغاية المرتبطة بالله: فأصبحت غاية الكثير من العاملين في هذا المجال الإعلامي هو الربح المالي أو المزيد من المشاهدات، فلم تعد تلك الأرقام نتائج نقرؤها، بل أصبحت أهدافًا يسعى إليها صانع المحتوى، وهو ما ساهم في المزيد من المحتوى الضحل أو التافه، والذي يسعى ناشره إلى استجداء المشاهدات قبل الاهتمام بتحرّي الحقائق وتناول المفيد.

2. تحديات الخارج:

» سياسات المنصات وخوارزمياتها المتحيزة: إن المنصات الرقمية الكبرى (فيسبوك، يوتيوب، تويتر وغيرها) ليست فضاءات محايدة، بل هي شركات تجارية لها سياساتها الخاصة، وخوارزمياتها التي تعمل كحراس بوابة يتحكمون من خلالها بما يصل إلى الجمهور وما لا يصل، وكثيرًا ما يتم حجب المحتوى الإسلامي المعتدل أو تقييد وصوله تحت ذرائع فضفاضة مثل “خطاب الكراهية” أو “انتهاك معايير المجتمع”، في حين يُسمَح لمحتوى معادٍ للإسلام بالانتشار دون قيود. هذا التضييق الرقمي هو شكل جديد من أشكال الحرب الواضحة والموجهة في بعض الأحيان على الإسلام.

وهناك العديد من الأدلة والتقارير المستقلة والموثقة عن سياسة التقييد والحذف، والتي رصدت تقييدات وحجبًا وانتقائية في إزالة محتوى مرتبط بقضايا حساسة (مثل محتوى يعبّر عن مواقف سياسية محددة أو احتجاجات، أو قضايا تتعلق بأقليات مسلمة مثل قضية حرب غزة)، كما أبرزت منظمات حقوقية حالاتٍ كثيرةً يُشار فيها إلى أن أنظمة الحذف الآلية والخوارزميات تفتقر لسياق لغوي وثقافي تُبنى عليه القرارات؛ مما أدى إلى رسائل مفقودة وأدلة مَحجوزة في أطر تقليدية كانت مفيدة لرصد الانتهاكات. تقارير بعض المؤسسات مثل (Freedom on the Net و (Human Rights Watch توثق جوانب من هذه الإشكالية وتدعو إلى مزيد من الشفافية والمراجعة في سياسات شركات التقنية[5].

» حروب التشويه والإسقاط الممنهجة: يواجِه كل صوت إسلامي مؤثر حملاتِ تشويه منظّمة من قبل جهات معادية للإسلام وقضايا الأمة، تهدف هذه الحملات إلى اغتيال الشخصية، وتلفيق التهم، ونشر الأكاذيب، وتقديم بلاغات كيدية لإغلاق الحسابات والمنصات؛ في محاولة لإسكات أي صوت يخالف روايتهم.

» معضلة التمويل المستمر: تعتمد أغلب المبادرات الإعلامية الإسلامية على جهود تطوعية أو تمويل شخصي محدود؛ مما يجعلها هشة وغير احترافية، كما تفقد القدرة على مواجهة التحديات لكي تستمر أو تتطور على المدى الطويل. إن إيجاد نموذج تمويل مستدام يضمن الاستقلالية ويحمي الخط التحريري من الضغوط والارتهان لجهات خارجية يظل واحدًا من أكبر التحديات التي تواجه كيانات الإعلام الإسلامي البديل.

» ضجيج المنافسة وطوفان المحتوى: الفضاء الرقمي ساحة شديدة الازدحام، يتنافس فيها الجميع على جذب انتباه المستخدم، وفي ظل هذا الطوفان من المحتوى الترفيهي والسطحي يصبح إيصال المحتوى الجاد والعميق إلى الجمهور والحفاظ على اهتمامه مهمة شاقة تتطلب إبداعًا استثنائيًا وجهدًا مضاعفًا.

يواجه كلّ صوت إسلامي مؤثر حملات تشويه منظمة من قبل جهات معادية للإسلام وقضايا الأمة، تهدف هذه الحملات إلى اغتيال الشخصية، وتلفيق التهم، ونشر الأكاذيب، وتقديم بلاغات كيدية لإغلاق الحسابات والمنصات، في محاولة لإسكات أي صوت يخالف روايتهم.

خامسًا- معالم المسير نحو إعلام إسلامي راشد:

لكي يتجاوز الإعلام الإسلامي البديل هذه العقبات، وينتقل من مرحلة الوجود إلى مرحلة التأثير، ومن رد الفعل إلى الفعل؛ لا بد له من التسلّح بمقومات أساسية، تكون له بمثابة المعالم على الطريق، وتجمع بين الأصالة الشرعية والاحترافية العصرية.

1. المصداقية أمانة والتثبت عبادة: يجب أن يكون الصدق والتثبت هما حجر الزاوية في كل عمل إعلامي؛ فالصدق ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل هو أساس الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة)[6]، إن تحري الدقة في كل كلمة، وتوثيق المصادر، والاعتراف بالخطأ إن وقع؛ هو ما يبني جسور الثقة الحقيقية مع الجمهور، ويجعل الكلمة مسموعة ومحترمة. وفي هذا السياق لا يكفي فعل الشيء الصحيح فقط، بل يجب القيام بالتسويق للشيء الصحيح الذي يتم القيام به، فصانع المحتوى المسلم يجب أن يحدد معاييره ويصرح عنها ويلتزم بها لكي تكون له المصداقية. حرب السمعة والمصداقية في الوقت الحالي شرسة جدًا، فمن السهل جدًا إنهاء سمعة بناها فرد ما على مدى سنوات بخطأ واحد فقط، لذا يجب التثبت والتوثيق، وكذلك الإعلان عن المصادر بالأدلة لضمان بناء السمعة الموثوقة.

ومن الوسائل العملية التي ربما تُترجم المصداقية إلى آليات قابلة للتنفيذ داخل المؤسسات الإعلامية:

» إنشاء وحدة “تدقيق وتوثيق” داخل كل منظومة إعلامية مسؤولة عن التحقق من المصادر قبل النشر، للتحقّق من: المصدر، التاريخ، الشاهد، الوثائق.

» اعتماد “ميثاق أخلاقي” منشور يوضح معايير النشر وسياسة التصحيح.

» الاحتفاظ بأرشيف عام رقمي يسهل الرجوع إليه (مثال: صفحة ‘شفافية’ تعرض تقارير الأداء، نسبة الأخطاء، وعدد التصحيحات الشهري).

هذه الممارسات أمضت طريقها في مؤسسات بحثية وإعلامية رصينة ورسّخت استقرار ثقة الجمهور بها.

2. الإحسان في الصنعة وإتقان العمل: لا يكفي أن يكون المحتوى صحيحًا، بل يجب أن يكون متقنًا وجميلاً، إن مبدأ “الإحسان” الذي هو أعلى مراتب الدين يجب أن يتجلى في صناعتنا الإعلامية؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)[7]. الإتقان في جودة الصورة والصوت، وفي قوة اللغة والبيان، وفي عمق التحليل والفكرة هو احترام لعقل المتلقي، وتعبير عن عظمة الرسالة التي نحملها، فعلى كل صاحب محتوى ألا يكتفي بما وصل إليه من إتقان أو قوة، بل دائمًا ما يسعى إلى المزيد من التطوير والإتقان، فالعصر الحالي يتطور أسرع مما نتخيل، والأدوات والأساليب الإعلامية تتطور في كل يوم تقريبًا.

ومن الخطوات العملية التي يمكن الاعتماد عليها في تحسن وإتقان العمل الإعلامي المؤسسي والمجتمعي:

» برامج تدريب شهرية أو ربع سنوية في الكتابة الصحفية الرقمية، والسرد القصصي المرئي، والمونتاج.

» شراكات مع جامعات أو منصّات تعليمية لمنح دورات متخصصة في صناعة وتطوير المحتوى الإعلامي المتقن.

» نظام تقييم جودة دوري (scorecard) يقيس جودة الصوت، الصورة، النص، الدقة، والقدرة على الإقناع.

هذه الخطوات تساعد في تحويل الوحدات الإعلامية الصغيرة إلى مؤسسات مبدعة وفاعلة ذات تأثير وانتشار ومصداقية، وعلى الجانب الفردي: يكفي كل فرد مسلم أن يتحرى الصدق أينما كان ولا ينطق بكلمة دون تثبت وتحرٍّ حتى لا يضلل غيره، ولا يصبح سببًا في نشر الباطل أينما كان.

3. وضوح الهوية وعمق الرسالة: يجب أن ينطلق الإعلام الإسلامي من هوية واضحة، تمثل الإسلام في صورته السمحة، الجامعة، الوسطية البعيدة عن الغلو والتفريط. وأن يحمل رسالة بنّاءة لا تكتفي بهدم الشبهات، بل تبادر إلى بناء التصورات الصحيحة، وتقديم الحلول لمشكلات الواقع، والغوص في أعماق القضايا الفكرية والاجتماعية والتربوية التي تهم الأمة[8]. فعلى كل مفكر وعامل في ذلك الحقل أن يعمل على السعي نحو تصحيح المفاهيم وتوسيع المدارك نحو الرسالة الحقيقية للإسلام الشاملة لكافة جوانب الحياة، سواء كان فردًا أو مؤسسة فكل يسعى وفقًا لإمكانياته.

4. أخلاقية الخطاب وسمو الحوار: إن المنبر الإعلامي أمانة، والكلمة مسؤولية؛ فلا يجوز أن يكون هذا المنبر ساحة لتصفية حسابات أو طرح خلافات شخصية عبر السباب والقذف أو الغيبة والنميمة. يجب أن يلتزم الإعلامي المسلم بأخلاق الإسلام في حواره ونقده، وأن يضع الله ثم أمة الإسلام نصب عينيه، ويترفع عن المعارك الجانبية التي تحيده عن الغاية الأسمى، وأن يكون لسانه عفيفًا، وقلمه نزيهًا، ملتزمًا بقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]. القوة الحقيقية ليست في الصوت العالي، أو الضوضاء الفارغة، بل في الحجة الدامغة المحمولة على رسالة الخلق القويم، فمن يقع في ذلك الفخ من تغليب الانتقام الشخصي فوق المصلحة العامة عليه أن يتراجع ويعيد حساباته ويعمل على تغليب الأوليات العامة على الحسابات الشخصية.

وربما من الآليات الرقابية المقترحة داخليًا لتعزيز أخلاقية الخطاب في المؤسسات الإعلامية:

» إنشاء مجلس تحرير قضائي يتكوّن من علماء شرعيين، وصحفيين مخضرمين، ومتخصصي قانون معلومات؛ للتدقيق في المواد المثيرة للخلاف قبل النشر.

» وجود آلية استقبال شكاوى الجمهور والردّ الرسمي خلال مهلة زمنية محددة (مثلاً: 72 ساعة) مع نشر تقرير شهري عن الشكاوى ومعالجتها.

هذه الوسائل تساعد على ضبط النبرة وتجنب الأخطاء الأخلاقية التي تضر بالرسالة قبل أن تنتشر.

5. التكامل المؤسسي وروح الفريق: العمل الإعلامي المعاصر لم يعد عملاً فرديًا، إنما يتطلب النجاح الحقيقي بناء فرق عمل متكاملة، تجتمع فيها الخبرة الشرعية الرصينة، مع المهارة الإعلامية المتخصصة (كتابة، تصوير، مونتاج، تسويق رقمي)، مع الاطلاع العميق على مجالات الواقع (السياسة، الاقتصاد، الاجتماع). إن العمل بروح الجماعة ومبدأ الشورى هو سبيل القوة والبركة، وعلى صانع المحتوى المحترف السعي نحو إيجاد الفريق الناجح الذي يمكنه التكامل معه، فليس بالضرورة إن كنت وحيدًا أن تبدأ فريقك من الصفر، بل يمكنك أن تنضم لفرق أخرى ولا تتوقف!

6. استقلالية التمويل واستمراريته: لضمان استقلالية القرار وحرية الكلمة، لا بد من السعي الجاد نحو إيجاد مصادر تمويل متنوعة ومستدامة، تعتمد على دعم الأفراد المؤمنين بالرسالة، والمؤسسات الخيرية المستقلة، واستكشاف نماذج اقتصادية مبتكرة كفكرة “الوقف الإعلامي”[9] الذي يخصص ريعه لدعم المشاريع الإعلامية الجادة، مما يحررها من ضغط الحاجة وسطوة الممول؛ لذا يجب ابتكار نماذج تمويل عملية وفاعلة مثل الصناديق الوقفية أو الشراكات والمؤسسات والمنح البحثية، وإيرادات المشروعات المتعلقة بالمحتوى الإعلامي، مثل بيع دورات، تراخيص محتوى، أو برامج تعليمية مدفوعة، وكذلك التمويل والدعم المجتمعي في حالة انتشار القضية وفاعلية الرسالة.

7. عالمية الخطاب وتعدد الألسن: رسالة الإسلام عالمية، وقضايا الأمة تتجاوز الحدود؛ لذا لا ينبغي أن يظل خطابنا الإعلامي حبيس اللغة العربية. إن ترجمة المحتوى النوعي إلى اللغات الحية، وتكييفه ليخاطب العقليات والثقافات المختلفة؛ هو ضرورة استراتيجية لإيصال صوتنا إلى العالم، وواجب دعوي تتطلبه عالمية الرسالة. فإن كنت فردًا مُتقِنًا لأكثر من لغة فواجب عليك أن تنطلق بها جميعًا ولا تجعل محتواك حكرًا على اللسان الأم العربي، فحتمًا نحن نعتز بالعربية ونفخر بها ولكن التنوع والترجمة أمور تقتضيها عالمية رسالة الإسلام.

إن المنبر الإعلامي أمانة، والكلمة مسؤولية؛ فلا يجوز أن يكون هذا المنبر ساحة لتصفية حسابات أو طرح خلافات شخصية عبر السباب والقذف أو الغيبة والنميمة.

سادسًا- نتائج قيام إعلام إسلامي قوي وفاعل:

1. استعادة رواية الأمة وقضاياها:

لعل أعظم إمكانية يتيحها الإعلام البديل هي قدرته على تمكين الأمة من أن تروي قصتها بنفسها: أن يتحدث أبناء فلسطين عن قضيتهم، وأن يصف المسلمون في الغرب تحديات هويتهم، وأن يعبر المصلحون عن رؤيتهم لنهضة مجتمعاتهم. إن استعادة هذه الرواية من أيدي الآخرين هي خطوة جوهرية في استعادة الوعي والثقة بالذات.

2. تعزيز الثقة والمصداقية:

من أبرز نتائج ترسيخ مقومات الإعلام الإسلامي البديل: قدرته على بناء جسور ثقة متينة بينه وبين جمهوره، فحين يلتزم بالمصداقية والتوثيق، ويقدّم المحتوى بلغة صادقة وصنعة متقنة؛ فإن ذلك يعيد الاعتبار للكلمة الإسلامية في الساحة العالمية، ويجعلها صوتًا مسموعًا يحظى بالاحترام، لا مجرد صدى عاطفي زائل.

3. إيجاد بدائل عملية للنماذج الإعلامية المهيمنة:

الإعلام الإسلامي البديل إذا توافر له التمويل المستدام والهوية الواضحة يصبح نموذجًا واقعيًا منافسًا للمؤسسات الإعلامية الكبرى، لا في الكمّ فقط، بل في الكيف والقيمة المضافة؛ فهو لا يكتفي بردّ شبهات الآخرين، بل يطرح خطابًا مستقلاً، يقدم رؤىً فكرية ومجتمعية ناضجة، ويعكس أخلاقية الإسلام في الحوار والتفاعل، مما يفتح المجال أمام صناعة إعلامية جديدة نابعة من قيم الأمة.

4. التأثير في الوعي العالمي وصناعة الأجيال:

بفضل عالميته، وتنوع قوالبه، وترجمته إلى لغات متعددة؛ يملك الإعلام الإسلامي البديل فرصة حقيقية للتأثير في وعي الشعوب الأخرى، وتقديم صورة الإسلام السمحة بعيدًا عن التشويه والتضليل. كما أنه يصبح مدرسة تربوية للأجيال المسلمة نفسها، تعلّمها قيم الانضباط، والصدق، والنقد الواعي، والتعامل الراشد مع أدوات العصر، وبذلك يسهم في صناعة جيلٍ جديد يحمل هويته بثقة وينفتح على العالم برشد.

من أبرز نتائج ترسيخ مقومات الإعلام الإسلامي البديل: قدرته على بناء جسور ثقة متينة بينه وبين جمهوره؛ فحين يلتزم بالمصداقية والتوثيق، ويقدّم المحتوى بلغة صادقة وصنعة متقنة، فإن ذلك يعيد الاعتبار للكلمة الإسلامية في الساحة العالمية، ويجعلها صوتًا مسموعًا يحظى بالاحترام، لا مجرد صدى عاطفي زائل.

ختامًا- الكلمة أمانة، والمنبر مسؤولية:

إن الإعلام الإسلامي البديل ليس مجرد أداة تقنية أو فرصة عابرة، بل هو ميدان جهاد بالكلمة والحجة والبيان، ومسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق هذا الجيل من أبناء الأمة، إنه فرصة عظيمة أتاحها الله لنا لنكون شهداء بالحق في عصر كثر فيه الزيف، ولنبلغ رسالة ربنا بما يليق بعظمتها وجمالها.

إن مواجهة التحديات لا تكون بالشكوى أو بالانكفاء، بل تكون بالوعي العميق، والتخطيط الاستراتيجي، والعمل الدؤوب، والاحترافية المتقنة، والالتزام الراسخ بالأخلاق الشرعية. على العاملين في هذا الميدان أن يدركوا أن كل كلمة يكتبونها، وكل مقطع ينتجونه، هو أمانة سيُسألون عنها بين يدي الله.

حينئذ فقط، عندما تجتمع النية الصادقة مع العمل المتقن، والحجة القوية مع الخلق الحسن؛ سيتحول الإعلام الإسلامي البديل من مجرد صدى صوت إلى قوة حقيقية مؤثرة، تبني الوعي، وتصنع الأمل، وتساهم في نهضة الأمة، وتبلغ رسالة الإسلام للعالمين، ليكون بحق “صوت الأمة” في فضاء العصر الرقمي.


د. محمود حلمي

كاتب وباحث أكاديمي، أخصائي إرشاد أسري وتربوي


[1] DataReportal / Kepios, Digital 2024: Global Overview Report (Deep Dive: Social media users). Jan 31, 2024.

[2] DataReportal, The time we spend on social media (Digital 2024 deep-dive). Jan 31, 2024.

[3] OnePath Network. Support Us — Spread the Dawah. صفحة الدعم الرسمية: توضح عدد الفيديوهات (1500+)، مجموع المشاهدات (600 million+)، عدد المتابعين (5.5+ million) وحملة “Dollar a Day”. متاح على: OnePathNetwork.com/support-us.

[4] MercifulServant channel analytics (YouTube / SocialBlade snapshot 2024–2025).

[5] Human Rights Watch, Meta’s Broken Promises: Systemic Censorship of Palestine Content on Instagram and Facebook. Dec 21, 2023.

[6] أخرجه مسلم (2607)، وأخرج البخاري (6094): (إن الصدق يهدي إلى البر…) الحديث.

[7] أخرجه أبو يعلى (4386).

[8] الإعلام الإسلامي: دراسة في المفاهيم والأصول والخصائص -بحث منشور ضمن مجلات أكاديمية، د. محمد موسى البر، مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، 2005م.

[9] ينظر: الوقف الإسلامي: تطوره، إدارته، تنميته، للدكتور منذر قحف، والوقف على وسائل الإعلام ودوره في تحقيق مقاصد الشريعة، للدكتور أحمد عبد الحميد إبراهيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *