الغلو في الدين مذموم بالعموم، سواء كان ذلك في جانب الإفراط أو التفريط، والمقاصد الشرعية من جملة ما حصل فيه الغلو في الاتجاهين، فأهملها قوم ولم يعيروها حقها من النظر والاعتبار الشرعي، فوقفوا عند ظواهر النصوص وجعلوها عبارات جامدة لا روح لها، وغلا فيها قوم فحمَّلوها ما لا تحتمل، وعارضوا النصوص الشرعية القطعية بمقاصد ظنية، أدت في النهاية إلى مناقضة كلِّيات ومسلَّمات لا خلاف فيها، وهذه المقالة تتحدث عن الصنف الثاني من الغلو في المقاصد.
مقدمة
مقاصد الشريعة الإسلامية هي روح الأحكام. وحقيقتها: معرفة الغاية من التشريع والمصلحة المعتبرة التي تكمن وراء الحكم الشرعي، فأحكام الشريعة لها مقاصد وغايات مرجوّة ولم تأت عبثًا.
وللشريعة مقاصد كلّية مثل الرحمة واليسر، وللأحكام مقاصد جزئية؛ فحينما أوجبت الشريعة الاستئذان عند دخول البيوت المسكونة غير المملوكة للإنسان؛ كان من مقاصد ذلك: حفظ العورات، ولئلّا يقع نظر القادم على ما لا يُحبُّ صاحب البيت أن يُطلع عليه، وقد جاء في الحديث: (إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر)[1].
ومعرفة المقاصد تُعين الداعية والمفتي والمتصدِّر للشأن الإسلامي العام في وظيفته المنوطة به شرعًا، كما أنَّ الخروج عن مقاصد الشريعة يؤدّي إلى خللٍ في الفتوى وفي تطبيق الأحكام، وتَضعُفُ ثمرةُ العمل بها.
والخروج عن المقاصد يكون بأحد وجهين:
- إهمال المقاصد: وحينها يكون توضيح علم المقاصد وتطبيق قواعده وأسسه حاجة ملحّة للعلماء في مواجهة التعصّب الذي يؤدّي إلى مناقضة القصد من تشريع الأحكام، وضروريًّا لتجنّب الوقوف المجرّد عند ظواهر النصوص.
- الغلو في تقرير المقاصد: وذلك من خلال تحميل المقاصد ما لا تحتمله تنظيرًا وتطبيقًا، ومن آثاره: ظهور فتاوى تناقض المبادئ والمسلّمات الشرعية للإسلام؛ باقتحام مجالها دون ضوابط ممن ليس أهلاً لذلك.
والوجه الثاني هو ما سيتناوله هذا المقال.
معرفة المقاصد تُعين الداعية والمفتي والمتصدِّر للشأن العام في وظيفته المنوطة به شرعًا، كما أنَّ الخروج عن مقاصد الشريعة يؤدّي إلى خللٍ في الفتوى وفي تطبيق الأحكام، وتَضعُفُ ثمرةُ العمل بها
المقصود بالغلو في المقاصد:
الغلوُّ في مقاصد الشريعة: هو مُجاوزة المعايير والضوابط والحدود التي اتَّفق عليها أهلُ العلم لتقرير الأحكام الشرعية بزعم أنّها من مقاصد الشريعة.
وهذا الغلوُّ يستخدمُه أهل الأهواء في بثّ سمومهم والطعنِ في المسلّمات الشرعية والكلّيات المتّفق عليها.
وقد أدّت ظاهرة الغلو -سواء في فهم مقاصد الشريعة الإسلامية ودعوى تجديدها أو في مجالات تطبيقها- إلى الانحراف الفكري الظاهر في هذا الزمان، ومن مظاهرها: دعوى تطوير النظر في مقاصد الشريعة شكلاً ومضمونًا، والخلل في فهم غائية الشريعة والتأثر بالواقع، والجموح إلى التغيير دون ربط التغيير بالضوابط والقواعد المقاصدية.
أسباب الغلو في فهم مقاصد الشريعة:
السبب الأول: سلوك سُبُل غير علمية بدعوى تطوير النظر في مقاصد الشرعية:
أ. الأثر من حيث المضمون:
أدّى هذا -من حيث المضمون- إلى تأويل المقاصد، والشطط في فهمها، والتعدّي على ثوابت شرعية لا تحتمل هذا التأويل، ومن الأمثلة على ذلك:
- في مقصد حفظ الدين: ذكر أهل العلم أنَّ مراعاة حفظ الدين في جانب العدم[2] تكون بما يدرأ عنه الاختلال الواقع أو المتوقع فيه كما ذكر ذلك الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات[3]، وكذلك في ردّ كل ما يخالف الدين من الأقوال والأفعال، ومن الأحكام التي تندرج تحت ذلك: قتال الكفار والذود عن حمى الإسلام، وإقامة الحدّ على المرتدّ عن الإسلام حتى لا يُفتح الباب للعبث بدين الله.
ومن الغلو في هذا الباب: تعظيم الحديث عن مقصد الحرّية، وما ينتج عنه من الدعوة إلى إلغاء حدّ الردّة والطعن في أدلّته بدعوى مخالفته لتحقيق مقصد الحرّية؛ في حين أنّ دعواهم هذه في الحقيقة تناقض مقصد حفظ الدين، فحدّ الردّة جاء لحفظ الدين من الزوال والاختلال، وشُرع لضمان عدم التلاعب بالدين، قال ﷺ: (من بدل دينه فاقتلوه)[4]، فقتلُ المرتدّ يمنع شره، ويزجرُ غيره.
والغلو في اعتبار مقصد الحرّية ممن زعم تطوير المقاصد يؤدّي إلى السماح لغير المسلمين بالدعوة لدينهم بين المسلمين؛ فهي في حقيقتها دعوة للردّة في بلاد المسلمين، انطلاقًا من مقصد الحرّية الدينية كما يزعمون، ومن باب المعاملة بالمثل؛ لأنهم يسمحون للمسلمين في بلاد غير المسلمين بالدعوة لدينهم!
من صور الغلو في المقاصد تعظيم الحديث عن مقصد الحرّية، وما ينتج عنه من الدعوة إلى إلغاء حدّ الردّة والطعن في أدلّته؛ لأنَّ هذه الدعوة في الحقيقة تناقض مقصد حفظ الدين، فحدّ الردّة جاء لحفظ الدين من الزوال والاختلال
2. وفي مقصد حفظ المال: فإنّ حفظ المال من جانب العدم يكون بالدفاع عنه بدفع الصائل، وإقامة الحدِّ على السُرّاق، جاء في فتح الباري: «صان ﷲ الأموال بإيجاب قطع يدِ سارقها، وخصّ السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب، ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها، وشدّد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر»[5]. بينما اقتصر من أخذ بدعوى تطوير المقاصد بمجرّد حفظ المال بالتنمية الاقتصادية وتطوير المال دون اعتبار لهذه المسائل.
ب. الأثر من حيث العدد:
كما أدّى -من حيث العدد- إلى الزيادة في المقاصد الضرورية دون ضوابط: فقد مشى عامّة العلماء المتقدّمين على القول بمقاصد خمسة ضرورية وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «اتفقت الأمّة -بل سائر الملل- على أنَّ الشريعة وُضعت للمحافظة على هذه الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل»[6].
وقد ظهرت الدعوة إلى إضافة مقاصد جديدة إلى هذه الخمسة مراعاةً (لمبادئ الإنسانية) دون النظر إلى اعتبارها الشرعي من استقراء الأدلّة والنظر في أحكام الشريعة، كالدعوة إلى إدخال مبادئ مثل الحرية والإخاء والمساواة والتكافل وحقوق الإنسان، إلى أن زادها بعضهم عن عشرين مقصدًا.
بينما يرى البعض أنّه لا يمكن ادّعاء الحصر في مقاصد الشريعة، فالمقاصد كالمسائل لا يمكن حصرها، وأضافوا عناوين مفتوحة وجعلوها مقاصد مثل: السلام العالمي، والتقدّم الاقتصادي، والبحث العلمي، والحقوق الدستورية، وحفظ وتطوير الكرامة والرفاهية، والعلم والإبداع والاستقلالية والتطور والمساواة والحرّية والعدالة والأخوّة والحبّ والتضامن والتنوّع؛ وفيما يخص علاقة الإنسان بغيره أضافوا مبادئ مثل: الصحّة والذكاء والإنجاب والعمل والانتماء والجيرة، أمّا المقاصد المتعلِّقة بالمجتمع فمنها: حفظ وتطوير سيادة القانون والاستقلال والشورى والتعدّدية والتطور والثقافات والأديان والتراث.
وهذا الغلو في الزيادة على الكليات الخمس إلى غيرها دون اعتبار الضوابط الشرعية[7] أدّى إلى لون من الانحراف الفكري استغلّه أصحاب الهوى وأتباع المذاهب الحداثية لمحاولة التغيير في مسلّمات الشرع.
إنّ الزيادة على المقاصد الخمسة لا تكون بمجرّد الرأي والتشهّي ومراعاة التوجّهات الدولية دون تحقّق شروط اعتبارها مقصدًا.
يقول ابن عاشور رحمه الله: «فعليه – الباحث في مقاصد الشريعة – أن لا يعيّن مقصدًا شرعيًا إلا بعد استقراء تصرُّفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم، وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع»[8].
ومن أمثلة الزيادة غير المنضبطة في المقاصد: ما ذكره بعضهم من أنّ ربا البنوك ينبغي أن يكون حلالاً بدعوى مقصد حفظ الدولة؛ فالدولة هي التي تطرح استثمار المال وتعطي نصيبًا محدّدًا للأفراد لاستمرار بقاء الدولة؛ فينبغي تجويزه.
لكن هذا الطرح يخالف مُحرَّمًا تحريمًا قطعيًا ألا وهو الربا، سواء كان من خلال الدولة أو من الأفراد، كما أنّه يناقض مقصدًا شرعيًّا كلّيًا معتبرًا في المحافظة على المال من خلال تحريم الربا، ثم إن بقاء الدولة ليس مقصدًا مستقلاً حتى يُضاف إلى المقاصد الضرورية.
الغلو في الزيادة على الكليات الخمس دون اعتبار الضوابط الشرعية أدّى إلى لون من الانحراف الفكري استغلّه أصحاب الهوى وأتباع المذاهب الحداثية لمحاولة التغيير في مسلّمات الشرع
السبب الثاني: الخلل في فهم الغائية في مقاصد الشريعة:
فالشريعة مغيّاة بمعنى أنَّ أحكامها لها علل وليست عبثًا، وهذا مقتضى الحكمة الإلهية؛ فاسم الله (الحكيم) يقتضي أنّ شرعه سبحانه بِمُجمَله وتفصيلاته لا يخلو من غاية، وقد تظهر الغاية من التشريع جليّة بالنصّ، فحرمة شرب الخمر لإسكارها العقل، وعلّة تحريم الخمر الإسكار، ومقصد تحريم الخمر درء المفسدة عن العقل.
وقد تخفى الغاية من تشريع الأحكام أو العبادات فتحتاج إلى بحث واستنباط، وقد تبقى خفيّة وإن اجتهد الناس في استنباط الحِكمة منها، لكن تبقى غاية التعبّد لله تعالى بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه؛ فحين قال الفقهاء مثلاً: إنّ حكمة العدَّة هي براءة الرحم، لم يجوِّزوا زواج المعتدَّة في عدّتها حتى لو استيقنت براءة الرحم بالتحاليل الدقيقة والأجهزة الحديثة؛ لأنَّ الأصل في هذا الحكم التعبدُ لا التعقّل، فلا تكون الحكمة المظنونة هنا مقصدًا، قال الشاطبي: «فإنّا نعلم أنّ الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك لتمييز النكاح عن السفاح، وأنّ فروض المواريث ترتّبت على ترتيب القربى من الميت، وأنّ العِدَد والاستبراءات المرادُ بها استبراء الرحم خوفًا من اختلاط المياه، ولكنّها أمور جُملية … لا يُقضى بصحة القياس على الأصل فيها؛ بحيث يقال: إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أُخر مثلاً لم تشترط تلك الشروط، ومتى عُلم براءة الرحم لم تُشرع العدَّة بالأقراء ولا بالأشهر، ولا ما أشبه ذلك»[9].
فمن الغلوّ في فهم الغاية هنا: الاقتصار في العدّة على مقصد استبراء الرحم، والاستعاضة عن القروء أو الأشهر بالفحوصات الطبية!
فالعدّة من المحكمات لا يصحّ الاجتهاد في عدد أيّامها، قال القرافي: «العِدَّةُ يَغلبُ عليها شائبةُ التعبُّدِ من حيث الجملةُ وإن كانت معقولةَ المعنى من حيثُ الجملةُ؛ لأنَّها شُرِعَت لبراءةِ الرَّحِمِ وعدمِ اختلاطِ الأنسابِ؛ فمِن هذا الوجهِ هي معقولةُ المعنى، ومن جهةِ أنَّ العِدَّةَ تجِبُ في الوفاةِ على بنتِ المهدِ، وتجبُ في الطلاقِ والوفاةِ على الكبيرةِ المعلومِ براءتُها بسَبَبِ الغَيبةِ وغيرِها: هذه شائبةُ التعبُّدِ، فلمَّا كان في العِدَّةِ شائبةُ التعبُّدِ وجب فِعلُها بعد سَبَبِها مُطلقًا في جميع الصُّوَرِ؛ عُلِمَت البراءةُ أم لا»[10].
أثر الغلو في استنباط حكم العبادات:
ظاهرة التكلُّف في البحث عن حكمة لكلّ عبادة للإقناع بالالتزام بها نوعٌ من الانحراف، ففي حين كان مفهوم التعبّد لله تعالى كافيًا لحثِّ الناس على الالتزام بالعبادات، أصبح الالتزام -مع هذا الانحراف الفكري- بحاجة إلى إثباتٍ عقليٍّ لأهمية كلّ عبادة للمجتمع والحياة، وقد انتشرت هذه الظاهرة بين عوام الناس.
قد تظهر الغاية من تشريع العبادات بالنص أو الاستنباط؛ وقد تبقى خفيّة، فتبقى غاية التعبّد لله تعالى مطلبًا بحد ذاته، ومن الغلو في المقاصد تكلُّف علل وحِكم واضحة ومنطقية لجميع الأحكام بحيث يستطيع العقل البشري الحديث أن يفهمها بما يضيِّق من مساحة التعبُّد المحض
فالخلل في التوسُّع في إعمال مقاصد الشريعة من خلال إلغاء أو تقليص مجال التعبّد في الشريعة بحيث تصير الأحكام جميعها مبنيةً على عللٍ واضحة ومنطقية يستطيع العقل البشري الحديث أن يفهمها؛ بحيث لا يستلزم الأمر الإلهي الطاعة المطلقة بنفسه من دون فهم وتعليل أو تسويغ هو انحراف فكري مبني على الغلو في فهم المقاصد.
والأصل أنّ العبادة توقيفية تدور مع النص، وإن كان للعبادات غايات توخّاها الشرع، لكنّ هذه الغايات إن تخلّف العلم بها لا يتخلّف الحكم، إذ لا قياس في العبادات؛ فتارك الصلاة لا يصحّ أن يحتج لتركها بأنّها لم تنهه عن الفحشاء والمنكر، ومانع الزكاة لا يصحّ أن يحتجّ أنّه لم يشعر بنماء ماله بعد الزكاة!
فوظيفة الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥]، وليس معنى ذلك أنّ من فعل مُنكرًا بعد صلاته فقد بطلت، جاء في تفسير السعدي للآية: «ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: أنّ العبد المقيم لها، المتمِّمَ لأركانها وشروطها وخشوعها؛ يستنير قلبه، ويتطهّر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقلّ أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها»[11].
السبب الثالث: الغلو في المقاصد تحت تأثير ضغط الواقع:
فوقوع الشرّ وعموم البلوى به يؤثر على الدعوة إلى مدافعته، من خلال إدراج صور من المقاصد لا تندرج تحته أصلاً.
فلا يخفى أنّ الواقع في كثير من البلدان الإسلامية يغلب عليه الاستبداد وسلب الحريات، أو إهمال مبدأ الشورى وإحلال نُظُم مفروضة باسم الديمقراطية؛ فالسعي لمدافعة هذا الشرّ مع التأثّر بالواقع قد يوقع في الغلوّ في فهم المقاصد.
من ذلك على سبيل المثال: محاولة استخدام المقاصد للحدِّ من سلطات القائمين على الدولة من خلال إضافة «حرّية التعبير وحرية الانتماء السياسي»، و«الحقّ في انتخاب الحاكمين وتغييرهم» إلى مقاصد الشريعة! وهذا ناتج عن تأثير واقع الاضطهاد والقهر والظلم الذي يعيشه البعض؛ فيرى الحاجة ماسّةً إلى التأكيد على مفهوم الحرية على أنه مقصدٌ من مقاصد الشريعة!
لكنّ الحرية ومقاومة الظلم والاستبداد -وإن كانت مطلبًا من مطالب الشريعة[12]– لكنّها ليست مقصدًا يضاف إلى المقاصد الضرورية.
ومن آثار ضغط الواقع أحيانًا: الغلو إلى حدّ التناقض في إدراج حكمين متناقضين بالنظر إلى جهة معتبرة في المقاصد، فالفطرة مثلاً مصدرٌ من المصادر التي توصل إلى مقاصد الشريعة، لكن قد يوجد قولان متناقضان في اعتبارها في مسألة واحدة.
من الأمثلة على ذلك: اعتبار الفطرة في تحقيق مقاصد الشريعة في مشاركة المرأة في المناصب العليا من جهة وفي قيامها على شؤون الأسرة من جهة أخرى.
حيث يرى البعض أنّ اندماج المرأة في الحياة السياسية من خلال مشاركتها في الشورى من وسائل تحقيق المقاصد الشرعية للإسلام؛ لأنّ الشورى فطرة وسنّة اجتماعية وأداة لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية.
في حين يرى آخرون عدم مشاركة المرأة في الشورى، لأنّ خروجها من البيت لهذا الغرض يتنافى مع فطرتها التي تتطلَّب بقاءها في البيت، ورعايتها لأسرتها وأطفالها، وبما أنّ هذا منافٍ للفطرة فهو متناقضٌ مع مقاصد الشريعة.
والأصل اتِّساق الأحكام مع المقاصد، فلا تتناقض في الحكم الواحد وُجهاتُ النظر لاعتبارِ مقصدٍ شرعيٍّ واحد.
من الغلو في المقاصد الرضوخ لضغط الواقع؛ من خلال إقرار مقاصد ليست من المقاصد الضرورية للشريعة وإن كانت مطلبًا لها، كإضافة «حرّية التعبير وحرية الانتماء السياسي»، و«الحقّ في انتخاب الحاكمين وتغييرهم»، بسبب الاضطهاد والقهر والظلم في واقعنا الحالي
السبب الرابع: الغلوّ في اعتبار مراتب مقاصد الشريعة:
من أسباب الغلوّ في فهم مقاصد الشريعة: الخلل في اعتبار مراتب المقاصد الكلّية المتّفق عليها، وتقديم المقاصد الجزئية على المقاصد الكلّية، وإغفال النصّ الوارد في بعض الجزئيات إعمالاً لمقصد كلّي.
أ. الخلل في ترتيب المقاصد الكلية الخمسة:
اختلف العلماء في ترتيب مقاصد الشريعة الخمسة من حيث الأهمية، ومعظم العلماء على ترتيبها بحيث لا يتقدم أحد هذه الضروريات على الآخر، وهي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وبهذا الترتيب ينتظم أمر المقاصد وتتوافق مع اهتمام الشرع، وتقديم الأولى بالاعتبار على غيره، والخلل ينشأ من تقديم ما حقّه التأخير في الرتبة اعتباطًا من غير نظر فيما قدّمه الشرع من المقاصد على غيره.
ومن الأمثلة على ذلك: تجويزُ مشاركةِ الطلاب المسلمين في شعائر غير المسلمين في بعض الدول؛ للحفاظ على العقل المتمثِّل في طلب العلم في المدارس. وفي هذا تقديمُ حفظِ العقلِ بالتعليمِ على حفظِ الدينِ بتجنّبِ هذه المدارس أو تجنّب القيام بهذه الأنشطة والشعائر المخالفة للإسلام.
ب. الاعتماد على الكلي وإغفال الجزئي:
ومن صور الخلل الفكري في فهم المقاصد: الاعتماد على المقاصد الكلية والضرورية للشريعة وإغفال المقاصد الجزئية المستثناة التي ورد بها النصّ؛ مما يجعلها خارج نطاق القصد الكلي المستمدّ من الاستقراء؛ لأنّ المقاصد الكلية أُخذت بالاستقراء من مقاصد الأحكام الجزئية، مع ملاحظة استثناء ما ورد فيه النص الذي لا يحتمل المعنى الكلي.
من ذلك: مَنْ قال بتساوي المرأة مع الرجل في الميراث انطلاقًا مِن زعم تاريخيّة نزول الحكم زمن التشريع، حيث قالوا: إنّ التفرقة في الميراث كان مناسبًا للمرحلة الزمنية التي نزل بها النصّ، لأنّ المرأة كانت لا تُعطى شيئًا في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأعطاها نصف الذكر، فزعم أنّ هذا المعنى مقصود زمن التشريع، أمّا بعد ذلك فالنص تعليم لنا وإشارة أن نعطيها في المستقبل مثل حظ الذكر!
وهذا الانحراف نتج عن النظر في تقديم الكلّي مطلقًا وهو هنا «المساواة» على الجزئي وهو هنا الاختلاف في مقدار الميراث ولو لم يشترك معه في المقصد، والقاعدة المقاصدية التي ذكرها الشاطبي تتضمن من حيث المعنى: «أنّ سكوت الشارع عن أمر مع وجود داعي الكلامِ يدلُّ على قصده إلى الوقوف عند حدّ ما شُرع، فلا يتعدّاه»[13].
والأجزاء مرتبطة بالكلّ، والكلُّ يشهد للأجزاء، وهو ما يوضحه الشاطبي بقوله: «فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلّي: أن لا يتخلّف الكلّي فتتخلّف مصلحته المقصودة بالتشريع … فلا بدّ من صحّة القصد إلى حصول الجزئيات، وليس البعض في ذلك أولى من البعض، فانحتم القصد إلى الجميع وهو المطلوب… لا بدّ من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلّياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طَلْقهم في مرامي الاجتهاد»[14].
ومعنى ذلك: أنّ الكلي تندرج تحته كلّ الجزئيات مع ضرورة اعتبار الجزئيات ودخولها تحت ذلك الكلي من كلّ الوجوه، فإذا انخرم وجه من وجوه الاعتبار لا يندرج حينئذ تحت ذلك الكلي؛ مثل: المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسَّلَم[15] وأشباه ذلك، فهذه لا تندرج تحت الكلي لاستثنائها بالنص، وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد فيقتص منهم جميعًا وليس من واحدٍ منهم.
وهذا كلّه يؤكّد لنا أنّ المطلوب المحافظة على قصد الشارع، لأنّ الكلّي إنّما ترجع حقيقته إلى ذلك، والجزئي كذلك أيضًا، فلا بدّ من اعتبارهما في كلّ مسألة.
ج. إغفال النصّ الوارد في بعض الجزئيات إعمالاً لمقصد كلّي:
ومن الغلوّ في هذا الجانب: ما زعمه بعضهم أنّ تطبيق الشريعة يعني إعمال الرحمة في كل شيء -وهو مطلب كلي- لأنّ القرآن يقوم على منهج الرحمة، وما دامت الرحمة هي المنهج، فتحريم الربا وهو جزئي في الإسلام شُرع رحمة بالمدين، فقد تغير الحال ولم يعد الأمر كما كان استغلالاً لحاجة المدين، فربا البنوك الحكومية لم يعد يشبه الربا السابق، وإنّما هو نظام لحساب الفوائد على الديون في مجتمع يقوم فيه المشرّع بدور الرقابة على المعاملات، ويحدّد الفائدة بحيث لا تغني الدائن ولا تستغل المدين، فتتحقق الرحمة بزعمهم!
وهذا الانحراف الفكري مبني على تغليب النظر في المقاصد العامّة وإغفال النصّ في المقاصد الجزئية فلا تندرج تحت الأعلى رتبة، فالنصّ القطعي في تحريم الربا ومقصده المحافظة على المال لا يُعارَض بالكلي من دعوى الرحمة التي جاء بها الإسلام.
المقاصد ليست كلمة تُقال أو شعارًا يُرفع وإنّما هي مبدأ أصولي له ضوابطه ومعاييره التي تحكمه حتى لا تصبح سببًا للانحراف الفكري والتعدّي على المسلّمات الشرعية، ونقض أصول الإسلام، وجعل الأحكام عرضة للعبث بيد كل صاحب هوى
السبب الخامس: وَهْمُ مواكبة الحداثة والميل إلى تقديم العقل:
فمن الغلوّ ما زعمه الحداثيون أنّ الحجاب لم يعُد ملائمًا للعصر، ولا لمكانة المرأة وتحرّرها واقتحامها لكافّة مجالات الحياة العامّة من مدراس وجامعات ومعامل وإدارات وتجارات؛ لأنَّ هذا الحجاب يعوق حركة المرأة ويعرقل مصالحها التي لا تتعارض مع مقاصد الشريعة! وتطبيق مقصد حفظ النسل[16] والذي من لوازمه فرض الحجاب عليها لا يتّفق في هذا الزمان مع معطيات العصر.
وهذا الخلل في التطبيق مردود؛ فإنّ من صفات المقاصد الاطراد في الأزمنة كلّها والأمكنة كلّها؛ لأنّها كلّيات، والكلّيات يشترط فيها هذا المعنى، فلا تأثير لما يسمّى مواكبة العصر في تطبيق مقاصد الشريعة. يقول الطاهر بن عاشور: «المقصود بالاطِّراد: أن لا يكون المعنى مختلفًا باختلاف الأقطار والقبائل والأعصار»[17].
وكذلك من زعم أنّ المقصود من تذكية الذبيحة تعقيمُها من الجراثيم، فيقوم مقامَ التذكية التعقيمُ بالمواد والأدوات الحديثة!
وهذا الانحراف في الفكر تحت مُسمّى مواكبة العصر هو في حقيقته متصادم مع مفهوم المقاصد ويتماشى مع الميل للأهواء، والرُّزوح تحت مظلّة التبعية للفكر الغربي بدوافعَ غير مستقيمة.
يقول الشاطبي: «… أَنَّ كلَّ عمل كان المتَّبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير؛ فهو باطل بإطلاق؛ لأنّه لا بدَّ للعمل من حامل يُحمل عليه، وداعٍ يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطلٌ بِإِطلاقٍ؛ لأنَّه خِلاف الحقِّ بِإِطلاقٍ»[18].
وختامًا:
إنّ المقاصد ليست كلمة تُقال أو شعارًا يُرفع وإنّما هي مبدأ أصولي له ضوابطه ومعاييره التي تحكمه حتى لا تصبح سببًا للانحراف الفكري والتعدّي على المسلّمات الشرعية، ونقض أصول الإسلام، وجعل الأحكام عرضة للعبث بيد كلِّ صاحب هوىً حسب هواه.
[1] صحيح البخاري (٦٢٤١)، صحيح مسلم (٢١٥٦).
[2] حفظ الدين يكون بجانبين: الإيجاد ويكون بإثبات ما يقيمه ويرسّخ أسسه وقواعده. والعدم ويكون بنفي كل ما يخالفه وينقضه.
[3] الموافقات، للشاطبي (٢/٦).
[4] أخرجه البخاري (٣٠١٧).
[5] فتح الباري (١٢/٩٨).
[6] الموافقات، للشاطبي (١/٣١).
[7] مثل أن تكون المقاصد: ضرورية، وكلية، وقطعية، ومطلقة، وعامة، ودائمة، وثابتة، وظاهرة، ومنضبطة، ومُطَّرِدَة.
[8] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص (١٣٨).
[9] الموافقات، للشاطبي (٢/٥٢٥).
[10] الفروق، للقرافي (٣/٢٠٤).
[11] تفسير السعدي، ص (٦٣٢).
[12] قال محمد الطاهر بن عاشور عن الحرية: «إنّها خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق» أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص (١٦٢).
[13] الموافقات، للشاطبي (٢/٤٠٩-٤١٤).
[14] الموافقات (٢/٩٦).
[15] العرايا: بيع الرطب على رؤوس النخل بتمر، أو العنب في الشجر بزبيب. والقراض: هي المضاربة، وهي أن تعطي إنسانًا من مالك ما يتاجر فيه على أن يكون الربح بينكما، والمساقاة: دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء من ثمره. والسَلَم: هو بيع آجل بعاجل.
[16] وحفظ النسل يتضمّن: حفظ العورة، ودرء الفتنة، والوقاية من الفاحشة، ومن طرق تحقيق ذلك: الحجاب.
[17] مقاصد الشريعة، لابن عاشور، ص (٢٥٣).
[18] الموافقات، للشاطبي (٢/٢٩٥).
د. جمال الفرّا
خطيب وداعية.