مدخل:
عانت البشرية على مرّ التاريخ من أدواءٍ اجتماعية كثيرة، كان من أبرزها وأخطرها: العنصريّة، والتي تسبّبت بكوارث ثقافية واجتماعية، وسامَت أصنافًا من البشر سوءَ العذاب. وعلى الرغم من التقدّم العلمي الهائل في العصر الحديث وما يعيشه العالم من انفتاح ثقافي كبير؛ إلّا أنّ الممارسات العنصريّة لم تتوقَّف، بل ازدادت، وجرّت على البشرية الكثير من الويلات.
المقصود بالعنصرية:
العنصريّة مجموعة من الأفكار والسلوكيات التي ترفع وتُعلي من قيمة فئةٍ من البشر وتغضّ من قيمة الآخرين، بناءً على عناصر موروثة مرتبطة بالعرق، أو الطبائع، أو الجنس، أو لون البشرة، أو مكان السكن، أو اللغة، أو الدين، ونحو ذلك.
وتصل إلى حدّ تقديسِ الفئة العنصرية لنفسها، ومنحِها جميع الحقوق والسلطات، وازدراءِ الآخرين واحتقارِهم، وسلبِهم حقوقهم، والتسلّطِ عليهم، واستعبادِهم.
جذور العنصريّة في التاريخ:
أوّل عنصريّة وقعت في التاريخ هي عنصرية إبليس، الذي ظنّ أنّ أصل خَلْقِه (عُنْصُرِه) أفضل من أصل آدم، فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]، وكان الدافع لعنصريّته: خُلقان ذميمان: الكِبْرُ، والذي يدفع إلى احتقار الآخرين والترفّع عنهم ورفض قبول الحقّ منهم، قال ﷺ: (الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النّاسِ)[1]. والآخر: الحسدُ، قال ابن الجوزي: «والحسد أخسُّ الطَّبائع، وأوَّل معصيةٍ عُصي اللهُ بها في السَّماء: حسَدُ إبليس لآدمَ، وفي الأرضِ: حَسَدُ قابيلَ لهابيل»[2].
أوّل عنصريّة وقعت في التاريخ هي عنصرية إبليس، الذي ظنّ أنّ أصل خَلْقِه (عُنْصُرِه) أفضل من أصل آدم، وكان الدافع لعنصريّته: خُلقان ذميمان من أسوأ الأخلاق، وهما: الكِبْرُ الحسدُ.
ولعلّ من أشدّ ما عَرَف العالَم من عنصريّات:
العنصريّة الهندوسية، التي تقسّم الناس إلى طبقاتٍ على أساس ديني واقتصادي واجتماعي، طبقة تضفي عليها هالةً من القداسة والتأليه، وطبقة تجعلها في عداد البهائم والحيوانات، وبينهما طبقات متفاوتة.
وعنصريّة اليونان التي قسّمت الناس إلى طبقة سادة مفكّرين يحكمون ويتحكّمون، وينحصر حقّ الممارسة السياسية “الديمقراطية” بهم، وطبقة عبيدٍ عاملين ليس لهم تلك الحقوق.
كما ظهر في العديد من الشعوب والمجتمعات التمييز بين الأشخاص ذوي الأصل القَبلي، وبين مَن لا يُعرف أو يُحفظ له أصل قبائلي أو عشائري.
ومن أبشع أشكال العنصرية المعاصرة: التمييز بين البيض والسود، وما بُني عليه من تفريق في الحقوق ومنها الحقّ في الحياة!
حرَّف بنو إسرائيل تفضيل الله لهم من كونه تفضيلاً بالهداية للحق وإرسال الرسل فيهم، إلى اعتقادهم أنّه تفضيل دائمٌ لجنسهم، وزعمهم أنّه لن يدخُل الجنة غيرهم، وادّعاءهم أنّهم شعب الله المختار، وأنّ لهم إلهًا خاصًا بهم، وأنّ الأمم الأخرى ليست بشرًا وأنهم جعلوا على هيئة بشر مؤانسة لهم
أسباب العنصريّة:
تتنوّع الأسباب التي تقف خلف القناعات والسلوكيات العنصريّة، والتي ترجع لأصل واحد وهو اعتقاد الأفضليّة في النفس والدونية في الغير، ويمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي:
1- الحسد والحقد:
كما وقع من إبليس حينما حَسَد آدمَ عليه السلام الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، فرفض السجود له، وكما وقع من قابيل الذي حسد أخاه هابيل على قَبول قربانه فقتله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ [المائدة: 27].
2- الضلال في فهم التفضيل الشرعي:
كما وقع من بني إسرائيل، فقد حرَّفوا تفضيل الله لهم: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:47] من كونه تفضيلاً بالهداية للحق وإرسال الرسل فيهم، إلى اعتقادهم أنّه تفضيل دائمٌ لجنسهم، فقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]. وتبع هذا التحريف زعمهم أنّه لن يدخُل الجنة غيرهم، ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111].
وزادوا بأن ادّعوا أنّهم شعب الله المختار، وأنّ لهم إلهًا خاصًا بهم، وأنّ الأمم الأخرى ليست بشرًا وإنّما جعلها الله على هيئة بشر مؤانسة لهم، وغيرها كثير!![3]
وقد ظهرت العنصريّة الدينية عند غالب الشعوب الذين خَصّوا أنفسهم بآلهة أو عباداتٍ ومنعوا غيرهم منها، فقد ميَّزت قريش في الجاهلية نفسها عن سائر الحجّاج فلم تقف في عرفة في الحج، وقالوا: نحن أهل الله في بلدته وقُطّان بيته. وكانوا يُحلّون ويُحرّمون على حسب أهوائهم، ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ [الأنعام: 139].
3- التفاخر بالأعراق والأنساب:
حيث يعتقد العنصريّ أنّ عرقه أو جنسه أو نسب عائلته هو الأفضل، فيستعلي به ويحتقر الآخرين، ويمنع الزواج منهم أو مصاهرتهم.
4- التفاخر بالفروقات الاجتماعيّة:
فالبشر مختلفون بطبيعتهم في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وربما اللغوي أو الحضاري، وكثيرًا ما يقع أن يغترَّ صاحب المكانة الزائدة فيفخر على مَن دونه ويحقره ويزدريه.
5- التربية الخاطئة:
التي تزرع في نفس المتربّي الاستعلاء على الآخرين والفخر عليهم، فيرث من والديه العنصريين عنصريَّتهم واستعلاءهم ونظرتهم الدونية للآخرين.
6- الأهداف السياسية:
والتي كثرت في العصر الحالي؛ حيث يسعى بعض الزعماء والقادة للوصول إلى كرسي الحكم أو بناء مجدهم عن طريق دغدغة العواطف وإثارة النعرات والتخوّفات العنصريّة؛ لكسب أصوات الناخبين، أو للتغطية على جوانب ضعفهم أو إخفاقاتهم، مما يؤدّي لارتفاع العنصريّة بين عامّة الناس، سواء ضد عِرْقٍ من مواطني الدولة، أو ضد غير المواطنين المقيمين على أرضها.
7- العنصريّة العلمية:
والتي تقوم على أدلّة مزعومة تؤكّد انقسام الجنس البشري إلى مجموعات متميّزة أو متفوّقة بيولوجيًا، وأخرى دونية. وغالب هذه “الأدلّة” يستند إلى “نظرية التطوّر” وتطبيقاتها على الإنسان، والتي تزعم أنّ بعض البشر متطوّر أكثر من غيره في الإمكانات العقلية والنفسية والجسمية. وقد شاعت هذه العنصريّة خلال القرن السابع عشر واستمرّت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت الأساس الذي بُنيت عليه الحضارة الغربية المعاصرة..
وكثيرًا ما تتداخل هذه الأسباب أو تتعاضد، وقد يوجد لدى شخص من الأشخاص أو شعب من الشعوب عددٌ منها يدعم بعضها بعضًا؛ فيزيد من حدّة العنصريّة وشراستها.
يسعى بعض الزعماء للوصول إلى كرسي الحكم عن طريق إثارة النعرات والتخوّفات العنصريّة؛ لكسب أصوات الناخبين، أو للتغطية على جوانب ضعفهم أو إخفاقاتهم، مما يؤدّي لارتفاع العنصريّة بين عامّة الناس، سواء ضد عِرْقٍ من مواطني الدولة، أو ضد غير المواطنين المقيمين على أرضها
مظاهر العنصريّة:
مما يميّز العنصريّ أنّ قلبه مليء بالعُجب بالنفس، والتكبّر، واعتقاد استحقاق التكريم والخدمة من الآخرين؛ لذا تصدر عنه عدد من التصرُّفات، منها:
1- الكراهية، وتظهر في شكل عداوة تجاه الأشخاص أو المجموعات، وقد يعبّر عنها باللفظ، أو الإيماء واللَّمز، أو الكتابة والفنون، أو الحركات، أو الأفعال وغيرها، وربّما تنشر هذه الكراهية وتذاع عبر وسائل الإعلام.
2- الإيذاء اللفظي، بالسبِّ أو الشتم والاحتقار والنعت بما يؤذي أو يصنّف، بسبب اللون، أو العرق، أو اللغة أو اللهجة، ونحو ذلك.
3- الظلم، بتجاوز الإيذاء إلى الفعل من خلال التعدّي على الحقوق وانتهاكها، وقد تصل إلى القتل. فالعنصريّ يرى أنّ الطرف الآخر ليس له حقوق؛ فيعمد إلى التعدي عليها وانتهاكها، أو مصادرتها.
العنصريّة المعاصرة:
ورثت الأمم المعاصرة الثقافة العنصريّة عن الأمم السابقة بشِقّيها الديني والاجتماعي، وسخّرتها لصالحها، وضمّنتها سياساتها وأنظمتها، وأقامت تعاملاتها على أساسها.
فعندما بدأت أوروبا تلمُّس طريق النهضة كان أوّل ما بدأت به النظرة الدونية لسائر شعوب الأرض وثقافاتها وأديانها، فانطلقت البعوث الجغرافية والحملات العسكرية بهدف السيطرة على مقدّرات الأمم الأخرى واستغلالها، فوقع أسوأ ما عرفته البشرية من عنصرية، ومن ذلك:
– احتلالُ مساحات واسعة من العالم، وإخضاعها بالممارسات الإجرامية التي أهلكت الحرث والنسل.
– نهبُ خيراتها ومواردها والاستيلاء عليها دون حق.
– العملُ على تغيير هويتها بقوّة السلاح، سواء بمحاولة تنصير أهل تلك البلاد أو فرض لغتهم عليهم.
– اضطهاد الشعوب الذي وصل إلى حدّ الاستعباد.
كما ازدادت حدّة التمييز العنصريّ على أساس اللون؛ بسبب كثرة الداخلين للدين النصراني من السكان الأصليين للمستعمرات، حيث لم يعد الدين كافيًا لتمييز الأوروبيين الغازين عنهم، فظهر التمييز باللون!
آثار العنصريّة على المجتمعات:
للعنصرية آثار خطيرة لا تقتصر على الفرد الذي تُمارس عليه، بل تمتد آثارها للشخص العنصريّ ذاته، وللمجتمع بأكمله:
فأمّا آثارها على الفرد العنصريّ: فهي إفساد عقله وتفكيره وفطرته، وإيقاعه في الظلم.
وأمّا آثارها على مَن تقع عليه: فالعنصريّة ظلم، وحرمان من الحقوق، فضلاً عمّا تحمله من كراهية وعداوة بناء على أمور لا اختيار للإنسان في أكثرها كالعِرق واللون والنسب ونحوها، مما يؤدّي إلى تهميشه، وإشعاره بالدونية أو الخوف، والاعتداء عليه، وقد تصل إلى قتله أو تهجيره.
وأمّا آثارها على المجتمعات عمومًا: وقوع التشرذم والانقسام إلى جماعات متناحرة متخاصمة، وتفكّك المجتمع وتمزّقه، وتقويض دعائمه وأُسسه، وبالتأكيد فإنّ مجتمعًا كهذا لن يكون مجتمعًا قادرًا على تحقيق النهضة، أو بناء الحضارة، بل سيغلب عليه توقّف التنمية، وظهور الفقر والمرض والجهل، وسيكون مجتمعًا استبداديًا، وربما تندلع فيه الحروب الطاحنة، وهذا مُؤذن بالخراب والدمار.
كيف عالج الإسلام العنصريّة؟
وضع الإسلام علاجًا شاملاً متكاملاً للعنصريّة يشمل جميع الجوانب والأسباب، ومن ذلك:
أوّلاً: إعلان مبدأ التساوي في أصل الخَلق:
فقد قرّر الإسلام أنَّ البشر متساوون في أصل الخَلق، لا تفاضُل ولا تمايز بينهم في ذلك، فلا عِرق أشرف من عرق، ولا جنس أرقى من جنس؛ أصلهم واحد من تراب، وأبوهم واحد هو آدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13] وقال ﷺ: (كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ)[4]، وبذلك قضى على خرافة التفوق العرقي العنصرية.
ثانيًا: جعل الاختلاف في الأعراق والخصائص الاجتماعية والاقتصادية مجالاً للتنوّع والإثراء:
فالاختلاف بين الشعوب في الأنساب، والألوان، والألسُن، والخصائص الاجتماعية، والتفاوت الاقتصادي والحضاري ونحوها؛ إنّما هو للتعاوُن بين الشعوب وتبادل المصالح والمنافع، وهي مجالٌ خصب للتنوّع المحمود، وإثراء الحياة، وليست للتفاضل أو تمييز الأعلى أو إهانة الأدنى، قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32][5].
ثالثًا: إعلان وحدة مبدأ العبودية لله تعالى:
فجميع البشر مخاطبون بخطاب عبودية واحد، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21] يؤمنون بإله واحد، ومطالبون بتأدية شعائر واحدة، فلا اختصاص لبعضهم بإلهٍ أو معبودٍ يستعْلون به على بقيّة البشر كما يزعم اليهود في (يهوه)، ولا تشريعات عنصرية كما زعم الجاهليون: ﴿مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ [الأنعام: 139].
وتتجلّى هذه الوحدة في التشريعات الإسلامية: حيث لا فرق بين غنيٍّ ولا فقيرٍ، ولا حاكم ولا محكوم، ولا عربي ولا أعجمي، يقف جميعهم في صفٍّ واحدٍ في الصلاة، وعلى صعيدٍ واحدٍ في الحج، ويُطالَبون بذات الشعائر والعبادات، ويُدفنون في المقابر ذاتها وبالهيئة نفسها.
في الإسلام لا يتفاضل الناس إلا بالتقوى، وبها ارتقى قدر بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه، وعلا شأنه في الإسلام حتى بُشِّر بالجنة، وانحطَّ قدر أبي لهب الذي كان من سادات قريش، حتى نزلت سورة باسمه تُبكِّته وتهينه إلى يوم الدين، وخُلِّد في النار
رابعًا: جعل التفاضل قائمًا على العمل الأخروي:
فمجال التفاضل الوحيد الذي أقرّه الإسلام هو مقدار عبودية الإنسان لربّه تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وقال ﷺ: (يا أيها النّاسُ، ألا إنَّ رَبَّكُم واحِدٌ، وإنَّ أباكُم واحِدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعربيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لِعَجَمِيٍّ على عَرَبيٍّ، ولا أَحْمَرَ على أَسْوَدَ، ولا أَسْوَدَ على أَحْمَرَ، إلّا بِالتَّقوَى)[6].
وبذلك ارتقى قدر بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه، وعلا شأنه في الإسلام حتى بُشِّر بالجنة، وانحطَّ قدر أبي لهب الذي كان من سادات قريش، حتى نزلت سورة باسمه تُبكِّته وتهينه إلى يوم الدين، وخُلِّد في النار.
وبما أنَّ هذه العبودية مرجعها إلى الله تعالى، فإنّ الحكم بها وتقييمها ليس إلى البشر، بل هي لله تعالى، كما قال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32].
خامسًا: الأمر بالعدل وإعطاء الحقوق:
لما كانت العنصريّة تقوم على إنكار حقوق الآخرين وظلمهم؛ فإنّ أهمّ ركائز علاجها: الأمر بأداء الحقوق، والعدل مع الآخرين، ولا سيما الضعفاء منهم، فعن المعرور بن سويد قال: رأيتُ أبا ذَرٍّ وعليه حُلَّةٌ، وعلى غُلامِهِ مِثلُها، فسألتُهُ عن ذلك، فَذَكَرَ أنَّهُ سَابَّ رَجُلاً على عَهدِ رسول الله ﷺ، فَعَيَّرَهُ بأُمِّهِ، قال: فأتَى الرجلُ النبيَّ ﷺ، فذكر ذلك له، فقال النبيُّ ﷺ: (إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِلِيَّةٌ، إخوانُكُم وخَوَلُكُم، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُم، فمَن كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممّا يأكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممّا يَلْبَسُ، ولا تُكَلِّفوهُم ما يَغْلِبُهُم، فإن كَلَّفْتُمُوهُم فأعِينُوهُم عليه)[7]. وقال تعالى في الآية الجامعة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: 90].
سادسًا: المساواة أمام التشريع (القانون) وفي العقوبات:
خاطبت الشريعة جميع الناس بالتكليفات والتشريعات على قدم المساواة، لم تفرّق بينهم أو تُفاضل أو تميّز في هذا الخطاب، ومن فرعيات هذا الخطاب: المساواة بينهم في إيقاع العقوبة على المخطئ والمسيء، وعدم المحاباة لذوي المال والمنصب والجاه، كما قال ﷺ: (فإنما أهْلَكَ الناسَ قبلَكُم: أنَّهُم كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفسُ محمدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لَقَطَعتُ يَدَها)[8].
سابعًا: طرح البديل الصحيح في التعامل:
والمتمثّل في الأخوة بين المسلمين، والعلاقات الإيجابية مع سائر الناس، القائمة على التعاون على الخير والبرّ والصالح العام، دون تنقّص من اللون أو الشكل أو الأصل أو المستوى الاجتماعي، وقد أرسى النبي ﷺ عباراتٍ وقواعد يُستشهد بها في المواقف والمبادئ والدساتير، مثل قوله: (المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ، … بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ، دمُهُ ومالُهُ وعِرضُهُ)[9].
ثامنًا: التحذير من العنصرية:
أعلن الإسلام نموذجه المتميز للمجتمعات، ومن أهم معالمه تحريم الظلم في الدماء والأموال والأعراض، والتحذير من العصبيات الجاهلية والتفاخر بالأنساب، ولعل خطبة الرسول ﷺ في حَجّة الوداع هي من أجمع هذه التشريعات، ومما جاء فيها: (أيها الناس، إن دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانةٌ فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها… أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيبِ نفسٍ منه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضُكم رقابَ بعضٍ، فإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؛ كتابَ الله. أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلُّكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد)[10].
تاسعًا: الدعوة إلى رفض الظلم:
أوجب الإسلام على سائر المسلمين مناصرة المظلوم ومنع الظلم عنه، كما قال ﷺ: (انصُر أخاكَ ظالِمًا أو مَظلُومًا). فقال رَجُلٌ: يا رسول الله، أَنْصُرُهُ إذا كان مَظلُومًا، أَفَرَأيتَ إِذا كانَ ظالِمًا كَيفَ أَنْصُرُهُ؟ قال: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلمِ فَإِنَّ ذلكَ نَصْرُهُ)[11].
كما شرع للمظلوم ألا يستكين لمن ظلمه، وأن يرفض ما يقع عليه، وأعطاه الحق في أن ينتصر لنفسه بقدر ما ظُلِم؛ قال الله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148]، وقيل في بعض الآثار: (يعجبني الرجل إذا سِيمَ خُطة ضَيْمٍ قال: لا. بملئ فِيهِ).
عاشرًا: التحذير من عاقبة الظلم:
فالعنصريّة من أشد أنواع الظلم، وقد حذر الشرع الظالمَ من عاقبة ظلمه، قال ﷺ: (إِنَّ الناسَ إِذا رَأَوا الظالِمَ فَلَم يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقابٍ مِنهُ)[12]، والظلم من أعظم أسباب زوال الأمم وانهيار الدول، قال ﷺ: (إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِته)، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102][13].
وقال ابن تيمية: «فإنَّ الناس لم يتنازعوا في أنَّ عاقبةَ الظلمِ وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: اللهُ يَنْصُرُ الدولَةَ العادِلَةَ وَإِنْ كانَتْ كافِرَةً ولا يَنْصُرُ الدولَةَ الظالِمَةَ وَإِنْ كانَتْ مُؤْمِنَةً»[14].
ولا شكَّ أن “الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن” فعلى الحكومات والأنظمة واجب شرعي، ومسؤولية أخلاقية وقانونية في ردع الظَلَمة، وسنِّ القوانين والعقوبات التي تحدّ من أثر هذا الظلم، وقد أقرت العديد من الدول الحديثة عقوباتٍ رادعة لمرتكبي جريمة العنصريّة.
«فإنَّ الناس لم يتنازعوا في أنَّ عاقبةَ الظلمِ وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: اللهُ يَنْصُرُ الدولَةَ العادِلَةَ وَإِنْ كانَتْ كافِرَةً ولا يَنْصُرُ الدولَةَ الظالِمَةَ وَإِنْ كانَتْ مُؤْمِنَةً»
ابن تيمية
وختامًا:
للتربية أعظم الدور والأثر في التعامل مع العنصريّة وتخفيف آثارها، من خلال تربية النفوس وتهذيبها، وتقوية الوازع الديني الذي يمنع من ازدراء الآخرين وظلمهم والتكبّر عليهم، وزرع القيم والأخلاق في قلوب الناشئة وتدريبهم عليها.
كما أنّ للتربية أثرًا كبيرًا في توجيه مَن يقع عليهم ظلم العنصريين نحو رفض الظلم وعدم الاستكانة له، وعلاج آثار العنصريّة التي قد تصيب الأفراد والمجتمعات من خطر الانطواء، أو احتقار الذات، أو التنكّر للأصل بسبب الخوف من العنصريين، ونحو ذلك.
واليوم مع صعود الخطاب القومي والمتطرّف في العديد من الدول فإنّ الكثير من المظلومين في العالم يشعرون بوطأة العنصريّة عليهم، وهذا أحد أنواع الابتلاء التي تحتاج إلى صبر ولجوء لله تعالى، وتتطلَّب حسن التعامل معها ومع آثارها بكلِّ السبل القانونية والاجتماعية والتربوية المتاحة؛ لمنع ظلم العنصريين وتفادي شرورهم، ودعم المظلومين وإنصافهم.
وإذا أردنا بناء مجتمعات متحضِّرةٍ مزدهرةٍ خاليةٍ من شُرور العنصريّة فلا سبيل إلى ذلك إلا بالنهل من مورد الإسلام العذب، قال سعيد النُّورسي: «إن شجرة الإسلام ترسّخت جذورُها، وبثَّت عروقها في ثنايا الكون كلّه، وهذه الشجرة العظيمة لا يمكن غرسها في تراب العنصريّة الموهومة المشحونة بالأعراض الظالمة المظلمة، وإنّ ملّة الإسلام الدائمة الأبدية لا ترتبط بالعنصريّة ولا تلقح بلقاحاتها»[15].
والله من وراء القصد.
[1] أخرجه مسلم (91)، (بَطَرُ الحق): دَفعُه وإنكارُه، (غَمْطُ الناسِ): احتقارُهم.
[2] زاد المسير (4/509).
[3] يعدّ التلمود من أكثر الكتب عنصرية في تاريخ البشرية، وقد قُدّمت عدّة دراسات عنه في هذا الجانب، منها: كتاب: “العنصريّة اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي”، لأحمد الزغيبي. وبحث: “العنصريّة اليهودية، أسبابها وآثارها”، لأحمد صباح الخير سعيد، مجلة البحوث والدراسات الإسلامية، جامعة أم درمان. ومقال: “العنصريّة الصهيونية وفلسفة التربية اليهودية”، لعبد القادر فارس، مجلة رؤية، العدد (9)، حزيران/ 2001م.
[4] سيرة ابن إسحاق، ص (98).
[5] معنى قوله تعالى: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ أي: “ليستخدم بعضهم بعضًا؛ فيسخّر الأغنياء بأموالهم الأُجَراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قوام أمر العالم”، تفسير البغوي (4/159).
[6] أخرجه أحمد (23489).
[7] متّفق عليه: أخرجه البخاري (2545)، ومسلم (1661).
ومعنى (خَوَلكم): قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): الخَوَل -بفتح المعجمة والواو- هم الخدم، سُمُّوا بذلك لأنهم يتخولون الأمور أي يصلحونها، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان.
[8] أخرجه البخاري (4304).
[9] أخرجه مسلم (2564).
[10] أجزاء هذه الخطبة مروية في عدة مصادر، ينظر مثلاً: صحيح البخاري (121)، صحيح مسلم (1218)، مسند أحمد (23489)، المستدرك (318)، سيرة ابن هشام (2/603)، سيرة ابن إسحاق، ص (98)، أخبار مكة (2/121)، وغيرها.
[11] أخرجه البخاري (6952).
[12] أخرجه الترمذي (2168).
[13] أخرجه البخاري (4686).
[14] الحسبة في الإسلام، ص (7).
[15] بحث “مفهوم العنصريّة ومرتكزات علاجها في كليات رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي” للباحث عماد عبدالله الشريفين، مجلة جامعة الشارقة، المجلد 10، العدد 2، صفر 1435هـ، ديسمبر 2013م.