حضارة وفكر

العمل التطوعي في ميزان القرآن والسنة

العمل التطوعي في ميزان القرآن والسنة

أنزل الله تعالى الإسلام دين رحمة وتعاون، وحثّ عباده على التسابق إلى مغفرته ورضوانه فشرع لهم بذلك أبوابًا للمسابقة إلى الخير، ومن أهمّها العمل التطوعي، مبدأ إسلاميًا أصيلاً. ويأتي هذا المقال للإسهام في الكشف عن هذا المبدأ، وبيان أهم ضوابطه ومحدّداته، مبرزًا بعض المعيقات في طريق العمل التطوعي، وبعض السبل لتطويره والمضي به نحو الأفضل في وقتنا المعاصر.

المقصود بالعمل التطوعي:

التطوع لغة: مشتقٌّ من الطوَّع، وهو نَقيض الكُره. يقال طاعه ويطوعه وطاوعه[1]، وفي التنزيل قال الله تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ [البقرة: ١٨٤].

التطوع في الاصطلاح: هو ما تبرّع به الشخص من أعمال الخير من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه[2].

وصار مصطلح التطوع إذا طرح تتبادر إلى الذهن معانٍ من قَبيل العمل الإغاثي والإنساني والخيري، وهذا يعني أنّه صار يتّسع ليشمل كل جهدٍ -مالي أو جسدي أو فكري- يبذله الشخص اختيارًا بكامل إرادته، بهدف جلب المصالح للغير أو درء المفاسد عنه، دون انتظار أجر مادي أو معنوي مقابل جهده المبذول.

ضوابط العمل التطوعي:

إنّ قبول التطوع أو رده في ظلّ الشريعة الإسلامية رهين بمجموعة من الضوابط التي لا يصدق على العمل اسم التطوع من الناحية الشرعية إلا بتوفرها، ومن هذه الضوابط يلي:

  1. إخلاص النية: فيشترط فيمن يقوم بالعمل التطوعي أن يكون مخلصًا في عمله حتى يُكتب أجره عند الله؛ فلا ينوي به الحصول على منصب أو مكافأة أو مكانة اجتماعية، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: ١١]، قال ابن القيم رحمه الله: «فأمّا النيّة فهي رأس الأمر وعموده، وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، ويصحّ بصحّتها، ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة»[3].
  2. الإرادة الحرة: بأن يكون العمل صادرًا عن طيب نفس لا يخالجه تردّد؛ لأنّها من المعروف والسّخاء[4]، فلا يجوز الإجبار على القيام بعمل وعدّه تطوعًا، كعدم إعطائهم أجرة، أو إضافة أعمال أو ساعات عمل للموظفين دون رضاهم؛ لأنّ الأصل في أموال الناس وجهودهم احترامها، فلا يحلّ لأحد مال غيره أو جهده إلا عن طيب نفس منه، مصداقًا لقول النبي ﷺ: (ولا يحلُّ لامرئ من مالِ أخيه إلا ما طابت به نفسه)[5].
  3. طيب الأصل المتبرع به: فالله تعالى طيّب لا يقبل إلا الطيب، فسواء أكان الأصل المتبرّع به مالاً أو عينًا أو جهدًا، فيجب أن يكون حلالاً طيبًا غير خبيث، والمجال المبذول فيه الجهد حلال وجائز قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٥]. فالآية تُبيّن أنّ الإنفاق يجب أن يكون خيرًا، ولا يكون خيرًا إن كان خبيثًا: «فقوله تعالى: (مِن خير) إشارة إلى أن ما يُنفق يجب أن يكون طيبًا لا خبيثًا، إذ لفظ الخير يدل على ذلك ويرمز إليه»[6].
  4. الالتزام وتحمّل المسؤولية، والإتقان: فالعمل التطوعي في أصله تبرّع، لكن متى ما دخل فيه صاحبه وجب عليه الالتزام به وتحمّل مسؤوليته حتى يتمّه على أكمل وجه، أو يعتذر عنه بما لا يُخلّ به أو يضرّ بالمتطوّع له فردًا كان أو مؤسسة، قال رسول الله ﷺ: (إن الله تعالى يحبُّ إذا عَمِلَ أحدكم عملاً أن يُتقِنَهُ)[7]، ومن صور عدم الالتزام نقض العهود والمواثيق والإخلاف بالوعد بعد الالتزام به.

من شروط التطوع أن يكون صادرًا عن طيب نفس لا يخالجه تردّد؛ فلا يجوز الإجبار على عمل وعدّه تطوعًا، كعدم إعطاء العامل أجره، أو إضافة أعمال أو ساعات للموظفين ومطالبتهم بالاحتساب

العمل التطوعي في الكتاب والسنة:

دلَّت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة على فضل ومشروعية العمل التطوعي:

فمن القرآن الكريم:

جاءت آيات كثيرة دالة على مشروعية العمل التطوعي، ومن ذلك:

قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٧]، وقوله: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة: ١٨٣].

فقد أخبر تعالى في الآية الأولى أنّه شاكرٌ لفعل المتطوع عالمٌ بالقائم به حتى يتيقّن كلّ من عمل خيرًا أنّ الله تعالى يعلمه ويشكره على عمله. والمراد تطوَّع خيرًا في سائر العبادات. حكاه فخر الدين الرازي وعزاه إلى الحسن البصري[8]. وفي الآية الثانية يذكر عز وجل أنّ التطوّعَ فيه خير لفاعله. فالتطوع في شتى مجالات العبادات والقُرَبِ والصدقات خير للإنسان وخير للأمة جميعًا.

أمثلة عملية للتطوُّع في القرآن الكريم:

حفل القرآن الكريم بالأمثلة على العمل التطوعي، مما يدل على فضله وأهميته في بناء مجتمع متكافل قائم على التراحم والتضامن، ومن ذلك:

  1. التطوع بإطعام الطعام، قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ٨-٩]، قال ابن العربي: «في الآيات تنبيه على المواساة؛ ومن أفضل المواساة وضعها في هذه الأصناف الثلاثة … دون توقع مكافأة، أو شكر من المعطي»[9].
  2. التطوع بالشفاعة للآخرين في أمور الخير، قال تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ [النساء: ٨٥]. «فمن شفَّع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم- كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَن عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان»[10].
  3. ما ذكره الله تعالى عن بعض رسله وعباده الصالحين من قيامهم بأعمال التطوع مثل:
    • تطوّع موسى عليه السلام بالسقي للمرأتين اللتين كانتا تنتظران حياء حتى ينتهي الرجال، فسقى لهما دون أن يسألاه ذلك، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ٢٣ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 23-٢٤]، قال السعدي: «﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ غير طالبٍ منهما الأجرة، ولا له قصد غير وجه الله تعالى»[11].
    • تطوع ذي القرنين لحماية الضعفاء، ببناء السد بغير أجر: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ٩٤ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ [الكهف: ٩٤-٩٥].
    • تطوع الخضر في مساعدة الناس وحفظ حقوقهم: كما قصَّ الله علينا قصته في آيات عديدة من سورة الكهف مع موسى عليهما السلام.

التطوع من أخلاق الأنبياء والصالحين، فقد تطوع موسى عليه السلام للسقاية للفتاتين، وتطوع ذو القرنين لحماية الضعفاء، وتطوع الخضر لحفظ مال اليتامى من الضياع

التطوّع في السنة النبوية:

وردت أحاديث كثيرة في السنة النبوية تدل على مشروعية عموم فعل الخير والإحسان للناس، والعمل التطوعي، ومن ذلك:

قال عليه الصلاة والسلام: (تَرى المؤمنينَ في تراحُمهم، وتوادّهم، وتعاطُفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تَداعَى له سائر جسده بالسَّهرِ والحُمَّى)[12]. فالتكافل والتلاحم، والتعاطف بين أفراد المجتمع أمر مطلوب، حتى يعيشَ الفرد في كفالة الجماعة، وتعيشَ الجماعة بمؤازرة الفرد؛ تحقيقًا لمجتمع تسود فيه المحبة والأخوة.

وقال ﷺ: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُه بعضًا، ثمّ شبّك بين أصابعه)[13]. حيث أكّد النبي ﷺ على قوة الترابط بين المؤمنين فشبَّههم بالبناء المتماسك. والتشبيك بين الأصابع بيانٌ لوجه التشبيه، أي يشدّ بعضهم بعضًا مثل هذا الشدّ، قاله ابن حجر[14]. ومعلوم أن العمل التطوعي بين الأفراد يسهم في تقوية البناء.

وقال ﷺ: (واللهُ في عونِ العبدِ ما كانَ العبد في عَون أخيه)[15]. وقال أيضًا: (السَّاعي على الأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ في سبيلِ الله)[16]. وقال: (من نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَب الدنيا نفّس الله عنه كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سَتَرَ مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة)[17].

أمثلة عملية للأعمال التطوعية من السنة النبوية:

  1. التطوع ببناء المساجد وعمارتها:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قدم النبي ﷺ المدينة… وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ من بني النجار فقال: يا بني النجار ثامِنُوني بِحائِطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلّا إلى الله. فقال أنس: … فَصَفّوا النَّخل قِبلة المسجد، وجعلوا عَضادَتيه الحجارةَ، وجعلوا ينقلونَ الصَّخرَ وهم يرتَجِزون، والنبي ﷺ معهم، وهو يقول: اللهمَّ لا خيرَ إلا خيرُ الآخره، فاغفر للأنصار والمهاجره)[18].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد ففقدها رسول الله ﷺ فسأل عنها بعد أيام فقيل له: إنها ماتت، فقال: أفلا كنتم آذَنتُموني بها، دُلُّوني على قبرها فأتى قبرها فصلى عليها)[19].

فالتبرّع بالأرض لبناء المسجد، والمشاركة في بنائه، والقيام بخدمته ونظافته كلّها من أعمال التطوّع.

  • مواساة الأرامل والمساكين:

عن أبي هريرة t قال: قال النبي ﷺ: (السَّاعي على الأرملةِ والمسكين، كالمجاهدِ في سبيلِ الله، أو القائمِ الليلَ الصائمِ النهارَ)[20]. وقد كان النبي ﷺ يُواسي أم سُليم –أخت أم حرام، وكانتا خالتين له محرمين إما من رضاع أو نسب- فعن أنسٍ t: أن النبي ﷺ لم يكن يدخل بيتًا بالمدينة غير بيت أم سليم إلا على أزواجه، فقيل له، فقال: (إني أرحمها، قُتل أخوها معي)[21].

فوائد العمل التطوعي في الإسلام:

يحقق العمل التطوعي عددًا من الفوائد أهمها ما يلي:

أ. الفوائد الشخصية:

  • تحصيل الأجر والثواب من الله تعالى: قال رسول الله ﷺ: (في كل ِّكبدٍ رَطبة أجر)[22]، وقال: (ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيّب -ولا يقبلُ الله إلا الطيِّب- إلا أخذها الرحمن بِيمينه، وإن كانت تمرة، تربو في كفِّ الرحمن حتى تكونَ أعظم من الجبل، كما يُربِّي أحدكم فُلُوه أو فَصِيله)[23].
  • مغفرة الذنوب: العمل التطوعي من أعظم الأبواب للتكفير عن الذنوب، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: ٧]. ويقول النبي ﷺ: (إنَّ الصدقةَ لَتُطفئُ غضب الرَّب)[24].
  • زيادة الإيمان والارتقاء في مراتب البر والإحسان: فبقدر انخراط المسلم في العمل التطوعي والإسهام فيه يزداد إيمانه، وتصفو نفسه، ومن ثم ترتفع درجة الأخلاق لديه، فيصبح مثله الأعلى من الوجهة الإحسانية أن يكون ضمن الجماعة التي تنفق في سبيل الله مما تحب: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٩٢].
  • استمرار النفع والأجر بعد الموت: لا سيما إن كان العمل التطوعي ممتدّ الأثر كالصدقة الجارية، فقد صحّ عنه ﷺ أنه قال: (إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عمله إلا من ثلاثةٍ: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)[25]. أو الوقف، فالوقف عمل تطوعي وهو من أدوم الصدقات؛ لأن الأصل فيه البقاء، وهو تحبيس الأصل وبقاؤه مع تسبيل الثمرة والانتفاع بها.
  • استغلال الأوقات فيما يفيد: فالمسلم الساعي لنيل رضوان الله ليس لديه وقت فراغ أبدًا، فإن وجد سعة في الوقت بعد قيامه بما يجب عليه؛ فإنّه يستغلّه في أعمال التطوّع فيفيد نفسه وغيره، قال ﷺ في وصيته لأبي هريرة t: (احرِص على ما يَنْفَعُكَ)[26].
  • الصحة النفسية والجسدية، وتيسير الأمور: وهذا معروف ومشاهد عند من يبذلون أوقاتهم في فعل الخير ومساعدة الناس، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]، والحياة الطيبة في الدنيا، قال ابن كثير: «والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت»[27]، وقد قال النبي ﷺ لرجل: (أتُحبُّ أن يَلِينَ قلبُك؟ قال: نعم، قال: فأَدْنِ اليَتيمَ إليك، وامسح برأسِهِ، وأطعمهُ من طعامكَ، فإن ذلكَ يُلَيِّنُ قلبَكَ، وتَقدِرُ على حاجَتِكَ)[28].

بقدر انخراط المسلم في العمل التطوعي والإسهام فيه يزداد إيمانه، وتصفو نفسه، ومن ثم ترتفع درجة أخلاقه، فيصبح مثله الأعلى من الوجهة الإحسانية أن يكون ضمن الجماعة التي تنفق في سبيل الله مما تحب

ب. الفوائد الاجتماعية:

  • غرس الشعور بالأخوّة: يهدف العمل التطوعي إلى غرس الشعور بالأخوة بين المؤمنين، فالأخوّة في الله رابطة توجد بين شخصين أو أكثر بمجرد اشتراكهما في الانتماء إلى المنهج الرباني، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: ١١]. كما جعل من الأخوة العلاقة الوحيدة بين المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]. وقال رسول الله ﷺ: (أنا شهيدٌ أنَّ العباد كلهم إخوة)[29].
  • غرس الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية: فالفرد مسؤول عن نفسه، ثم عن الآخرين الأقرب فالأقرب، وفي الحديث: (اِبدأ بِنفسك فتصدَّق عليها، فإنْ فَضَلَ شيء فَلأهلِك، فإن فضَلَ عن أهلك شيء فَلِذي قرابتك، فإن فَضَلَ عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)[30].

وتجسيدًا لمضامين هذه المسؤولية فقد نهى النبي ﷺ أن يبيت المؤمن شبعان وجاره جائع (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)[31]، كما جسد المسؤولية الجماعية حينما قال : (أيما أهل عَرْصَةٍ ظلّ فيهم امرؤٌ جائع، فقد برئت منهم ذمَّة الله)[32]. وقد همّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يجعل في عام الرمادة مع كل أهل بيتٍ عندهم طعامٌ مثلَهم من الفقراء ليطعموهم، وقال: (لن يَهلَك أحد على نصف شَبَعِه)[33].

ج- الفوائد الاقتصادية:

  • تحرير المعاملات من الاستغلال: فالقرض مثلاً هو نوع من الأعمال الخيرية التي حثّنا عليها ديننا الإسلامي، وقد حرّم الإسلام أخذ الفائدة على القرض واعتبره من الربا المحرّم، وهذا مما لا شك فيه ينمي روح الإخاء والتعاطف بين أفراد المجتمع، ويقضي على الأحقاد بينهم.
  • القضاء على البطالة: من الفوائد الاقتصادية المهمة تحريك عجلة الاقتصاد عن طريق تفجير المواهب والطاقات في صفوف الشباب والعاطلين عن العمل بمساعدتهم برؤوس أموال صغيرة لتأسيس مشاريع تنموية مربحة تمكنهم من النفقة على أنفسهم وعلى أسرهم، وفي نفس الوقت تسهم في النهوض بالاقتصاد، وقد كان النبي ﷺ سباقًا لهذه المبادرة الطيبة ففي الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً من الأنصار أتى النبي ﷺ يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حِلْسٌ نَلبَس بعضَه ونبسط بعضَه، وقَعْبٌ نشرب فيه الماء. قال: اِئتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله ﷺ بيده وقال: من يشتري هذين؟. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري وقال: اِشتَرِ بأحدهما طعامًا فانبِذْهُ إلى أهلك، واشتر بالآخر قُدُّومًا فائتني به، فأتاه به، فشدّ فيه رسول الله عودًا بيده، ثم قال: اذهب فاحتَطِب وَبِع، ولا أَرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا، ففعل. فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وبعضها طعامًا. فقال رسول الله ﷺ: (هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نُكتةً في وجهك يوم القيامة)[34].
  • الصمود في وجه الأزمات الاقتصادية: وقد مدح النبي ﷺ الأشعريين بقوله: (إنَّ الأشعريينَ إذا أَرمَلوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسَموه بينهم في إناءٍ واحد بالسَّوية، فهم مني وأنا منهم)[35].
  • تخفيف العبء عن المنظمات الإنسانية والمجتمعية: فإنّها مهما بلغت من القوة والتوسّع فلن تستطيع أن تفي باحتياجات جميع الفقراء والمساكين ولا سيما في وقت الأزمات كالحروب والكوارث.

يعتقد البعض أنّ النية الطيبة وحدها كافية للنهوض بالعمل التطوعي والرقي به نحو الأفضل، وهذا ليس صحيحًا فعلى المستوى المؤسسي لا بد من التنظيم والتخطيط الاستراتيجي، من أجل الاستثمار الأمثل للموارد، والسير الراشد نحو الأهداف

عقبات في طريق العمل التطوعي:

قد يواجه العمل التطوعي عقبات تحدُّ من فاعليته، بما في ذلك:

  1. غياب الوعي الكافي بأهمية العمل التطوعي، وبالتالي: العزوف عن الانخراط فيه.
  2. ضعف الوعي المجتمعي في التعامل مع المتطوع، فيشعر المتطوع باستغلال تطوعه لأهداف شخصية لبعض المسؤولين.
  3. الحاجة المادية التي تفرض على الكثيرين السعي للعمل المأجور والإعراض عن العمل التطوعي، أو تستهلك جميع أوقاتهم فلا يبقى للتطوع وقت ذو بال.
  4. السعي من خلال العمل التطوعي لتحقيق مصالح ومكاسب شخصية.
  5. العشوائية وضعف التخطيط والتنظيم لدى كثير من المؤسسات والمنظمات التطوعية، إضافة لغياب العمل وفق الأولويات، ومشروعات التنمية المستدامة.
  6. ضعف تأهيل القائمين على العمل الخيري التطوعي.
  7. محاربة الأنظمة والحكومات المستبدَّة للعمل الخيري وتجفيف منابعه.

سبل تطوير العمل التطوعي:

كي ينجح العمل التطوعي في تحقيق أهدافه ينبغي العناية بتطويره والارتقاء به قصد المضي فيه وقطف ثماره على المستوى الفردي والمجتمعي، ومن هذه السبل:

  • ترسيخ وتصحيح ثقافة العمل الخيري:

بنشر الوعي بمكانة العمل التطوعي وأهميته في النهوض بالمجتمعات، من خلال عقد مؤتمرات وندوات وملتقيات علمية هادفة، مع نشر الأبحاث والدراسات في ذلك، إلى جانب تصحيح مفهوم العمل التطوعي العام، الذي لا يشترط فيه أن يكون ضمن مؤسسة أو في مجالات معينة، بل توسيع المفهوم ليشمل أي معروف أو إحسان بما في ذلك إماطة الأذى عن الطريق، وإرشاد التائه، وسقاية الحيوان العطشان، وهذه الوجوه بهذا الأفق الواسع تدخل في آثار تنمية المجتمع ورُقِيِّه إذا تحول إلى ثقافة عامة، وكان الجميع يخدم الجميع ويسعى لكمال المجتمع.

  • التوعية بأهمية تجديد النية:

فالعناية بمقصد (نية) المتطوِّع يساعد على تعزيز الدافعية لديه، وشحذ عزيمته، كما أنه ينمِّي الرقابة الذاتية لدى المتطوعين بشكل عام؛ على اعتبار أنهم يعملون لوجه الله وابتغاء ما عنده، وتحرير مقصد المتطوعين من قصد عدسات الإعلام وشبكات التواصل إلا ما كان من باب تحفيز الآخرين.

  • التخطيط والتنظيم:

يعتقد البعض أنّ النية الطيبة وحدها كافية للنهوض بالعمل التطوعي والرقي به نحو الأفضل، لكن لكي تنجح أي مؤسسة أو منظمة تطوعية لابد أن تعتمد على التخطيط الاستراتيجي والتنظيم.

فالتخطيط يمكّن المؤسسة التطوعية من تحديد الأهداف، ثم تحقيقها.

  • التدريب:

فهو: «نقل معرفة ومهارات محدّدة وقابلة للقياس»[36]. ويفيد في تنمية كفاءات المتطوعين، وتمكينهم من إتقان عملهم وبالتالي حبّهم له ورغبتهم في الاستمرار فيه، كما أنّه يجذب المزيد من المتطوعين للعمل.

  • التحفيز:

مما لا شك فيه أن تشجيع الإنسان وتحفيزه لعمل الخير -وخصوصًا إذا كان عملاً تطوعيًّا- له أهمية كبيرة في قيام هذ العمل وتطويره واستمراره، ومما يدل على أهمية التحفيز في تطوير العمل التطوعي ما يلي:

  • أنّه وسيلة لإتقان العمل.
  • أنّه السبيل نحو الإبداع والتجديد والابتكار.
  • يعتبر أداة التطوير والتغيير.
  • يشحذ همم العاملين في القطاع الخيري التطوعي لبذل المجهود المضاعف.

خاتمة:

مجالاتُ إعمار الأرض كثيرة ومتنوعة، وحاجاتُ الناس ومشكلاتُهم كبيرة ومتجددة، والأحداث في العالم عصيبة ومتلاحقة؛ وهذا يستدعي من العاملين لخير أمّتهم ومجتمعاتهم الجدّ في العمل التطوعي، والاستمرار فيه لأقصى درجة وعدم التأخر والتراخي عنه مهما اشتدّت الظروف، وتطويره وتنظيمه ليواكب الأحوال والظروف ويحدّ من المصاعب والكروب. وليعود -أيضًا- بالخير على المتطوعين زيادةً في إيمانهم، ورفعةً لدرجاتهم، وصفاءً لنفوسهم، وسعادةً في حياتهم، وبركة في أنفسهم وأزواجهم وذرياتهم وأموالهم.


[1] لسان العرب، لابن منظور (٤/٦٢٥).

[2] لسان العرب (٤/٦٢٦).

[3] إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية (٤/٢٥٢).

[4] مقاصد الشريعة، للطاهر بن عاشور، ص (١٨٨).

[5] أخرجه أحمد (١٥٤٨٨).

[6] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، لأبي بكر الجزائري (/١٩٥).

[7] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٤٩٣١).

[8] تفسير ابن كثير، (٢/٢٣٢).

[9] أحكام القرآن، لابن العربي (٤/٣٥٣-٣٥٤).

[10] تفسير السعدي، ص (١٩١).

[11] تفسير السعدي، ص (٦١٤).

[12] أخرجه البخاري (٦٠١١).

[13] أخرجه البخاري (٢٤٤٦).

[14] فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر (١٠/٣٨١).

[15] أخرجه مسلم (٢٦٩٩).

[16] أخرجه البخاري (٥٣٥٣).

[17] أخرجه مسلم (٢٦٩٩).

[18] أخرجه البخاري (٤٢٨). ومسلم (٥٢٤).

[19] أخرجه البخاري (٤٥٨)، و(تَقُمُّ): أي: تكنس المسجد، وتزيل عنه الأذى والقذى.

[20] أخرجه البخاري (٥٣٥٣).

[21] أخرجه البخاري (٢٨٤٤).

[22] أخرجه البخاري (٢٣٦٣).

[23] أخرجه مسلم (١٠١٤). الفُلُوّ (بضم الأول والثاني وتشديد الواو): ولد الفرس. والفَصيل: ولد الناقة عندما يستغني عن الرضاع، فيقبل الانفصال عن أمه.

[24] أخرجه الترمذي (٦٦٤).

[25] أخرجه مسلم (١٦٣١).

[26] أخرجه مسلم (٢٦٦٤).

[27] تفسير ابن كثير (٤/٦٠١).

[28] أخرجه عبد الرزاق (٢١٠٩٦).

[29] أخرجه أبو داود (١٥٠٨).

[30] أخرجه مسلم (٩٩٧).

[31] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (١١٢).

[32] أخرجه ابن أبي شيبة (٢٠٣٩٦)، والمقصود (بالعَرْصَة): أهل الحي والمكان.

[33] الطبقات الكبرى، لابن سعد (٣/٢٩٤): عن ابن عمر، أن عمر قال: «لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أُدخل على كل أهل بيت عِدَّتَهم فيقاسمونهم أنصافَ بطونهم حتى يأتي الله بِحَيًا فعلت، فإنهم لن يهلكوا عن أنصاف بطونهم».

[34] أخرجه أبو داود (١٦٤١).

[35] أخرجه البخاري (٢٤٨٦) ومسلم (٢٥٠٠).

[36] ينظر: تأصيل نشاط التدريب من منظور إسلامي وطبيعة المعرفة في الصناعة المالية الإسلامية، أحمد محمد محمود نصار، ص (٥).


د. مصطفى بوهبوه

حاصل على الدكتوراه في الفقه والأصول – المغرب، وللكاتب عدة مواد في الموضوع، منها كتاب “العمل الخيري التطوعي أصوله وأبعاده”.


لتحميل المقال اضغط [هنا]

X