نسمع بين الفينة والأخرى عبارات من قبيل (العلم لا يعجزه شيء) و(عصر سيطرة العلم)، وفي المقابل هناك فئات من الناس تنظر للمجتمع العلمي بعدائية شديدة ويربطونه بالمؤامرات الساعية للسيطرة على البشر والقضاء عليهم، وبين هذه الثنائية المتناقضة ثمة أدوات للتعامل مع المعلومات تمحيصًا وتدقيقًا، وهذه الأدوات تمنحنا الواقعية والاعتدال الذي نحتاجه لاستيعاب الأمور والعيش ضمن مساحة التوازن الضرورية للإنتاج ومواصلة الحياة
مدخل:
نعيش اليوم في عصرٍ مختلِفٍ عن جميع العصور السابقة لشدَّة التغييرات الحاصلة فيه، وإنك لو أردت أن تحدد السبب الرئيسي لمعظم هذه التغييرات لوجدته التقدُّم العلمي، فالعلم هو الذي جعل البشر اليوم يعيشون في رفاهية غير مسبوقة، وهو الذي جعل المسافات تتقارب حتى إنك تستطيع التواصل بالصوت والصورة مع شخص في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وهو الذي أوجد علاجات لأمراضٍ كان مستعصيةً فزاد من معدَّل عمر الإنسان وقلل من انتشار الوباءات، وهو الذي طوَّر أسلحةً فتكت بعشرات الملايين من البشر، ولديها القدرة على تدمير الأرض مراتٍ ومرات، ولو أردنا أن نسترسل في التغييرات الهائلة التي أحدثها العلمُ في عصرنا لما اتَّسع المقام.
كما أنَّ العلم أحدث تغييرًا عظيمًا في وعي الإنسان وفهمه للوجود من حوله؛ وذلك بتفسيره للعديد من الظواهر الطبيعية كالأمطار والخسوف والكسوف والزلازل والبراكين، وبقُدرته على التنبُّؤ بها للاستفادة منها أو تقليل آثارها المدمرة.
هذا الحضور الكبير للعلم جعله جزءًا أساسيًا من فكر الناس وثقافتهم، فصِرتَ تسمعُ وتقرأ كثيرًا إذا أراد أحدهم أن يثبت فكرةً ما قال: أثبتت الدراسات العلمية كذا وكذا، ولو أراد أن ينقض فكرة ربما قال: هذه الفكرة ليس عليها أي دليلٍ علمي.
وتضخَّم الأمرُ أكثر عند البعض فجعل العلم إلهًا! وجعل العلماء أنبياءه وجعل نظرياتهم نصوصًا مقدسة! فصرت تسمع مقولات مثل: (أنا أؤمن بالعلم فقط) تتردد كثيرًا اليوم، وصار هؤلاء يقولون: أي أمر ليس عليه دليل علمي هو محض خرافة.
على الطرف الآخر راح فريق يصور العلماء عمومًا أو في تخصصات معينة – كالأطباء، أو علماء الاجتماع، أو الاقتصاد- على أنهم عصابة تتلاعب بالحقائق لتُزيِّف وعي الناس، وهذا الفريق لا يثقُ بما تقرّه المجامع العلمية؛ فكل ما يقولونه هو محضُ أجنداتٍ يُراد منها السيطرة على البشر؛ فالأرض مسطحة وليست كروية، وكورونا وهمٌ تم صنعه وتضخيمه.
من هنا تأتي أهمية هذا المقال، لتعالج هذه الإشكاليات وتجيب على أسئلة محورية حول المقصود بالعلم وحدوده، وما يتميز به العلم الحديث وكيفية التعامل معه، وما يحيط به من مصطلحات ومفاهيم ونظريات.
أحدث العلم تغييرًا عظيمًا في وعي الإنسان وفهمه للوجود من حوله؛ وذلك بتفسيره للعديد من الظواهر الطبيعية كالأمطار والخسوف والكسوف والزلازل والبراكين، وبقُدرته على توقع موعد حدوثها، وهذا الحضور الكبير للعلم جعله جزءًا أساسيًا من فكر الناس وثقافتهم
ما المقصود بالعلم هنا؟
أعتقد أن السبب الرئيسي في سوء التعامل مع موضوع العلم يعود إلى إشكاليةٍ شائعة في فهم المصطلحات الرئيسية (العلم، المنهج العلمي، الفرضية، النظرية، الحقيقة العلمية) ولذلك لا بدَّ ابتداءً من تحريرٍ جيدٍ للمصطلحات قبل المضي في مناقشة القضايا المتعلقة بها.
تعريف العلم:
لو عدنا إلى تراثنا الإسلامي لرأينا أنَّ تعريفَ أسلافنا للعلم يختلف اختلافًا كبيرًا عن الاستخدام الغربي الحديث لهذا المصطلح، وسأضع هنا تعريف الجويني رحمه الله: «العلم معرفة المعلوم على ما هو به»[1].
أي إنَّ العلم ببساطة هو: أن نَعرِف الأشياء على حقيقتها كما هي في الواقع.
أما اليوم فقد تم تضييق مدلول العلم كثيرًا، ليصبح محصورًا على مجال ضيق منه، وهو العلم التجريبي المادي (Science)[2].
فكل شيء غير مادي لا تمكن ملاحظته أو إجراء التجارب عليه فهو خارج نطاق العلم، فالعلم -بالمصطلح الغربي- يشتغل فقط في عالم المادة أما ما سواها كالروح والملائكة والجنّ فكلُّ ذلك لا علاقة له بالعلم، وبالتالي.. فالعلوم الإنسانية والاجتماعية وعلوم الدين كالتفسير والحديث وغيرها ليست علومًا بهذا المفهوم.
وحُصِر مصطلح العلم ليطلق فقط على ما يمكن ملاحظته كالفلك والجيولوجيا، أو تجربته كالفيزياء والكيمياء، أو ما يتكون من الملاحظة والتجربة معًا كالطب والأحياء.
ومقالنا هذا حين يتحدَّث عن العلم يقصد به العلم التجريبي المادي؛ وذلك على الرغم من عدم اتِّفاقنا مع هذا الحصر للمفهوم، إلا أننا سنُسايره لشيوعه حتى يكون القارئ واعيًا حين يصادفه في الثقافة المعاصرة وفي مقولات العلماء الغربيين المعاصرين.
تعريف المنهج العلمي:
المنهج العلمي: هو أسلوب التفكير العلمي وطريقة سير العلماء في عملهم أو في بحوثهم[3]. ويقصد به الخطة التي يتبعها العلم في مسيرته التي يتعامل فيها مع الواقع من أجل ملاحظته ووصفه وتفسيره والاستفادة منه.
وقبل أن أشرع بتفسير أهم المصطلحات المتعلقات بالعلم دعني أضرب مثالاً تقديميًا للمسألة:
(تخيل أنَّ جريمة قتلٍ قد حصلت في منزلٍ ما، ذهب مجموعةٌ من المحقِّقين ليقوموا بفحص مسرح الجريمة ويسجلوا ملاحظاتهم، فوجدوا ما يلي:
الشاب المقتول تم نحرُهُ من عنقه بأداةٍ حادةٍ، زجاج النافذة مكسور، توجد على الأرض بعض البقايا من قفازات طبية ممزَّقة. فقام المحققون بتدوين الملاحظات، وأخذوا آثار البصمات ليفحصوها في المختبر).
هكذا يبدأ العلم بالرصد وتدوين الملاحظات، كأن يُلاحَظ مثلاً أنَّ الأمطار تأتي من الغيوم، وضوء النهار يأتي من الشمس، وأنَّ ماء البحر مالح، وأنَّ الأجسام تميلُ للسقوط على الأرض وهكذا، وفي ميدان الملاحظة يستطيع العلم أن يجزم بصحة ملاحظاته فما يقوله العلم هنا لا شكَّ فيه، وكلَّما تقدَّم العلم صارت لديه قدرةٌ أكبر على الرصد؛ فاختراع المجهر مثلاً مكّن الإنسان من رصد عوالم كانت خفيةً عنه لصغرها فتم رصد الخلايا وما فيها والذرات وما دونها، وكذلك التيليسكوب (المنظار) مكّنه من رصد أجرام كانت خفيةً عنه لبُعدها فتم رصد كواكبَ ونجومٍ ومجرات.
لن يشكَّ المحقق في أنَّ زجاج النافذة مكسور، وأنَّ الغرفةَ فيها بُقعةٌ كبيرةٌ من الدماء، والتقنية الحديثة ستعطيه شكل البصمات التي رصدها في مسرح الجريمة.
الفرضية العلمية هي تخمين يقوم به البعض لتفسير ظاهرة معينة، لكنها لا تتضمَّن أيَّ دليلٍ على صحَّتها. ولذلك فإنَّ الفرضيات هي مجرَّد تخيُّلات للتفسير أو التحليل ما لم تتحوَّل إلى نظرية، وتحولها إلى نظرية يكون بذكر الأدلَّة التي يمكن التثبت منها، وكلما تبيَّنت صحةُ هذه الأدلة كانت النظرية أقوى
دعنا نسير في مثال علمي مع سيرنا في مثال المحققين الذين يريدون معرفة المجرم.
المثال العلمي الذي اخترته هو الجاذبية الأرضية، والملاحظة التي يرصدها العلماء هنا هي أننا لو تركنا جسمًا في الهواء فسوف يتَّجه إلى الأرض.
تعريف الفرضية:
دعنا الآن ننتقل لتحرير مصطلح جديد هو الفرضية، ما هو المقصود بها؟
(لو أنَّ أحد المحققين قال: أعتقد أن الذي قام بالجريمة هو جار المقتول، فسأله المحققون: لماذا تقول ذلك؟ فأجاب: هذا ما شعرت به عندما رآنا ونحن داخلون إلى منزل الضحية، فسأله المحققون: كيف يمكننا أن نتثبت من فرضيتك هذه؟ فقال: لا أعلم!).
فالفرضية العلمية هي: مجرَّدُ تخمين واحتمال أو فكرة مجردة، أو تفسير حدسي لظاهرةٍ ما[4]. وبالتالي فهي تخيُّل يقوم به البعض لتفسير ظاهرة معينة، لكنها لا تتضمَّن أيَّ دليلٍ على صحَّتها.
كأن يقول أحدهم: أعتقدُ أن سبب الجاذبية الأرضية هو وجود مغناطيس من نوع خاص موجود في داخل الأرض، يستطيع هذا المغناطيس أن يجذب جميع المواد إليه، لكن كما ترى لا يمكن التثبُّت من مثل هذه الفرضية.
كذلك من الأمثلة الشهيرة اليوم على الفرضية العلمية فرضية الأكوان المتعددة التي تقول إنَّ كونَنا هذا هو واحد من عدد لا نهائي من الأكوان، وبسبب هذه العدد اللانهائي منها فقد جاء كوننا بالصدفة بهذا الشكل المتقن الذي يسمح بوجود الحياة فيه، وهذه الفرضية ليس عليها أي دليل، بل لا يمكن أن يُتصوَّر أيُّ دليلٍ علمي عليها لأنَّها تصفُ أمورًا قد جرت خارج الكون!
ولذلك فإنَّ الفرضيات هي مجرد تخيلات للتفسير أو التحليل، ما لم تتحوَّل إلى نظرية، وتحوُّلُها إلى نظرية يكون بذكر الأدلَّة التي يمكن التثبت منها، وكلما تبيَّنت صحةُ هذه الأدلة كانت النظرية أقوى.
النظرية العلمية:
لنعد لمثال المحققين في مسرح الجريمة:
(قال أحد المحققين: أعتقد أن الدكتور فلان هو القاتل، لأن الجريمة تمت بأداة حادةٍ جدًا كما يظهر من الجرح، فيبدو أنه قام بجريمته بمشرطه الطبي، كذلك بقايا القفازات الطبية تدعم نظريتي، وحجم الكسر في زجاج النافذة مناسب لحجم جسمه لذلك أعتقد أنه دخل منها).
هذه هي النظرية العلمية، محاولةٌ لتفسير ظاهرةٍ ما تمَّ جمع الملاحظات حولها بحيث تكون قادرةً على تفسيرها، مع تقديم الأدلَّة على صحتها[5].
ربما يوجِّه محقِّقٌ آخر الاتهامَ إلى شخصٍ آخر ويفسِّر الملاحظات التي تم جمعها بما يجعل اتهامه أرجح، هنا يحاول المحققون أن يقارنوا بين النظريتين ويحكموا أيهما أكثر منطقيةً.
في مثال الجاذبية الأرضية قدم إسحاق نيوتن نظريةً تُفسِّرها فقال: إنَّ الأجسام تميلُ لتنجذب إلى بعضها، وأنَّ قوةَ الجذب هذه تتناسب طردًا مع كتلة الجسم، فكلَّما كان الجسم أكبر كانت قوة الجذب أكبر،، ولذلك فالأرض تجذب كُلَّ ما عليها لأنها أكبر منه، وكذلك الشمس تجذب الأرض لأنها أكبرُ منها، ولأنَّ الأرضَ تدور بسُرعةٍ حول الشمس فهذا الدوران يشكِّل قُوة طردٍ تجعل الأرض تبتعد عن الشمس، فقوَّة الجاذبية تشدُّ الأرض إلى الشمس والقوةُ الناتجةُ عن الدوران تدفعُها بعيدًا عنها، ولأنَّ هاتين القوتين متساويتان فإنَّ الأرض تدور في مدارها المحدَّد، فلا تلتحم بالشمس ولا تسبح بعيدةً عنها.
وقدَّم نيوتن أدلَّته لتُصبح نظريَّته هي الأقوى في عصره في تفسير الجاذبية الأرضية، بل صارت قوانين نيوتن تمثل عماد الفيزياء الكلاسيكية التي تفسر الحركة والجاذبية طيلة ٣ قرون حتى حلت محلها الفيزياء الحديثة مع ظهور النظرية النسبية لأينشتاين.
النظرية العلمية هي تفسير لظاهرة من الظواهر وفق أدلةٍ معينة، ولذلك فإنها تبقى محلَّ شكٍ، ولا يُمكن الجزم بصِحَّتها إلا بدليل، وهنا الفارق الكبير المُهم بين ما يستطيع العلم أن يجزم بصحته (الرصد( وما لا يستطيع أن يجزم به (النظرية)
كيف نتعامل مع النظريات العلمية؟
ما سبق يعني أنَّ النظريات العلمية تبقى دائمًا محلَّ شكٍ، ولا يُمكن أبدًا الجزم بصِحَّتها، فلا يُمكن أنْ نجزم أنَّ الطبيب هو المجرم نتيجة تفسير الملاحظات الموجودة في مسرح الجريمة، وهنا الفارق الكبير المُهم بين ما يستطيع العلم أن يجزم بصحته (الرصد) وما لا يستطيع أن يجزم به (النظرية).
فإنَّ المحققين لا يستطيعون أن يجزموا يقينًا أنَّ الطبيب هو المجرم إلا بدليل، مثل تصويره من كاميرات المراقبة وهو يرتكب الجريمة؛ أي عندما تنتقل المعرفة العلمية من النظرية إلى الرصد.
وبما أنَّ مجال النظريات العلمية هو تفسير الملاحظات المرصودة فلا يمكن أبدًا أن تتحول النظرية المجردة عن الأدلة إلى حقيقة مطلقة!
ووصفُ بعضهم لإحدى النظريات العلمية أنَّها نظرية صحيحة لا يعني أنَّها حقيقةٌ ثابتةٌ لا يأتيها الباطل ولا يعتَوِرُها الشكّ، بل المقصودُ بذلك أنَّ هذه النظرية تقدم أفضل تفسيرٍ للملاحظات التي رُصدت حتى الآن.
ولذلك فإنَّ انتقادَ بعضهم لنظريةٍ علميةٍ ما بقولهم: (لكنها ما زالت مجرد نظرية ولم تصبح بعد حقيقة)، هو جهلٌ بمعنى النظرية العلمية؛ فالنظرية العلمية لا يمكن أن تتحول إلى حقيقة، وتسميتها بالنظرية لا يعني أنها ضعيفة، بل العلماء دائمًا يتبنَّون النظرية التي تُقدِّم أفضل التفسيرات لظاهرةٍ ما.
يسير العلم التجريبي في بحثه عن الحقيقة بصورة منهجيّةٍ مضبوطة، وكلَّما تقدَّم العلم زاد التفكير في الضوابط المنهجية التي تُعين على أن تكون النتائج التي يصل إليها العلم أكثر موثوقية
كيف يتعامل العلم مع الملاحظات الجديدة؟
العلم يتقدَّم من خلال إدمان الشك بالنظريات، فكما قلنا: إنَّ القدرة على الرصد تتزايد يومًا بعد يوم، أي أنَّ الملاحظات تزيد ولا تتوقَّف غالبًا، فكيف يتعامل العلم مع الملاحظات الجديدة؟
لدينا هنا ثلاثة احتمالات:
• الاحتمال الأول: أن تؤكِّد الملاحظات الجديدة صحَّة النظرية فعندها تقوى النظرية وتزداد ثقة العلماء بها، كأن يعثر الأطباء على تسجيل صوتيٍّ أرسله الطبيب للضحية قبل يومِ ارتكاب الجريمة يُهدِّدُه فيها بالقتل.
• الاحتمال الثاني: أن تخالف الملاحظات الجديدة النظريةَ مخالفةً بسيطة، عندها يقوم العلماء بمحاولة تفسير هذه الملاحظات وفق النظرية ذاتها، كأن يتبيَّن أنَّ البصمات التي عُثر عليها ليست بصماتِ الطبيب، عندها يمكن أن يقول المحقق: إنَّ الطبيب كان منتبهًا لإخفاء بصماته ولذلك قام بارتداء القفازات.
• الاحتمال الثالث: أن تخالف الملاحظات الجديدة النظرية مخالفة جذرية بحيث تعجز النظرية عن تفسيرها بأي حال، عندها يتم التخلي عن هذه النظرية والبحث عن نظرية بديلة، كأن يَثبُت أن الطبيب كان ساعة ارتكاب الجريمة يعمل في المستشفى والأدلّة تثبت ذلك، عندها يبدأ التفكير بمتَّهم آخر.
وهذا ما حصل مع نظرية نيوتن في تفسيره للجاذبية الأرضية فبعد أكثر من مائتي عام من الاعتقاد بصحة نظريته وعدم العثور على ملاحظاتٍ تهدمُها، تم رصد بعض الملاحظات الفلكية المتعلقة بحركة كوكب عطارد عجزت نظرية نيوتن عن تفسيرها، فتم التخلي عنها لتحل محلها نظرية النسبية العامة لأينشتاين التي قدمت تفسيرًا أقوى لجميع الملاحظات المرصودة.
وهكذا نرى أنَّ سير العلم في بحثه عن الحقيقة منهجيٌّ مضبوط، وكلَّما تقدَّم العلم زاد التفكير في الضوابط المنهجية التي تعين على أن تكون النتائج التي يصل إليها العلم أكثر موثوقية.
الأوساط العلمية لا تُسلِّم مباشرة بصحة الدراسات والأبحاث الصادرة عن جهة علمية معينة، بل تقوم بتكرار هذه الدراسات وفق ظروف مطابقةٍ تمامًا، ولذلك فالعلماء عندما يقومون بدراسةٍ علميةٍ ما يُسجِّلون أدقَّ تفاصيلها، حتى يستطيع غيرُهم أن يُكرِّرها ويتأكَّد من نتائجها
ضابط مهم في الدراسات العلمية:
هذا الضابط هو قابلية التكرار؛ فعندما تقوم جامعةٌ ما بدراسة علمية وتنشر نتائجها فإنَّ بقية الأوساط العلمية لا تسلّم مباشرة بصحة هذه الدراسة ونتائجها، بل تقوم بتكرار هذه الدراسة وفق نفس الظروف تمامًا، ولذلك فالعلماء عندما يقومون بدراسةٍ علميةٍ ما يُسجِّلون أدقَّ تفاصيلها، حتى يستطيع غيرُهم أن يُكرِّرها ويتأكَّد من نتائجها.
ولعلّي قد فصلت قليلاً في شرح بعض أهم المصطلحات العلمية وفي منهج العلم التجريبي (نسبة إلى حجم المقال)، ولكن هذا ضروري قبل أن ننتقل إلى بقية المسائل فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ويمكن تلخيص ما سبق في التالي:
• أن العلم المقصود به في هذا المقال هو العلم التجريبي.
• أن مراحل المنهجية في البحث العلمي التجريبي كما يأتي:
1. الرصد والملاحظة وجمع البيانات.
2. وضع التفسيرات (فرضية).
3. تقديم الأدلة على هذه التفسيرات (نظرية).
4. اختبار الأدلة ثم تحكيمها (قبول النظرية علميًا).
o الفرق بين النظرية والحقيقة: أن كل واحدة تصف شيئًا ما، فالحقيقة تصف الأشياء والظواهر (الجاذبية مثلاً)، والنظرية تفسرها. وبالتالي لا يصح أن يقال: لا أؤمن بالنظرية حتى تصبح حقيقة علمية[6].
قدرات العلم وحدوده:
ذكرنا أنَّ العلم التجريبي محدودٌ بالعالم الماديِّ فقط، أي: بما يمكن رصده من خلال حواسِّنا ومن خلال تقنيات الرصد كالميكروسكوب والتيليسكوب.
والعلمُ محدودٌ داخل العالم المادي بقدرة الإنسان على الرصد، فقبل التقنيات الحديثة كان العلم لا يستطيع رصد الكثير مما يرصده الآن، وهذا يخلق معضلةً كبيرة، فإذا لم تجمع كل الملاحظات المتعلِّقة بظاهرةٍ ما، فقدرتُك على الفهم والتفسير تبقى محدودة، ولذلك أيضًا لا تستطيع أن تجزم أبدًا أن استنتاجاتك العلمية صحيحة؛ لأنه قد تكون هنالك بعض الملاحظات التي تنقض نظريتك لكنك لم تستطع رصدها!
ولتوضيح ذلك سأذكر مثالاً شهيرًا يصف هذه المعضلة التي تقف في وجه العلم، فلو أن العلماء رصدوا مثلاً الملايين من طيور البجع، فرأوها جميعًا بيضاء اللون، عندها سيستنتجون أن كل البجع أبيض، لكن هل هذا الكلام دقيق!
إن عثورهم على بجعة سوداء واحدة كفيلٌ بأن يهدم هذا الاستنتاج، وهذا ما حدث فعلاً عندما احتل الهولنديون أستراليا وتفاجؤوا بأن رأوا للمرة الأولى بجعًا سودًا، بعدما كانوا يقطعون بأن كل البجع في العالم أبيض.
يبقى الإنسان محدودًا في رصده؛ فهو عاجزٌ عن أن يرصُد كل ما في الكون، وأكثر عجزًا عن أن يرصد ما كان فيه في الماضي، والعجز الأكبر طبعًا هو عن رصد ما سيكون في المستقبل.
وبما أنَّ العلم كُلَّه يقوم على الرصد، وقدرة الإنسان على الرصد محدودة، فهذا يعني أن إمكانيات العلم محدودة، وأن العلم لا يستطيع أن يصل إلى نظريات تجزم بكامل الحقائق.
يبقى الإنسان محدودًا عاجزًا عن أن يرصُد كل ما في الكون، وأكثر عجزًا عن أن يرصد ما كان فيه في الماضي، والعجز الأكبر طبعًا هو عن رصد ما سيكون في المستقبل، وهذه المحدودية تعني أن إمكانيات العلم محدودة، وأن العلم لا يستطيع أن يصل إلى نظريات تجزم بكامل الحقائق
ازدراء العلم، ونظرية المؤامرة:
نسمع في حياتنا اليومية الكثيرين يسخرون من العديد من النظريات العلمية ويسخِّفونها بأطروحات ساذجة، كأن ترى شابًا لم يقرأ كتابًا في الفيزياء أو الطب أو الفلك أو غيرها من العلوم، بمجرد سماعه لإشاعةٍ أو معلومة غير صحيحة، أو عدم فهمه لجزئية ما؛ يعترض على بعض النظريات العلمية فيها! بل ويناقش غيره ويتوهَّم أنه يكشف كذب أو جهل العلماء!
وهذه الظاهرةُ مؤلمةٌ جدًا ففي الوقت الذي يجب أن نتسابق فيه لنسبر أغوار العلم ونتزوَّد منه لنتقوَّى به ويكون لنا مكانةٌ بين الأمم، نرى هذا الجهل المركَّب عند بعض أبناء أمَّتنا، ومن يقع منه هذا فهو جاهل ويجهل أنه جاهل.
أشعر أحيانًا عندما أناقش بعض هؤلاء أنهم ينظرون بسخرية شديدة للعلماء، ومن ردودي عليهم:
هل يعقل أن علماء هذا التخصص لم تخطر ببالهم انتقاداتك هذه، وليست لديهم إجابات عليها؟!
هل يعقل أنك من خلال قراءتك لبضع مقالات ومشاهداتك لبعض المقاطع على اليوتيوب صرت تفهم في هذا التخصص أكثر من مئات آلاف العلماء الذين قضوا عشرات السنين في البحث والدراسة؟!
بحكم عملي كطبيب أسنان أشرح كثيرًا لمرضاي تشخيص حالاتهم وخطة العلاج، وأجيب على تساؤلاتهم، تصل أحيانًا الأسئلة إلى درجة عميقة فأقول لهم: يصعب جدًا أن أشرح لك هذه النقطة، لأنها شديدة التخصص.
هذا الأمر طبيعي فكلنا عوام في غير تخصصاتنا، فكيف يتجرأ البعض ليحتقر مجهودات العلماء المتراكمة على مر السنين؟!
بعض هؤلاء لا ينظرون إلى العلماء عمومًا أو في مجال معين على أنهم أغبياء، بل على أنهم عصابة متآمرة، يعرفون الحقيقة ويحجبونها!
لكن كيف للعلماء في بلدانٍ شتى ومشاربَ متعددةٍ أن يتَّفقوا على هذا الأمر، أيُعقل أن يتَّفق مئات الآلاف من العلماء على تزييف العلم، ثم يؤلفوا الكتب في هذا ويدرسوه لطلابهم في الجامعات، ولا يخرج بعض العلماء ليكشف هذه المؤامرة؟ ثم كيف يتآمر العلماء المنتمون إلى دول مختلفة، بل بعضها متصارع كأمريكا وروسيا والصين والهند وغيرها؟!
العديد من الناس يسخرون من النظريات العلمية ويسخِّفونها بأطروحات ساذجة، وهذه الظاهرةُ مؤلمةٌ جدًا ففي الوقت الذي يجب أن نتسابق فيه لنسبر أغوار العلم ونتزوَّد منه لنتقوَّى به ويكون لنا مكانةٌ بين الأمم، نرى هذا الجهل المركَّب عند بعض أبناء أمَّتنا، ومن يقع منه هذا فهو جاهل ويجهل أنه جاهل
الدراسات المضلِّلة:
هل هذا يعني أنه لا توجد دراسات علمية مضلِّلة؟!
ليس الأمر كذلك أيضًا، وقد ذكرت فيما سبق أحد ضوابط المنهج العلمي للدراسات العلمية وهو قابلية الدراسة للتكرار الذي يكشف عمليات التضليل التي قد يقوم بها بعض العلماء والباحثين.
فالعلماء بشر لديهم تحيُّزاتهم الفكرية، وميولهم النفسية، ومصالحُهم الشخصية ولذلك يمكن لمركز أبحاث أن ينشر دراسةً علميةً مضلِّلة[7]، كما حصل عندما نشر أحد مراكز الأبحاث دراسة تقول إن التدخين لا يسبب سرطان الرئة، ثم تبين أن هذه الدراسة مضللة وأن هذا المركز مموّل من شركة التبغ الأمريكية! لكن لا يجوز تضخيم هذه الفضائح العلمية للدراسات المضلِّلة ليتم تصويرها على أنها هي الحالة العامة أو أنها منتشرة كثيرًا، بل الأمر على العكس من ذلك فهي حالات نادرة، كما أنَّ الذي كشف هذه الفضائح هو المجتمع العلمي ذاته، فالجامعة أو مركز الأبحاث الذي يثبت عليه أنه قام بدراسةٍ مُضلِّلة تنهار سمعته ويتكبَّد نتيجة ذلك خسائر فادحة، ويمكن أن يتعرض لعُقوباتٍ قانونية، والعالِم الذي يقوم بهذا تسقط مكانته العلمية ويدمِّر مستقبله.
كما أن العلماء لا يستقبلون مثل هذه الدراسات بالترحيب والقبول دون أن يتحقَّقوا منها، ومن موثوقية الجهة التي قامت بها، ومن المرات التي كُرِّرت فيها هذه الدراسة وأخرجت نفس النتائج.
باختصار أقول لمن يزدري العلم اليوم: العلم ليس خواطر مراهق قالها في لحظة عاطفية فصدقها أصدقاؤه، ولا هو رسائل سياسية ألّفها ديكتاتور وفرضها على شعبه.
بل العلم يقوم على منهج رصين وبضوابط محكمة، ويتعرض لمراجعات مستمرة من العلماء الأقران، ويبقي رقبته دائمًا تحت مقصلة الشك، ولهذا فقط يتحقق هذا التطور الهائل حينًا بعد حين.
حصر مصادر المعرفة في العلم التجريبي القابل للقياس انحراف عظيم يؤدي إلى الضلال والزيغ، لأنه منهج يعتمد على إنكار مصادر مهمة مثل الخبر والفطرة، وهذا يجعله مغالطًا متناقضًا، وتطبيقاته خطيرة على البشر
العلمَوية ومشكلاتها:
على الطرف الآخر من الفريق السابق نرى من بالغ في ثقته في العلم، ورفعه فوق مكانته، جاعلاً منه المصدر المعرفي الوحيد، وهذا ما يعرف بالعلموية.
فالعلموية مذهبٌ فلسفيٌّ يقول بأنَّ المعرفة الإنسانية لا سبيل لها إلا العلم التجريبي، وأن كل فكرةٍ لا يمكن إثباتها علميًا هي خرافة.
وهذه المقولة متهافتة كما لا يمكن إثباتها بالعلم التجريبي، ولذلك فهي تحكم على نفسها -بمنطقها- أنها خرافة!
وهذا المذهب تم نقده منذ بداية نشأته على يد فلاسفة كبار يأتي على رأسهم كارل بوبر.
ومن مشاكل العلموية أنها تفترض فرضيةً مسبقة وهي أنَّ الوجود كُلَّه ماديٌّ فقط، ولذلك فهم ينكرون الملائكة والجن والأرواح ويقولون إن كل هذا خرافات.
والمغالطة المنطقية التي يقع بها هؤلاء العلمويون يمكن تشبيهها برجلٍ لديه جهاز للكشف عن المعادن في باطن الأرض، أخذ هذا الرجل جهازه وقام بفحص قرية من خلاله، ثم بعد أن أنهى عملية بحثه قال: «إن هذا البلد لا يوجد فيه بلاستيك!».
لكنه لم يبحث إلا في قرية واحدةٍ فقط، فكيف يعمّم على البلد، كما أنَّ جهازه لا يستطيع الكشف عن البلاستيك بل عن المعادن فقط!
كذلك يفعل العلمويون، بعد رصد وملاحظة جزءٍ صغيرٍ جدًا من هذا الكون، يقولون: لا وجودَ فيه إلا للأمور المادية.
ومن مشاكل العلموية إهمالُها مصدرًا عظيمًا من مصادر المعرفة لا ينتمي إلى العلم التجريبي وهو مصدر الخبر.
فأكثر معارف الإنسان مصدرها ليس العلم بل الخبر، فأنت تعلم أنه يوجد بلدٌ في العالم اسمه الصين لأنَّ العديد من الناس أخبروك بذلك ويستحيل أن يجتمع هؤلاء الناس على الكذب.
بل العلم ذاته ينتشر عن طريق الخبر! فأنت تعرف أنَّ نظريةً ما صحيحةٌ لأنَّ العلماء قد أخبروك بذلك، ولم تختبرها علميًا بنفسك، ولكنك تعتقد أن هؤلاء العلماء لا يمكن أن يتَّفقوا على الكذب على العلم.
وتزداد ثقتنا بالخبر كلَّما تأكدنا من صدق المخبِر، ولذلك فإن الصحابة صدقوا بما جاء به النبي ﷺ لثقتهم بصدقه في المقام الأول، كما تزداد الثقة بالخبر عندما يأتي من جمع كبير من الناس يستحيل اجتماعهم على الكذب، ولذلك فنحن نصدق بأن القرآن الذي بين أيدينا هو ذاته الكتاب الذي أنزل على نبينا ﷺ لأنه قد تناقلته جموع عن جموع يستحيل أن يجتمعوا على الكذب.
والعلموية تنكر مصدرًا معرفيًا آخر وهو الفطرة الإنسانية، وإنكار الفطرة يقضي على العلم أصلاً، فمن المعارف الفطرية أن لكل حادث سببًا وهو ما يعرف بقانون السببية.
هذا القانون لا يمكن إثباته علميًا، بل هو من الفطرة، والتناقض الذي يقع فيه العلمويون هو أن العلم يقوم بالأساس على قانون السببية عندما يحاول تفسير الظواهر والحوادث، أي أننا نستطيع أن نقول بثقة أن العلم نفسه ليس علمويًا!
ولذلك فإن العلموي عندما ينكر المعارف الفطرية فإنه يقطع غصن الشجرة الذي يجلس عليه!
والكارثة في إنكار الفطرة كمصدر معرفي هو انهيار الأخلاق، فالإنسان يعتقد أن الصدق فضيلة، وأن القتل جريمة بدون أي دليل علمي أو عقلي بل يعرف ذلك بفطرته.
ولذلك نرى اليوم سيولةً أخلاقيةً مُريعةً وصلت إلى حدِّ اعتبار الشُّذوذ الجنسي أمرًا طبيعيًا، بل وصل الأمر إلى أن يجرّم من يُنكر الشذوذ!
من مشكلات العلموية أنها تنكر مصدرًا معرفيًا مهمًا وهو الفطرة الإنسانية، وإنكار الفطرة يقضي على العلم، لأنه ثمة معارف فطرية لا يمكن إثباتها لبدهيتها، ولكونها أداة من أدوات إثبات المعارف
خاتمة:
حاولتُ في هذا المقال تشكيلَ صورةٍ شُمولية للعلم بالعلم، أي دراسة العلم من خارجه لمعرفته ما هو؟ وما منهجه؟ وما حدوده؟ وما درجة الثقة بمنتجاته؟
وأحبُّ أن أختم بتأكيدي على أنَّ المنهج العلمي التجريبي هو أحدُ أعظم إنتاجات العقل البشري، ولذلك علينا أن ننظر إليه نظرةً متوازنة:
• بعيدة عن ازدراء العلماء، وعن نظرية المؤامرة، لأنها ستحرمنا من الاستفادة من منتجات العلم والتقدم بالبناء عليه مما يجعلنا متخلفين عن ركب الحضارة.
• لا نغلو فيه فنجعله إلهًا لا تؤخذ الحقائق والمعارف إلا منه، لأن ذلك سيحرمنا من الاستفادة من مصادر المعرفة الأخرى المهمة وعلى رأسها الوحي والفطرة الإنسانية.
• لا ننظر إلى كل ما ينسب إليه نظرة واحدة، فما يتم رصده حقيقة لا شك فيها، والفرضية مجرد خيال لا يعتد به، والنظرية الصحيحة هي أفضل التفسيرات حسب المعطيات المتوفرة.
• لا نثق بكل الدراسات العلمية أيًا كان مصدرها، بل العلم يؤخذ من اتفاق الجامعات ومراكز الأبحاث بعد تكرار الدراسة والتأكد من صحتها.
د. وائل الشيخ أمين
مؤسس ومدير أكاديمية عين.
[1] الورقات، للجويني، ص (٩).
[2] العلم التجريبي الحديث: هو منظومة ممنهجة لدراسة ظواهر العالم المادي الذي نحيا فيه. حادي العقول، عمرو شريف ص (١٠٢).
[3] مفهوم المنهج العلمي، يمنى طريف الخولي ص (٤٣).
[4] العلم ليس إلهاً، محمد أمين خلال، ص (٤٤).
[5] النظرية العلمية: هي التفسير الأفضل للحقائق التي نشاهدها حولنا في الطبيعة والتي يجري الوصول إليها باستخدام الأساليب العلمية، والتي تختبر مرارًا وتكرارًا وتؤكد باستخدام الملاحظة والتجربة. (ويكيبيديا).
[6] الحقيقة العلمية: هي الأمر المرصود والمدعوم بالأدلة الدامغة، العلم ليس إلهاً، محمد أمين خلال، ص (٤٦).
[7] توجد أمثلة كثيرة لهذا التحيز، خصوصًا في مجال البيئة والمنتجات الغذائية والأدوية، ينظر تقرير «تجارة الوباء» الذي بثته قناة الجزيرة.