حاول العلمانيون نزع القداسة عن القرآن الكريم والسنة النبوية تمهيدًا لإنكار حجيتهما، فما هو موقفهم الذي صدروا عنه تجاه الوحيين؟ وما هي شبهاتهم التي يدورون حولها؟ وما هو منهج الردِّ عليهم؟
في هذا المقال وقفات مهمة في معالم الصّراع مع العلمانيين.
لا تقلّ الحرب الفكرية خطورةً وأثرًا عن الحرب العسكرية، لما لها من دور في تشويه الفكر وتحريف الحقائق، وتخريج جيل منتكس على عقبيه منسلخ من تراثه، فتنجح فيما لا تنجح فيه الحرب العسكرية. وقد كان للحرب على الإسلام نصيب منها، تمثل بحملات التنصير (التبشير)، ثم بحملات التشويه من قبل المستشرقين، ثم بسهام أبناء جلدتنا الذين أعادوا نتاج المستشرقين تحت شعار العلمانية.
وهذا المقال للحديث عن أهم قضية في صراع العلمانيين مع الإسلام، وهو موقفهم من نصوص القرآن والسنة[1].
مفهوم العلمانية وسبب نشأتها:
أصل العلمانية يرجع إلى (Secularism) في الإنجليزية أو (Secularite) بالفرنسية، والتي تعني «اللادينية» أو «الدنيوية» تقول دائرة المعارف البريطانية في مادة (Secularism) هي: «حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها»[2].
وفي معجم أكسفورد «الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسًا للأخلاق والتربية»[3].
أما التعبير الشائع بأنها: «فصل الدين عن الدولة»، فهو لا يعطي المدلول الحقيقي للعلمانية، ولو قيل: هي «فصل الدين عن الحياة» لكان أصوب، ولذلك فإنَّ المدلول الصحيح للعلمانية هو: «إقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أم للفرد».
نشأت العلمانية في أوروبا إثر صراع مرير بين الكنيسة ورجال الدين وبين الجماهير الأوروبية، إثر تحول رجال الدين إلى طواغيت ومستبدِّين تحت ستار الدين، فنشأت العلمانية ردَّة فعل على دين محرَّف وسلوكيات غير علمية ولا منطقية، وهي ردَّة فعل كان من المفترض أن توصِل إلى الدين الصحيح، لا أن تُكوّن مجتمعًا لا دينيًا يتبرأ من كل موروث ديني.
«فصل الدين عن الدولة»، لا يعطي المدلول الحقيقي للعلمانية، فالمدلول الصحيح للعلمانية هو: «إقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أم للفرد»
الحرب على النص الديني:
حين أرادت العلمانية في أوروبا إلغاء موروثات الدين، كان الأمر سهلاً لأنَّ الموروث المسيحي عبارة عن دين محرَّف، وكلامِ رجالٍ أُلبس ثوب القداسة، بالإضافة لمخالفة هذا الموروث للعقل والعلم والفطرة، لكن الأمرَ مختلفٌ مع الإسلام، فقد واجهت العلمانية دينًا مُحكمَ البنيان، محفوظًا يستند إلى الوحيِ المعصوم، يقوم على منظومةٍ فكريةٍ وعلميةٍ راسخة، لا مدخل للخرافات والأساطير وأهواء رجال الدين فيه، ولا يناقض العلم ولا يُزري بالإنسان.
فلم تستطع العلمانية إلغاء الموروث الإسلامي إلا بالطعن في الأصل الذي يعتمد عليه وهو النص، ومن هنا بدأت العلمانية التركيز على نقطة القوة والصلابة في بنيان الإسلام وهو الوحي (النص)، لنزع القداسة عنه سعيًا إلى تعديله وتغيير أحكامه، من ثم التخلص من الالتزام بتطبيقه، فكيف كانت مواقف العلمانيين من النص الديني؟
ركزت العلمانية على نقطة القوة والصلابة في بنيان الإسلام وهو الوحي (النَّص)، لنزع القداسة عنه سعيًا إلى تعديله وتغيير أحكامه، من ثم التخلص من الالتزام بتطبيقه
أولاً: موقف العلمانيين من القرآن الكريم:
يتلخَّص موقف العلمانيين من القرآن برؤيتهم له نصًا لا يحمل القداسة، وليس له ذلك الجانب الغيبي الذي يتطلب الإيمان به والاستسلام له، بل يجوِّزون للعقل أن يتدخل فيه بمعارضته ومناقشته، أو فهمه وتوجيهه كما يتدخل في أي نص فكري قاله فيلسوف أو باحث، وغُلاتهم لا يرونه وحيًا من الله بل لا يؤمنون بوجود وحي البتّة.
وفيما يأتي أبرز القضايا التي يثيرها العلمانيون حول القرآن الكريم، والتي توضح ما سبق بيانه.
١. بشرية القرآن:
يحاول العلمانيون ضمن مشروع (أَنْسَنَة الدين) أن يُبيِّنوا أن القرآن الكريم ليس وحيًا نزل على النبي ﷺ، وإنما هو نتاج بشري، مع أن الأنسنة في عرفهم لا تعني نزع الغيبية عن الدين، وإنما تعني منح الإنسان حرية فهم الدين والعمل به، والتحرر من قواعد وضعها الدين لفهمه[4]، ويؤكد ذلك أن وجودها ارتبط بعصر الإصلاح الديني في أوروبا، حيث «ركَّز الإصلاح الديني على دور العقل في البحث الحرِّ وزعزعة الأستاذية الدينية التي كانت تُمارسها الكنيسة دون الخروج عن الإطار الأنطولوجي العام للوحي»[5].
لكن الطرح تجاوز إطاره التأسيسي عند الكثير منهم، وصارت الدعوة واضحة إلى القول ببشرية القرآن، وأنه ليس وحيًا، فبعضهم اعتبر أن كون القرآن كلامًا إلهيًا لا يتغير ولا يتبدل أسطورٌة يمكن تحطيمها، وأنه ينبغي الخروج من القفص الذي يجبره على الاعتقاد بأن القرآن هو من تأليف الله ذاته ولم يتدخل البشر فيه!، ويرى آخر أن اعتبار المسلمين القرآن كلام الله الحرفي الأزلي غير المخلوق هو المحرَّم الأعظم الذي يجب كسره وتحطيمه[6].
وقد اتَّجه العلمانيون العرب إلى القول ببشرية القرآن متجاوزين حدود الأنسنة في أول نشأته ليستطيعوا تجاوز حدود النص ولا يتقيدوا بما جاء فيه، إلى مضامين أخرى بشرية يريدون تقريرها سواء في العقيدة أو في المعاملات، وقد صرَّح بعضهم بذلك كقول نصر أبو زيد: «إذا كان معنى قدم القرآن وأزلية الوحي يجمِّد النصوص الدينية، ويُثبِّت المعنى الديني، فإنَّ معنى حدوث القرآن وتاريخية الوحي هو الذي يعيد للنصوص حيويتها ويطلق المعنى الديني – بالفهم والتأويل- من سجن اللحظة التاريخية إلى آفاق الالتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية»[7].
ويوضح آخر مقصد أبي زيد حتى لا تفهم بغير ما بيناه، فيقول: «إن نصر حامد قد اتجه صوب أنسنة النص القرآني من خلال الفصل في مجال البداية بحيث يغدو نمط التعامل معه على أساس أنه نص لغوي أو منتج ثقافي تمامًا كما فهمه أدونيس»[8].
فالقرآن بمنظور علماني: منتجٌ يُؤخذ منه ويردُّ، يُصيب ويخطئ، شأنه شأن أي فكر بشري.
٢. تاريخية القرآن:
وهي متفرعة عن الأولى لكن بعض العلمانيين يعبِّرون بها دون التصريح ببشرية القرآن، تضليلاً على القارئ، وتصيُّدًا للسذج، أو خوفًا من عواقب هذا التصريح؛ فتستعمل كلمة التاريخية حتى إذا استقرت عند المتلقي ارتفعوا به للقول للبشرية لأنها النتيجة الطبيعية لها.
والتاريخية منهجٌ بحثيٌّ يقوم على اعتبار أن الحقيقة منتج تاريخي قابل للتطور ومتأثر بالإنسان، فكل حقيقة مهما كانت، دينية اجتماعية أخلاقية فلسفية، هي فكرة وجدت في ظرف تاريخي معين، وتأثرت به، وبما أن التاريخ يتطور والإنسان يتطور بمداركه ومعارفه، فالحقيقة نفسها تتطور[9].
ومن هنا فالقرآن ظاهرة تاريخية حدثت في زمن ما، لا تحمل أي طابع مقدس يلزم التمسك بها، يقول هاشم صالح تلميذ أركون ومترجم كتبه: «آن الأوان للكشف عن تاريخية النص القرآني وإنزاله من تعاليه الفوقي إلى الواقع الأرضي المحسوس، آن الأوان للكشف عن علاقته بظروف محددة تمامًا في شبه الجزيرة العربية وفي القرن السابع الميلادي»[10].
الغاية من القول بتاريخية القرآن هي نزع القداسة الإلهية عنه واعتباره موروثًا تاريخيًا يُستفاد منه أو يعدَّل أو قد يُتجاوز، كأي موروث فكري أو حضاري تاريخي
والقول بالتاريخية متفق عليه عند العلمانيين، لكن منهم -كالطاهر الحداد- مَن يرى «جزئية التاريخية»؛ بمعنى أنّها لا تشمل كل تعاليم الشريعة، فاستثنى منها عقيدة التوحيد ومكارم الأخلاق والعدل بين الناس، ومنهم من يرى شمولية التاريخية لكل التعاليم القرآنية، وأول من نادى بالشمولية هذه أركون سنة ١٩٧٤م[11]، وبناء على القول بشُمولية التاريخية للنص القرآني تصبح المواضيع التي تناولها النص أفكارًا تاريخية وليست حقائق دينية، فالعقائد الإسلامية، وأحكام الشريعة كلها مسائل قابلة للنظر والنقاش والتعديل والتغيير.
ومع أن رأي الشموليين أكثر ضلالاً لكنه أكثر انسجامًا مع أصول القوم، فما الذي يميِّز نصوص العقائد ومكارم الأخلاق عن نصوص الفقه مثلاً؟ وهل هذا التفريق للمواربة والتقية؟.
وعلى كل فالغاية من القول بتاريخية النص واحدة، وهي نزع القداسة الإلهية عن النص واعتباره موروثًا تاريخيًا يُستفاد منه أو يعدَّل أو قد يُتجاوز، كأي موروث فكري أو حضاري تاريخي، يقول علي حرب: «فالتعامل مع الفكر الإسلامي بوصفه نتاجًا تاريخيًا معناه نزع هالة القداسة عن ذلك الفكر، أي تمزيق الحجاب وهتك الستر»، وشرح هاشم صالح هذا الكلام بقوله: «أي وضعها ضمن سياقها التاريخي وربطها بظروف قديمة مضت وانقضت ولم تعد هي ظروفنا، وبالتالي فهذه الآيات لم تعد ملزمة في العصر الحالي»[12].
هذه هي زبدة القضية وخلاصة المعمعة، تكذيب للقرآن بلغة معاصرة مختلفة عن تكذيب من سبق.
٣. تحريف القرآن:
يرى العلمانيون أن القرآن الكريم تعرض لعملية تحريف وتزوير، وليس كل ما قاله النبي ﷺ من القرآن وصل إلينا، فيرى أركون وأتباعه أن الانتقال من الخطاب الشفهي إلى الكتابة (أي تدوين القرآن) تخلله حذف ونقص كبير، يقول في هذا الصدد: «إن الانتقال من مرحلة الخطاب الشفهي إلى مرحلة المدونة النصية الرسمية، لم يتم إلا بعد حصول الكثير من عمليات الحذف والانتخاب والتلاعبات اللغوية التي تحصل دائمًا في مثل هذه الحالات، فليس كل الخطاب الشفهي يدوَّن، وإنما هناك أشياء تُفقد أثناء الطريق، نقول ذلك ونحن نعلم أن بعض المخطوطات قد أتلفت كمصحف ابن مسعود مثلاً، وذلك لأن عملية الجمع تمت في ظروف حاميةٍ من الصراع السياسي على السلطة والمشروعية، وهذا ما أثبته النقد الفيلولوجي الاستشراقي»[13].
ليس خافيًا ما في هذا النص من الجهل الفاضح بعلوم القرآن ولا سيما الأحرف السبعة وعلم القراءات، وكذلك الكذب والافتراء على الصحابة الكرام، وليس الغرض هنا مناقشة كلامهم بل بيان ما يراه القوم نحو القرآن الكريم.
وليس هذا حال أركون فحسب بل كثير من العلمانيين، كطيّب تِيزيني ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني وغيرهم كثير[14]، وهو مشروع أركون الذي يريده من الدعوة لإعادة كتابة القرآن من جديد، والبحث عن الوثائق التي كانت قبل جمعه، والانطلاق من المنطلقات الواهية التي يعتمد عليها ومن وافقه[15].
٤. تكذيب نصوص من القرآن:
من الطبيعي أن تكون نتيجة القول بتاريخية القرآن وبشريته وتحريفه أن نرى تكذيبًا لبعض نصوص القرآن الكريم، فيرى جلال العظم أن قصة خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له وامتناع إبليس عن ذلك وما تبعها هي أسطورة من الأساطير التي تناقض المعارف العلمية[16]، وعند العفيف الأخضر قصة خلق آدم من صلصال هي أسطورة سومرية ومثلها خلق العالم في سبعة أيام وطوفان نوح[17].
ويقول نصر حامد أبو زيد: «القصص القرآني مجموعة من الحكايات الشعبية أو لنقُل الأساطير الخرافية وليست حقائق تاريخية، فلم يوجد نبي اسمه نوح أو إبراهيم أو أصحاب الكهف، وإنما هي حكايات سردية للعبرة والموعظة»[18].
وقد سمى القمني كتابه (الأسطورة والتراث) والذي وإن تناول فيه أساطير الأمم الغابرة إلا أنه اعتبر ما ورد في القرآن من قصص هي امتداد أو تماثل للأساطير عند غيرهم، واعتبر شعائر الحج إحياء لطقوس قديمة خرافية[19]، ومثلها قصة الطوفان وأصحاب الكهف وغيرهما.
وقال عصام ناصف عن الطوفان: «لا يسلِّم بصحَّتها في الوقت الحاضر إلا رجلٌ يفكِّر في القرن العشرين بعد الميلاد تفكيرَ الذين كانوا يعيشون في القرن العشرين قبل الميلاد، رجل يتمتع بعقل كعقول الأطفال وتصديق ساذج كتصديق العجائز»[20].
منهج الرد على العلمانيين في موقفهم من القرآن:
يتجلى منهج الرد على العلمانيين في موقفهم من القرآن من وجهين:
الأول: التأكيد على حقيقة القرآن، وأنه كلام الله تعالى ووحيه، وليس للنبي ﷺ فيه إلا نقلُه لنا، والاستشهاد على ذلك بأنواع الأدلة والبراهين، مع التوقف عند حقائق عدم مناقضة القرآن لشيء مما دل عليه العقل الصريح، والعلم الصحيح.
الثاني: مناقشة البديل الذي يُطرح للقرآن أو للقضايا والتصوّرات التي عالجها، وبيان تهافته، وعدم خلوه من سطحية، وسلامته من النقد العقلي والعلمي، وعدم قيام الحجة به، مما يوصل إلى بيان حقيقة مكانة القرآن ولزوم الاستجابة له، والانقياد لتوجيهاته.
ينظر العلمانيون للنبي ﷺ نظرتهم لأي مصلح أو مبدع آخر، ساد فكره في مرحلة ما، وقد يصلح أو لا يصلح لمرحلة أخرى، ولا يحمل الحصانة من النقد والمراجعة، فهو منتج بشري كغيره، لأن جوهر الفكر العلماني يقوم على جحود الغيبي
ثانيًا: موقف العلمانيين من السنة:
يسعى العلمانيون لتقديم النبي ﷺ على أنه مصلح اجتماعي ومفكر، قدَّم أطروحاته حول الحياة والمجتمع وقيادة الناس كغيره من الفلاسفة والمصلحين، وليس هناك وحيٌ غيبيٌّ ولا قداسة لقوله، فنتعامل معه كأي فكر بشري، نأخذ منه ونردّ، نستفيد منه ونعدِّل ونطور، وقد نلغي ونخالف، بما يتوافق مع زماننا وعصرنا. وليس هناك سنة نبوية يجب اتِّباعُها، وما يسمى بعلم الحديث والسنة هو من صنع من جاء بعده، وهو منتج قابل للتغيير لأنه نتاج إنساني بشري.
وفيما يأتي نبين رأيهم في السنة بما يوضح ما سبق من خلال النقاط الآتية.
١. حقيقة الوحي إلى النبي ﷺ:
لا يؤمن العلمانيون بوجود وحي نزل من الله تعالى على النبي محمد ﷺ، وإن كان البعض لا يصرح بذلك، لكن المعنى جلي في كلامهم، يقول طيب تيزيني: «السنوات التي قضاها (رسول الله ﷺ) مترددًا على غار حراء كانت هامة بالنسبة إلى تحقيق عملية اختزان ذهني كبير، أسهمت في بلورة شخصيته الثقافية عمومًا، وجعلت من ثم الانتقال إلى حلقة نوعية جديدة أمرًا محتملاً، وهذا ما قد يضعنا بحسب أصحاب التحليل النفسي وجهًا لوجه أمام ما يرونه من أن الصوت الذي يوحي للإنسان في حالة الاستغراق الروحي الذاتي في اتباع طريق ما هو ظاهرة تتحدر من خافية الإنسان أو وعيه الباطن، مع الإضافة بأن هذه الخافية تكمن خارج حقل مراقبته المباشرة، مما يعني أن الوحي الذي تلقاه محمد، ومن قبله أنبياء التوراة خاصة يرتد وفق منظور أولئك إلى الخافية المذكورة التي فعلت فعلها المكثف على امتداد سنوات طويلة على صعيد حياة محمد المفردة، وطوال قرون على صعيد حيوات الأنبياء المتتاليين، وفي المحصلة يظهر الوحي بمثابة كلمة الله الممتدة عبر تلك القرون ومن ثم عبر حيوات أولئك الأنبياء»[21].
وربما حاول تيزيني أن يهدئ من روع بعض مَن سيجفل مِن نفيه للوحي فوصف النبي ﷺ بأنه ليس أميًا بل هو مثقف مطلع ومحاضر من الطراز الرفيع[22].
لقد حاول تيزيني في كل كتابه أن يثبت أنَّ النبي ﷺ مفكِّر مصلحٌ يحمل همَّ الأمة، وربما هو في مكان متقدِّم في عالم المفكرين والمصلحين، لكن لم ينزل عليه الوحي، بل لم يستر بذاءَتَه مع مقام النبي ﷺ بقوله: «وقد زاد الأمر تعقيدًا أن محمدًا (ﷺ) كان يصاب بشيء من مظاهر الاضطراب النفسي التي تصل أحيانًا إلى درجة الفصام الشخصي»[23]، وأمثال هذا المعنى كثير في كتابه المشؤوم.
ويرى أركون أن النبي ﷺ شخصية بشرية عادية، ولكن السيرة النبوية والأجيال المتعاقبة حولته إلى صورة أسطورية[24].
أما نصر أبو زيد فيرى أن النبوة نوع من التخيلات، فالعقلية العربية تستسيغ الاتصال بين البشر وعوالم خفية كالكهانة والشعر، والنبوة صورة من هذه الصور[25]، ومثله يصرح طيب تيزيني[26].
من هنا ندرك أن العلمانيين ينظرون للنبي ﷺ نظرتهم لأي من المصلحين أو المبدعين، ساد فكرُه في مرحلة ما، وقد يصلح أو لا يصلح لمرحلة أخرى، ولا يحمل الحصانة من النقد والمراجعة، فهو منتوج بشري كغيره، لأن جوهر الفكر العلماني يقوم على جحود الغيبي.
ولعل هذه الرؤية تجعلهم يطيرون بحديث النبي ﷺ: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)[27]، لكنهم جعلوا الدين كله من أمور الدنيا، ربما عدا الشعائر الشخصية كالصلاة والصيام التي لا تخرج عن دائرة الحياة الشخصية.
ينكر العلمانيون مفهوم السنَّة كما هو معروف بين أهل العلم وعامة المسلمين، بدءًا من تعريف علماء الشريعة لها وانتهاء بالطعن في حجيتها
٢. مفهوم السنة عند العلمانيين:
إذا كان الوحي مجرد وهم وخيال، إذن فكيف ينظر العلمانيون إلى موروث النبي ﷺ، أي إلى السنة النبوية؟
يرى شحرور أن السنة ليست حديث النبي ﷺ، بل يعد هذا المعنى سببًا في تحنيط الإسلام، أما معنى السنة في نظره فهي منهج تطبيق أحكام الكتاب بسهولة ويسر، دون الخروج عن حدود الله، فما فعله النبي ﷺ في صدر الإسلام هو منهج قام به يتناسب مع مرحلة تاريخية معينة، وليس هو الوحيد[28].
ويُعيد حمادي ذويب كلام شحرور مؤكدًا له، ويتهم علماء الأصول بأنهم هم من اخترع هذا المفهوم للسنة، وأنهم بذلك جعلوا من النبي ﷺ كالمسيح عند النصارى! فيقول: «إن هذا المفهوم قد أوقع الفكر الإسلامي في عمق المنزلق المسيحي، ذلك أن المسيحية مرتبطة بشخصية المسيح حصرًا، وقد كان كلام المسيح عندهم هو كلام الله تعالى، لذا فإننا نرى كل الأناجيل على اختلاف أنواعها عبارة عن السيرة الذاتية للنبي، وإذا المسيح بذاته عند النصارى هو الشهادة الإلهية للإنجيل، فهذه الشهادة عند المسلمين هي الكتاب المنزل وليس شخصية النبي ﷺ ولكن بمفهوم السنة التقليدي أصبح محمد (ﷺ) هو الشهادة الإلهية إلى جانب الكتاب، بل أصبح فعليًا الحديث النبوي معتمدًا عليه أكثر من الكتاب»[29].
وبعد انتقاد نصر حامد أبو زيد للتعريف الأصولي للسنة، يؤكد أنه حوَّل النبي محمد (ﷺ) من التاريخية إلى الأزلية، ومن الحقيقة التاريخية الاجتماعية إلى الحقيقة الأزلية السارية في كل شيء[30].
وهذا الموقف من رفض تعريف السنة، ورفض مكانتها التشريعية، هو موقفٌ يُجمع عليه العلمانيون، ويخلُص الباحث غازي الشمري إلى خمس نقاط يشترك فيها العلمانيون في موقفهم من السنة، وهي:
- مغالطتهم في المعنى اللغوي للسنة.
- رفضهم تعريف علماء الشريعة لها.
- انتقاصهم للسنة النبوية.
- قولهم بمرحلية أحكام السنة.
- إنكار حجية السنة القولية عندهم[31].
٣. حجية السنة عند العلمانيين:
بناء على ما سبق فالسنة ليس لها عمل في التشريع وليست حجة البتة، وزادوا على ما تقدم لترسيخ هذه الحقيقة كثيرًا من الشبه والافتراءات، والتي تحتاج كل منها لبحث خاص، وقد تعرض أهل العلم لها في ثنايا كتاباتهم ودفاعاتهم عن السنة، وأهمها باختصار:
أ. السنة تشكلت بعد النبي ﷺ:
فهم يزعمون أنّ السنّة لم تكن موجودة زمن النبي ﷺ بل هي عمل تاريخي من صنع المسلمين بعده، وهذا أمر يبنى عليه القول بعدم حجية السنية، لأنها من صنع المسلمين ولا علاقة للنبي ﷺ[32]، ولا يخفى الجهل والتضليل في هذه الشبهة، فالسنة أصيلة وموجودة منذ زمن النبي ﷺ، وأدلة حجيتها كثيرة في القرآن والسنة، كما بينه أهل العلم.
ب. دور الشافعي في السنة:
يصب العلمانيون جام غضبهم على الإمام الشافعي، حتى إنهم يصفونه بأقذع العبارات[33]، ويتهمونه بأنه هو من أسس لحجية السنة، وأنه منحاز للقرشية التي ينحدر منها، وأنه أَسَر العقل، ونحو ذلك من الافتراءات[34].
وذلك لأن الشافعي رحمه الله تعالى أسس للعلوم التي تضع العلمانيين في حجمهم الحقيقي وتكسر سهامهم، ولهذا كلما قالوا شبهة يصطدمون بتحرير وتقرير الشافعي لبطلانها، فما كان منهم إلا أن هاجموا الشافعي نفسه رحمه الله تعالى، وكل ما سبق هو مفخرة له لأنه لم يأت بذلك من بنات فكره بل كشف النقاب عنها وأظهرها للناس، وأشار إليها ودلل عليها، وهي كانت موجودة ومسلمًا بها عند الصحابة ومن بعدهم.
ج. عدم تدوين السنة:
يرى العلمانيون أن السنة لم تدون في القرن الهجري الأول، مما يعني أنه دخلها التحريف والتزوير، وهي شبهة استشراقية قديمة، حيث إنهم لم يفرقوا بين التصنيف والكتابة، فالسنة كتبت منذ أيام النبي ﷺ، وظهرت صحف منذ زمن الصحابة الكرام، كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص التي سماها الصادقة، وصحيفة جابر بن عبد الله وكتب ابن عباس[35]، أما التدوين في كتب متخصصة فتأخر كشأن سائر العلوم في ظهورها في كتب تخصصية.
وهناك شبه كثيرة لم نشأ التعرض لها خشية الإطالة، وكلها تصب في دائرة التشكيك في مشروعية السنة، ثبوتًا وحجية، وقد انبرى لها حراس الثغور العلمية وانكسرت على دروعهم نصال العلمانيين ومن يروج لبضاعتهم.
منهج الرد على العلمانيين في موقفهم من السنة النبوية:
يتجلى منهج الرد على العلمانيين في موقفهم من السنة من وجهين:
الأول: إثبات نبوة النبي ﷺ وأنه لا ينطق عن الهوى، والتأكيد على أنّه ليس مجرد مصلح أو قائد دولة، مع إيراد الدلائل والحجج النقلية والعقلية والعلمية على ذلك.
والثاني: بيان أن السنة هي قول النبي ﷺ وفعله، وهي الحكمة التي أنزلها الله تعالى، وأمر باتباعها، ومكانتها من القرآن والاتباع.
خاتمة:
لا يشك الباحث في العلمانية أنها مناهضة للإيمان، ولم يبعد الباحث مصطفى باحو النجعة في قوله: «إن العلمانية تدور على الإلحاد لا غير، ويستحيل وجود مؤمن علماني إلا إذا كانت تجتمع فيه المتناقضات، وإلا فمن يكون علمانيًا يستحيل أن يكون مؤمنًا»[36].
والمؤسف اليوم أننا أصبحنا نرى أطروحات العلمانيين حول النص الديني تظهر من بعض المنتسبين للإسلام بل للعلم الشرعي، محاولين أسلمتها وتقديمها بصيغة علمية، ولا يخفى على الباحث المتمكن مواضع التدليس والتضليل فيها.
[1] ليس من أهداف المقال الرد على شبهات العلمانيين في هذه الموضوعات، فهذا أمر يطول وله مواضعه الخاصة والتي منها العديد من مقالات هذه المجلة في هذا العدد وما سبقه، وإنما الكشف عن مرتكزات معتقداتهم فيه، وبيان حقيقة مرتكزاتهم الفكرية.
[2] مقالة: هل هناك علاقة بين العَلمانية والعلم؟، موقع إسلام أونلاين.
[3] المرجع السابق.
[4] المقصود بأنسنة الدين: اعتبار النص الشرعي بمثابة أي عمل إنساني، خاضع للنقد والتعديل كأي عمل أدبي بشري. ينظر: أنسنة الخطاب الديني، للدكتور زهير الخويلدي، ص (١٥)، وكلامه يتفق مع الأنسنة في بداية ظهورها ردة فعل على سلطان الكنيسة الذي يحتكر فهم الدين والعلم، لكن هناك توجه آخر في الآنسنة ورائده سارتر التي تدعو إلى التمرد على الدين والاهتمام بالإنسان بإعطائه الأولوية لعقله ورفض أي أسبقية دينية أو غيبية، وهي بهذا المعنى تصبح الوجه الآخر للعلمانية كما يقول علي حرب. ينظر لمزيد من الفائدة: الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، لكيحل مصطفى، ص (٥٩) و: العلمانيون والقرآن الكريم، للدكتور أحمد الطعان، ص (٦٠١).
[5] الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، لكيحل مصطفى، ص (٥٦).
[6] ينظر: العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، لمصطفى باحو، ص (١٣١).
[7] نقد الخطاب الديني، لنصر حامد أبو زيد، ص (٢٠٢).
[8] العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، لمصطفى باحو، ص (١٣٤).
[9] ينظر: العلمانيون والقرآن الكريم، للدكتور أحمد إدريس الطعان، ص (٢٩٣)، وهو كتاب قيّم في بابه تناول مؤلفه تاريخية النص عند العلمانيين في رسالته للدكتوراه.
[10] المرجع السابق، ص (١٤٨).
[11] المرجع السابق، ص (٣٣٦).
[12] العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، لمصطفى باحو، ص (١٥٧).
[13] تاريخية الفكر العربي، لمحمد أركون، ص (٨٥). ويمكن أن تعَّرف الفيلولوجيا بأنها: فرع من فروع علم اللغة أو اللسانيات التاريخية التي تدرس أصول اللغات والعلاقات بينها.
[14] العلمانيون والقرآن الكريم، للدكتور أحمد إدريس الطعان، ص (٧٩٦).
[15] المرجع السابق، ص (٧٨٦) وما بعدها.
[16] نقد الفكر الديني، لصادق العظم، ص (١٧-١٨).
[17] العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، لمصطفى باحو، ص (١٧٠).
[18] المرجع السابق.
[19] الأسطورة والتراث، للقمني، ص (١٦٥).
[20] العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، ص (١٧٤).
[21] مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر، لطيب تيزيني، ص (٥٣٥).
[22] المرجع السابق، ص (٤١٠).
[23] المرجع السابق، ص (٤٤٦).
[24] العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، لمصطفى باحو، ص (٢٢٠).
[25] مفهوم النص، لنصر حامد أبو زيد، ص (٤٥).
[26] مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر، لطيب تيزيني، ص (٤٤٦-٤٤٧).
[27] أخرجه مسلم (٢٣٦٣).
[28] الاتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة النبوية، لغازي محمود الشمري، ص (٥٤).
[29] المرجع السابق، ص (٥٨).
[30] المرجع السابق، ص (٦١).
[31] المرجع السابق، ص (٦٢).
[32] الاتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة النبوية، لغازي محمود الشمري، ص (٢١٩).
[33] ينظر: موقف الاتجاه الحداثي من الإمام الشافعي، للدكتور أحمد قوشتي عبد الرحيم، ص (٢٨) وما بعدها.
[34] تنظر كل هذه الافتراءات والرد عليها في الكتاب السابق.
[35] السنة قبل التدوين، للدكتور عجاج الخطيب، ص (٣٤٨).
[36] العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، لمصطفى باحو، ص (١٥٦).
د. أيمن هاروش
دكتوراه في الشريعة والقانون، أستاذ مساعد في كلية العلوم الإسلامية بجامعة آغري.