تزكية

العقاب التربوي للأبناء: حدوده، ومجالاته

من أهم حقوق الولد: حُسن تربيته حتى يكون فردًا صالحًا في نفسه ومجتمعه وأمته، ومن لوازم ذلك إحاطته بالعناية والتوجيه والتعليم حتى يعرف الصواب ويتجنب الخطأ، ومن أهم أساليب التربية: أسلوب العِقاب الذي شُرع لإيجاد جانب الترهيب جنبًا إلى جنب مع الترغيب في التربية، ووضعت له الضوابط حتى لا يُفرَط في استخدامه فيأتي بنتائج عكسية، وهذا المقال يتناول العقاب التربوي بشيء من التفصيل.

مدخل:

الولد نعمة مِن الله سبحانه وتعالى، وموهبةٌ وكرامةٌ، قال الله تعالى ممتنًّا على عباده: ﴿‌وَاللَّهُ ‌جَعَلَ ‌لَكُمْ ‌مِنْ ‌أَنْفُسِكُمْ ‌أَزْوَاجًا ‌وَجَعَلَ ‌لَكُمْ ‌مِنْ ‌أَزْوَاجِكُمْ ‌بَنِينَ ‌وَحَفَدَةً ‌وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ [النحل: 72]، وقد اهتمَّ الإسلام بتربية الأبناء على أُسسٍ سليمةٍ منذ ولادتهم، وأناط بالوالدين هذه المسؤولية، فالهدف مِن التربية الإسلامية: تنشئة المسلم الصالح في نفسه ومجتمعه وأمته، وهي خير ما يقدَّم للأولاد، جاء في الحديث: (ما نَحَلَ والدٌ ولدَه أفضلَ من أدب حسن)([1]).

وترجع أهمية التربية إلى أنَّ الطِّفل “أمانةٌ عند والديه، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ ساذجةٌ، خاليةٌ عن كلِّ نقشٍ وصورةٍ، وهو قابلٌ لكل ما نُقش، ومائلٌ إلى كلِّ ما يُمال إليه، فإن عُوِّد الخير وُعلِّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكلُّ معلِّم له ومؤدِّبٍ، وإن عُوِّد الشرَّ وأُهمل شقي وهلك، وكان الوِزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له، قال الله عز وجل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌قُوا ‌أَنْفُسَكُمْ ‌وَأَهْلِيكُمْ ‌نَارًا﴾ [التحريم: 6]”([2]).

الطِّفل “أمانةٌ عند والديه، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ ساذجةٌ، خاليةٌ عن كلِّ نقشٍ وصورةٍ، وهو قابلٌ لكل ما نُقش، ومائلٌ إلى كلِّ ما يُمال إليه، فإن عُوِّد الخير وُعلِّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكلُّ معلِّم له ومؤدِّبٍ، وإن عُوِّد الشرَّ وأُهمل شقي وهلك”
أبو حامد الغزالي

دَور الوالدين التربويِّ في مرحلة الطفولة:

تمثِّل مرحلة الطفولة -مِن فترة الولادة إلى ستِّ سنواتٍ أو سبعٍ- مرحلةً مُهمةً في تنشئة الطِّفل، لا تقلُّ أهميةً عن غيرها مِن المراحل، تتعدَّد فيها أدوار الوالدين في تربية أبنائهم وتنشئتهم؛ مِن ذلك: حُسن اختيار الاسم، وحُسن التغذية، والحضانة، والرعاية الصحية، وتعويده محاسن الآداب، وبناء القدرات والمهارات العقلية، وتطوير منهجيَّة التَّفكير، وغير ذلك.

وقد تصدُر مِن الولد في هذه المرحلة بعض الأخطاء أو التصرُّفات غير اللائقة، فليجأ الوالدان لعقابه عليها بقصد التأديب والزَّجر، فما هي حدود هذا العقاب؟

لا شكَّ أنَّ التربية بالرِّفق وبناء علاقة محبَّة ومودَّةٍ وثقة متبادلة بين المربي والطفل هي الأصل، فالأساس أن تعتمد العملية التربوية على الإرشاد والتَّوجيه والتعليم، فقد ورد في الحديث: عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ‌الرفق لا يكون في شيء إلا زانَهُ، ولا يُنزع من شيء إلا شانَهُ)([3])، وفي المقابل فالعقاب لابد منه، وكثيرًا ما يكون إيجابيًّا؛ فقد يلجأ الأبوان في بعض حالات الاعوجاج إلى استعمال العقوبة، والعقاب هو وسيلةٌ مِن وسائل تقويم السُّلوك وتعديله، والغرض مِنه: تصحيح سلوكٍ خاطئٍ في الطِّفل محلِّ التربية، لا تفريغ شحنات الغضب والضِّيق التي تولَّدت عند المربِّي نتيجة خطأ الطِّفل؛ فالعقاب وسيلةٌ وليس غايةً أو هدفًا، واستعمال العقاب بطريقةٍ صحيحةٍ مفيدٌ للطِّفل في تصحيح سلوكه وبناء شخصيَّته، وللمجتمع بمنع تكرُّر مثل هذا السُّلوك السيِّء([4]).

مواصفات العقاب الفعال:

مِن الواجب على الآباء والأمهات: التفريقُ بين تأديب الأبناء وتهذيب سلوكهم، وبين العُنف المبالَغ فيه، سواءٌ كان بغرَض تهذيبهم وتأديبهم، أو كان نوعًا مِن تنفيس الغضَب المكتوم([5])، وحتى يكون العقاب فعَّالاً:

  • ينبغي التأكُّد مِن وقوع الخطأ بالفعل، فلا يُرتَّب العقاب على التَّوهُّم والتَّخمين، فإنَّ: (الظُّلمَ ظُلماتٌ يوم القيامة)([6])، وبعض الآباء والأمهات قد يظنُّ أنَّه ليس عليه شيءٌ في الظُّلم الواقع منه على ولده.
  • أن يدرك الطِّفل الهدف مِن العقاب؛ ليحصل الرَّبط في ذهنه بين الخطأ والعقوبة، وليستشعر ويرى في العقوبة مشاعر المحبَّة مِن المربِّي، لا مشاعر الانتقام([7]).
  • لا بدَّ أن يكون العقاب متناسبًا مع حجم الخطأ، فكلٌّ مِن التَّفريط في العقاب والإفراط فيه مذمومٌ، كما أنَّ حجم العقوبة يرسِّخ عند الطِّفل حجم الخطأ، فإن غالى المربِّي في عقوبة الخطأ اليسير، وتهاون مع الخطأ الكبير؛ رسَّخ ذلك في نفس الصَّبيّ أحجامًا خاطئةً للأخطاء.
  • أن يتعلَّق العقاب -وكذا الثَّواب- بالقصد والإرادة، فلا يُعاقب على خطأٍ غير مقصودٍ أو غير ناتجٍ عن إهمالٍ.
  • مراعاة الفروق الفرديَّة بين الأطفال فيما يخص العقاب وكيفيته، فغالب الأطفال يردعهم العقاب، ومنهم مَن يزيده العقاب جرأة أو إصرارًا على الخطأ، ومنهم من يكفيه العقاب اليسير كردعه بنظرة ونحوها، ومنهم من يحتاج لجرعة أكبر، وهكذا.
  • انتهاء العقاب بانتهاء الموقف الذي أدَّى إليه، فلا يصحُّ معايرة الطِّفل بأخطائه مِن آنٍ لآخر.
  • ألَّا يؤدِّي العقاب إلى ضررٍ أو أذىً بدنيٍّ أو نفسيٍّ على الطِّفل، فيحدث مفسدةً أسوأ مِن الخطأ الذي ارتكبه أصلاً.

لا بدَّ أن يكون العقاب متناسبًا مع حجم الخطأ، فكلٌّ مِن التَّفريط في العقاب والإفراط فيه مذمومٌ، كما أنَّ حجم العقوبة يرسِّخ عند الطِّفل حجم الخطأ، فإن غالى المربِّي في عقوبة الخطأ اليسير، وتهاون مع الخطأ الكبير؛ رسَّخ ذلك في نفس الصَّبيّ أحجامًا خاطئةً للأخطاء

ضوابط العِقاب في مرحلة الطفولة المبكرة:

لا شكَّ أنَّ الأصل في مرحلة الطفولة المبكرة تجنُّب العقوبة؛ إذ يجازى بالعقوبة مَن يعقِل ليرتدع، وأمَّا مَن لا يعقل فلا يكون لعقوبته معنىً، ولذلك فالطِّفل الذي لا يعقِل شيئًا لا يجوز عقوبته على أفعاله، وإن جاز منعه مِن فعل ما يضرُّه أو يضرُّ به غيره لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحفظ، وأمَّا مَن حقَّق بعض التَّمييز -ولكن لم يكتمل تمييزه- فقد يصحُّ استعمال العقوبة معه في بعض الحالات، لكن لا بدَّ أن يكون ذلك في أضيق الحدود، وألَّا تكون عقوبةً بدنيَّةً، عن عمرِو بنِ شعيب، عن أبيهِ، عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُروا أبناءَكم بالصلاةِ لِسبع سنين، واضربوهم عليها لِعشرِ سنين)([8])، والحكمة في ذلك -كما قال الفقهاء- أنَّه حينئذٍ يحتمل الضَّرب، فلا يُضرب الطِّفل لأقلَّ مِن عشر سنواتٍ.

مع العِلم أن هناك مجموعةً مِن الضَّوابط التي وضعها العلماء لاستعمال العقاب البدنِّي (عقوبة الضَّرب على سبيل المثال)، منها:

  • أن يبلغ سنًّا يحتمل فيه الضرب ولا يؤذيه، وقد حدَّده الشَّرع بالعاشرة.
  • ألَّا يكون ضربًا مبرحًا ولا ممرضًا، فإنَّ الضَّرب المشروع هو ضرب التَّأديب لا ضرب الإتلاف.
  • أن يكون الضَّرب لترك شيءٍ مِن الشَّرائع الظاهرة والفرائض، أو الآداب التي لا ينبغي تركها.
  • أن يغلب على الظَّنِّ نفعه: فأمَّا إن غلب على الظَّنِّ أنَّه لا يفيد فلا يضرب؛ إذ الضَّرب وسيلةٌ وليس بغايةٍ ولا هدفٍ.
  • أن يتجنَّب كلَّ ضربٍ مهينٍ: كالضَّرب على الوجه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضربَ أحدكم فَليجتنبِ الوجه)([9])، ومِن ذلك: الضَّرب بالحذاء مثلاً، أو الضَّرب على القفا([10]).

دَور الوالدين في مجال التَّربية لمرحلة ما بعد التَّمييز وحتى البلوغ:

الولد المميِّز هو الولد الذي بلغ حد التَّمييز ولم يبلغ حد التَّكليف، ويجب له على والديه ما يجب للطِّفل غير المميِّز؛ مِن النَّفقة، والطعام والشراب، والرعاية الصحية، والعدل مع سائر الأولاد، وغيرها مِن الأمور المعروفة، ويُزاد على ذلك أمورٌ ينبغي على الوالد أن يفعلها مع ولده؛ مثل: تعليمه ما لا يسع المسلمَ جهلُه مِن أمور الدين ممَّا يشترك في علمه عموم المسلمين، وأمره بالواجبات الشرعية والشرائع المطلوبة، ونهيه عن المنهيَّات الشرعية؛ حتى يعتاد ذلك قبل البلوغ فيألفه، وحُسن تأديبه بالآداب المستحسنة شرعًا ومروءةً وعُرفًا، وتعليمه القرآن، وتجنيبه رفاق السُّوء، وتعليمه -إن كان ذكرًا- مهنةً يمتهنها.

ينبغي أن يكون العتاب واللَّوم سرًّا بين المربِّي والطِّفل، بغير تشهيرٍ به بين النَّاس أو بين رفاقه، كما أنَّه ينبغي أن يتغافل عن الخطأ إن كان نادرًا، لا سيَّما إذا اجتهد الطِّفل في إخفائه

أساليب العقوبة للطِّفل المميِّز:

الأصل في التربية هو التربية بالتعليم والتوجيه، وببناء علاقة محبَّةٍ ومودَّةٍ وثقةٍ متبادلةٍ بين المربِّي والطِّفل، وذكرنا -أيضًا- أنَّ العقاب وسيلةٌ تقويميَّةٌ مهمَّةٌ لا بدَّ مِن اللُّجوء لها أحيانًا، على أنَّ العقاب قد يكون عقابًا معنويًّا؛ كإبداء عدم الرضى أو اللَّوم، أو مادِّيًّا -غير بدنيٍّ- كالحرمان ممَّا يحبُّه، أو يكون عقابًا بدنيًّا؛ كالضَّرب. ولا بدَّ مِن التَّعرُّف على أهمِّ أساليب العقاب غير البدنيِّ لهذه المرحلة:

  • أسلوب العتاب والتَّوبيخ: والعتاب هو اللَّوم والتَّنبيه على الخطأ، وينبغي أن يكون العتاب واللَّوم سرًّا بين المربِّي والطِّفل، بغير تشهيرٍ به بين الناس أو بين رفاقه، كما أنَّه ينبغي أن يتغافل([11]) عن الخطأ إن كان نادرًا، لا سيَّما إذا اجتهد الطِّفل في إخفائه، يقول أبو حامدٍ الغزاليُّ: “ثمَّ مهما ظهر مِن الصَّبيِّ خلقٌ جميلٌ وفعلٌ محمودٌ؛ فينبغي أن يكرَم عليه ويجازى عليه بما يفرح به، ويمدَح بين أظهُر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرَّةً واحدةً فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه، ولا يظهر له أنَّه يتصوَّر أنَّه يتجاسر على مثله، ولا سيِّما إذا ستره الصَّبيُّ واجتهد في إخفائه؛ فإنَّ إظهار ذلك عليه ربَّما يفيده جسارةً حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانيًا فينبغي أن يُعاتب سرًّا، ويعظَّم الأمر فيه، ويُقال له: إيَّاك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يُطَّلَع عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كلِّ حينٍ؛ فإنَّه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ويسقط وقْع الكلام مِن قلبه، وليكن الأب حافظًا هيبة الكلام معه؛ فلا يوبِّخه إلَّا أحيانًا، والأمُّ تخوِّفه بالأب وتزجره عن القبائح”([12])، ويتبيَّن مِن هذا النَّقل مبدأٌ هامٌّ، وهو أنَّه: كي يكون أسلوب العتاب مؤثِّرًا ينبغي أن يقابله المدح والإكرام عند فعل ما يستحقُّ عليه المدح.
  • أسلوب الحرمان: بأن يحرم الطِّفل من شيء يحبه لإزالة استجابةٍ غير مرغوب فيها، أو طلب تعديلها، أو منعًا لتكرارها، ولكن ينبغي أن يكون هذا الذي يحرم منه الطِّفل زائدًا عمَّا يجب على الوالد تجاهه مِن النَّفقة الواجبة للطِّفل، وقد يكون مِن المناسب أن يكون الحرمان مِن شيءٍ له تعلُّق بالغلط الحاصل مِن الولد، فلو قام الولد مثلاً بالكتابة على الحائط بألوانه، فيمكن أن يُحرم مِن استعمالها لفترةٍ مناسبةٍ([13]).
  • أسلوب الهجر: والمراد به الغضب على المهجور واللَّجاج فيه؛ بقطع الكلام والسَّلام والمخالطة([14]).

وأمَّا ضوابط استعمال العقاب البدني للطِّفل المميِّز، فهي ما سبق في مرحلة الطفولة.

الإفراط في العقاب البدنيِّ أو النَّفسيِّ يؤثِّر سلبًا على نموِّ الشَّخصيَّة ونضوجها وتكاملها، وقد يجعل ذلك الابن غير قادرٍ على مواجهة التَّهديدات، ويفتقد القدرة على الدِّفاع عن النِّفس.

الآثار النفسية للعنف في العقوبة:

ولا بدَّ من معرفة الآثار النفسيَّة لاستخدام العُنف في التربية:

إنَّه مِن الواجب على الآباء والأمهات: التَّفريقُ بين تأديب الأبناء وتهذيب سلوكهم، وبين العُنف المبالَغ فيه، سواءٌ كان بغرَض تهذيبهم وتأديبهم، أو كان نوعًا مِن تنفيس الغضَب المكتوم([15])، ولاستعمال العُنف في تربية الأبناء آثارٌ سلبيَّةٌ خطيرةٌ، لعلَّ منها:

  • الإصابة باضطرابات القلَق، والذي يظهر بعدَّة صورٍ، منها: الضَّعف العامُّ، ونقص الطاقة والحيويَّة، والخُمول، وتعابير الخوف على الوجه([16]).
  • الميول العدوانيَّة: فالتربية القاسية الظالمة أو العنيفة قد تورث الطِّفل ميولاً عدوانيَّةً تجاه الآخرين، وتجعل الطِّفل يفشل في السَّيطرة على غضبه، كما يتطوَّر خياله -أيضًا- ليشتمل على درجةٍ مِن العدوان قد تتناسب طردًا مع درجة العدوان التي يتعرَّض لها([17]).
  • السُّلوك الانسحابيُّ عند الذكور: بأن يقضي الولد جلَّ وقته في أنشطةٍ خارج المنزل مع أصدقائه، للتَّهرُّب مِن العلاقات الأسريَّة المرهقة له نفسيًّا([18])، ولا شكَّ أنَّ هذا السُّلوك يورث مع الوقت تراجع الانتماء للأسرة، مما يكون له تبعاته السيِّئة التي لا تُحصى، كما قد يعتاد الابن بعد ذلك السُّلوك الانسحابيَّ في حياته كلِّها.
  • السُّلوك الاستعطافيُّ عند البنات خاصةً: فيورث العُنف الأسريُّ البنت -في كثيرٍ مِن الأحوال- اللُّجوء إلى البكاء والاستعطاف، حتى يصبح استعطاف المعتدي جزءًا من سلوكها؛ بدلاً مِن مواجهته([19])، وهو ما يُنشئ بنتًا ضعيفة الشخصيَّة، عُرضةً للابتزاز بسهولةٍ، غير قادرةٍ على مواجهة أيِّ اعتداءٍ موجَّهٍ ضدَّها.

وكلا النُّقطتين الأخيرتين تؤثِّران في قدرة الأبناء على مواجهة الظلم والاعتداء، فالإفراط في العقاب البدنيِّ أو النفسيِّ يؤثِّر سلبًا على نموِّ الشخصيَّة ونضوجها وتكاملها، وقد يجعل ذلك الابن غير قادرٍ على مواجهة التَّهديدات، ويفتقد القدرة على الدِّفاع عن النِّفس.

التَّربية في مرحلة ما بعد البلوغ:

جعل الشَّرع البلوغ مِن الصَّبيِّ أو الصَّبيَّة حدًا لزوال مرحلة الطُّفولة، وابتداء مرحلة التَّكليف وتحمُّل المسؤوليَّة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (رُفع القلم عن ثلاثٍ: عن النائمِ حتى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتى يحتلم، وعن المجنونِ حتى يعقل)([20])، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم البلوغ هو الحدَّ الفاصل بين مرحلة التَّكليف وبين مرحلة رفع القلم.

الدَّور التربويُّ للوالدين على الأبناء في مرحلة ما بعد البلوغ:

ببلوغ الولد سنَّ التَّكليف يكون قد صار إنسانًا مكتمل الأهليَّة، مكلَّفًا، لتبدأ مرحلة التَّوجيه والإرشاد ونقل الخبرات، يقول موفَّق الدِّين ابن قدامة: “ولا تثبت الحضانة إلَّا على الطِّفل والمعتوه، فأمَّا البالغ الرَّشيد فلا حضانة عليه”([21]).

العقوبة للابن البالغ:

سلطة العقوبة مِن توابع الولاية؛ فمَن كان له ولايةٌ على غيره كان له سلطة العقوبة في حدود الولاية، وولاية الوالدين بالنسبة للبالغ تتفاوت بحسب الزمان والمكان والعُرف، فقد يبقى للوالد ولاية على أبنائه وإن بلغوا؛ بحكم عادة أهل البلد أو الزمان، كما في زماننا هذا حيث يبقى الوالد ينفق على أولاده طيلة مراحل دراستهم وتعلمهم، حتى يجد أحدُهم عملاً ينفق منه على نفسه، وقد يوجد في بعض البلدان أن يستقل الأبناء بالإنفاق على أنفسهم بمجرد البلوغ، وكيفما كان شكل الولاية ومقدارها؛ يبقى للوالدين مكانُهما الاعتباري وتوقيرُهما في نفوس أبنائهما، الأمر الذي يُبقيهما في مقام التعليم والتوجيه والنصح.

وما يتغير في حق الأبناء الراشدين بعد البلوغ هو ما يتعلق بالضرب، فلا يَصحُّ ضرب الولد أو البنت البالغين الراشدين، بل ينتقل الوالدان معهما إلى الأساليب المناسبة للمرحلة العمرية التي بلغاها مما مرَّ معنا في أساليب العقوبات ومستوياتها، قال ابن حجر الهيتمي: “وقول جمعٍ: الأصحُّ أنَّه ليس لهما ضرب البالغ ولو سفيهًا”([22]).

قال ابن مفلحٍ رحمه الله: “وظاهر كلامهم: يؤدَّب الولد ولو كان كبيرًا مزوَّجًا منفردًا في بيتٍ، لقول عائشة رضي الله عنها لـمَّا انقطع عِقدها وأقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالناس على غير ماءٍ: “فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعلَ يطعنني بيدِه في خاصرتي”([23])، ولما رُوي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تَمنعوا نساءَكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها)، فقال بلال بن عبد الله: والله لَنمنَعُهنَّ! قال: فأقبلَ عليه عبد الله (والده) ‌فسبَّه ‌سبًا سيئًا ما سمعته سبَّه مثله قَط، وقال: أُخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لَنمنَعُهنَّ!”([24]).

ختامًا:

فكما أنَّ للوالدين حقوقًا عظيمةً على الأبناء، فإن للولد على والديه حقوقًا مختلفةً، تختلف باختلاف المرحلة العمريَّة، ومِن أهم هذه الحقوق: التربية بالمنهج الإسلاميِّ الذي يسعى لبناء المسلم الصالح، قويِّ الشخصيَّة، مستقِّل الإرادة، وليحذر المربّون من مخاطر استعمال العُنف في تربية الأبناء، وكذا الحذر مِن الحماية المفرطة.


أ. أحمد خالد أحمد
باحث في التربية الإسلامية.


([1]) أخرجه أحمد (15403).

([2]) إحياء علوم الدِّين، للغزالي (3/72).

([3]) أخرجه مسلم (2594).

([4]) ينظر: الثَّواب والعقاب وأثره في تربية الأولاد، لأحمد علي بديوي، ص (54)، و: تربية الأبناء، لسهام خضر، ص (389).

([5]) ينظر: العنف الأسريُّ وأثره في التَّحصيل الدِّراسيِّ، لولوة مطلق الجاسر، ص (36).

([6]) أخرجه البخاري (2447)، ومسلم (2578).

([7]) ينظر: الثَّواب والعقاب وأثره في تربية الأولاد، ص (53). و: تربية الأبناء، ص (389).

([8]) أخرجه أحمد (6756).

([9]) أخرجه أحمد (9604).

([10]) ينظر: ثقافة الأمِّ والسَّلامة النَّفسيَّة للطِّفل، لأحمد عوض، ص (169).

([11]) التَّغافُلُ: تعمُّدُ الغفلةِ، أي: بالسَّهوِ وقِلَّةِ التَّيقُّظِ. ويقصد به: وَضعُ الغفلةِ في موضِعِها الذي يُذَمُّ فيه البحثُ والتَّقَصِّي؛ فهو فَهمٌ للحقيقةِ، وإضرابٌ عن الطَّيشِ، واستعمالٌ للحِلمِ، وتسكينٌ للمَكروهِ. للاستزادة: ينظر موسوعة الأخلاق والسلوك، في موقع الدرر السنية dorar.net.

([12]) إحياء علوم الدِّين (3/73).

([13]) ينظر: طفلك وأنت: الدَّليل العمليُّ للأمِّ لتربية أطفالها، لنعيمة حسن، ص (113).

([14]) ينظر: إحياء علوم الدِّين (2/223).

([15]) ينظر: العنف الأسريُّ وأثره في التَّحصيل الدِّراسيِّ، ص (36).

([16]) ينظر: العنف الأسريُّ وعلاقته بالقلق لدى عيِّنةٍ مِن تلاميذ المرحلة الابتدائيَّة بمدينة مكَّة المكرَّمة، تركي عطيَّة حسن القرشي، مجلَّة كلِّيَّة التَّربية – جامعة أسيوط، ص (399).

([17]) ينظر: سيكولوجيَّة العنف وأثره على التِّنشئة الاجتماعية للأبناء، لنرمين حسن السَّطالي، ص (49).

([18]) ينظر: العنف الأسريُّ وأثره في التَّحصيل الدِّراسيِّ، ص (36).

([19]) ينظر: المصدر السَّابق نفسه.

([20]) أخرجه أحمد (24694).

([21]) المغني، لابن قدامة (11/414).

([22]) تحفة المحتاج في شرح المنهاج، لابن حجرٍ الهيتمي (9/179).

([23]) أخرجه البخاري (334).

([24]) الفروع، لابن مفلحٍ (9/328)، والحديث أخرجه مسلم (442).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

X