بعد انتصار الثورات والقضاء على الأنظمة المجرمة يبقى السؤال عن كيفية التعامل مع أعوان هذه الأنظمة وأنصارها، فمع القناعة بضرورة إيقاع العقوبات بالمجرمين لتحقيق العدالة، تطرح قضية العفو لتحقيق الاستقرار في المجتمع وضمان العبور لمستقبل أفضل للبلاد، وهنا تبرز مشكلة كيفية تحقيق التوازن بين الرحمة وضمان الحقوق، وفي هذا المقال الحديث عن أحد أنواع العفو وهو العفو السياسي، واستعراض الضوابط التي يجب مراعاتها لضمان أن يكون أداة للإصلاح والاستقرار المجتمعي، لا سببًا لضياع حقوق المظلومين.
مدخل لبيان مفهوم العفو السياسي:
العفو السياسي مصطلح يقصد به: قرارٌ ممن بيده إدارة شؤون الدولة أو مَن يقوم مقامه، بإسقاط العقوبة عمن ثبتت في حقه بلا مقابل، فالعقوبة تصبح في حقّ مَن صدر في حقه عفوٌ عامٌ كأن لم تكن.
وغالبًا ما يُنسب العفو إلى رأس الهرم الأعلى في الدولة الذي يصدر منه العفو، فيقال: عفو رئاسي أو عفو ملكي أو أميري، أو ما شابه ذلك.
العلاقة بين العفو السياسي والمصطلحات المشابهة:
هناك العديد من المصطلحات التي قد تتشابه في جزء من مضمونها مع العفو السياسي سواء من ناحية العموم والخصوص، أو من ناحية التشابه في بعض الإجراءات والمقاصد والأهداف، ومن تلك المصطلحات:
1. العدالة الانتقالية: وهي مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تُتخذ زمن الانتقال من النزاع أو القمع إلى الاستقرار السياسي؛ لمعالجة المشكلات التي عاشتها الدول بهدف تحقيق المحاسبة، وتعويض الضحايا، وتعزيز الثقة، وتجاوز خلافات الماضي[1].
فيتضح أنّ بين العدالة الانتقالية والعفو السياسي عمومًا وخصوصًا، فالعدالة الانتقالية إجراء عام يشمل العفو ويشمل غيره، والعفو يعتبر إجراءً من إجراءات العدالة الانتقالية.
2. الصفح: وهو الإعراض عن الذنب؛ فصفحت عن ذنب فلان أي أعرضت عنه فلم أؤاخذه بذنبه[2]، والصفح هو ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو فقد يعفو الشخص ولا يصفح[3]، قال البيضاوي في قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، قال: “العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك تثريبه”[4].
وإن كان بينهما فرق من حيث المعنى لأنّ الصفح عبارة عن عفو وزيادة، إلا أنّ استعمال الصفح في القرارات السياسية قليل؛ لأنّ الصفح مصطلح ذو بعد أخلاقي وشخصي أكثر من كونه إجراءً قانونيًّا أو سياسيًّا، فقد تُسقط الدولة العقوبة عن أفراد أو جماعات لكن قد لا تستطيع أن تُسقط اللوم عنهم من قبل المجتمع.
وعليه لو أصدرت الدولة عفوًا سياسيًا عن جهة ما فإنّ ذلك لا يمنع من لومها ما لم ينص قرار العفو عن منع اللوم بنص خاص؛ لأنّ العفو العام لا يشمل ذلك بنفسه.
3. المصالحة الوطنية: وهي عملية تنازل الأطراف عن حقّ أو دعوى بهدف إعادة بناء العلاقات بين الأطراف المتنازعة لإنهاء الصراعات والنزاعات أو منعها.
ومن خلال التعريف يظهر أنّ بين العفو السياسي والمصالحة عمومًا وخصوصًا، فالمصالحة الوطنية هي إجراء شامل يتضمن العفو السياسي جزءًا من تدابيرها، بالإضافة إلى إجراءات أخرى مثل العدالة الانتقالية والتعويضات وغيرها، بينما العفو السياسي هو إجراء محدّد يركّز على إسقاط العقوبة عمن ثبتت في حقّه العقوبة.
كما أنّ المصالحة السياسية توحي بتنازل طرف عن حقّ أو دعوى في مقابل تنازل الطرف الآخر عن حقّ أو دعوى بهدف إنهاء النزاع أو منعه، بعكس العفو الذي لا يشمل هذا التقابل، بل هو يصدر من طرف واحد وهو مَن بيده الحقّ العام.
وعليه فالمصالحة الوطنية لا تتم إلا إذا قبل الطرفان المتنازعان بنود المصالحة، بعكس العفو العام الذي لا يؤثر في نفاذه عدم قبول الطرف المعفو عنه.
4. التنازل عن الحقوق: يشير هذا المصطلح إلى إسقاط صاحب الحقّ حقَّه الشخصي عمن ثبت ذلك الحقّ في ذمّته؛ مثل التنازل عن القصاص أو الدية، أو العفو عن الحقوق المالية أو الشخصية.
وأمّا الفرق بينه وبين العفو السياسي: فتنازل أهل الحقوق عن حقّهم لا يعني بالضرورة إسقاط العقوبة العامة، ولا يستلزم العفو العام، خاصّة إن كانت الجريمة تتعلق بحقوق الله أو حقوق المجتمع، كما أنّ العفو السياسي لا يستلزم التنازل عن الحقوق الخاصّة المتعلّقة بأعيان الأفراد.
تنازل أهل الحقوق عن حقّهم لا يعني بالضرورة إسقاط العقوبة العامّة، ولا يستلزم العفو العام، خاصّة إن كانت الجريمة تتعلق بحقوق الله أو حقوق المجتمع، كما أنّ العفو السياسي لا يستلزم التنازل عن الحقوق الخاصّة المتعلّقة بأعيان الأفراد
أنواع العفو السياسي:
من خلال الاستقراء وفرض الفروض يمكن أن يتنوّع العفو السياسي إلى الأنواع التالية:
1. العفو العام: وهو قرار شامل يصدره مَن بيده الحقّ العام بإسقاط العقوبات عن جميع الجرائم السياسية التي وقعت خلال فترة زمنية محددة، ليشمل جميع مرتكبي الجرائم السياسية، سواء كانوا محاكمين أو غير محاكمين، وغالبًا ما يُطبق بعد نزاعات أو صراعات سياسية كإجراءٍ لتحقيق المصالحة السياسية؛ كالعفو عن كافّة المعتقلين السياسيين بعد الثورات أو الحروب الأهلية.
2. العفو الخاص: وهو قرار يُصدر لإسقاط العقوبة عن شخص أو مجموعة محدّدة من الأفراد دون أن يشمل جميع مرتكبي الجرائم؛ كالعفو عن معارض سياسي بهدف التهدئة السياسية أو كجزء من اتفاقات سياسية.
3. العفو المشروط: وهو عفو يتم منحه بشرط التزام المعفو عنهم بشروط معينة، كالعفو عن الجنود المحاربين مع اشتراط إلقاء السلاح والعودة إلى بيوتهم، وهذا العفو يتوقّف نفاذه على التزام المعفو عنهم بشروط العفو. كما فعل علي رضي الله عنه مع الخوارج عندما قال لهم: “لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم فيئًا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا”[5].
مشروعية العفو السياسي:
ورد في مشروعية العفو السياسي والترغيب فيه نصوص خاصّة، كما أنّ ما ورد في مشروعية العفو عمومًا دال على مشروعية العفو السياسي لكونه جزءًا من أجزائه، ومن تلك النصوص:
من القرآن الكريم:
1. قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، قال الألوسي: “والأخذ مجاز عن القبول والرضى، أي: ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم، وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تطلب منهم الجهد وما يشقّ عليهم؛ حتى لا ينفروا، … وجوّز أن يراد بالعفو: ظاهره، أي: خذ العفو عن المذنبين، والمراد: اعف عنهم…
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} أي: ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عليهم، وأغض بما يسوؤك منهم”[6].
فالآية خطاب لرئيس الدولة التي كان يمثّلها في ذلك الوقت النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية تعامله مع أعدائه.
2. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ 39 وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 39-40]، قال صاحب اللباب: “أي إنّ الله ندب المعاقِبين إلى العفو عن الجاني”[7]، وقد وردت هذه الآيات في سياق الردّ على مَن بُغي عليه، وقيّد العفو بعطفه على الإصلاح، ليفيد ذلك أنّ مِن صفات المؤمنين الانتصار على مَن بغى عليهم، ومن حقّهم المشروع ردّ السيئة بسيئة مثلها، ولكن إن كان العفو يؤدّي إلى إصلاح ومصلحة فعفوه عمَّن يستحق العقوبة مأجور عليه، لكن إن لم يكن في العفو صلاح فهو لا يدخل في ضمن الثواب المترتّب على العفو في حقّ مَن ثبتت في حقّه العقوبة؛ لأنّ العفو في هذه الحالة يكون فسادًا لا صلاحًا ولا إصلاحًا.
3. قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، وهذه الآية فيها دلالة على جواز العفو؛ إذ إنّها في سياق العفو في الدماء من أولياء الدم، وأنّ مَن صدر في حقّه العفو فلا بدّ أن يقابل الإحسان بالإحسان.
4. قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، فقد جاء الأمر بالعفو في سياق ذكر عداوة بني إسرائيل للإسلام وأهله.
من السنّة النبوية:
1. ورد في كتاب أخبار مكة: “أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح البيت، فصلى فيه ركعتين ثم خرج، وقد لبط بالناس حول الكعبة، فأخذ بعضادتي الباب، فقال: (الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون وماذا تظنون؟) قالوا: نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت فأسْجِحْ، قال: (فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، ألا إنّ كلّ ربا كان في الجاهلية أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين)[8]، وفيه دلالة على عفو القائد المنتصر على العدو المغلوب، وفيه تتجلى سماحة الإسلام وعدله.
2. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرجٌ فخلّوا سبيله، فإنّ الإمامَ أن يُخطِئَ في العفو خيرٌ من أن يُخطِئَ في العقوبةِ)[9].
ففي هذا الحديث يوجه النبي صلى الله عليه وسلم أئمة المسلمين بدرء الحدود عمّن وجبت في حقّه العقوبة ما استطاع الإمام إلى ذلك سبيلاً إن كان هناك شبهة تُسقط الحدود؛ فإنّه إنْ يخطئ في العفو عمّن وجبت في حقّه العقوبة خير له من أن يخطئ في عقوبة مَن لم تجب في حقّه العقوبة، أمّا مَن بانت جريرته ووجبت عقوبته فلا يجوز للإمام إسقاطها عنه.
3. وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن وحشي رضي الله عنه قاتل عمه حمزة رضي الله عنه حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ففرّ منها إلى الطائف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، وحين صدر في حقه العفو أسلم وحسن سلامه، حتى إنّه قتل مسيلمة الكذاب في معركة اليمامة[10].
4. وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن زعيم المنافقين ابن سلول بعد أن أعلن الحرب على دولة الإسلام، كما في حديث جابر رضي الله عنه أنّه قال: “غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثابَ معه ناسٌ من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجلٌ لعّاب، فكَسَعَ أنصاريًا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى أهل الجاهلية؟) ثم قال: (ما شأنهم؟)، فأُخبر بكَسْعَةِ المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنّها خبيثة)، وقال عبدالله بن أبي ابنُ سلول: أقَدْ تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ -لعبد الله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدّثُ الناسُ أنّه كان يقتلُ أصحابَه)[11].
إن كان العفو يؤدي إلى إصلاح ومصلحة فالعفو عمَّن يستحق العقوبة محمودٌ مأجورٌ، لكن إن لم يكن فيه ذلك فلا؛ لأنّ العفو في هذه الحالة يكون فسادًا لا صلاحًا ولا إصلاحًا
مقاصد العفو السياسي:
الأصل أن يُبنى العفو السياسي على قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وعندما يكون العفو كذلك فإنّه يحمل في طيّاته مقاصد شرعية واجتماعية وسياسية من شأنها الإسهام في تحقيق الاستقرار السياسي، ومن أهم تلك المقاصد:
1. تحقيق مقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل، سواء من ناحية تطبيق العقوبة أو درئها، فأمّا من ناحية إمضاء العقوبة على مَن ثبتت في حقه العقوبة ففي ذلك ردع لكل ظالم عن أي ظلم مستقبلي، فالله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
وأمّا من ناحية درء العقوبة عمّن ثبتت في حقّه العقوبة ففي ذلك حفظ لدمه وعرضه وماله، وإتاحة فرصة جديدة ليكون رجلاً صالحًا.
وهذا يجعل صاحب العفو أمام ميزان دقيق يوازن فيه من خلال الضوابط التي سنذكرها لاحقًا -إن شاء الله تعالى- بين درء العقوبة أو إمضائها.
2. إقامة العدل ومنع الظلم: فالعفو الذي يراعي الضوابط الشرعية يُحقق العدالة، سواء كان في درء العقوبة أو إعادة الحقوق لأصحابها، ويمنع الظلم الذي قد يقع نتيجة الممارسات الانتقامية، فمن خلال تلك الضوابط تستطيع الجهة المصدرة للعفو أن تُدخل في بنود العفو ما يحقّ لها العفو فيه، فيكون في ذلك رحمة لمن وقع منه الخطأ، ولا تدخل في بنود العفو ما لا يحقّ لها العفو فيه، حتى يكون في ذلك صيانة لحقوق المظلومين وأولياء الدم من المقتولين.
3. إصلاح المجتمع وتحقيق الوحدة: فالعفو يسهم في تجاوز الخلافات وترميم العلاقات الاجتماعية، مما يُعيد اللحمة إلى الأمّة ويقوّي بنيانها.
4. الإسهام في تحقيق المصالحة الوطنية: من خلال إزالة العوائق النفسية والاجتماعية التي خلّفتها النزاعات المسلّحة أو الاضطرابات السياسية، مما يؤدّي إلى تهدئة النفوس، وإعادة دمج الأفراد في المجتمع، وتجاوز الماضي المؤلم والتركيز على بناء المستقبل.
5. ضمان استقرار الدولة، وتقليص فرص العودة إلى دوامة العنف.
ضوابط العفو السياسي:
ولأن العفو السياسي مبني في الأساس على جلب المصالح ودرء المفاسد، فلا بدّ من ضبطه بمجموعة من الضوابط الشرعية التي ذكرها العلماء ونصّت عليها الأدلّة؛ حتى يكون وسيلة لتحقيق العدالة وترسيخ مبدأ الرحمة، لا وسيلة لضياع الحقوق، وتشجيعًا لتمادي الظلمة، وبابًا لفرار المجرمين من وجه العدالة، ومن تلك الضوابط:
1. أن يصدر من جهة لها ولاية شرعية: يجب أن يكون العفو السياسي صادرًا من الحاكم الشرعي أو من ينوب عنه ممن يملك صلاحية إصدار العفو؛ لأنّ العفو السياسي يُسقط حقًا عامًا، ولا يملك إسقاط الحق العام إلا مَن يملكه، ومَن يملكه هو الجهة التي خوّلها الشعب بالتصرّف في ذلك الحق[12].
2. عفو أصحاب الحقوق عن حقوقهم لا يستلزم العفو السياسي: وذلك كما لو كانت الجريمة السياسية لها تعلّق بحقوق مواطنين معينين في قتل أو سلب مال أو غيره، وصدر بحق صاحب الجرم حكمٌ، فإنّ إسقاط أصحاب الحقوق لحقوقهم لا يستلزم العفو عن صاحب الجرم في تلك القضية السياسية.
وقد قال مالك -رحمه الله- في أهل الحرابة، وهي جريمة سياسية كما هو واضح: “وهذا القتل -أي قتل صاحب الحرابة- محتوم ولا يجوز العفو عنه، وإن عفا عنه ولي الدم كان عفوه لغوًا”[13].
3. العفو السياسي لا يسقط الحقوق الخاصة: فالعفو السياسي إسقاط للعقوبة لمن ثبتت في حقّه العقوبة في حقّ عامّ لا في حقّ خاصّ، فيسقط عن المعفو عنه الحقّ العامّ لكن لا يسقط عنه الحقّ الخاصّ المتعلّق بشخص معيّن، ما لم يسقطه ذلك المعين عنه، فالإمام لا يملك الحقّ في إسقاط حقوق الآخرين عن الآخرين.
قال الماوردي رحمه الله: “ولو تعلّق بالتعزير حقّ لآدمي -كالتعزير في الشتم والمواثبة- ففيه حقّ المشتوم والمضروب، وحقّ السلطنة للتقويم والتهذيب، فلا يجوز لولي الأمر أن يُسقط بعفوه حقّ المشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقّه من تعزيز الشاتم والضارب”[14].
4. العفو السياسي لا يسقط الإثم الأخروي: وذلك أنّ الإثم مردّه إلى الله تعالى لا يسقطه أحد من عباده عنه كائنًا مَن كان، حتى ولو أسقط العفو عقوبة، فلا يسقط الإثم إلا توبة صادقة، وهذا بين العبد وربه.
والدليل على ذلك عفو النبي صلى الله عليه وسلم -كما مرّ- عن ابن سلول عندما أعلن الحرب على الدولة الإسلامية، ولم يخرجه ذلك العفو من دائرة النفاق والإثم، وقد قال الماوردي في حقّ المحاربين: “فإن تابوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم -مع المآثم- حدودُ الله سبحانه”[15]، أي سقط عنهم الحدّ لتوبتهم قبل القدرة عليهم الذي استحقوه بالخروج للحرابة وقطع الطريق.
5. العفو السياسي يُسقط الأحكام القضائية السابقة المتعلّقة بالحقّ العام: إذا صدر حكم قضائي سابق في قضية حقّ عامّ على مُدان فإنّ العفو السياسي يسقطه إذا كان العفو يشمله، بمعنى أنّ العفو السياسي لديه القدرة على إسقاط الأحكام القضائية السابقة للعفو.
والدليل على ذلك: الخبرُ الذي ذكرناه سابقًا من عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن وحشي رضي الله عنه بعد أن أهدر دمه، وكذلك عكرمة بن أبي جهل فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم دمه ثم عفا عنه، ولهذا قال الماوردي رحمه الله تعالى: “ومَن أباح الإمام دمه من المشركين لعظم نكايته وشدة أذيته، ثم أُسر؛ جاز له المنّ عليه والعفو عنه”[16].
6. العفو السياسي لا يُسقط الحدود: لأنّ الحدود حقّ لله تعالى فلا يملك أحد إسقاطها بعد رفعها إلى الجهة المختصة وإثباتها بالبيّنة أو الاعتراف، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدّ فقد وَجَبَ)[17]، لهذا ورد في الموسوعة الفقهية: “ويرى الفقهاء أنّ الحدّ الواجب لحقّ الله تعالى لا عفو فيه ولا شفاعة ولا إسقاط”[18].
7. العفو السياسي يسقط التعزير: لأنّ مردّ التعزير وتقديره للسلطان أو من ينوب عنه في ذلك؛ فجاز له إسقاطه بالعفو، قال الماوردي: “إنّ الحدّ وإن لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، فيجوز في التعزير العفو عنه، وتسوغ الشفاعة فيه”[19].
8. العفو السياسي لا يتطلّب الإيجاب والقبول: العفو يصدر من طرف واحد -كما مرّ في مفهومه- وهو مَن يملك صلاحية إصدار العفو. ولا يؤثّر في نفاذه وترتّب أحكامه عدمُ قبول الطرف المعفو عنه، قياسًا على عفو ولي الدم عن القاتل من القصاص إلى الدية، فإنّه لا يشترط رضاه؛ لأنّه محكوم عليه في الأصل[20].
9. مبنى العفو السياسي على جلب المصالح العامة، ودرء المفاسد العامة: فالعفو السياسي يعتمد على الموازنة بين المصالح والمفاسد، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه المصالح أو المفاسد حقيقية لا وهمية وعامة لا خاصة، كتحقيق الاستقرار أو إنهاء نزاع مسلح.
الخاتمة:
يعتبر العفو السياسي أحد الوسائل المهمّة للاستقرار السياسي وإنهاء الصراعات، ولتحقيق التوازن بين الرحمة وحفظ الحقوق في العفو السياسي: لا بد من ضبطه بضوابط شرعية تكفل تحقيق المصالح العامة ودرء المفاسد، والتوازن بين الرحمة وضمان الحقوق، وهذا يؤدي بدوره إلى الاستقرار السياسي وإنهاء الصراع.
أحمد محمد أبو سالم
باحث دكتوراه في السياسة الشرعية والفقه الإسلامي، رئيس منتدى المنارة، وأحد طلاب مركز إعداد العلماء
[1] مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان: ‘حول العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان’
https://www.ohchr.org/ar/transitional-justice/about-transitional-justice-and-human-rights.”
[2] تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي (6/540).
[3] الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، للكفوي، ص (562).
[4] تفسير البيضاوي (1/100).
[5] المهذب في اختصار السنن الكبير، للذهبي (6/3299).
[6] تفسير الألوسي (5/137).
[7] اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل (14/133).
[8] أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار (2/121)، ومعنى فأسْجِحْ: ارفقْ وأحسن بالعفو ولا تأخذ بالشدّة.
[9] أخرجه الترمذي (1424).
[10] الطبقات الكبير، لابن سعد (6/145).
[11] أخرجه البخاري (3518)، ومعنى كسَعَ: أي ضرَبَ دُبُرَه بيَدِه أو رِجلِه.
[12] ينظر: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، ص (71-72).
[13] الأحكام السلطانية، للماوردي، ص (108).
[14] الأحكام السلطانية، ص (٣٤٦).
[15] المرجع السابق، ص (١٠٩).
[16] المرجع السابق، ص (٢٠٩-211).
[17] أخرجه أبو داود (4376) والنسائي (4886).
[18] الموسوعة الفقهية الكويتية (30/184).
[19] الأحكام السلطانية، ص (٣٤٦).
[20] الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي (7/5692).