دعوة

الشّباب وضياع الهُويّة

الضعف الذي أصاب أمة الإسلام في القرون الأخيرة له مظاهر كثيرة، من أهمها فُقدان الشباب لملامح الهوية الجامعة التي يعتزُّ بها المسلم ويتمسَّك بها، ويتبع ذلك محاكاتهم لأفكار وثقافات غريبة عنهم، لا ينتمون إليها، وهي لا تعترف بهم، وهذه المقالة تتحدث عن الهوية الإسلامية ومظاهر ضعفها لدى الشباب وأسباب هذا الضعف وسبل تعزيزها وبنائها

مدخل:

الحديث عن الهُويّة ليس حديثًا عابرًا، أو ترفًا فكريًا، بل يتعلَّق بإثبات وجود الأفراد والمجتمعات والدول من عدمه، ولأهميته الكبرى تُنفق الحكومات الجهود العظيمة، والأموال الطائلة للتمسك بها، والإعلاء من شأنها وتعزيز مناعتها في مواجهة أيِّ خطرٍ يتهدَّدها، فهي محطُّ تميّزها عن الغير كما تميّز البصمة صاحبها عن غيره.

وإذا تعلَّق الأمر بهُويّة الشّباب؛ فالموضوع يتطلَّب مزيدًا من العناية من قبل الآباء والباحثين والدّعاة والمصلحين، بل من قبل الشّباب أنفسهم، لأنّهم قلبُ كلّ أُمّة وطاقتها الدفّاقة التي تصلح بقوتهم وعلمهم، وتضعف بضعفهم وجهلهم.

وثمة إجماعٌ من قبل الشّعوب عامة، ونخبها الفكرية خاصة على إِيلاء الهُويّة مكانة متقدمة في سلم أولوياتهم، ووضعوا لها المرتكزات الأساسية بناء على ثقافة كل أُمّة بما تحويه من ديانة وعلوم ومعارف أنتجتها تلك الأُمّة عبر تاريخها.

المقصود بالهوية:

لو أردنا أنْ نعرف الهُويّة تعريفًا عامًا لقلنا: إنها مجموعة من العقائد والمبادئ والخصائص والترميزات التي تجعل أُمّة ما تشّعر بمغايرتها للأمم الأخرى[1].

وبالنسبة للأشخاص: فلكلِّ إنسانٍ شخصيتُه المميّزة له، فله نسقُه القِيمي ومعتقداته وعاداته السلوكيّة وميوله واتجاهاته وثقافته[2].

وتشكِّل العقيدة الإسلاميّة مرتكز الهُويّة الأول للمسلم بما تحمله من معاني الإيمان بالله والبراءة مما عداه، وهي أيضًا شريعته التي تحدِّد له إطار حياته، وسلوكه، وهي تمثّلُ الإِرث العظيم بكلّ مكوناته ومراحله الذي أنتجته أُمّة الإِسلام عبر مسيرة تاريخها، إيمانًا به وافتخارًا ودفاعًا عنه، والسّعي إلى الحفاظ عليه، بل نشره.

كما أنّ اللغة العربيّة تُعد من العناصر المهمَّة في تكوين هويَّتنا، فبها كُتِب تاريخُنا وثقافتُنا، وبها ارتقَتْ حضارتُنا وبها أُنزل قرآننا، فلا يمكن أنْ تثبُت هُويّة الشّباب بدونها.

تشكِّل العقيدة الإسلاميّة مرتكز الهُويّة الأول للمسلم بما تحمله من معاني الإيمان بالله والبراءة مما عَداه، وهي شريعته التي تحدِّد له إطار حياته وسلوكه، وتمثّلُ الإِرث العظيم بكلّ مكوناته ومراحله الذي أنتجته أمُّة الإِسلام عبر مسيرة تاريخها

ضعف الهوية وأسبابه:

قد بدأ ضعف الهُويّة عمومًا بعد غياب سلطان الإسلام عن الأرض وبدأت تتسلل القوانين الوضعية بما تحمله من مفاهيم وتصورات للدين والإله والحياة، وبدأت دوائر الهُويّة الإسلامية تضيق كلما ابتعد النّاس عن دينهم بوصفه منهج حياة، وبدأت المفارقة واضحة بين ماضٍ فيه القوّة والوحدة في الغايات والأهداف والآمال والآلام، وبين واقعٍ فيه الضّعف والتّشتت وتدخل إليه مؤثرات الأمم الأخرى دون مقاومة كبيرة، وتزيد من المسافة الفاصلة بين ذلك الماضي القوي والحاضر الضعيف.

وقد كان لغياب سلطان الإسلام عن الأرض أثر بالغ الأهمية في ضعف الهُويّة واندراس مظاهرها[3]، وقد تفاوت ذلك الضّعف بين البلدان تبعًا لطبيعة السّلطات الحاكمة فيها، وبدأت مظاهر هذا الضياع ملحوظة بين الشّباب خاصة.

مظاهر ضياع الهُويّة:

أفرز غياب الهُويّة عن حياة الشّباب جملة من المظاهر السلبيّة، والتي باتت تهدد كيان الأُمّة ووجودها ومنها على سبيل المثال:

  1. الجهل بالعقيدة التي هي مدار الاجتماع والافتراق في الدّنيا، والفوز أو الخسران بالآخرة، وهي أشبه ببوصلته في هذه الحياة، وبدأ الشّباب البحث عن انتماءات وولاءات بديلة تتميز بالسطحية والتّفاهة والاستهلاك.
  2. العكوف على تعلم اللغات الأجنبية، والعزوف عن ضبط تعلم اللغة العربيّة.
  3. انجرار الشّباب خلف الأفكار الوافدة بلا تبصُّر أو نظرٍ إلى عواقبها.
  4. غياب مظاهر الالتزام الديني والقيمي، وغياب الهَدي الظاهر الذي يميّز شباب الإِسلام من غيرهم.
  5. شيوعُ حالة الاستهلاك والتغيّر الدائم والمتناقض؛ نظرًا لغياب الأرضيّة التأصيليّة.
  6. ضياع الانتماء بصورته العامة؛ فشاعت روحُ الفردية الخالية من القيم الموروثة، وغاب الانتماء للأُسرة، وكثُر عقوق الآباء والأمهات وتقطَّعت الأرحام وتباعد النّاس.
  7. ضحالة الأهداف، وقزم الطموحات والرضى بالدون.
  8. هجرة الشّباب إلى الخارج، والتعايش مع حياةٍ جديدةٍ يتعلق بعاداتهم وطريقة عيشهم وتربية أبنائهم والحفاظ على أبسط مقومات هويتهم.
  9. غياب المعاني القويمة كالمروءة والنجدة والحياء ومكارم الأخلاق التي كان النّاس يستفيدونها من آداب الإسلام، وتعلم الشعر وقصص الأولين، وحلَّت المعاني السطحية والتافهة عبر الفنون والغناء والمسلسلات والأفلام الهابطة؛ التي تورِث الميوعة والانحطاط.
  10. انعدام ثقافة القراءة والمطالعة الهادفة، وعكوف الشّباب -في الغالب- على قراءة الروايات والنصوص والآداب الرديئة أخلاقيًا، وقيميًا، وفكريًا، ولغويًا، والاكتفاء بمطالعة الرائج على وسائل التواصل.
  11. انتشار ظاهرة هدر الأوقات من خلال التّسكع في الأماكن العامة والمقاهي وأماكن الألعاب، أو حتى الانفراد بالأجهزة الذكية وتضييع الأوقات والأعمار بها.

وفي الحقيقة ما كان لمظاهر ضعف الهُويّة لدى الشّباب الظهور بهذا الشكل الواسع لولا ضعفُ الأُمّة وقوّة كيد عدوِّها، وهذا الضعف جعل الغرب يُسرع أكثر في تحقيق طموحاته في محو هُويّة الأُمّة، ويجعلها أكثر انسياقًا له متلمِّسةً عنده الرشد والخلاص، وهذا الكيد قديمٌ ومستمرٌّ إلى قيام الساعة؛ إلا أنَّ تحقيقَ نتائجه متوقف على مدى قوة الأُمّة ووعيها لذاتها وعدوها، قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: ٢١٧]، واستطاعتهم تتحقَّق بضعفنا، وتفشل وتتأخَّر بقوتنا.

ما كان ضعف الهُويّة لدى الشّباب أن يظهر بهذا الشكل الواسع لولا ضعفُ الأمُّة وقوّة كيد عدوِّها، وهذا الضعف جعل الغرب يُسرع أكثر في تحقيق طموحاته في محو هُويّة الأمُّة، ويجعلها أكثر انسياقًا له متلمِّسةً عنده الرُّشد والخلاص، وهذا الكيد قديمٌ ومستمرٌّ إلى قيام الساعة

وهنا لا يمكننا التّحدث عن ضياع الهُويّة لدى جيل الشّباب ما لم نذكر الجذور القديمة له، ولعلّ من أهمها على الإطلاق: الغزو الفكريّ والثقافيّ الذي تعرضَت له الأُمّة، فقد بدأ الغزو بصورته القوية عقِب فشل الحملات الصليبيّة على أرض الإِسلام، وما تلا ذلك من خيبة أمل كبيرة لدى الصّليبين عمومًا، وكبار دهاقينهم على وجه الخصوص، لأنّهم لم يستطيعوا أنْ يقيموا لهم مُلكًا في أرض الإِسلام، ولم يستطيعوا أنْ يُذلّوا الأُمّة بسبب تمسكها بهويتها.

لقد شكّل اعتقال لويس التاسع الفرنسي[4] ذروة الهزيمة لحلف الصّليبيين، فبدؤوا يفكِّرون بهدم الأُمّة من الداخل عبر قتل مقوِّمات بقائها؛ وكان ذلك على عاتق المستشرقين الذين درسوا تراث الأُمّة بأدقّ تفاصيله.

ثم بعد سقوط الأندلس جاءَت حِقبة الاستعمار فاحتُلت البلدان، وخضعَت للمستعمر وسياساته التخريبية.

بدأ المستعمر باستقبال البعثات العلميّة والطلابيّة في بلاده، وتغذية هذه البعثات على أعيُنه بثقافة تجعلهم يستصغرون أنفسهم وأُمّتهم أمام بهرج الحضارة الأوروبيّة، وهذا ما جاء على لسان القسيس ويتبرتيش: «يجب أن نُنْشئ جسرًا فوق الهاوية التي تفصل بين العناصر، وللتوصل إلى ذلك يجب أنْ ننتفعَ بوجود الطلبة المسلمين في إنكلترا…»[5]، ومن هنا بدأت مرحلة تفريخ المستغربين في بلداننا.

ثم بعد عودة المبتعثين أصبحوا طلائع متقدمة لجيش الغزو الفكريّ والثقافيّ، فبوؤوهم المناصب العُليا، والدّرجات العلميّة العالية، والمناصب الحساسة وسلطوا عليهم الأضواء الباهرة من أجل جذب الأجيال إلى هذا التيار الجارف وإغرائهم به[6].

قام الاستعمار بإنشاء مؤسسات تعليميّة على الطراز الغربيّ وأغدق على الدارسين والمدرسين فيها العطاء تشجيعًا للناس على ارتيادها، فناقضت هذه المدارس عبر مناهجها روحَ الأُمّة وهويَّتَها، بل أصبح طلابُها حزبًا جديدًا ميلُه وحبُّه وإكبارُهُ للمصدر الذي صدر عنه ما تعلموه..[7]، ما دفع أحد شعراء الهند إلى القول: «إنّ الاستعمار أذكى من فرعون الذي استخدم سياسة قتل الأولاد، ولم يفتح لهم مدارس وكليات تقتلهم من حيث لا يشعرون كما فعل المستعمرون»[8]، وضيّق المحتل على التعليم الذي ما زال يحافظ على هُويّة الأُمّة وأبنائها، وعمل على تجفيف تمويل مؤسساته والانتقاص من القائمين عليها في معايشهم ودَورهم، فأصبح لا يرتاد هذه المؤسسات إلا أبناء الطبقات الفقيرة والمهمشة، بينما كانت المدارس التغريبيّة من نصيب الأغنياء وفراخ الاستعمار الذين سيستلمون دفَّة الحُكم لاحقًا.

بدأت الكارثة منذ أن أنشب القسّ «دُونلوب» أظفاره في جسد التعليم وصياغته بطريقة مغايرة لروح الأُمّة وهويتها، ليصبح مخططه الذي بدأه في مصر أُسوةً لباقي الدول الخاضعة للاستعمار[9].

عني المستعمر بإفساد التعليم؛ فاستقبل البعثات العلميّة وغرَّب روَّادها، ثم بوَّأهم المناصب الحساسة في بلادهم، وأنشأ مؤسسات تعليميّة فاخرة على الطراز الغربيّ، ناقضت عبر مناهجها روحَ الأمُّة وهويَّتَها، وأصبح طلابُها حزبًا جديدًا ميلُه وحبُّه للغرب

كانت عمليّة تغريب شباب الأُمّة تُصنع على أعيُن المستشرقين والمبشِّرين، وتُراقَب عن كَثب، وتُعقَد لها المؤتمرات، وتُحاك لها المؤامرات، ويُكال المدح للقائمين عليها؛ كما فعل المستشرق زويمر في مؤتمر القدس سنة ١٩٣٥م من تهييجٍ للمبشرين وثناءٍ على جُهودهم، والذي نضطر إلى نقل جزءٍ من خطابه في هذا المقام تنبيهًا -للأُمّة عامةً، ولجيل الشّباب خاصةً- لحجم الخطط التي كانت تُعدُّ لضياع هويتهم[10]:

«لقد قبضنا أيّها الإِخوان في هذه الحِقبة من الدّهر -من ثُلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا- على جميع برامج التّعليم في الممالِك الإِسلاميّة… إنّكم أعددتم شبابًا في ديار الإِسلام لا يعرف الصّلةَ بالله ولا يريد أنْ يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإِسلام، ولم تدخلوه في المسيحيّة، وبالتالي جاء النّشء الإِسلاميّ طبقًا لما أراد له الاستعمار، لا يهتمُّ للعظائم، ويحبُّ الرّاحة والكسل، ولا يصرف همَّه في دنياه إلا في سبيل الشّهوات، فإذا تعلَّم فللشهوات، وإِنْ تبوّأ أسمى المراكز فللشهوات، ففي سبيل الشّهوات يجود بكل شيء».

هذا الخطاب الخطير الذي يعُجُّ بالكُره للإِسلام وأهله يعرض النتائج الخطيرة التي وصلت إليها حالة الأُمّة وشبابها، وأنّ تلك الخطط قد آتَت أُكُلها في ممالك الإسلام، وأنّ الجيل قد بلغ مرحلة متقدِّمة من الضّياع.

وقد استهدف هذا الغزو عددًا من المحاور الأساسية في هُويّة الأُمّة والتي منها:

محور العقيدة:

الأمم لا تتمايز من خلال لغاتها فحسب؛ بل من خلال عقائدها أيضًا، بل العقيدة هي الأكثر تمييزًا؛ لأنّه قد يجتمع على اعتناقها مَن ينتمون إلى لغات شتّى، وهي الطاقة الجبّارة التي كانت تحرّك قلوب المسلمين ليتجمعوا في وجه الحملات الصليبيّة فيكسروها بعد الاستعانة بالله، لذا وضع الغرب هدم العقيدة نصب عينيه وبدأ بإحكام الخطط لهدمها: «ولكن أقصى ما على المبشّر عمله هو تفريغ قلب المسلم من الإيمان بالله»[11].

محور اللغة:

تُعدُّ اللغة نقطة محورية في الحفاظ على قوة الأُمّة من خلال الحفاظ على موروثها الحضاريّ وثقافتها ودينها، لذا كان الاهتمام بها كبيرًا منذ عهد الرعيل الأول فقد جعل عمر بن الخطاب t التفقه بالعربية من الدين، وتعلمها يزيد المروءة[12]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «واللغات من أعظم شعائر الأُمم التي بها يتميزون»[13]، لذا توجهت الحرب إلى اللغة أيضًا باعتبارها المفتاح لتحطيم هُويّة الأُمّة وأجيالها، وهذا ما نجده في أفعال المستعمرين وأقوالهم فالحاكم الفرنسي على الجزائر يقول: «يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم»[14]، فبدأ التشكيك بتاريخها وشعرها ونثرها؛ والتشويه لنحوها ووسمه بالصعوبة والتعقيد؛ وكذلك استبدال العامية الدارجة بها؛ وتخليصها من معانيها القويمة المؤثرة في بناء الشخصية، ومن ثمّ استبدالها باللغات الأجنبية الأخرى، يقول الرافعي: «ما ذلَّت لغة شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأُمّة المستعمَرَة»[15].

وضعف ارتباط الأجيال بلغتهم هو قطع للصلة بينهم وبين فهم أمتهم وتاريخها ودينها ونتاجها الحضاريّ، وبالتالي سيتوجهون إلى تاريخ تلك اللغات الأخرى، وثقافتها وحضارتها فاقدين لهويتهم مغترين بهُويّة الغير حالهم حال قول الشاعر:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ** فصـادف قـلبًا فـارغًا فتـمكـنا

لذا تعمِد الأمم التي تحترم هُويّة شعوبها إلى تحصينهم من الـتأثر بتحصين لغتهم، في حين تعمِد الدول الضعيفة المنهزمة على تقوية اللغات الأجنبية في بلدانها، وجعلها أساسية في المناهج التعليمية، وشرطًا للتوظيف وإتمام الدراسات العليا.

ضعف ارتباط الأجيال بلغتهم هو قطعٌ للصلة بينهم وبين فهم أمتهم وتاريخها ودينها ونتاجها الحضاريّ، وبالتالي سيتوجَّهون إلى تاريخ تلك اللغات الأخرى، وثقافتها وحضارتها فاقدين لهويَّتهم مغترِّين بهُويّة الغير

محور التاريخ:

تاريخ أُمّةٍ ما هو شخصيَّتها وإنجازها التراكمي، ومعرفة ذلك التّاريخ مهمٌّ للغاية في توضيح ملامح عصور تلك الأُمّة لدى أجيالها، فهو تاريخٌ مجيدٌ مديد، يبعث في صفوف أبنائها نسائم العزّ وصور النصر والانتصار، ويحكي لهم العبر للاستفادة منها في مستقبلهم.

ولأهمية هذا التاريخ عمد الغرب وفراخه إلى تزويره، وتشويهه بأقبح الصور، واختزال سعته ببعض المواقف الطارئة، واختلاق الأكاذيب حول تاريخها وسيرة سلفها، ودُسّت كل تلك السّموم في مناهج التعليم في مراحله كافة.

محور العادات والتقاليد:

بدأت تتسلل إلى الشّباب عاداتٌ وتقاليدُ دخيلة، فمنها ما يتعلق بالأشكال الظاهرة، ومنها ما يتعلق بالمضامين، واضمحلَّت عادات وأعراف المجتمع القديمة التي كانت بمثابة رافد قويّ للهُويّة، وامتلؤوا بقناعات ومضامين مختلفة دفعت بهم إلى نعت أعراف أمتهم وتقاليدها بالبالية، وتقاليد الآخرين بأنّها عصريّة وحضاريّة.

محور الأُسرة:

الأُسرة هي النواة الصغيرة في المجتمع ومن بعدها الأُمّة، والمفهوم الأُسريُّ قائم لدينا على الأرحام والتراحم، والتساند والتعاضد، هذا المفهوم له محدداته المتعارف عليها كطاعة الوالدين والصدور عنهما باعتبارهما الراعيان للأبناء، والإِعلاء من مكانتهما كلما تقدم بهما العمر، وكذلك احترام المرأة والغيرة عليها، وإعدادها لتكون أهلاً لتربية الأبناء وتأسيس أُسرة ناجحة، فبقي المجتمع متماسكًا متعاضدًا زمنًا طويلاً، وبقيت الأُسرة نقطة البداية لتكوين هُويّة الأبناء بهذه المفاهيم القويمة، هذا التماسك الأُسريّ لم يعجبِ الغرب، فسعوا إلى ضرب هذه النواة الأولى وتفكيكها، وغرس التمرُّد في صفوف الأبناء على آبائهم، وقلة العناية بتربيتهم من قبل الآباء، وتركت تربيتهم لوسائل الإعلام لتقوم بالمهمة، وتنشر بينهم الأفكار المغايرة لمجتمعهم منذ الصغر، ما أفرز تعددًا للرؤى والقناعات في الأسرة الواحدة، وانهار معنى القوامة للرجل على أهل بيته، وتوجهوا إلى المرأة عازمين على إفسادها باعتبارها إِحدى المقومات الكبرى في حياة الأبناء عبر إخراجها من بيتها، وعندما خرجت تلقفوها بالأفكار الخبيثة التي تتمرد فيها على دينها، وعلى مجتمعها وبذروا في ذهنها أفكار التحرر والتّخلص من مكانة الرجل وقوامته عليها، فأنشؤوا المدراس وأسسوا الجمعيات والملتقيات والندوات والمنظمات التابعة لأممهم المعادية لأمتنا، ولما يسمى منظمات المجتمع المدنيّ، وكلها واضعة نصب عينيها هدف الإِفساد للمرأة، ومن ثم إِفساد الأُمّة كلها «لا سبيلَ إلا بجلب النّساء المسلمات إلى المسيح.. فكلّ نشاطٍ مجدٍ للوصول إليهنّ يجب أن يكون أوسع»[16].

الأسُرة في الإسلام نواة تكوين هويةّ الأبناء بالمفاهيم القويمة، وتماسكها لم يعجبِ الغرب، فسعَوا إلى ضربها وتفكيكها، وغرسِ التمرُّد في صفوف الأبناء على آبائهم، وإشغال الآباء عن تربيتهم، لتقوم وسائل الإعلام بإفساد أفكارهم منذ الصغر

أسباب ضياع هوية الشباب:

نلحظ من كل ما سبق أنّ من أسباب ضياع الهُويّة لدى الشّباب ما يلي:

  1. حالة الضعف التي مرَت بها الأُمّة، وعدم قدرتها على مواكبة التغييرات التي حصلَت لدى العدو على غالبية الأصعدة.
  2. خضوع البلدان للاحتلالات المباشرة، أو غير المباشرة، وتهيئة الظروف المناسبة لعمل مراكز الاستشراق.
  3. انشغال طليعة الأُمّة -على قلتهم- من مصلحين بالدفاع عما بقي من مرتكزات، والردّ على مخططات العدو، وعدم القدرة على تأسيس جيلٍ جديد يقاوم ذلك التيار التغريبيّ الجارف بسبب ذلك الانشغال.
  4. وضع العدو ثقلَه في التّعليم باعتباره النطاق الأكثر تأثيرًا والأسرع من حيث النتائج، ووضع جيل الشّباب في مرمى هدفه.
  5. عمل المنظمات الأمميّة المنبثقة عن النظام العالمي، كمنظمة اليونسكو التي تهتم بالتعليم، وكذا حال منظمات المرأة، وحقوق الإِنسان، وحقوق الطفل كلها تعمل في ذات الغاية وهي تغريب أبناء الأُمّة وتضييع هويتهم.
  6. الإعلام، وشدة بهرجه وقوة عرضه للأفكار والقيم، ودوره في سرعة انتشارها والتفاعل معها، فقد أصبح مصدر التلقي لدى الشّباب مع أن ما يبث من خلاله غاية في الخطورة على الأجيال.
  7. ضعف المناعة العقديّة والفكريّة العامة على المستويات كافة؛ رسمية كانت أم مجتمعيّة أم أُسريّة.
  8. حالة التهميش التي يعاني منها المفكرون والدعاة والكتاب وأصحاب الرؤى الإصلاحيّة في كثير من البلدان، وإفساح المجال للمتملقين، وكُتّاب البَلاط، ومثقفي العناوين، ومشايخ السلطان ودعاته، الذين لا يهمهم في أيّة طريق سار مركب الشّباب، ولا يهمهم المحافظة على كيان الأُمّة وهُويّة أبنائها.
  9. روح الانهزام السّارية في جسد الأُمّة، عبر سطوة المحتل وقوة آلته العسكريّة، والإعلاميّة، وكذلك ما روج له أفراخ الاستعمار وتلامذة المستشرقين من تغذية لهذا الشعور لدى الشّباب.
  10. الواقع الاقتصادي المتردي وانتشار البطالة في كل طبقات المجتمع المتعلمة وغيرها، وهذا يلقي بالآثار السّيئة على نفسية الشّباب، ويجعلهم ينحدرون إلى أوحال المخدرات والجريمة، أو الارتماء في أحضان المفسدين، ويتساوى عندهم الرشد والضلال، والخير والشر، وتنعدم المبالاة لديهم تجاه الحياة.
  11. ضعف العلاقة بالله المتمثلة بالإيمان به، وبما قدره على كل إنسان من خير أو شر، بما يجعل الشّباب بلا استقرار نفسي، وبلا اتساق مع روح الأُمّة التي تؤمن بتصرف الله الكامل في هذا الكون، ويجعله يبحث عن بدائل لهذه العلاقة مع الله عبر اعتناقه لقناعات مستوردة قد تؤدّي به إلى الانتحار.
  12. غياب دور المسجد في حياة الأُمّة عامةً، وحياة الشّباب خاصةً، وذلك لبعده عن محاكاة واقعهم، وحلحلة مشكلاتهم، وربطهم بروح أُمّتهم، وصياغتهم صياغةً صحيحةً، فقد كان للمسجد الدور الأبرز في حياة الأُمّة.
  13. تنصّل الآباء من حمل الأمانة التي أُنيطَت بهم في الحفاظ على هُويّة أبنائهم لكونهم رعاة وهم مسؤولون عن رعيتهم، فالرسول ﷺ وهو الصادق المصدوق قد بين لنا أنّ مهمة الحفاظ على عقيدة الأبناء التي هي هويتهم الدينيّة منوطة بآبائهم وأمهاتهم: (كل مولود يولد على الفِطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجِّسانه)[17].

هُويّة الشّباب مسؤوليةٌ جماعيةٌ لا مناصَ لأحدٍ في التنصُّل منها؛ لأنّه إذا ضلَّ الشّباب ستضلُّ بضلاله أجيالٌ قادمة وستُنشّأ وفقًا لما يريده العدو

بناء الهُويّة المهدمة:

بعد هذا الاستعراض السّريع لضياع الهُويّة، والأسباب التي أدت إليه ها نحن أولاء نضع بعض الإضاءات التي تنير للشباب طريقهم وتعيدهم إلى هويتهم الحقيقية:

  1. توثيق الارتباط بماضي الأمة المجيد زمن قوتها وازدهارها؛ ليتحقق الصلاح، كما قال الإمام مالك رحمه الله: «لا يُصلح آخرَ هذه الأُمّة إلا ما أصلح أولها»[18].
  2. ربط الشباب بكتاب ربهم؛ ففيه صلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة.
  3. الارتباط بنفائس التّراث الذي أنتجته أمتنا والإفادة منه.
  4. اطلاع الشّباب على رجال تاريخنا الذين يستحقون الاقتداء بهم، بدءًا بسيرة نبينا ﷺ وصحابته الكرام ومن سار على خطاهم، والحذر من المدلسين والمشوهين للتاريخ وشخوصه متمثلين قول القائل:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

  1. التعرُّف على الأعداء ووسائلهم في الحرب حتى يحذروا من كيدهم، وهذا من الحكمة والبصيرة والعون على التمسك بالهُويّة.

  1. تعزيز علاقة الشباب بالمسجد، فهو المنارة الأولى للعلم، وفي ظلاله السكينة والاطمئنان.
  2. الاعتزاز باللغة العربية والافتخار بها؛ مِن شعرها ونثرها، وما كتب فيها من ثقافتها.
  3. تحريص الشباب على أوقاتهم واستثمارها، وليكن تعاملهم مع وسائل التواصل وغيرها مرشدًا مقتصرًا على المفيد النافع.

فيا أيّها الآباء: الأمانة في أعناقكم ثقيلة فلا تضيعوها، فبداية طريق الشّباب من عندكم، فاملؤوهم منذ الصغر بما يجعلهم أعضاء فاعلين في جسد أمتهم، فأنتم أول من سيحصد نتاج زرعكم.

ويا أيّها المعلمون: أنتم القدوة في نظر الشّباب فكونوا على قدر جمال الصورة التي رسموها لكم، أرشدوهم للنافع من العلوم، وكوّنوا فكرهم ووسعوا تصوراتهم عن أمتهم وشخصيتهم وهويتهم.

ويا أيّها المصلحون: كثفوا جهودكم التي تستهدف الشّباب، ولتكن موضوعاتها في صلب اهتمامهم، حدثوهم عن هويتهم، عن عدوهم، عن مستقبل مشرق لهذا الدين ينتظر منهم الجد والعمل، انشروا بينهم الأمل والتفاؤل.

ويا أيّها الدعاة: أصواتُكم محطُّ اهتمام الآذان والقلوب، فادخُلوا إلى قلوب الشّباب واعمُروا قلوبهم بالإيمان، بيِّنوا لهم طريق الحق، وحذِّروهم من طُرق الزيغ والضلال، واختاروا موضوعات خُطبكم ودروسكم لتكون قريبة من الشّباب وهمومهم، كونوا سباقين إلى الإجابة عن تساؤلاتهم وما يشغل بالهم، وكونوا لهم مناعة وقناعة ضد ما يوسوس لهم به شياطين الإنس والجن.

خاتمة:

إنّ هُويّة الشّباب مسؤولية جماعية لا مناص لأحد في التنصل منها؛ لأنّه إذا ضل الشّباب ستضل بضلاله أجيال قادمة وستُنشّأ وفقًا لما يريده العدو.

وإِنّه من الصعوبة بمكان أنْ يعطى هذا الموضوع الحساس والملح حقه في صفحات معدودات، ولكنْ حسبك من القِلادة ما أحاط بالعنق، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه، لعلَّنا نرى واقعًا جديدًا لشبابنا شعاره العزّة والفخر بانتمائه لهذه الأمة، ولعلنا نرى جهدهم الفاعل في جوانب الحياة كافة، والله المستعان، وعليه التوكل، وبه الإيمان.


 

أ. عبد المنعم العلي

طالب في مرحلة الدكتوراه في جامعة حلب الحرة، قسم التأهيل والتخصص.

 


[1] تجديد الوعي، لعبد الكريم بكار، ص (٧٠).

[2] ينظر: التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين، لسعيد بن سيف السيف، ص (٩٥).

[3] وكما جاء الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم (الإمام جنة)، البخاري (٢٩٥٧) ومسلم (١٨٤١)، ومن واجبات الإمام المسلم حفظ دين الأمة الذي هو هويتها.

[4] تم أسره في معركة المنصورة في مصر سنة ١٢٥٠م، الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي (١٣/١٤٣).

[5] أجنحة المكر الثلاثة، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ص (٧٠).

[6] ومن أمثال هؤلاء: طه حسين، ورفاعة الطهطاوي؛ فبعد عودة طه حسين فُتحت له أبواب كلية الآداب في جامعة القاهرة لينفث سمومه من خلالها، فمن هجوم على الإسلام والأنبياء إلى تشكيك بالقرآن الكريم والشعر العربي الجاهلي تطبيقًا لنظرية الشك التي نقلها عن ديكارت، إلى دفاعه المستميت لإقصاء تدريس التاريخ الإسلامي، وإحلال التاريخ اليوناني مكانه باعتباره كان باعثًا لنهضة الأوربيين، ولاسيما في كتابيه: «مستقبل الثقافة في مصر»، و«في الشعر الجاهلي». أما رفاعة الطهطاوي فقد ابتعث ليكون مرشدًا دينيًا للبعثة الطلابية المصرية، لكنه افتُتِن بالغرب وبهرج أفكاره ونمط حياته، وعاد بغير الوجه الذي ذهب به، وبدأ ينتقص الحياة المصرية، ويمدح الحياة الفرنسية، ويصور ملاهيها ومراقصها كمثال للرقي والحضارة، وظهرت مخرجات الابتعاث المنسلخة عن الأُمّة في كتاباته ولاسيما في كتابه: «تخليص الإبريز في تاريخ باريز»، ثم أسس مدرسة الألسن التي أخذت على عاتقها نشر الثقافة الغربية تحت ستار العلم والثقافة.

[7] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، لمحمود محمد شاكر، ص (١٤٧).

[8] روائع إقبال، نقلاً عن كتاب العلمانية لسفر الحوالي، ص (٥٩٣).

[9] رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، لمحمود محمد شاكر، ص (١٤٨) بتصرف.

[10] يمكن الرجوع إلى كتاب أجنحة المكر الثلاثة، لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ففيه كامل الخطاب ص (١٠١)، وفيه ذكر لكثير من المؤتمرات.

[11] من كلام زويمر في مؤتمر القاهرة التبشيري المنعقد سنة ١٩٠٦، أجنحة المكر الثلاثة.

[12] ومن يتتبع سيرة السلف يجد حرصهم الشديد على حفظ اللغة العربية باعتبارها مفتاح فهم القرآن والدين.

[13] اقتضاء الصراط المستقيم (١/٥١٩).

[14] الهُويّة منار الشّباب، لبدوي محمود الشيخ، ص (١٦).

[15] وحي القلم، لمصطفى صادق الرافعي (٣/٢٧).

[16] مؤتمر القاهرة التبشيري ١٩٠٦، أجنحة المكر الثلاثة، ص (٧٣).

[17] صحيح البخاري (١٣٨٥).

[18] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (٢/٨٨).

X