قضايا معاصرة

الشباب واضطراب الهوية الدينية في عصر الرقميات

في عصر التعددية الثقافية والانفتاح الرقمي، أضحى الحديث عن الهوية محط اهتمام الباحثين؛ فالهوية كانت وما تزال خصيصة إنسانية وسمة من سمات البشر، ورغم التعددية الثقافية والعرقية يبقى الحفاظ على الهوية مطمحًا للجميع، لذلك فالحديث عن صدام الحضارات أو صراع الحضارات هو في صلبه صراع للهويات، تحركه القيم الثقافية والاجتماعية.ولما كانت الهوية الدينية هي ما يميز انتماء الإنسان العقائدي، ويحدد رؤيته الوجودية؛ بات الحديث عنها في ظل الثورة التكنولوجية وسطوة العالم الافتراضي أمرًا ضروريًا.

محددات الهوية الدينية بين الواقع والرقمي (من نحن؟):

لكل حضارة إنسانية رؤيتها وتصورها عن الله والإنسان والكون، وتعد هذه الرؤية خارطة معرفية يحاكم إليها الإنسان واقعه وتصرفاته في علاقته بالذات والآخر، وكلما كانت هذه الرؤية متساوقة مع فطرته كان الإنسان أكثر ثباتًا واستقامة، وتعد الهوية الدينية من تبديات هذه الرؤية؛ فهي التمثلات والمواقف والأنشطة والممارسات كلها التي يعبر بواسطتها الفرد عن انتمائه الديني[1].

لذلك يمكن اعتبار الهوية الدينية من أهم الهويات التي على أساسها تتكون العديد من سلوكياتنا ومُثلنا العليا، ومن ينظر في القرآن الكريم يرى الإشارات الربانية لركيزة الهوية الإسلامية في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، ففي هذه الآية الكريمة ثلاثة أركان لهوية المسلم وهي: “العقيدة والعمل والاتباع”، حيث يمكن عدها من اللبنات الأساسية للهوية الإنسانية؛ فالشخص الذي يمتلك هذه العناصر الأساسية، أي: يمتلك الإيمان ويطبق الأخلاق الإلهية في روحه ويتصرف وفقًا للعقيدة والأخلاق، فقد استطاع أن يجد هويته الحقيقية[2]، ومن حاد عنها لم يحقق الشهادة على الناس.

وهوية هذه الأمة كانت قائمة منذ البداية على هذا الأساس؛ فهويتنا هي مجموع العقائد والمبادئ والخصائص التي تجعلها تغاير الأمم الأخرى[3]، وهي الصورة التي نقلت لنا عن ربعي بن عامر رضي الله عنه عند لقائه بقائد الفرس لما قال له: “الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”[4]، فلم يكن ربعي بن عامر ليقول هذا لولا فقهه بعظم الرسالة وقوة انتمائه لهذا الدين.

الهوية الدينية من أهم الهويات التي على أساسها تتكون العديد من سلوكياتنا ومُثلنا العليا

وهذه الهوية محصلة لمجموعة من الأسس والمحددات يمكن تصنيفها فيما يأتي[5]:

– عقيدة التوحيد:

فهي المرجع الأول والمصدر الأساس لحضارتنا وفكرنا ونهضتنا، وهي الأساس الصلب للهوية الإسلامية ومنطلق الإبداع[6]، ومن لا ينطلق من هويته لن يحقق نهوضًا، لذلك يقول عبدالوهاب المسيري: “الإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، فالإنسان لا يبدع إلا إذا نظر للعالم بمنظاره هو وليس بمنظار الآخرين. لو نظر بمنظار الآخرين، أي لو فقد هويته، فإنه سيكرر ما يقولونه ويصبح تابعًا لهم، كل همه أن يقلدهم أو أن يلحق بهم ويبدع داخل إطارهم”[7].

– اللغة العربية:

باعتبارها لغة القرآن والتي حملت بثرائها اللفظي وعمقها المنطقي هوية المسلمين الفكرية والثقافية، ومنذ انتشار الإسلام في أصقاع الأرض صارت العربية لغة عالمية؛ فهي لغة الدين والعلم والثقافة والأدب لكل الأمصار المنضوية تحت لواء الإسلام، حتى إن الحرف أو الخط الشريف -كما يطلق عليه العثمانيون- الذي تكتب به لغات الشعوب الإسلامية هو الحرف العربي، وفي هذا السياق يقول ابن خلدون: “لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطِّين لها، ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية”[8]، فقوة لغتنا في العصر الإسلامي الأصيل كانت مستمدة من قوة الإسلام وحضور روحه في قلوب المسلمين.

– التاريخ المشترك:

الذي ساهم في صناعته أبناء الإسلام، وكان لهم محطات مضيئة ساهمت بشكل فعال ومؤثر في تغيير مجرى حياة الأمة الإسلامية، فهو المخزون الثقافي المشترك الذي يزخر به ذهن المسلم، من خلال معرفته كيف كانت الحياة قبل الإسلام، وكيف جاء الإسلام ولمن جاء، والعراقيل التي اعترضته في أثناء انتشاره، فهذه البصمة الثقافية الأولى التي يتشبع بها كل مسلم تجعلهم ضمنيًا لهم تجارب وخبرات مشتركة، بل أدت هذه البصمة إلى إشراكهم في قضايا مهمة.

فهذه هي مجموع محددات الهوية الدينية الجمعية للمسلمين، بالإضافة إلى محدد النموذج القدوة -المتمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام ثم الصحابة رضوان الله عليهم- والتي يتشارك فيها كافة أبناء هذه الأمة، وأي خلل أو تشوه يشوب هذه المحددات سيأتي على الهوية الدينية، ويدخل الإنسان في خندق التأزم الهوياتي، والبحث عن هويات دينية هجينة عززتها الثورة المعلوماتية والعالم الرقمي.

الهوية الدينية الجمعية للمسلمين لها محدّدات تتمثّل في عقيدة التوحيد المرجع الأول والمصدر الأساس لحضارتنا وفكرنا ونهضتنا، واللغة العربية لغة القرآن والتي حملت بثرائها اللفظي وعمقها المنطقي هوية المسلمين الفكرية والثقافية، والتاريخ المشترك الذي ساهم في صناعته أبناء الإسلام.

الدين الرقمي والهوية الهجينة:

أصبحنا اليوم نتحدث عن هوية رقمية إلى جانب هوية الشخص الواقعية، وهي ظاهرة اجتماعية ظهرت مع الاتصال الرقمي والأشكال الأولى للملف الشخصي لمستخدمي الإنترنت على شبكات التواصل الاجتماعي[9].

حيث استطاعت هذه الشبكات تشكيل مجتمعات من أعضاء يعرفون أنفسهم جزءًا من المجتمع عندما يجدون الأماكن التي يمكنهم فيها التواصل بشكل هادف مع الأشخاص ذوي التفكير المماثل[10].

وقد أدى العيش في عالمين متمايزين إلى إرساء دعائم تشكل هوية هجينة توصف بأنها هوية افتراضية أو رقمية أو شبكية، ورغم تعدد التسميات فإن الهوية الرقمية تشير إلى الطريقة التي يعرض بها الشخص ذاته في فضاءاته السيبرانية، مما يكسب الفرد هوية حربائية متلونة غير ثابتة[11].

والهوية الدينية الرقمية هي إحدى أنواع هذه الهويات الهجينة، والتي تتكون من نسق من التمثلات والتصورات والمعاني انطلاقًا من التفاعلات الافتراضية؛ فهي تمثل الطريقة التي يتصور ويتمثل بها ذاته بوصفه متدينًا داخل الفضاء الرقمي، والتي تتخذ أشكالاً وصورًا متعددة.

معاناة الإنسان اليوم من أزمة الهوية مردّها إلى أن هذه الأخيرة لم تعد مجموعة رتيبة من القيم الثابتة المطلقة؛ فالهوية الأمريكية مثلاً تجاوزت اليوم حدود القارة الأمريكية، وتمددت على كل مساحة الأرض، لتتبدى قضية الهوية في البلدان الإسلامية اليوم على جانب كبير من التعقيد والالتباس مقارنة بالماضي. وسبب التعقيد هو دخول هوية جديدة على الهوية القومية الدينية لهذه المجتمعات، ولدت من رحم الحداثة والثورة المعلوماتية[12].

وهكذا لم تخل رقمنة الدين من التأثير على الدين نفسه؛ لأن استعمالات النص الديني توظف أكثر فأكثر من قبل أصحابه وأعدائه على حد السواء، وبالتالي ينعكس ذلك على الممارسات الدينية نفسها وعلى صورة الدين بوجه عام. بتعبير آخر غيرت رقمنة الدين علاقة الإنسان بالدين، إذ أصبح الإنترنت ضربًا جديدًا من العلاقة بالدين، بمعنى أنه تحول من نمط خاص لمعرفة الدين إلى نمط خاص في ممارسة الدين[13].

فالفضاء الرقمي أحدث تغييرًا كبيرًا في الطرق التي يتم بها التحدث عن الذات عبر الإنترنت، حيث سمح -كما يرى السوسيولوجي الفرنسي ريمي ريفيل- بظهور ما يطلق عليه “الذاتية عبر الشبكة”، حيث أدت تلك النزعة الفردية المعاصرة التي تقيِّم اكتمال الذات بالشباب إلى أن يحملوا على الويب هويات متعددة ويطلقوا العنان لانطلاقة حقيقية للجوانب المختلفة من شخصيتهم[14].

ونتيجة لذلك لم يعد العالم الافتراضي مجرد وسيلة للمعرفة وعرض المعلومات الدينية، بل أضحى نمطًا فكريًا في بناء التصورات والرؤى ووسيلة تبشيرية لتبني هويات جديدة.

ومن أمثلة اضطراب الهوية الدينية في العصر الرقمي:

1. الانفتاح المعلوماتي غير المنضبط على الأفكار والمعتقدات والتيارات.

2. بروز أصوات غير مؤهلة دينيًا (مؤثّرين لا علماء) واتخاذها مصادر معلومات.

3. الفصل بين العلم والأخلاق.

4. التركيز على القيم المادية في مقابل القيم الأخلاقية.

5. ضعف التربية الرشيدة عمومًا.

6. اضطراب المعايير الدينية والأخلاقية والاجتماعية.

7. الضغوط الاجتماعية والنفسية المتفشّية في العصر كالقلق الوجودي وفقدان المعنى.

الهوية الدينية الرقمية هي إحدى أنواع الهويات الهجينة، والتي تتكون من نسق من التمثلات والتصورات والمعاني انطلاقًا من التفاعلات الافتراضية؛ فهي تمثل الطريقة التي يتصور ويتمثل بها الإنسان ذاته بوصفه متدينًا داخل الفضاء الرقمي، والتي تتخذ أشكالاً وصورًا متعددة.

الهوية الدينية للشباب وعالم اللامحدودية (سرعة التغيرات):

في مراحل عملية النمو، نلاحظ جميعًا عاجلاً أم آجلاً أننا جزء من جيل ذي مواصفات خاصة، فنحن لا نستجيب للأشياء بالطريقة التي يستجيب بها من هم أكبر سنًا منا، حتى على الرغم من أننا قد نظن أننا نتشارك القيم العامة نفسها ونتحدث اللغة نفسها[15].

وفي دراسة الباحث ويد كلارك روف عن العلاقة بين الهوية الدينية للأجيال السابقة وهذا الجيل رأى أن الهويات الجيلية في المجتمع المعاصر قد تتعين من الخارج، خاصة بواسطة الإعلام، ومن ثم تصير نماذج التفاعل الاجتماعي المشكِّلة للهوية شديدة التعقيد، متضمنة الاستجابة للصور والرسائل التي يروجها الإعلام، والتفاوض معها. وهذا ما يشكل بوضوح عنصرًا مهمًا للغاية في تحديد الهويات الجيلية واستمرارها في المجتمعات المعاصرة المتقدمة[16].

ولعل هذا الأمر يعود إلى وتيرة التغيير التي يتسم بها العالم المعاصر، فالأمور تسير نحو التغيير بسرعة شديدة؛ فبمجرد أن تستقر على طريقة معينة لإنجاز الأمور فإنها لا تلبث أن تتغير تارة أخرى[17]، قس على ذلك الهويات التي تتشكل داخل العالم الرقمي ويلبسها الشباب ثم ما يلبثون يغيرونها بهويات أخرى.

فهذا التغير السريع الذي ميز عصر ما بعد الحداثة بَلْوَرَ ما اصطلح عليه زيجمونت باومان “الثقافة الهجينة” وهي ثقافة ترمز إلى حركة تتجه نحو هوية غير ثابتة، بل غير قابلة للثبات، وفي ذلك يقول باومان: “المثقف الهجين ينشغل بتركيب هويته وفكها وإعادة تركيبها، فالهجين الثقافي قد تحرر من الروابط المحلية، وصار ينتقل في يسر عبر شبكات الفضاء الإلكتروني”[18].

ولعل الباحثة هدى كريملي قد استطاعت في دراسة اجتماعية لها الكشف عن أنماط الهوية الدينية لدى الشباب المغربي باعتبارهم عينة للدراسة (ويمكن تعميمها على بقية الشباب العربي إلى حد كبير)، وقسمت هذه الأنماط إلى ثلاثة نماذج[19]:

1. هوية أصولية: تتشبث بالأصول والقيم الدينية التقليدية وترفض الانفتاح على القيم العالمية.

2. هوية مختلطة أو ثنائية القطب: وهي الهوية المهيمنة لدى الشباب، تجمع بين القيم الكونية والثقافة العالمية وبين القيم التقليدية والخصوصية العقائدية للدين الإسلامي.

3. الهوية العالمية: المنفتحة على القيم الكونية والتي تترجم “الاستبطان الهوياتي” للثقافة الرقمية والتي تؤثر على الشباب بكل رموزها ودلالتها.

وهذا التصنيف يبرز مدى ارتباك الشباب في تحديد هوياتهم الدينية، وهي أنماط قد تتداخل فيما بينها، لتبرز عدم الثبات والتغير المستمر للهوية الدينية عندهم، وهي هويات سائلة تتشكل في إطار استراتيجية الحياة المعاصرة التي حللها زيجمونت بومان كما أسلفنا.

يعاني الشباب من ارتباك كبير في تحديد هوياتهم الدينية، وحتى عندما يعرّف أحدهم نفسه وفق نمط معين من أنماط الهوية الدينية فإنّه لا يلبث أن ينتقل عنها إلى غيرها؛ وذلك راجع إلى وتيرة التغيير التي يتسم بها العالم المعاصر، ولا سيما في الفضاء الرقمي.

تأزم الهوية لدى الشباب:

ليست هناك مرحلة من مراحل الحياة يمكن للإنسان أن يشعر فيها بنفسه وبالعالم بأنه مشكلة أكثر من مرحلة الشباب، وما يزيد احتدام هذا الصراع أن الشباب المعاصر لم يعد يعيش في عالم واحد، بل أضحى يعيش في عوالم مختلفة عززتها الثورة المعلوماتية، وهي عوالم تستظل بالحضارة الغربية صانعة هذا العالم ومالكته، ومن يدخل دواليب هذه العوالم يرى مدى ارتباك الشباب فيها وفقدانهم لبوصلة هويتهم الدينية، لذلك يرى عالم النفس التطوري إريك إريكسون[20] أن تعدد الخيارات الهوياتية المتاحة للشباب المعاصر من المرجح أن يولد في نفوسهم القنوط واليأس والارتباك[21].

وما يزيد تأزم مظاهر الهوية الدينية للشباب في العالم الإسلامي من خلال الفضاء الرقمي[22]:

» وضع منصات وصفحات لحركات فكرية وعقائدية مناوئة للإسلام تستقطب الشباب.

» نشر الأفكار المتطرفة والخرافات.

» تبني بعض الحملات التي تستهدف العلماء وتسيء للدين.

» التسطيح الفكري والثقافي من خلال الترويج لقيم ومظاهر جديدة مستوردة، تخدم النظام العالمي.

فكل هذه المظاهر أثرت على الهوية الإسلامية للشباب، وأدت إلى وقوع ارتباك في هويتهم الدينية فضلاً عن تصوراتهم ورؤاهم عن موقعهم الوجودي في الكون وعلاقتهم بالآخر، ومن أهم مظاهر هذا الاضطراب الهوياتي:

– اضطراب الهوية العقدية:

تعتمد العولمة على قوتها في إذابة كل العناصر ذات الخصوصية المحلية أو التحيزية، فهي تفرض اللغة الإنجليزية الأمريكية كنموذج خطابي تواصلي بقوة مصطلحاتها التقنية الحصرية للبرامج والتطبيقات ونماذج التنمية البشرية ومناهج البحث العلمية، أي أنها تمتلك قوة تصنيع المصطلح ونشره وفرضه عالميًا، مما يصحبه فرض اللغة التي تخلق هذا الكم الهائل والمتسارع من المصطلحات، وبما أن اللغة هي ثقافة وأفكار وأساليب عيش وتعامل وتربية ومعتقدات، لذا يلاحظ أن الكثير من الأفكار العالمية أو العادات تكتسب العالمية بمجرد تبني المجتمع الأمريكي لها، فيتم ضخها عبر الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وبرامج التواصل الاجتماعي، حتى تصل لدرجة الثقافة العالمية.

ومن الأمثلة على ذلك أن “اليوجا” في الأصل معتقد هندوسي؛ فهي رياضة تعبدية تسعى للاتحاد بالإله، لكنها حينما انتقلت لأمريكا انتشرت كرياضة استرخاء وتأمل نفسي، ثم انتشرت عالميًا[23]، ولا يخفى علينا الأثر العقدي لمثل هذه الرياضات الروحية على هوية الشباب العقدية.

وإلى جانب ضخ العالم الافتراضي بمعتقدات هذه الديانات الروحية ووصلها بالتأمل ومسميات الطاقة، بدأت تعلو موجة شكوكية في الهوية العقدية للمسلم نتيجة انتشار الأفكار الإلحادية في الوسائط الاجتماعية والتي يعمل أصحابها على بثّ الشبهات في نفوس الشباب المرتبك وغير المؤسس تأسيسًا عقديًا متينًا.

– جرأة من خلف ستار:

وهكذا أتاحت الوسائط الاجتماعية للملحدين إمكانية بناء مجتمع افتراضي له هويته الخاصة، قائم على إنكار المقدس ومهاجمته، ونشر شبهاتهم وأفكارهم بين الفئة الشبابية القابلة للتأثر، واختلاق احتجاجات افتراضية تهم قضايا الملحد في المجتمع العربي؛ كحرية الإفطار العلني في رمضان، والحرية الجنسية وغيرها، وبمجرد البحث عن كلمة إلحاد في تلك الوسائل تظهر لك عشرات الصفحات[24] والمجموعات والقنوات التي تجمع أصحابها تحت مسميات مختلفة، كاللادينيين، والملحدين، والعقلانيين، وغيرها من العبارات التي تحوم حول الإلحاد.

لكن رغم شجاعة الملحد في عالمه الجديد إلا أن هويته تبقى مجهولة؛ فأغلب الملحدين يروجون لأفكارهم بأسماء مستعارة متكتمين على هويتهم الحقيقية، ليظهروا بأخرى افتراضية، بل إن المتتبع لبعض مشاهير الإلحاد في المجتمعات العربية، خصوصًا في منصة الفيسبوك واليوتيوب، يلحظ حرصهم الشديد على إخفاء أسمائهم وهوياتهم الحقيقية، فالظهور باسم مجهول بالنسبة للملحد العربي انعتاق من المسؤولية الشخصية التي يتيحها تحديد الهوية[25]، فهو رغم جرأته في طرح قضاياه وأفكاره يبقى مجهول الهوية، وكما يملك الواقع الافتراضي -كما يقول جيل دلوز- واقعًا كاملاً بصفته افتراضيًا[26]، فكذلك حال الملحد العربي في العالم الجديد الشجاع، فهو بهويته الافتراضية يملك واقعًا كاملاً بصفته افتراضيًا.

فهذه الحربائية والتلون في التصورات تجعل الفرد الرقمي مهزوز الهوية غير قادر على أن يحيا في الواقع بهوية واضحة صريحة ثابتة.

– اضطراب الهوية الفقهية (الفتوى الإلكترونية):

أضحى الفضاء الرقمي عالـمًا تتقاطر منه الفتاوى الفقهية، وسوقًا تتعدد فيه صنوف الفتوى، بل إن المستفتي لم يعد يراعي الحدود المذهبية في أخذ فتواه، ولا عمن يأخذ هذه الفتوى.

فمحرك البحث صار مفتيًا عالميًا، ولم تعد علوم الشريعة تؤخذ فقط من الجامعات والمدارس والمساجد والمشايخ، فقد تراجع دورهم لدى الجيل الرقمي باكتساح التقنية الرقمية لمجال الفتوى والتعليم؛ لأن العلاقة بين المسلم من الجيل الرقمي والويب علاقة مباشرة بثقة جد عالية، أقصت العلاقة التقليدية بين المتعلم والمعلم، وبين المؤسسة الدينية والمنخرطين، وأنهت الرقابة والمتابعة وضمان الجودة والأهلية، ليخلق (دين الفوضى)، عبر تسلق من لا تكوين لديه لكرسي الفتوى[27].

وقد أدى انفراط عقد الفتوى للدخول في فوضى الفتاوى، وانتشار صفحات ومواقع وقنوات لباحثين لا يملكون تأصيلاً في العلوم الشرعية ولا علوم الآلة ولا العلوم الخادمة، ينافحون عن رؤاهم الدينية التجديدية بزعمهم، ويحقّرون من علماء المؤسسات الرسمية وغيرهم من أهل الاختصاص، فانطلق من درس علم النفس أو علم الاجتماع أو الهندسة لانتقاد الخطاب الديني، ثم التاريخ الإسلامي ثم علوم الحديث ثم الفقه، وقدم نفسه كمنظر إسلامي حداثي تنويري، فأفرز في المقابل انتشار فتاوى شباب يخوض في مسائل دقيقة، وينشر أفكارًا تكفيرية، ويسارع للتبديع والحرب الكلامية مع الفرق والطوائف الإسلامية تحت ذريعة الدعوة والردود، والخطر الآن أكبر مع جيل رقمي، لن يرهق نفسه في البحث عن مظان المسائل داخل أمهات المصنفات؛ لأن عالم الشبكة المفتوحة اليوم أتاح القدرة لجميع الأفراد للوصول إلى المعلومة والتحقق منها[28].

أتاحت الوسائط الاجتماعية للملحدين إمكانية بناء مجتمع افتراضي له هويته الخاصة، قائم على إنكار المقدس ومهاجمته، ونشر شبهاتهم وأفكارهم بين الفئة الشبابية القابلة للتأثر، واختلاق احتجاجات افتراضية تهم قضايا الملحد في المجتمع العربي.

خاتمة:

بعد الارتحال من عالم الواقع إلى العالم الافتراضي أو ما يمكن أن نصطلح عليه بـ “العالم الجديد الشجاع” الذي خول لإنسان العصر استبدال هويته الواقعية بهوية افتراضية مرنة، يمكن الخلوص إلى النتائج التالية:

يبقى مفهوم الهوية غامضًا وملتبسًا في العصر الرقمي، ودخول الإنسان لعالم ما بعد الحداثة.

لم تعد الهوية بذلك الثبات الذي كان عند الأجيال السابقة، بل أضحى الإنسان الافتراضي لهذا الجيل يغير من جلد هويته وهو يتصفح العوالم الرقمية.

يعد الثبات على الهوية الإسلامية بعد دخول الإنسان المسلم العالم الافتراضي ضرورة وجودية وذلك بتفعيل النموذج القدوة في نفوس الأبناء وربطهم بماضيهم.

أدى تعدد الاختيارات الهوياتية في العالم الرقمي إلى شعور الشباب باليأس والقنوط والارتباك.

يؤدي الخلل في الثلاثية الركائزية (العقيدة – الأخلاق – العمل) إلى خلل في تمثل الهوية الدينية الإسلامية.

يعد اضطراب الهوية العقدية من أبرز معالم اضطراب الهوية الدينية لدى الشباب، ويظهر هذا الاضطراب في الإعلاء من صوت الشكوكية وبثّ الشبهات في نفوس الشباب.

فهذه هي أهم النتائج التي ساقنا إليها البحث، وتعد لباب التحديات الكبرى التي تواجه الهوية الدينية، والتي تحتم علينا أفرادًا ومؤسسات أن نتصدى لها بالدخول توعية وبيانًا إلى هذا العالم الجديد الشجاع.

أتاحت الوسائط الاجتماعية للملحدين إمكانية بناء مجتمع افتراضي له هويته الخاصة، قائم على إنكار المقدس ومهاجمته، ونشر شبهاتهم وأفكارهم بين الفئة الشبابية القابلة للتأثر، واختلاق احتجاجات افتراضية تهم قضايا الملحد في المجتمع العربي


د. كريمة دوز

دكتوراه في العقيدة والفكر الإسلامي ومقارنة الأديان، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس – المغرب


[1] ينظر: تيبولوجيا الهوية الدينية الرقمية، (دراسة سوسيولوجية لتعبيرات الشباب الدينية عبر فيسبوك)، نادية العالية، مجلة عمران، الدوحة – قطر، العدد 45، المجلد (12)، (2022م)، ص (13).

[2] إطلالة على العلاقة بين الهوية والثقافة مع التركيز على الهوية الدينية، محمد حسين ميري، مجلة آداب الكوفة، الكوفة- العراق، العدد 52، ج (2)، (2022م)، ص (128).

[3] تجديد الوعي، للدكتور عبد الكريم بكار، ص (69-70).

[4] البداية والنهاية، لابن كثير (9/622).

[5] ينظر: الهوية الإسلامية في زمن العولمة الثقافية، خليل نوري مسيهر العاني، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، بغداد – العراق، الطبعة الأولى، (2009م)، ص (49-51). و: أزمة الهوية الإسلامية، دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، بهية سهلي، العدد (8-9)، (2020م)، ص (40-41).

[6] للوقوف على مركزية عقيدة التوحيد في تحقيق النهوض الحضاري يراجع في ذلك كتاب: التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة، للدكتور إسماعيل راجي فاروقي رحمه الله.

[7] الهوية والحركية الإسلامية، للدكتور عبد الوهاب المسيري، ص (148).

[8] المقدمة، لابن خلدون (2/57).

[9] ينظر: تيبولوجيا الهوية الدينية الرقمية، ص (11).

[10] التدين الشبكي الرقمي الإسلامي، عبد الكريم بليل، مجلة الشهاب، المجلد الثامن، العدد 01، (2022م)، ص (594).

[11] ينظر: تحولات الشخصية بالمجتمع الشبكي الرقمي، صلاح الدين لعريني، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية لأكاديمية المملكة المغربية، العدد (1)، المجلد (1)، (2022م)، ص (286).

[12] هوية بأربعين وجهًا، داريوش شايغان، ترجمة: حيدر نجف، ص (129)، بتصرف.

[13] الإسلام الرقمي مصدر تيه أخلاقي، عبد الصمد الديالمي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، رابط المقالة:

https://2u.pw/WHPNpwf

[14] ينظر: الثورة الرقمية ثورة ثقافية، ريمي ريفيل، ترجمة: سعيد بلمبخوت، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد (462)، (يوليوز 2018م)، ص (67).

[15] ينظر: الأجيال والدين، ويد كلارك روف، المرجع في سيسيولوجيا الدين، مجموعة مؤلفين، ترجمة: ربيع وهبه، (2/925).

[16] ينظر: المرجع السابق (2/933).

[17] ينظر: حياة تالفة – أزمة النفس الحديثة، تود سلون، ترجمة: عبد الله الشهري، ص (32).

[18] الحياة السائلة، زيجمونت باومان، ترجمة: حجاج أبو جبر، ص (58).

[19] ينظر: الثّقافة الرقمية ورهان الهويّة الدينية عند الشّباب المغربي، هدى كريملي، مجلة إنسانيات، رابط المقال:

https://journals.openedition.org/insaniyat/26403#tocto2n1

[20] من علماء النفس التطوريين الألمان، اهتم بالكتابة في الهوية لدى الناشئة والشباب ومن أبرز كتبه في هذا المجال: “Identity youth and crisis.”. وللتوسع في رؤيته عن الهوية ينظر: “البحث عن الهوية: الهوية وتشتتها في حياة إيريك إيركسون وأعماله”.

[21] Religion and Identity, Steward Harrison Oppong, American International Journal of Contemporary Research Vol. 3 No. 6; June 2013, p (14).

[22] ينظر: تأثير مواقع التواصل على الهوية الثقافية للشباب الجزائري، سلمى حميدان، مجلة المعيار، قسنطينة- الجزائر، 2020م، العدد 49، ص (529).

[23] ينظر: تحديات العولمة الرقمية على الهوية الدينية للجيل Z، عبد الكريم بليل، ص (18-19)، رابط الورقة: https://zenodo.org/records/5202733

[24] في بحث أجراه قسم المتابعة الإعلامية لـ bbc عن كلمة “إلحاد” على شبكات التواصل الاجتماعي، تبين أن مئات الصفحات على فيسبوك وحسابات تويتر التابعة “للملحدين” من العالم العربي جذبت آلاف المتابعين لها. ينظر: الإلحاد في العالم العربي: لماذا تخلى البعض عن الدين؟ أحمد نور، ينظر: http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2015/08/150831_arab_atheism

[25] Arab Religious Skeptics Online: Anonymity, Autonomy, and Discourse in a Hostile Environment, Helmi Noma, p (3). Paper link:

https://cyber.law.harvard.edu/publications/2015/arab_religious_skeptics_online

[26] ينظر: مقدمة كتاب “الافتراضي ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟”، لبيير ليفي، ترجمة: رياض الكحال، ص (9).

[27] ينظر: التدين الشبكي الرقمي الإسلامي، ص (607).

[28] ينظر: المرجع السابق، ص (611).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *