الافتتاحية

الرجل والمرأة .. تكاملٌ لا صراع

الرجل والمرأة .. تكاملٌ لا صراع

إحكام خلق الكون آية عظيمة:

خلق الله تعالى الكون وما فيه على أكمل وجه وأحسن نظام بما يحقق الغاية من خلقه، ويدلّ على عظمة صانعه، ومن أظهر وجوه ذلك: الانتظام بين جنباته، والتوازن بين مخلوقاته، ووجود قوانين حاكمة أينما اتّجه النظر وتبحّر الفِكر.

وهذا الجانب من حسن الانتظام وكمال الإحكام، لمسه الأوّلون على قلّة التفاصيل التي أحاطوا بها في عصورهم، ويلمسه العلماء اليوم مع التقدّم الكبير في اكتشاف القوانين والأنظمة التي تُسيِّر الكون بأجزائه المختلفة.

فعلى مستوى النجوم العملاقة والأفلاك العظيمة والمجرّات الهائلة ثمّةَ قوانين حاكمة تحدّد الآليات والمسارات لدوران بعضها حول بعض، وعلى مستوى الذرَّة ومكوناتها من الجسيمات المتناهية في الصغر تُوجد قوانين ونُظُم يحار المرء في دقّتها واطِّراد سلوكها، وتأثيرها على ما يتكوّن منها؛ حتى يتملّك المرءَ عند تدبُّرها يقينٌ راسخٌ لا يخالجه شك أنَّ للكون خالقًا واحدًا عظيمًا حكيمًا ﴿أَتْقَنَ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ﴾ [النمل: 88]، و﴿‌أَحْسَنَ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ ‌خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 7]، وأنّه لم يَخلُق هذا الكون بهذه التفاصيل والقوانين إلا لغاية عظيمة، وأنّه لم يمنحنا المواهب العقلية والقدرات الفكرية ويُطوّع لنا الأدوات المادّية إلا لنتفكّر في بديع صنع الله وعجيبِ خلقه، وليقودنا ذلك إلى الإيمان به والتسليم له.

تأمَّل كيف يُنبِّهنا الله تعالى إلى مفاتيح التفكُّر والتدبُّر في المخلوقات الأرضية والأجرام السماوية، فيقول في كتابه: ﴿‌سُبْحَانَ ‌الَّذِي ‌خَلَقَ ‌الْأَزْوَاجَ ‌كُلَّهَا ‌مِمَّا ‌تُنْبِتُ ‌الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 36-40].

بل يلفت الله تعالى انتباهنا إلى ثلاثة اتجاهات للتدبّر في سياق واحد: ﴿‌وَفِي ‌الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 20-22] ليؤكّد لنا أنّ خلق البشر -بما يتضمّنه من بنية مادّية وأعضاء ذات وظائف، ونفس ذات مشاعر وانفعالات، وروح لا يعلم عنها البشر إلا وُجودها- لا يقلُّ عن خلق الأرض والسماوات في إحكامه وإتقانه ودلالته على الخالق الواحد الأحد.

ثم يؤكّد الله تعالى للبشر أنّ كلّ ما عَلِمَه الأولون والآخرون وكلّ الاكتشافات والقوانين والنظريات التي عَلِمها البشر لا تساوي أمام ما جهلوه شيئًا يذكر ﴿‌وَمَا ‌أُوتِيتُمْ ‌مِنَ ‌الْعِلْمِ ‌إِلَّا ‌قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].

من القوانين الضرورية التي يدلّ عليها المنطق السليم ويؤكّدها العلم السديد: أنّ التوازن ضرورة لاستمرار الحياة وانتظام الخلق، وأنّ في الكون من التنوّع ما يجعله متّسقًا لا يطغى فيه جانب على جانب

التوازن ضرورة للانتظام:

من القوانين الضرورية التي يدلّ عليها المنطق السليم ويؤكّدها العلم السديد: أنّ التوازن ضرورة لاستمرار الحياة وانتظام الخلق، وأنّ في الكون من التنوّع ما يجعله متّسقًا لا يطغى فيه جانب على جانب.

وخَلْقُ اللهِ كله مقدّر متقن موزون، في السماوات والأرض، وفي حركة النجوم والكواكب، وفي تقلبات الليل والنهار، وتعاقب الصيف والشتاء، وتتابع المطر والقحط، وفي حياة اليابسة والبحار، وهكذا نرى في الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، وتصريف الأمور وتقدير الأقدار.

وبالمقابل: جاءت التكاليف الشرعية متوازنة أيضًا، مراعية للإمكانات والظروف والأحوال، فالفقير لا يُطالب بما يُطالب به الغني، والمسؤولية تزيد كلّما علا شأن الشخص، والأجر على قدْر المشقة، والله لا يُعذب الخلق حتى تقوم الحجة عليهم. ومثل ذلك: الأمر بالموازنة بين أمور الدنيا والآخرة، وإعطاء كل ذي حق حقه.

مبدأ الزوجية في الكون:

من بديع صنع الله تعالى وحكمته أنْ خَلَقَ هذا الكون من أجناس مختلفة، ونظّم العلاقة بينها وجعلها قائمة على التكامل والتوازن في الخلق والوظيفة؛ بما يكمّل بعضها بعضًا، ويحافظ على استمرار الحياة وسيرها بطريقة صحيحة، من أعظم المخلوقات من بحار وأنهار، وسهول وجبال، إلى أصغرها من مخلوقات وأحياء دقيقة، وما بينهما من حيوانات ونباتات وجمادات، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ومن أعظم ما يشير إلى بديع الخلق هذا: خَلْقُ الأزواج، فإنَّ الله تعالى قد خلق من كلِّ شيءٍ زوجين اثنين كما قال: ﴿‌وَمِنْ ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ ‌خَلَقْنَا ‌زَوْجَيْنِ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]، فنظام الزّوجيّة في الخلق متأصِّلٌ في جميع المخلوقات، وهي محكومةٌ به، ﴿‌سُبْحَانَ ‌الَّذِي ‌خَلَقَ ‌الْأَزْوَاجَ ‌كُلَّهَا ‌مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: 36].

والزوجيّة تشمل جميع المخلوقات حتى الجمادات غير الحيّة، وهو ما كشفت عنه الدراسات والعلوم الحديثة من عالم الذرة ونحوها، كما قال تعالى: ﴿وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾.

ومن اجتماع الزوجين تنشأ الحياة، وتتكون المادّة، «وقوله: ﴿‌خَلَقْنَا ‌زَوْجَيْنِ﴾ فبيّن أنّ كلَّ ما في العالم زوجٌ من حيث إنّ له ضدًّا أو مثلاً ما، أو تركيبًا ما، بل لا ينفكٌّ بوجه من تركيب، وإنّما ذكر ههنا (زوجين) تنبيها أنَّ الشيء وإن لم يكن له ضدٌّ ولا مثلٌ فإنَّه لا ينفكُّ من تركيب جوهرٍ وعَرَضٍ وذلك زوجان»[1].

ففي خلق الإنسان: ﴿‌وَأَنَّهُ ‌خَلَقَ ‌الزَّوْجَيْنِ ‌الذَّكَرَ ‌وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ [النجم: 45-46]، وفي خلق الحيوان: ﴿‌قُلْنَا ‌احْمِلْ ‌فِيهَا ‌مِنْ ‌كُلٍّ ‌زَوْجَيْنِ ‌اثْنَيْنِ﴾ [هود: 40]، وفي النبات: ﴿‌وَمِنْ ‌كُلِّ ‌الثَّمَرَاتِ ‌جَعَلَ ‌فِيهَا ‌زَوْجَيْنِ ‌اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: 3].

يقول سعيد النورسي: «يُشكّل الجسم والنفس أو الظاهر والباطن في الكائن الحيّ وحدة واحدة وكيانًا موحّدًا، ظاهر الانسجام متقن السبك، دقيق الصنعة جميل الإبداع، ومن امتزاجهما معًا وذوبان أحدها في الآخر، وتبادلهما المؤثرات والتأثيرات: أخذًا وعطاءً، جوعًا وشبعًا، ريًّا وظمأً، وصحّة ومرضًا، حزنًا وفرحًا، مسرّةً وألمًا؛ يرتسم كيان هذا الكائن، وتبرز معالمه، وتتحدّد صفاته، وتتشكّل سماته وملامحه»[2].

فالزوجية موجودة في كلِّ نظامِ الكون صغيرِه وكبيرِه، جمادِه وحيِّه، فهي سُنة الله تعالى في خلقه.

خلق الله للبشر من نفس واحدة أدعى للتكامل والانسجام والتواؤم بينهم، لما بين الاثنين من جنسٍ واحدٍ من الإلف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر

التكامل في خلق الإنسان:

جعل الله عز وجل الإنسان زوجين ذكرًا وأنثى، وأبدع في خلقهما؛ ليكونا مناسبين لبعضهما، ويكمّل كلّ منهما الآخر، وتستقيم لهما الحياة، وتتحقق بهما عمارة الأرض. وشرع لهما تشريعات تضبط العلاقة بينهما، وتحفظ حقوق كلّ منهما.

1- فقد خلق الله البشر من نفس واحدة، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]، وقال جل في علاه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ‌لِيَسْكُنَ ‌إِلَيْهَا [الأعراف: 189]، وقال: ﴿‌خَلَقَكُمْ ‌مِنْ ‌نَفْسٍ ‌وَاحِدَةٍ ‌ثُمَّ ‌جَعَلَ ‌مِنْهَا ‌زَوْجَهَا﴾ [الزمر: 6].

وهذا أدعى للتكامل والانسجام والتواؤم بينهم، «تناسبكم وتناسبونهن وتشاكلكم وتشاكلونهن»[3]، وليكون بينهم استقرار وسكن، «وذلك لما بين الاثنين من جنسٍ واحدٍ من الإلف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر»[4].

2- والله تعالى كرَّم الإنسان ذكرًا كان أو أنثى، فقال جلَّ شأنه: ﴿‌وَلَقَدْ ‌كَرَّمْنَا ‌بَنِي ‌آدَمَ ‌وَحَمَلْنَاهُمْ ‌فِي ‌الْبَرِّ ‌وَالْبَحْرِ ‌وَرَزَقْنَاهُمْ ‌مِنَ ‌الطَّيِّبَاتِ ‌وَفَضَّلْنَاهُمْ ‌عَلَى ‌كَثِيرٍ ‌مِمَّنْ ‌خَلَقْنَا ‌تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70]، وأشاد القرآن بالمؤمنين من الرجال والمؤمنات من النساء، وجعل لكل منهما حقوقًا وواجبات، ولكل منهما أن يطالب بحقِّه، وعليه أن يؤدِّي واجبه، كريمًا محترمًا مقدَّرًا.

3- ولأن الميل بين الذكر والأنثى طبيعي يدركه كلُّ أحد، ولا يحتاج إلى إثباته أحد؛ فقد نظّم الله العلاقة بين الرجل والمرأة، وجعل الزواج طريقها الوحيد، وجعل بين الزوجين مودّة ورحمة كما قال تعالى: ﴿‌وَجَعَلَ ‌بَيْنَكُمْ ‌مَوَدَّةً ‌وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]؛ «فهما يتوادّان ويتراحمان، وما شيءٌ أحبَّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحمٍ بينهما»[5].

4- وكلّف الرجل والمرأة بعبادة الله تعالى، وهذه العبادات تشمل جميع الطاعات بما فيها الزواج نفسه وما يحقّقه من حفظ الدين والنفس والنسل، مرورًا بتربية الأبناء والقيام على الأسرة، قال تعالى: ﴿‌وَمَا ‌خَلَقْتُ ‌الْجِنَّ ‌وَالْإِنْسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وحثَّ على التعاون في ذلك كلِّه، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ ‌وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال ﷺ: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى وأيقظَ امرأته)[6].

5- واستخلفهما في الأرض وأمرهما بعمارتها، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ‌آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165]؛ فالخليفة هو الإنسان ذكرًا كان أو أنثى، ولكلّ منهما مهمّته في عمارة الأرض تكمّل مهمّة الآخر.

6- وأمرهما بالسعي للآخرة، ووعدهما بالأجر العظيم، وهذا الجزاء مرتبط بالعمل لا بالجنس أو الشكل أو اللون؛ قال تعالى: ﴿‌فَاسْتَجَابَ ‌لَهُمْ ‌رَبُّهُمْ ‌أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 195].

زوّد الله كلًّا من الرجل والمرأة بخصائص وقدرات تمكّنه من القيام بما أسنده إليهما من أدوار، ونظَّم العلاقة بينهما بالعديد من التشريعات التي توضح حقوق كل منهما وواجباته، وتنظم قيامهما بالأدوار الخاصة، والأهداف العامة المشتركة

تنوّع في الأدوار واتّحاد في الأهداف:

إنّ الاختلاف في خلق الإنسان بين الرجل والمرأة يؤدّي إلى اختلافات حقيقية بينهما في البنية الجسمية والتفكير والعاطفة وغيرها؛ مما ينعكس على اختلافات واقعية في طبيعة الأدوار المسندة إليهما، مع بقاء الأهداف العامّة لهما واحدة كما تقدّم، وهذا هو مقتضى التأكيد الإلهي على هذا الاختلاف: ﴿‌وَلَيْسَ ‌الذَّكَرُ ‌كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: 36].

 وقد زوّد الله كلًّا من الرجل والمرأة بخصائص وقدرات تمكّنه من القيام بما أسنده إليهما من أدوار، ونظَّم العلاقة بينهما بالعديد من التشريعات التي توضح حقوق كل منهما وواجباته، وتنظم قيامهما بالأدوار الخاصة، والأهداف العامة المشتركة.

فإعمارُ الأرض والحفاظ على النسل الإنساني وظيفةٌ لا يقوم بها الرجل أو المرأة منفردين، بل لا بدَّ من تكاملهما وتعاونهما في ذلك، وبذلك جاءت الاختلافات والتشريعات:

– فما تتطلّبه الحياة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وحماية ورعاية منوطٌ بالرجل؛ ولذلك زوده الله تعالى بالقوة الجسمية والاستعداد النفسي للعمل والكسب والإنفاق، وجعله رئيس العائلة والقائمَ عليها، وشرع له من الأحكام -في جانب العبادات والمعاملات وغيرها من جوانب الحياة- ما ييسر عمله ويسهّل وظيفته.

– أما القيام بالعائلة وما يتضمّنه من حمل وولادة وإرضاع وتربية، ورعاية للأبناء والزوج فقد أُنيطت بالمرأة، وزوّدها الله بما يعينها على ذلك من قوى جسمية ونفسية، وشرع لها من الأحكام -في جوانب العبادات والمعاملات وسائر جوانب الحياة- ما ييسّر قيامها بهذه الأدوار.

وعن هذا الأصل تفرعت سائر الأحكام والمسائل المتعلّقة بكلٍّ من الرجل والمرأة.

وقد أمر الله تعالى كلًّا من الرجل والمرأة بالرضا بما قسمه الله لهما من العطاء والميزات التي ليست للآخر، قال تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تَتَمَنَّوْا ‌مَا ‌فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء: 32]، فالنهي المذكور «عن أن يتمنّى بعضهم ما فضّل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة … تمنّيًا مجرّدًا؛ لأنّ هذا هو الحسد بعينه: تمنّي نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويُسلب إياها! ولأنّه يقتضي السخط على قدر الله، والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب. وإنّما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية، وأن يسأل الله تعالى من فضله، فلا يتّكل على نفسه ولا على غير ربّه»[7].

الصراع موجود وهو صراع حقيقي وقديم؛ لكنّ أطرافه ليسوا الرجل مع المرأة، ولا العلم مع الدين، ولا الدولة مع الشعب، ولا الإنسان مع الطبيعة، بل له طرفان: الحقُّ والباطل، أمّا الرجل والمرأة فقد خُلقا لينسجما ويتكاملا لا ليخوضا الحروب والصراعات

الصراع بين الرجل والمرأة فكرة مصطنعة:

إنّ ما يشهده العالم منذ عقود من حركات ودعوات “للمساوة” بين الرجل والمرأة، وتحطيم الفوارق بينهما، وإنكار خصوصيّة كلٍ منهما إلى درجة الدفع بكلّ طرفٍ لتمثّل صفات الطرف الآخر؛ إنّما هي جزء من فلسفة تقوم على النظر للعالم على أنّه ميدان صراع: صراع العلم مع الدين، والدولة مع الشعب، والإنسان مع الطبيعة، والرجل مع المرأة، وهكذا.. صحيح أنّه ثمّة صراع حقيقي وقديم؛ لكنّ أطرافه ليسوا هؤلاء، بل له طرفان: هما الحقُّ والباطل، أمّا الرجل والمرأة فقد خُلقا لينسجما ويتكاملا لا ليقيما الحروب والصراعات.

جذور فكرة الصراع:

تعود بذرة هذه الفكرة إلى الانحراف الفكري حول النظرة إلى المرأة؛ فالأديان الوضعية المنحرفة، والعديد من الحضارات على مرّ التاريخ كانت تنظر إلى المرأة نظرة دونية، فهذا أفلاطون يرى أنّ البشرية تنقسم إلى جنسين: “الجنس الأعلى، أو الرجال الذين تألّف منهم الخلق الأصلي الذين استطاعوا قهر شهواتهم وأصبحوا فضلاءَ على الأرض، وجنسٌ آخر (أدنى) وهم الجبناء والأشرار الذين فشلوا على الأرض، وهم الذين سيعاقبون بأن يولدوا نساءً!! وعلى إثره جاء تلميذه أرسطو ليرسم صورة للمرأة ملخّصها أنّها “ذكرٌ مشوّه لم يرقَ بعدُ لأنْ يكون إنسانًا”.

بل إنّ هذه الأفكار المنحرفة وصلت للمعتقدات الكنسية وحرّفتها، فنجد في الكتاب المقدّس المحرّف أنّ المرأة هي الغواية التي أخرجت آدم عليه السلام من الجنّة، وهي التي تسبَّبت للبشرية في حمل هذه الخطيئة وآثارها، وبالتالي فإّنه يجب تهميش المرأة التام عن أي دور محوري في هذا العالم، وإخضاعها المطلق لسلطة الرجل[8]، وكانوا يرون أنَّ المرأة إذا تفرَّغت لخدمة الكنيسة فإنَّها ترتقي لتصبح رجلاً!![9].

وقد تأثّر الفلاسفة النصارى بهذه الأفكار فأصبحوا يرون المرأة “كائنًا جسديًّا غير عقلاني بالمرة” كما قال ديكارت، فيما يقول جان جاك روسّو: “إنّ الطبيعة الأنثوية تنحصر في غرضي الجنس والإنجاب، في حين أنّ الطبيعة الذكورية تتّسم بالقدرة العقلية اللامحدودة بين العقل والمادة”.

ومع ظهور الثورة الأوروبية على الطغيان الكنسي والملكي، وتلمُّسها للمعرفة خارج إطار الدين المعادي للعقل والعلم، وما تبع ذلك من انهيار المسلَّمات المعرفية، والانطلاق إلى تأسيس الحياة والعلوم والمعارف بعيدًا عن هدي الدين، فظهرت النظريات المختلفة في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وتفسير نشأة الكون وتطور الإنسان، وما يتعلق بذلك من مسائل أخلاقية وفكرية، ظهرت نظرياتٌ متناقضةٌ منفلتة من أي ضابط أو مرجعية، تؤلِّه الإنسان وعقله وعلمه وشهواته، متأثرة في ذلك بما عاشه في الماضي من ظلم وتمييز، مدفوعةً للتخلُّص من تلك الأغلال والقيود وما يتعلق بها.

ومن تلك النظريات: التفسير الماديُّ للكون والحياة والتاريخ، والنظرة للإنسان نظرةً حيوانيةً مادية، وتفسير الكون وأحداثه على أنه سلسلة من الصراعات والنزاعات للبقاء وانتزاع الحقوق.

ومما تأثر بذلك الحراك: المسائل التي تتعلق بالمرأة، والتي ابتدأت بالمطالبة بحقوقهنَّ ورفع الظلم عنهنّ، ورفض المكانة التي وضعتها فيها الفلسفات المختلفة، والأديان المحرَّفة، والتي تطوَّرت إلى الدعوة للخروج عن سلطة الرجل وما سموه بالتسلُّط الذكوري، والانطلاق في سباق محموم لمنافسة الرجل، لتتحوّل بعد ذلك إلى محاولة للسيطرة عليه وقهره وأخذ مكانه ودوره في المجتمع، في شكل متطرف من أشكال الصراع.

أمّا التأثير المجتمعي لهذا الصراع فيتمثّل بعدد كبير جدًا من هذه الكوارث، ففضلاً عن خلط الأدوار الفطرية للرجل والمرأة، والدعوة للجندر وحق تغيير الجنس، والترويج للشذوذ والانحلال الأخلاقي، فهناك: هدم الأسر القائمة، والتسبب بعزوف الرجال والنساء عن الزواج، وشيوع البطالة لدى الشباب، وانشار الجريمة، مع نشر الإلحاد لكونه الغطاء المناسب لمثل هذه الأفكار والتصرّفات.

ومن الغرائب في هذا الصراع المصطنع: افتراضات أسطورية لا يدلّ عليها دليل، ولا يؤيّدها منطق، تفترض تطورًا تاريخيّا مرّت به المجتمعات (البدائية)، كانت السيطرة فيه للنساء (تحت ظلِّ نظام أمومي)، ثم مع الزمن حلّ محلّه نظام آخر (أبوي) بزعمهم[10].!! والهدف من هذه المزاعم: تثبيت فكرة الصراع بين الرجل والمرأة، وكسر ما يعتبرونه سيطرةً للرجل على جوانب كثيرة في الحياة.

بغير نظرة التكامل بين الرجل والمرأة تضطرب الحياة وتنتكس الفطرة؛ فإنَّ الصراع بين الرجل المرأة سينتهي إما بتسلُّط الرجل على المرأة ومزيدٍ الاضطهاد لها، أو بتمرُّد المرأة على الرجل والخروج عن طبيعتها وأنوثتها

الخلاصة:

إنَّ خلاصة النظرة الصحيحة الشرعية للرجل والمرأة في هذه الحياة -والتي جلاها الإسلام- نابعة من النظرة العامة للكون: وهي الخضوع لله تعالى وأمره، والتعاون والتكامل بينهما لتحقيق ذلك، مع أخذ كل منهما مكانه اللائق به، ومن المؤكَّد أنّه لا توجد شريعة على وجه الأرض جلّت هذه الحقيقة كما فعل الإسلام. ولا يوجد مخرج من هذا الصراع وآثاره ومما تعانيه المرأة إلا بتطبيق شرع الله تعالى.

وهذه النظرة يُجملها قوله تعالى: ﴿‌وَلَهُنَّ ‌مِثْلُ ‌الَّذِي ‌عَلَيْهِنَّ ‌بِالْمَعْرُوفِ ‌وَلِلرِّجَالِ ‌عَلَيْهِنَّ ‌دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] ، وقوله تعالى: ﴿‌الرِّجَالُ ‌قَوَّامُونَ ‌عَلَى ‌النِّسَاءِ ‌بِمَا ‌فَضَّلَ ‌اللَّهُ ‌بَعْضَهُمْ ‌عَلَى ‌بَعْضٍ ‌وَبِمَا ‌أَنْفَقُوا ‌مِنْ ‌أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34].

وهذا التنويع في الخصائص والتقسيم في الأعمال ليس لأحدٍ فيه فضل، كما أنه ليس لأحدٍ تغييرُه أو تعديلُه؛ فقد نهى الله عن أن يتمنّى أحد منهم أن يأخذ مكانًا لآخر أو يكونَ مثله: ﴿‌وَلَا ‌تَتَمَنَّوْا ‌مَا ‌فَضَّلَ ‌اللَّهُ ‌بِهِ ‌بَعْضَكُمْ ‌عَلَى ‌بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء: 32].

وبغير هذه النظرة تضطرب الحياة وتنتكس الفطرة؛ فإنَّ الصراع بين الرجل المرأة سينتهي -كما هو مُشاهَد- إما بتسلُّط الرجل على المرأة ومزيد الاضطهاد لها، أو بتمرد المرأة على الرجل والخروج عن طبيعتها وأنوثتها.


[1] غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (1/216).

[2] رسالة الطبيعة، لبديع الزمان النورسي، ص (19).

[3] تفسير السعدي، ص (639).

[4] تفسير الزمخشري (3/472).

[5] تفسير البغوي (6/٢٦٦).

[6] أخرجه أبو داود (1308).

[7] تفسير السعدي، ص (176).

[8] كان بولس يعتبر المرأة أقل منزلة من الرجال، وكان مما قاله: «لا أسمح للمرأة أن تعلم ولا أن تغتصب السلطة -من الرجل- ولا تتسلط، وعليها أن تبقى صامتة، لأن آدم كون أولاً ثم حواء، ولم يكن آدم هو الذي انخدع بل المرأة انخدعت، فوقعت في المعصية». الرسالة الأولى إلى تيموثاوس (2/12-14).

[9] جاء في تعليق جيروم على رسالة بولس إلى أهل أفسس: “بما أن المرأة خُلقت للولادة والأطفال، فهي مختلفة عن الرجل كما يختلف الجسد عن الروح، ولكن عندما ترغب المرأة في خدمة المسيح أكثر من العالم، فعندئذ سوف تكف عن أن تكون امرأة، وستسمى رجلاً”.

[10] مفهوم النسوية، دراسة نقدية في ضوء الإسلام، لأمل الخريّف، ص (102-104).


لتحميل المقال اضغط [هنا]

X